المرحوم آية الله الشيخ محمد مؤمن

أخبار تدل على استواء جميع الأئمة عليهم السلام بعضهم بالنسبة للآخر وكلهم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله في جميع ما أعطاهم الله من المقامات والمناصب والاختيارات.

 

ولا بأس أولاً بأن نذكر بعض الأخبار الواردة في خصوص النبي صلى الله عليه وآله ثم نتبعه بذكر تلك الأخبار.

 

1. ففي صحيحة زرارة قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يقولان: إن الله عز وجل فوّض إلى نبيه صلى الله عليه وآله أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم، ثم تلا هذه الآية: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[1].

 

ومن الواضح أن أمر الخلق مطلق يشمل كل ما هو مرتبط بهم، سواء فيه أن يكون أمراً كلّيّاً لا يختصّ بزمان خاصّ كما في الأحكام الإسلامية الدائمة أو كان أمراً جزئياً مختصّاً ببعض الأزمنة أو الأمكنة كما فيما يرتبط بإدارة أمور الأمة يوماً فيوماً، فتدل الصحيحة على أن أمر إدارة أمور الأمة أيضاً مفوّض من الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله.

 

2. وفي صحيحة الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه، فلما أكمل له الأدب قال: ﴿إنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ وإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان مسدداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق، فتأدب بآداب الله، ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهن إلا في سفر، وأفراد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك كله، فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ـ ثم ذكر جعله صلى الله عليه وآله أربعاً وثلاثين ركعة نافلة يومية، وجعله صوم شعبان وثلاثة أيام من كل شهر سنة، وتحريمه لكل مسكر وإن لم يكن خمراً، ثم قال: ـ فوافق أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الله عز وجل، ونهيه نهي الله عز وجل، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى[2].

 

فهذه الصحيحة أيضاً كما ترى قد صرّحت بأن الله تبارك وتعالى (فوض إلى النبي أمر الدين والأمة ليسوس عباده) وتفويض أمر الأمة إليه عبارة أخرى عن تفويض أمر خلقه المذكور في صحيحة زرارة، وقد عرفت دلالتها على أن معناه ولايته صلى الله عليه وآله من الله تعالى على إدارة أمر الأمة وبلاده، بل لا يبعد أن يقتضي تفويض أمر الدين إليه أيضاً علاوة عن إيكال جعل الأحكام الكلية إليه كما ذكر موارد منها في الصحيحة فلا يبعد أن يقتضي أيضاً ولايته على مراقبة الأمة في العمل بأحكام الدين كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند ذك تفصيل اختيارات ولي الأمر، فارتقب حتى حين.

 

3. وفي خبر زيد الشحام قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: ﴿عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ قال: أعطى سليمان مُلكاً عظيماً، ثم جرت هذه الآية في رسول صلى الله عليه وآله فكان له أن يعطي ما شاء مَن شاء ويمنع مَن شاء، وأعطاه (الله) أفضل مما أعطى سليمان، لقوله: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾[3].

 

فإطلاق هذا الخبر أيضاً يدل على ثبوت الولاية له صلى الله عليه وآله كما هو واضح.

 

4. وفي رواية إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى أدب نبيه صلى الله عليه وآله فلما انتهى به إلى ما أراد قال له: ﴿إنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ففوض إليه دينه، فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، وإن الله عز وجل فرض الفرائض ولم يقسم للجد شيئاً، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله أطعمه السدس فأجاز الله جل ذكره له ذلك، وذلك قول الله عز وجل: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[4].

 

وقد عرفت ذيل صحيحة الفضيل أن نفس تفويض الدين أيضاً يقتضي نوعاً من الولاية، فتذكر.

 

5. وقريب منه خبر آخر عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليهم السلام[5]، فراجع.

 

فهذه الأخبار الخمسة أنموذج مما يدل على تفويض الأمر إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وولايته على إدارة أمر الأمة، والمتتبع يظفر بأكثر من ذلك.

 

وأما الأخبار الواردة في أن كلما ثبت للنبي أو لبعض الأئمة عليه السلام فهو ثابت لجميعهم فهي أيضاً أخبار متعددة:

 

1. منها صحيحة ثعلبة بن ميمون أبي إسحاق النحوي قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فسمعته يقول: إن الله عز وجل أدب نبيه على محبته فقال: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ثم فوض إليه فقال عز وجل: ﴿ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، وقال عز وجل: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾. قال: ثم قال: وإن نبي الله صلى الله عليه وآله فوض على علي عليه السلام وائتمنه، فسلمتم وجحد الناس، فوالله لنحبكم أن تقولوا إذا قلنا وأن صمتوا إذا صمتنا، ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا[6].

 

فالصحيحة كما ترى قد ذكرت الآيات التي تدل على تفويض الأمر من الله تعالى إلى النبي الأعظم، وقد عرفت من بعض الصحاح المذكورة أولاً أن هذا الأمر أمر الدين والخلق والأمة الذي تفويضه عبارة أخرى عن إيكال ولاية أمرهم إليه صلى الله عليه وآله وهذه الصحيحة زادت على تلك الصحاح أن هذا الذي فوضه الله تعالى إلى النبي الأعظم فقد فوضه إلى علي عليه السلام وائتمنه عليه، وبعد ذكر ذلك التفت الإمام عليه السلام فقال: (ونحن فيما بينكم وبين الله عز وجل، ما جعل الله لأحد خيراً في خلاف أمرنا) فيعلم أن هذا التفويض لا يختص بأمير المؤمنين بل يعم جميع الأئمة المعصومين عليهم السلام وهذا ما أردناه.

 

2. ومنها رواية عبد الله بن سنان ـ التي لا يبعد اعتبار سندها ـ قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة عليهم السلام، قال عز وجل: ﴿إنَّا أَنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ وهي جارية في الأوصياء عليهم السلام[7].

 

3. ومنها رواية محمد بن الحسن الميثمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: إن الله عز وجل أدب رسوله حتى قوّمه على ما أراد، ثم فوّض إليه، فقال عز ذكره: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ فما فوّض الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله فقد فوّضه إلينا[8].

 

ودلالة هاتين الروايتين تعلم مما ذكرناه ذيل صحيحة أبي إسحاق.

 

4. ومنها رواية موسى بن أشيم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فسألته عن مسألة فأجابني فيه بجواب، فأنا جالس إذ دخل رجل فسأله عنها بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني، فدخل رجل آخر فسأله بعينها فأجابه بخلاف ما أجابني وخلاف ما أجابه به صاحبي، ففزعت من ذلك وعظم عليَّ، فلما خرج القوم نظر إليَّ، وقال: يا ابن أشيم كأنك جزعت؟ فقلت: جعلت فداك إنما جزعت من ثلاثة أقاويل في مسألة واحدة، فقال: يا ابن أشيم إن الله فوض إلى دواد أمر مُلكه فقال: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وفوض إلى محمد صلى الله عليه وآله أمر دينه فقال: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهكم عنه فانتهوا) وإن الله فوّض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوّض إلى محمد صلى الله عليه وآله فلا تجزع[9].

 

فهذا المتن الذي نقلناه قد أخذناه من اختصاص الشيخ المفيد قدس سره وإنما قدمناه على ما سننقله عن أصول الكافي لحصة سنده إلى ابن أشيم، وإن كان موسى بن أشيم خطّابياً غير ثقة، فقد روى الكشّي فيه بسند موثق عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: إني لأنفس على أجساد أصيبت معه ـ يعني أبا الخطّاب ـ النار، ثم ذكر ابن الأشيم فقال: كان يأتيني فيدخل عليَّ هو وصاحبه وحفص بن ميمون ويسألوني فأخبرهم بالحق، ثم يخرجون إلى أبي الخطاب فيخبرهم بخلاف قولي فيأخذون بقوله ويذرون قولي) فسند الحديث ليس بمعتبر.

 

وأما دلالته فإن قوله عليه السلام في الذيل: (وإن الله فوض إلى الأئمة منا وإلينا ما فوض إلى محمد صلى الله عليه وآله) يدل بوضوح على استواء الأئمة عليهم السلام مع الرسول الأعظم في جميع ما فوضه الله تعالى إليه، وهو المطلوب.

 

5. ومنها روايته بنقل الكافي، فإنها قريبة مما نقلناه، وفي آخرها قال عليه السلام: وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾، فما فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقد فوضه إلينا[10].

 

وأخرج في الاختصاص بسندٍ آخر حديثاً عن موسى بن أشيم قريباً منه، فراجع[11].

 

وهكذا في بصائر الدرجات وهي في الدلالة قريبة مما مر عن الاختصاص، ويزيد عليه أن في سندها بكار ابن بكر أو بكار ابن أبي بكر الذي لم يوثق.

 

6. ومنها ما رواه في الاختصاص مرسلاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن في الأمر والنهي والحلال والحرام نجري مجرىً واحداً، فأما رسول الله وعلي صلوات الله عليهما فلهما فضلهما[12]. ورواه مسنداً مثله الصفّار في بصائر الدرجات بمثل سند الكافي[13].

 

فقوله عليه السلام: (رسول الله ونحن في الأمر والنهي... نجري مجرىً واحداً) فيه دلالة على المطلوب، بناءاً على أن ظاهره استواؤهم معه في الأمر والنهي الذي ينشأونه أنفسهم، ولا محالة تكون هي التكاليف التي يقرّرونها في الموارد الخاصة التي تلزمها إدارة أمور الأمة الإسلامية.

 

7. ومنها ما رواه الكليني عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن عن علي ابن إسماعيل عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: نحن في الأمر والفهم والحلال والحرام نجري مجرىً واحداً، فأما رسول الله وعلي صلوات الله عليهما وآلهما فلهما فضلهما[14].

 

وسند الحديث صحيح بناءاً على أن محمد بن الحسن هو الصفار، وعلي بن إسماعيل هو ابن السندي الثقة، وهذا السند بعينه سند الحديث في البصائر، والظاهر أنه حديث واحد، واختلاف المتن من غلط إحدى النسختين.

 

وإذا فسرنا الأمر المذكور في نسخة الكافي بالأمر الصادر عنهم عليهم السلام في الموارد الخاصة اتحد مضمون النسخ.

 

8. ومنها ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص والصفار في بصائر الدرجات عن أبي إسحاق النحوي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الله أدب نبيه صلى الله عليه وآله على محبّته، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ثم فوّض إليه فقال: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ وقال: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾ وأن رسول اله صلى الله عليه وآله فوّض إلى علي عليه السلام وائتمنه، فسلّمتم وجحد الناس، ونحن فيما بينكم وبين الله، ما جعل الله لأحد من خير في خلاف أمرنا، فإن أمرنا أمر الله عز وجل.

 

هكذا في الاختصاص، وفي البصائر مثله، إلا أن فيه ذيل الحديث هكذا: (ما جعل الله لأحد من خير في خلافه)[15].

 

وروى قريباً منه في البصائر عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام أيضاً، فراجع[16].

 

وهذه الرواية متحدة المضمون مع ما رويناه أولاً عن أصول الكافي، وإنما ذكرناها هنا ثانياً لاختلاف ما في متنها بما لا يضر بالمقصود، كما هو واضح.

 

وهذه الأحاديث كما عرفت لا تختص بمجرد بيان الأحكام، بل إطلاق تفويض أمر الخلق أو الأمة إليهم عليهم السلام كظهور لفظي (الأمر) و (النهي) يقتضي شمولها لإظهار النظر والأمر والنهي في كل ما يكون مرتبطاً بإدارة أمر الأمة مما كان مقتضى تصدي إدارة أمورهم والولاية عليهم كما مر، فما يظهر من تعبير صاحب الوافي قدس سره في عنوان البحث هنا خلاف مقتضى إطلاق هذه الروايات.

 

9. ومنها ما رواه في الاختصاص بسند معتبر صحيح عن أبي الصباح مولى آل سام، قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام أنا وأبو المغرا، إذ دخل علينا رجل من أهل السواد فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، قال له أبو عبد الله عليه السلام: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ثم اجتذبه وأجلسه إلى جنبه، فقلت لأبي المغرا ـ أو قال لي أبو المغرا ـ : إن هذا الاسم ما كنت أرى أحداً يسلم به إلا على أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه، فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا الصباح إنه لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما لآخرنا ما لأوّلنا[17].

 

وذيل الصحيحة كما ترى يقتضي استواء الأئمة عليهم السلام في جميع الأوصاف والفضائل والاختيارات التي ثبتت لواحد منهم، فيثبت لجميعهم ما ثبت لعلي عليه السلام، بل لا يبعد دعوى ظهوره في استوائهم جميعاً مع رسول الله صلى الله عليه وآله أيضاً، وبالجملة: فمقتضى الصحيحة ثبوت الولاية بالمعنى المطلوب لجميع الأئمة المعصومين عليهم السلام.

 

10. ومنها ما في الاختصاص أيضاً مرسلاً عن أحمد بن عمر الحلبي الثقة قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لا يستكمل عبدٌ الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرنا ما يجري لأولنا، وهم في الطاعة والحجة والحلال والحرام سواء، ولمحمد وعلي صلوات الله عليهما وآلهما فضلهما[18].

 

وبيان دلالتها يظهر مما ذكرناه في صحيحة أبي الصباح آنفاً.

 

11. ومنها ما رواه في الاختصاص أيضاً بسند صحيح عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال أبو جعفر عليه السلام: لا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف أنه يجري لآخرهم ما جرى لأولهم، وهم في الحجة والطاعة والحلال والحرام سواء، ولمحمد وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما فضلهما[19].

 

12. ومنها ما رواه أيضاً بنفس ذاك الإسناد قال الرضا عليه السلام: قال أبو عبد الله عليه السلام: كلنا نجري في الطاعة والأمر مجرى واحد، وبعضنا أعلم من بعض[20].

 

وبيان دلالة هاتين الصحيحتين أيضاً يعلم مما ذكرناه آنفاً، فتذكر.

 

13. ومنها ما رواه في الاختصاص عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا حذو القذّة بالقذّة[21].

 

فقد صرح عليه السلام بتوارث كل لاحق منهم عليهم السلام، وإطلاق هذا التوارث يقتضي ثبوت جميع الصفات الكمالية والمناصب الإلهية الثابتة لكل سابق للاحق، فلا محالة منصب الولاية بمعنى إدارة أمور الأمة إذا كان ثابتاً للنبي صلى الله عليه وآله أو لأحد من الأئمة السابقين كأمير المؤمنين عليه السلام فهو ثابت بعينه لجميع من يلحقه من الأئمة بعده عليهم السلام، والفقرة الأخيرة فيه ـ أعني قوله عليه السلام: (حذو القُذّة بالقُذّة) ـ تأكيد لإرادة هذا الإطلاق، فإن الحذو هو المقايسة والتقدير لأحد الشيئين بالآخر، والقُذّة ـ بضم القاف ـ هي ريش السهم. فحاصل مفادها: أن هذا التوارث عام لجميع المناصب والصفات حتى أنه لا يخرج عنه مثل القُذّة التي هي شيء تزييني وصغير أيضاً، عن نهاية ابن الأثير في معناه: (يضرب مثلاً للشيئين يستويان ولا يتفاوتان) وهو راع ما قلناه بل ما قلناه تحريرٌ له.

 

فهذه الطائفة من الأخبار تامة الدلالة على ثبوت منصب الولاية لجميع الأئمة عليهم السلام، ولا تختص بواحد منهم أو بالنبي صلوات الله عليهم دون الباقين.

 

بيان شبهة التوقّف

 

قد ظهر بحمد الله تعالى من الآيات الشريفة المتعددة وطوائف عديدة من الأخبار الكثيرة المتواترة ثبوت الولاية على إدارة أمور الأمة الإسلامية للنبي الأكرم وآله الأئمة الهداة المهديين، وهذه الأدلة واضحة الظهور بل قريبة من الصراحة، بل بعضها صريح في أن تمام الموضوع لهذه الولاية هو نفس وجودهم الشريف بلا انتظار لأية حالة وأي شيء. وبالنتيجة تكون ولاية كل منهم فعلية بلا توقف على شيء أصلاً. وبالطبع يترتب عليه فعلية وجوب الإطاعة عنهم عليهم السلام في كل ما يتعلق بإدارة أمور الجامعة الإسلامية وما هو من لوازم تلك الإدارة.

 

إلا أنه ربما يوجد في الكلمات المنقولة عن سيد الوصيين أمير المؤمنين عليه السلام خلاف ذلك، فيوجد فيها ما يكون ظاهره أن فعلية الولاية متفرقة على اختيار جمع خاص من الأمة هم في ذلك الزمان عدة من المهاجرين والأنصار كانوا بالمدينة المنورة وباختيارهم أحداً يثبت له الولاية والإمامة.

 

فلا بد من التعرض لهذه الكلمات وبيان ما هو المستفاد منها جنب تلك الأدلة الكثيرة، فنقول: إن هذه الكلمات توجد فيما نقل عن مولانا علي بن أبي طالب عليه السلام في نهج البلاغة وتمامه:

 

1. فمنها ما ذكره عليه السلام في كتاب له إلى معاوية أرسله مع جرير بن عبد الله البجلي، قال عليه السلام:

 

أما بعد فإن بيعتي وأنا بالمدينة قد لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار دون غيرهم، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله عز وجل رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاّه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً... واعلم يا معاوية أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تُعقد معهم الإمامة ولا يدخلون في الشورى[22].

 

فهذا الكلام المبارك مع غمض العين عن ذكره لمبايعة قوم وظهوره في دخل البيعة في ثبوت الولاية قد دل على أن اجتماع قوم خاص من المهاجرين والأنصار لا يدخل فيهم مثل معاوية الذي هو من الطلقاء، واختيارهم لأحد وتسميتهم له إماماً دخيل في ثبوت الإمامة والولاية له، وكان هذا الذي سموه إماماً محل رضا الله تعالى، وبهذه العلة كان أبو بكر وعمر وعثمان أئمة، وحيث إن نفس هذا الجمع بايعوا علياً عليه السلام وسمّوه إماماً فهو أيضاً إمام وعلى الناس الآخرين كلهم سواء كانوا حاضرين في المدينة أو غائبين عنها اتباع هذه التسمية والانتخاب، ولذلك أيضاً فعلى معاوية أن يتبع انتخاب هذه الشورى، فإن خرج عن أمرهم خارج ردوه إلى الحق وإلا قاتلوه وكانت جهنم مصيره.

 

2. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطبها حين مسير أصحاب الجمل إلى البصرة: أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أوقاهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه وأعلمهم به، فإن شغب شاغب استُعتب، فإن أبى قوتل، ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما إلى ذلك سبيل ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار[23].

 

وهذه المقالة المباركة بعد ذكر شرائط ثلاثة لمن هو أحق بالإمامة وبعد ذكر وجوب التبعية له أفاد أن انعقاد الإمامة وإن لم يحتج إلى حضور عامة الناس وإنشاء الرأي في إمامة من يجعل إماماً، إلا أنها مع ذلك ينعقد برأي جمعٍ خاصّ عبّر عنهم بلفظة (أهلها) وجعل لهم أنهم سيحكمون بإمامة من يختارونه على الغائبين، فليس للغائب أن يختار أحداً بنفسه بل عليه اتباع رأي هذا الجمع، بل ليس للشاهد أيضاً ـ سواء كان من أفراد الجمع أو غيرهم ـ أن يرجع عمن اختاروه إماماً.

 

فهذا المقال أيضاً فوّض أمر تعيين الولي والإمام إلى جمع خاص لم يذكر من خصوصياتهم شيئاً سوى التعبير عنهم بلفظة (أهلها)، فهو أيضاً في أصل المطلب مثل كلامه السابق وإن ذكر ذاك السابق خصوصية أهل الشورى إثباتاً ونفياً بخلاف هذا الثاني.

 

3. ومنها قوله عليه السلام لابنه الحسن المجتبى عليه السلام ـ لما قال له: يا أمير المؤمنين إن القوم حصروا عثمان يطلبون ما يطلبونه. ثم أشار عليه بأن يعزل الناس ويلحق بمكة حتى تؤوب العرب وتعود إليها أحلامها وتأتيك وفودها... فإن اجتمعت الأمة عليك فذاك، وإن اختلفت رضيت بما قضى الله، فأجابه عليه السلام بالنسبة إلى شقوق كلامه المختلفة ـ ... وأما قولك: (ائت مكة) فوالله ما كنت لأكون الرجل الذي تستحل به مكة، وأما قولك: (لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار) فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهت أن يضيع هذا الأمر[24].

 

فقوله عليه السلام في الجواب عن اتباع بيعة أهل الأمصار: (فإن الأمر أمر أهل المدينة) دليل على أنه عليه السلام يرى اعتبار بيعة أهل المدينة الناشئة لا محالة عن رأيهم وانتخابهم، فيدل على أن الإمامة منوطة برأي أهل المدينة وأنه به تنعقد الولاية الصحيحة الإٍسلامية للوالي، وضياع هذا الاعتبار وهو مما لا يحبه بل مكروه عنده عليه السلام.

 

فهذا المقال أيضاً يؤكد على إناطة حصول الولاية برأي أهل المدينة لكنه عليه السلام لم يشرط فيهم خصوصية كونهم من المهاجرين والأنصار.

 

4. ومنها قوله عليه السلام في كتاب له إلى معاوية يكذّب فيه ادعاءاته: وأما تحذيرك إياي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لمكان تحذرني ذلك ولكني وجدت الله تعالى يقول: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ فنظرنا إلى الفئتين، أما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لأن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة وأنت أمير لعمر على الشام، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام[25].

 

فتراه عليه السلام حكم بلزوم بيعة أهل المدينة له بالولاية معاوية وهو بالشام، فيدل أولاً على اعتبار بيعة أهل المدينة لثبوت الولاية والإمامة العظمى له عليه السلام، وثانياً وجوب اتباع من ليس بالمدينة كمعاوية الذي هو بالشام لأهلها.

 

فهذا المقال أيضاً يدل على تأثير انتخاب أهل المدينة وبيعتهم لأحد في ثبوت الولاية له كما فيما سبقه. نعم هذا أيضاً لم يذكر في أهل المدينة خصوصية مثل كونهم من المهاجرين والأنصار.

 

5. ومنها قوله عليه السلام ـ في كتاب طويل كتبه وأمر أن يُقرأ على الناس في كل يوم جمعة وكان هذا في أواخر أيام قيامه بالولاية ـ : ... فبعث (يعني معاوية) إليَّ: أن أهل الحجاز كانوا الحكام على أهل الشام فلما قتلوا عثمان صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز، فبعثت إليه: إن كنت صادقاً فسم لي رجلاً من قريش الشام تحل له الخلافة ويُقبل في الشورى، فإن لم تجده سميت لك من قريش الحجاز من تحل له الخلافة ويُقبل في الشورى[26].

 

فالظاهر أن قوله عليه السلام: (من يُقبل في الشورى) إشارة إلى من يصلح أن يكون من أعضاء الشورى الذين ببيعتهم ورأيهم تثبت الولاية لمن بايعوه وهم المذكورون في كلماته السابقة.

 

فهذا المقال أيضاً يدل على وجود شورى برأيها وبيعتها يثبت ولاية من عيّنوه وبايعوه وإن لم يذكر لأهلها خصوصية سوى أن بعض قريش الحجاز صالح لهذا.

 

6. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطبها في أمر البيعة لمّا تخلّف عنها بعض الناس:... أيها الناس، إنكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، وإنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا، فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإن على الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام واتبع غير سبيل أهله[27].

 

فهذا المقال المبارك أيضاً قد حكم بأن الناس على الخيار في تعيين ولي الأمر قبل البيعة، وأما إذا بايعوا فلا خيار لهم، وحكم في ذيله بأن هذه البيعة بما أنها كانت عامة فلا يجوز لأحد الرغبة عنها، فإن الرغبة عنها رغبة عن دين الإسلام واتباع لغير سبيل أهل الإسلام فإذا كانت البيعة العامة بهذه المرتبة من الأهمية فلا محالة تكون كمال المؤثر في تعيين ولي أمر المسلمين، والبيعة قوامها برأي أهل البيعة وانتخابهم رجلاً خاصاً يجلعونه ولي الأمر وإماماً. فحاصل مفاد هذا المقال: أن حصول الولاية مشروط وموقوف برأي أهل البيعة ولا تنعقد لأحد بلا بيعة ورأي أهل البيعة.

 

فهذا المقال أيضاً يدل على اعتبار رأي وبيعة أهل بيعة عامة وإن لم يذكر لهم خصوصية.

 

فحاصل هذه الكلمات: أن انعقاد الولاية والإمامة العظمى لأحد موقوف على انتخاب جمع قد خصهم بأن يكونوا من المهاجرين والأنصار في بعض هذه الكلمات وصرح بعض آخر بأن من كان من قريش الحجاز يصلح أن يكون عضو هذه الجماعة.

 

وعلى أي حال فهو خلاف ما استفدناه من تلك الآيات والروايات الكثيرة من أن ولاية النبي والأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام فعلية من الله تعالى لا تتوقف على رأي ولا بيعة.

 

إزاحة الشبهة

 

والجواب عن هذه الشبهة هو: أن ثبوت فعلية الولاية من الله تعالى لكل من النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ليس طريق إثباته مجرد إطلاق أدلة ولايتهم بل إن كثيراً من آحاد الأدلة المذكورة في كل طائفة من الآيات أو الروايات الماضية صريح في ذلك:

 

فهل يرتاب أحد في أن الولاية الثابتة للنبي صلى الله عليه وآله بقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ مما ينشئها الله له من عند نفسه؟! أو يرتاب في أن التنزيل المذكور ذيل الآية المذكورة أعني قوله تعالى: ﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ الذي فسرته الروايات العديدة بأن المراد ثبوت الولاية لعلي عليه السلام وبعده للأئمة عليهم السلام فهل يشك أحد في أن هذه الولاية غير تلك الولاية الثابتة في صدر الآية من الله تعالى؟! بل لا ريب في وحدة المراد بها ووحدتهما في أن ثبوتها لهم جميعاً من عند الله تعالى من دون أن يشترط في ثبوتها لهم أزيد من ثبوت وجودهم المبارك.

 

وهكذا فهل يحتمل في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...﴾ غير أن الولاية ثابتة لله تعالى ولرسوله وللذين آمنوا الذين فسرته الروايات العديدة بعلي بن أبي طالب وأولاده الأئمة المعصومين عليهم السلام وغير أن هذا المقام منصب إلهي قد جعله الله تعالى لهم وجعله عدلاً لولايته تعالى على المؤمنين؟ بل لا يرتاب أحد في أنه معناه وأن تمام موضوع هذه الولاية هو مجرد وجود الله تعالى ووجود رسوله صلى الله عليه وآله ووجود الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم.

 

وهكذا فهل يحتمل أحد في آية الغدير سوى أنه أنزل من الرب تعالى إلى النبي أمراً إلهياً أمره الله تعالى بتبليغه وأن هذا الأمر بمرتبة من الأهمية إن لم تبلّغه فما بلغت رسالته؟ وقد فسرته الروايات المتواترة بأنه الولاية على الأمة وكان تبليغ الرسول وتوضيحه له بمثل قوله صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم من أنفسكم) فإذا أجابوه ببلى: قال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) فلا يحتمل في الآية والروايات المتواترة الواردة ذيلها غير هذا المعنى.

 

وهكذا فهل يكون معنى للروايات المتعددة الواردة في بيان سر عدم قتال أمير المؤمنين عليه السلام مَن غصب حقه ـ بما لها من الطوائف ـ إلا أنه كان له عليه السلام حق الولاية على الأمة الإسلامية فغصبوا حقه وهو عليه السلام لم يقاتلهم للجهات المذكورة في هذه الروايات؟ فلا محالة ثبوت حق الولاية على الأمة له عليه السلام لم يشترط فيه بيعة ولا رأي ولا انتخاب بل كانت ثابتة له عليه السلام قد ظلموه بغصبها.

وهكذا كثير من آحاد الروايات الكثيرة الواردة في هذا المرام، فتذكر.

فبالجملة: فعدة كثيرة من الآيات والروايات المعتبرة القطعية الصدور تدل بالصراحة على ثبوت منصب الولاية على الأمة من الله تعالى للنبي ولكل واحد من الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وحينئذ فلا مجال لتوهم إناطة ثبوت هذا الحق أو إناطة فعليته لهم بدخل واحد أو جمع من الناس بل هو أمر أعطاه الله سبحانه لهم بلا مدخلية لأحد فيها أصلاً وبأي نحو.

 

فبعد هذه النكتة الأساسية يمكن توجيه ما في تلك الكلمات وأمثالها ـ لو فُرض لها مثل ـ بوجهين:

أحدهما: أن كيفية انتخاب الولي بين المسلمين بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله خلافاً لما جعله الله تعالى وبيّنه رسوله الأكرم مراراً وإجبار أعاظم الأصحاب وأتقيائهم حتى مثل علي بن أبي طالب عليه السلام نفسه الذي كان هو ولي الأمر من الله ورسوله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم على البيعة لمن سمّوه ولي الأمر وخليفة الرسول أوجب عثمان أربع وعشرون سنة ولا محالة كان شباب المسلمين قد ارتكزت أذهانهم على أن عقد الشورى في المدينة وتعيين الولي بالبيعة له ونحوها هو الطريق الإسلامي الوحيد لتعيين ولي أمر المسلمين، خصوصاً إذا لوحظ أن عامة المسلمين والمشايخ منهم إلا الخلّص من الشيعة كانوا يؤيدون ويصححون هذه الطريقة، فلذلك فلا يمكن مع هذه الوضعية والأرضية بيان ما هو الحق والعدول إلى نصب الرسول له عليه السلام ولي أمر المسلمين لاسيما إذا كان مخاطب الكلام مثل معاوية، وعليه فالمناسب أن يستدل لإثبات الولاية لنفسه بما يراه الناس والعامة طريقاً.

والشاهد لثبوت مثل هذا الارتكاز في أذهان المسلمين هو ما رواه ثقة الإسلام في روضة الكافي بسند معتبر عن سُليم بن قيس الهلالي ـ الذي هو أيضاً ثقة بحسب الظاهر ـ أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب خطبةً، وبعد ذكر مقدار من هذه الخطبة قال الراوي: ثم أقبل بوجهه وحوله ناسٌ من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال عليه السلام:

قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيرين لسنته، ولو حملتُ الناس على تركها وحوّلتها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي[28] الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

أرأيتم لو أمرتُ بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام ـ ثم ذكر ثمانية وعشرين مورداً آخر وقال: ـ إذاً لتفرقوا عني، والله لقد أمرت الناس أن يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيّرت سنة عمر؛ ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري، ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة[29] وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار... .

إلى أن قال: ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا صلى الله عليه وآله والله المستعان على من ظلمنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[30].

وهذا الحديث المبارك يحكي زاوية من الشدة العظيمة التي ابتلي بها أمير المؤمنين عليه السلام وشيعته الفائزون وبعده سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام. فمع هذه الأرضية الشديدة كيف يمكن الاستدلال البيّن بما هو الحق الصحيح؟ بل لا مجال إلا الالتجاء إلى حديث يرونه حقاً ويثبت به المطلوب الأساسي.

وقد ورد عن كتاب سُليم بن قيس الذي يرويه أبان بن عمر ما حاصله: أن معاوية بعث أبا الدرداء وأبا هريرة في حرب صفين إلى علي أمير المؤمنين عليه السلام يعرض مطالب عليه، وفي ضمن ما أجاب هو عليه السلام أنه قال:

وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان، وبايعني المهاجرون والأنصار بعد ما تشاوروا بي ثلاثة أيام، وهم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان وعقدوا إمامتهم، ولي بذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والأنصار غير أنهم بايعوهم قبل، على غير مشورة من العامة، وأن بيعتي كانت بمشورة من العامة.

فإن كان الله جل اسمه جعل الاختيار إلى الأمة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خيرٌ لهم من اختيار الله ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعته بيعة هدىً وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيَّ واختاروني بإجماع منهم.

وإن كان الله جل وعز هو الذي يختار وله الخيرة فقد اختارني للأمة واستحلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله فذلك أقوى بحجتي وأوجب بحقي[31].

 

وكتاب سُليم وإن كان غير معتبر السند إلا أن هذا الذي تضمّنه كما ترى مشتمل على جوابين، أولهما ما عليه ارتكاز الناس، وقد ذكره أولاً وبصورة أحد عدلين ذكرهما في قالب إن الشرطية ليكون جمعاً بين بيان الحقيقة ورعاية التقيَّة المضطر إليها.

 

فأما كلماته المذكورة في صدر البحث فقد اقتصرت على الشق الأول بلا ترديد كما ذكر هو عليه السلام أيضاً أن له لا لغيره الولاية على الأمة بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله على ما مر أو يأتي منه عليه السلام مرات كريرة عديدة فلا بأس بأن يكون الاقتصار على خصوص الأول لاقتضاء المقام رعاية جانب الشدة كما لا يخفى.

 

هذا هو أول الوجهين.

 

الوجه الثاني: أن يقال: إن لإثبات ولايته الحقة طريقين: أحدهما جدلي على مبنى ما يعتقده عامة الناس، وثانيهما هو الاستناد إلى الآيات والسنة الدالة عليها، وكلا الطريقين يثبت المطلوب، فكما أنه عليه السلام استند إلى الطريق الثاني فهكذا استند في تلك الكلمات إلى الطريق الأول، وكلاهما صحيح، وأحدهما لا يبطل الآخر.

ــــــــــــ

[1]الكافي: باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله... ج1 ص266 ـ 267 الحديث3 و 5.

 

[2]المصدر السابق: ص266 الحديث4.

 

[3]الكافي: باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله... ج1 ص268 و 267 الحديث10 و 6.

 

]4]نفس المصدر.

 

[5]الكافي: باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله... ج1 ص267 الحديث7.

 

[6]المصدر السابق: ص265 الحديث1، وقد رواه عن ثعلبة عن الباقر عليه السلام أيضاً.

 

[7]الكافي: باب التفويض... ج1 ص268 الحديث8 و9.

 

[8]نفس المصدر.

 

[9]الاختصاص: ص329 ـ 330.

 

[10]الكافي: باب التفويض... ج1 ص265 ـ 266 الحديث2.

 

[11]الاختصاص: ص330 ـ 331، البصائر: ص383 و 385 و 386.

 

[12]الاختصاص: ص267.

 

[13]بصائر الدرجات: الباب8 من الجزء العاشر ص480 الحديث2.

 

[14]الكافي: باب في أن الأئمة في العلم والشجاعة والطاعة سواء ج1 ص275 الحديث3.

 

[15]الاختصاص: ص330، البصائر: الجزء الثامن ص384 الحديث5.

 

[16]البصائر: ص384 الحديث4.

 

[17]الاختصاص: ص267 ـ 268.

 

[18]الاختصاص: ص267 ـ 268.

 

[19]الاختصاص: ص22 و 279.

 

[20]نفس المصدر.

 

[21]نفس المصدر.

 

[22]تمام نهج البلاغة: الكتاب29 ص807، نهج البلاغة: الكتاب6.

 

[23]تمام نهج البلاغة: الخطبة42 ص414، نهج البلاغة: الخطبة173.

 

[24]تمام نهج البلاغة: الكلام112 ص640.

 

[25]تمام نهج البلاغة: الكتاب58 و 75 ص844 و 890.

 

[26]نفس المصدر.

 

[27]المصدر السابق: الخطبة41 ص410.

 

[28]في نسخة غير الكافي نقلها تمام نهج البلاغة هكذا: حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي.

 

[29]في نسخة تمام نهج البلاغة هكذا: بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة... .

 

[30]الكافي: ج8 ص58 ـ 63، تمام نهج البلاغة: الخطبة3 ص89 ـ 91.

 

[31]بحار الأنوار: ج33 ص144.