قضى الإمام الخميني مراحل شبابه في وقت كانت ايران تمر فيه باقسى ادوار تاريخها. فقد قام رضا خان مير بنج بانقلاب الثالث من اسفند (22 شباط من 1924 ميلادي) معدا ومدعوما من قبل الانجليز وقضى على حكم القاجاريين والخوانين والأشرار. 

وقد سيطر طوال عقدين من حكمه على نصف الأراضي الزراعية في إيران. 

وقد اعتمد رضاخان على ثلاثة أصول سياسية في حكمه: الحكومة العسكرية والبوليسية القاسية والمواجهة الشاملة للدين والعلماء والعمالة للغرب. وفي ظروف كهذه سارع علماء الدين الإيرانيين للدفاع عن الإسلام وحفظ كيانهم وحيثيتهم. فمارس رضا خان انواع الضغوطات على العلماء فاصدر الاوامر الرسمية بتعطيل مراسم العزاء والخطابة الدينية, ومنع تدريس المسائل الدينية والقرآن وإقامة صلاة الجماعة في المدارس, ونزع الحجاب عن النساء الايرانيات المسلمات. الامر الذي ادى الى ظهور المقاومة من قبل العلماء والجماهير في مواجهة رضاخان الذي سخّر جل طاقاته للقضاء على الاسلام والدين. وهذه كلها تركت الاثر على روح الامام المرهفة الوثابة.

 

فقد أدرك الإمام الخميني هذه الظروف عميق الإدراك من خلال روحه المرهفة الوثابة واطلاعه على حساسية الظروف السياسية ومن مطالعته المستمرة لكتب التاريخ المعاصر والمجلات والصحف الدورية وما كان يقوم به من زيارات متوالية الى طهران والحضور في مجالس العلماء الاعلام من امثال آية الله المدرس (المجاهد الكبير لرضا خان). ولما توفي آية الله البروجردي الذي كان خلفا لآية الله الحائري في مقام المرجعية الكبرى بعد سقوط رضاخان كان الامام الخميني من ابرز الشخصيات العلمية لتسنم مقام المرجعية خلفا لاية الله البروجردي. وفي ظل هذه الظروف وفي 8 تشرين الاول 1962 ميلادي صادق مجلس الوزراء على اصلاح لائحة المجالس المحلية، وتغيير بعض مضامينها - كاشتراط اسلامية المرشحين، والقسم بالقرآن الكريم، واشتراط الرجولة في المرشحين والناخبين، وقد اريد تمرير بعض الاهداف من خلال المصادقة على اشتراك النساء في الانتخابات، كذلك فان حذف وتغيير شرطي الرجولة والاسلام كان يراد منه بالضبط ادخال العناصر البهائية في المراكز الحساسة من هيكل النظام الحاكم. وبمحض انتشار خبر المصادقة على اللائحة المذكورة بادر الامام الخميني ومجموعة من العلماء الاعلام في قم وطهران - وبعد التشاور - إلى الاعتراض العام والشامل على هذا الامر. وقد كان للامام الخميني دور فعال في توضيح الاهداف الحقيقية للنظام الملكي والتنبيه على خطورة دور العلماء الرسالي والحوزات العلمية في تلك الظروف.

 

وادت البرقيات والرسائل المفتوحة المعترضة التي بعث بها العلماء الى الملك والى رئيس الوزراء، الى بث روح الدعم والتاييد في نفوس الجماهير. كما ان برقيات الامام الخميني التي ابرق بها الى الملك ورئيس الوزراء تميزت باللهجة الحادة والحازمة والمحذرة. ونتيجة لذلك فان النظام الملكي قبل بالهزيمة، ففي 28 تشرين الثاني 1962ميلادي، الغت الهيئة الحاكمة اللائحة السابقة، وابرقت للعلماء والمراجع في طهران وقم تعلمهم بالامر. غير ان الامام الخميني اصر مجددا على مواقفه السابقة واعلن في اجتماع ضم العلماء الاعلام في قم بان إلغاء اللائحة بشكل سري امر غيركاف واضاف بان النهضة ستتواصل ما لم يعلن امر الالغاء في اجهزة الاعلام. وواصل الامام الخميني فضح النظام واغراضه ومقاصده من خلال الخطابات والبيانات. فانه كان يفكر دائما باداء تكليفه رافعا شعار"العمل بالتكليف ولو بلغ ما بلغ".

 

وفي الثاني من فروردين 1342 شمسي (22 آذار 1963 ميلادي) الذي صادف ذكرى استشهاد الامام جعفر الصادق عليه السلام هاجم ازلام النظام المسلحين تجمع طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية بقم. فقد دخلت قوات الشرطة المدرسة الفيضية مستخدمين اسلحتهم النارية فقتلوا وجرحوا الكثير من الطلاب. وفي الوقت ذاته تعرضت المدرسة الطالبية في تبريز لهجوم مماثل. وفي غضون تلك الاحداث كان منزل الامام الخميني يستقبل كل يوم مجاميع كثيرة من الثوريين والجماهير الغاضبة التي كانت تأتي للتعبير عن تضامنها وتعزيتها ودعمها للعلماء وللاطلاع على آثار جريمة النظام في قم. وكان الامام الخميني يحمّل الملك شخصيا وبصراحة ـ اثناء خطاباته في الجماهير ـ المسؤولية الكاملة عن تلك الجرائم وعن التحالف مع اسرائيل, ويحث الجماهير على القيام. وكان ينتقد بشدة سكوت علماء قم والنجف وسائر البلاد ازاء جرائم الملك الاخيرة ويقول: "ان السكوت اليوم يعني التضامن مع النظام المتجبر" و"لقد اعددت اليوم قلبي لتلقي طعنات حراب ازلام الملك راضيا بذلك, ولكني لن ارضى بقبول الظلم ولن ارضى بالخضوع امام تجبر النظام".

 

وفي عصر يوم عاشوراء لعام 1383قمري 3 حزيران 1963 ميلادي القى الامام في المدرسة الفيضية خطابه التاريخي والذي كان بداية لقيام الخامس من حزيران. وفي فجر يوم الخامس من حزيران داهم المئات من رجال الكومندوس الذين تم ارسالهم من طهران، منزل الامام الخميني لاعتقاله في الوقت الذي كان يؤدي فيه نافلة صلاة الليل وتم نقله على الفور الى طهران ليودع في معتقل باشكاه افسران(نادي الضباط) ثم نقل في غروب ذلك اليوم الى سجن القصر. وبسرعة انتشر خبر اعتقال الامام في مدينة قم وضواحيها، فانطلق الرجال والنساء من القرى من مدينة قم نحو منزل قائدهم وهم يرددون شعار "الموت او الخميني" الذي ملأ ارجاء المدينة وقد بلغ الغضب الشعبي حداً دفع رجال الشرطة في البداية نحو الفرار إلا أنهم عادوا لمواجهة الجماهير بعد أن تسلحوا بمختلف التجهيزات العسكرية وبعد أن استقدمت قوات دعم عسكرية من المعسكرات الواقعة على اطراف المدينة. وبينما كانت جموع الجماهير تغادر حرم السيدة المعصومة عليها السلام فتحت قوات النظام التي استقرت خارج الحرم المطهر نيران اسلحتها الاوتوماتيكية، ولم تمض عدة ساعات على المواجهة بين الجماهير وقوات النظام، حتى دار حمام من الدم في المدينة، ولم يكتف النظام بذلك، فقد ارسلت عدة طائرات مقاتلة للتحليق في سماء المدينة واختراق حاجز الصوت لادخال الرعب والهلع على قلوب الجماهير وتم مواجهة الإنتفاضة بالسلاح للسيطرة على الاوضاع.

 

وبعدها بادرت العجلات العسكرية لجمع اجساد الشهداء والجرحى من الشوارع والازقة لنقلهم بسرعة الى اماكن غير معلومة. وفي غروب ذلك اليوم كانت مدينة قم تعيش حالة النكبة والحزن. في صباح يوم الخامس من حزيران كان خبر اعتقال الامام قد وصل الى طهران ومشهد وشيراز وسائر المدن مما فجّر اوضاعا مشابهة في تلك المدن. فقد انطلقت مجاميع الناس من اهالي (ورامين) والمناطق السكنية في ضواحي طهران نحو العاصمة، ولما كانت دبابات النظام والياته وقواته المسلحة قد أحاطت بالعاصمة للحيلولة دون وصول المعارضين اليها، فقد اشتبكت تلك القوات مع تلك المجاميع في تقاطع (ورامين) مما ادى الى سقوط العديد من القتلى والجرحى من الاهالي. كذلك فان تجمعا كبيرا كان قد حصل في السوق المركزي في طهران وفي وسط المدينة مرددا شعار "الموت او الخميني" ثم توجّه الجمع نحو قصر الملك. كما انطلقت سيول الجماهير من جنوب مدينة طهران متوجهة نحو مركز العاصمة. وقد استخدم الملك افضل الخبرات الامنية والسياسية الامريكية آنذاك للقضاء على الانتفاضة.

 

وفي الثلث الاول من عام 1964 تصور النظام بان الشدة التي واجه بها الجماهير في حادثة الخامس من حزيران، قد ادت الى تنبيه الجماهير ودفعت المجاهدين الى اختيار جانب السكوت، لذا فقد حاول النظام الايحاء بان وقائع العام الماضي قد تم نسيانها. وفي مساء السابع من نيسان 1964 م تم - وبلا اطلاع سابق - اطلاق سراح الامام الخميني ونقله الى قم. وبمحض اطلاع الجماهير على الامر عمت مظاهر الفرح مدينة قم باسرها واقيمت الاحتفالات البهيجة في المدرسة الفيضية وسائر الاماكن ودامت عدة ايام. وفي فجر الرابع من تشرين الثاني من عام 1964 ميلادي حاصر رجال الكوماندوس منزل الامام الخميني في قم وتم اعتقال الإمام ونقله مباشرة الى مطار (مهر آباد الدولي) حيث كانت طائرة عسكرية بانتظاره فنقلته الى (أنقرة) وفي عصر ذات اليوم نشر السافاك خبر نفي الامام بتهمة التآمر على النظام! وقد تمّ نفي ولده آية الله الحاج مصطفي الخميني الى تركيا ايضا. وفي الخامس من تشرين الاول من عام 1965 ميلادي تم نقل الامام ونجله آية الله الحاج مصطفي الخميني من تركيا إلى منفاهما الجديد في العراق. ومنذ وصوله الى النجف الاشرف لم يقطع الامام الخميني ارتباطه بالمجاهدين في داخل ايران. فقد اتخذ من المبعوثين والرسائل وسيلة لحفظ ارتباطه ذاك. وقاد الثورة ولو من بعيد.

 

وفي شهر تشرين الاول 1977 ميلادي، تحولت شهادة اية الله السيد مصطفى الخميني والمراسم التأبينية المهيبة التي أقيمت له في ايران الى نقطة انطلاق لقيام الحوزات العلمية مجدداً، ونهضة المجتمع الديني الايراني. ومرة اخرى كانت قم هي فتيل النهضة، ولم تمض سوى مدة قصيرة وفي ظروف تختلف تماما عن الظروف التي انطلقت فيها انتفاضة حزيران 1963 ميلادي حتى تناغمت حركة الجماهير في مختلف انحاء البلاد حيث ادت اقامة مراسم العزاء المتتالية في الثالث والسابع والاربعين من سقوط الشهداء، الى سريان شعلة الثورة الى مناطق اخرى من البلاد كتبريز ويزد وجهرم وشيراز واصفهان وطهران. وطوال هذه المدة كانت البيانات المتواصلة الصدور من الامام الخميني واشرطة تسجيل احاديثه وخطاباته - والتي كان يدعو فيها الجماهير الى الثبات ومواصلة النهضة حتى القضاء على النظام الملكي وتشكيل الحكومة الاسلامية - تستنسخ وتكثر على ايدي مؤيديه وانصاره ويتم توزيعها على مختلف مناطق البلاد. ولم يتمكن الملك - رغم اقدامه على تنفيذ المذابح الجماعية - من إطفاء شعلة الثورة المستمرة، فقد كانت احابيله ودسائسه السياسية ومناوراته العسكرية - وقبل أن تساهم في تهدئة الغضب الجماهيري - تبوء بالفشل نتيجة صدور بيانات الامام التي كانت تكشف الخفايا وترشد الجماهير الى اتخاذ ما يلزم من الخطوات. لقد تزعم الامام الخميني نهضته منذ البدء مستندا الى قوله تعالى ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾.

 

مؤكداً تقديم الثورة الثقافية على القيام بالثورة السياسية والتحول الاجتماعي بواسطة الجماهير. لقد كانت المساجد والمراكز الدينية بمثابة المعاقل الاساسية للثورة الاسلامية الايرانية والمنطلق لتحرك الجماهير وتجمعها. وكانت الشعارات التي ترددها الجماهير مزيجا من التعاليم الدينية وارشادات الامام الخميني. وفي الرابع من ايلول 1978ميلادي، حوصر منزل الامام الخميني في النجف من قبل قوات امن النظام العراقي، مما فجر غضب المسلمين في ايران والعراق وسائر البلدان. فغادر الامام الخميني النجف الاشرف متوجهاً الى الكويت، غير ان الكويت امتنعت عن استقباله بإيعاز من النظام الايراني، فقرر الامام السفر الى باريس، وفي السادس من تشرين الأول عام 1978 ميلادي وصل الامام الخميني الى باريس وانتقل بعد يومين من وصوله الى منزل أحد الإيرانيين المقيمين في نوفل لوشاتو (في ضواحي باريس). وقد طال منفى الامام ونجله السيد احمد الخميني 14عاما ولا زال الامام كان يقود الثورة الاسلامية خلال هذه السنوات وهي كانت اصعب المراحل في النهضة الاسلامية. وكانت بيانات الامام الخميني التي اكدت على وجوب مواصلة الجهاد احالت بجميع المخططات العسكرية من جانب الحكومة وحولتها الى نقشٍ على الماء. أخيراً وفي مطلع شهر شباط عام 1979 ميلادي وصل الامام الخميني الى ايران بعد اربعة عشر عاماً من فراق الوطن. وقد كان استقبال الجماهير لقائدهم عظيماً ومنقطع النظير الى درجة لم تستطع حتى الشبكات الاعلامية الغربية من انكاره، فقد قدرت وسائل الاعلام الغربية عدد المستقبلين بين (4 ـ 6) ملايين نسمة. وما ان وصل الامام حتى توجهت الجموع من مطار طهران الى مقبرة جنة الزهراء حيث مزار الشهداء، لتصغي لحديث قائدها التاريخي. وفي ذلك الحديث صرح الامام بالقول : "سوف أقوم مدعوما من هذا الشعب، بتشكيل الحكومة", ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون﴾.