جهاد التبيين: مسؤوليّتنا جميعاً(*)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)

أثار الإمام الخامنئيّ دام ظله، في السنوات الماضية، أهميّة جهاد التبيين، وبات سماحته يطرح هذا الموضوع كثيراً في الآونة الأخيرة، فلا يعدّه أمراً مستحبّاً، وإنّما ينظر إليه كأمر واجب وضروريّ وفوريّ، غير قابل للتأجيل.

 

وليس جهاد التبيين مسألة جديدة وطارئة، وإنّما تمتدّ جذوره إلى أكثر من ألف عام، حيث مارسه الأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وهو ما سنتعرّف إليه في هذا المقال.

 

أوّلاً: الأنبياء عليهم السلام ومهام جهاد التبيين

1. التبيين المهمّة الأساسيّة: إنّ العمل الأوّل والأساسيّ للأنبياء والرسل عليهم السلام هو تبيين الحقائق والوقائع للناس، وهذا ما يبيّنه الله سبحانه وتعالى في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم: 3)؛ فالأنبياء عليهم السلام كانوا يأتون إلى الناس بدعوة الحقّ، فيبيّنون لهم الحقائق والوقائع، ويدعونهم إلى عبادة الله الواحد، لا الكواكب والأصنام والأخشاب والحيوانات، لما فيه نجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

 

2. مهمّة عسيرة: لم تكن مهمّة الأنبياء عليهم السلام سهلة وبسيطة، بطبيعة الحال، وإنّما كان ثمّة من يعترض طريقهم في نشر دعوة الحقّ، ويواجههم، ويتصدّى لهم بشتّى الأشكال، وصولاً إلى استخدام العنف والقتل. ولهذا السبب، يعدّ هذا العمل نوعاً من أنواع الجهاد؛ لأنّه ليس عملاً تبليغيّاً ودعويّاً وثقافيّاً عاديّاً وبسيطاً، إنّما هو عمليّة جهاد، بسبب ما يتطلّبه من تضحيات ومشقّة وتعب؛ فلم يكن من السهل على كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم السلام أن يأتي إلى قوم أو مجتمع ألِف عبادة الأصنام لمئات السنين، ويقول له أنّ هذه الأصنام التي يعبدها لا قيمة لها، وهي لا تنفع ولا تضرّ، ولا تحيي ولا تميت، لا بل كان يدعوهم إلى عبادة الإله الواحد، وهذا الأمر كان يستغرق وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً.

 

وكان الأنبياء عليهم السلام يقفون أيضاً في وجه ثقافة المجتمع السائدة آنذاك، التي كان يستغلّها الحكّام والطبقات الغنيّة في تلك المجتمعات، والتي كانت تقوم على التمييز العرقيّ والعنصريّ، والتمييز بين الجنسين، وكذلك التمييز على أساس اللون، واللغة، والغنى والفقر، والقوّة والضعف.

 

3. ثباتٌ وقوّةٌ: كان من الطبيعيّ أن يقف هؤلاء الطغاة في وجه تلك الدعوات، وهذا ما أدركه جيّداً الأنبياء عليهم السلام جميعهم، الذين كانوا يدخلون في تحدٍّ كبير قاسٍ وعنيف لتحقيق الغايات التي جاؤوا من أجلها. الأمر الذي كان يتطلّب جرأة وشجاعة، وهو ما تحلّى به أنبياؤنا جميعاً، حتّى يتمكّنوا من الوقوف في وجه هذه الموجة العاتية، وفي وجه هؤلاء الفراعنة والنماردة والطواغيت والطبقة الحاكمة المستبدّة الظالمة؛ فلم يخافوا، أو يتزلزلوا، أو يتراجعوا أمام أيّ ترغيب أو ترهيب أو تعذيب أو تهديد بالقتل. وقد واجه أنبياؤنا عليهم السلام شتّى أنواع الترهيب والتعذيب، مع العلم أنّهم لم يحملوا سيفاً في وجه أحد، وإنّما كان سلاحهم جهاد التبيين؛ فتعرّضوا للشتائم والإهانات، والاتّهام بالسحر والجنون، كما حصل مع النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعرّضوا كذلك للأذى الجسديّ، وصولاً إلى طردهم من قراهم وعزلهم، فضلاً عن محاولات قتلهم، كما حصل مع النبيّ إبراهيم عليه السلام، عندما رُمي في النار.

 

والأمر نفسه حصل أيضاً مع أتباع الأنبياء عليهم السلام وأصحابهم، فقُطّعت أيديهم وأرجلهم ليتراجعوا عن مواقفهم، وقُرّضوا بالمقاريض، والأمثلة على ذلك كثيرة في كتب التاريخ. ومع ذلك كلّه، لم يستسلم أنبياؤنا وأتباعهم، ولم يتراجعوا عن إيمانهم، لا بل ثبتوا على مواقفهم العقائديّة والإيمانيّة والفكريّة.

 

ثانياً: الحركة الحسينيّة وجهاد التبيين

1. التبيين عنوان الحركة الحسينيّة: الحركة الحسينيّة، أيضاً، حركة إيمانيّة وجهاديّة منذ اللحظة الأولى التي وقف فيها الإمام الحسين عليه السلام في قصر الأمير الأمويّ في المدينة رافضاً البيعة ليزيد، وقائلاً كلمته المعروفة. لقد كان جهاد التبيين عنواناً كبيراً لهذه الحركة من بدايتها إلى نهايتها؛ أي منذ اتّخاذ القرار في المدينة وحتّى الشهادة وما بعدها. فالإمام الحسين عليه السلام كان يعلم منذ اللحظة الأولى لخروجه من المدينة إلى أين هو ذاهب والمصير الذي ينتظره. كان على علم واضح جدّاً بالمكان والزمان والعدوّ والأحداث، وكان يعلم أنّه ماضٍ وصحبه إلى الشهادة.

 

لقد قام الإمام الحسين عليه السلام من أجل أن يحقّق مجموعةً من الأهداف. ولو انتهى الأمر عند دفن أجساد الشهداء الطاهرة بعد معركة كربلاء في العاشر من محرّم، ولم تقم السيّدة زنيب عليها السلام والإمام زين العابدين عليه السلام بنقل كلّ ما حصل في تلك المعركة، فضلاً عن شرح أهدافها، ونقل الوقائع وتبيينها، إلى كلّ البشريّة في ذاك الزمان، وإلى كلّ الأجيال الآتية إلى قيام الساعة، فلو حصل ذلك كلّه، لما حقّقت ثورة الحسين عليه السلام أهدافها، ولما وصلنا شيء منها أبداً؛ لأنّ هذه الثورة لم تنته بعد مصرعه عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وإنّما بدأت بعد هذه الشهادة المباركة بمهمّة جهاد التبيين.

 

2. قائدٌ حكيمٌ: كان الإمام الحسين عليه السلام يدرك جيّداً أنّه بحاجة إلى قائد حكيم ومخلص يؤدّي مهمّة عظيمة وخطيرة وجوهريّة، يتوقّف عليها كلّ الإنجاز، ومن دونها تضيع الدماء والأجساد، وهي مهمّة التبيين. ما كان يقتضي أن يتحلّى ذاك القائد بالفهم والمعرفة والبيان والبلاغة والفصاحة والبصيرة، والشجاعة والصلابة حتّى يكون قادراً على الثبات في المواقف الصعبة والمهولة التي سيشهدها أمام عينيه، وأن يكون مدركاً لأهداف الثورة الحسينيّة، فضلاً عن قدرته على مخاطبة العقول والقلوب والتأثير عاطفيّاً في الناس. وكان يجب أيضاً أن يحظى بمكانة اجتماعيّة مرموقة بين الناس حتّى يصغوا إليه باحترام، ويؤثّر فيهم. فضلاً عن ذلك، كان الإمام عليه السلام يدرك أيضاً أنّه بحاجة إلى ضمانة كي لا يُقتل ذلك الشخص، وحتّى يقوم بالمهمّة المطلوبة منه، وهذه الضمانة تقتضي أن يختار امرأة لتأدية هذا الدور؛ لأنّ المنطق في ذلك الوقت كان يقضي أن لا يُقدم هؤلاء على قتل امرأة.

 

3. خطّةٌ مدروسةٌ: إنّ مرافقة السيّدة زينب عليها السلام لأخيها الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء في تلك الرحلة الخطيرة، وتركها لزوجها وعائلتها، لم يكن لأسباب أخويّة وعاطفيّة وعائليّة، وإنّما كان قراراً ينطلق من خطّة مدروسة وتدبير إلهيّ له علاقة بالمهام الموكلة لهذين العظيمين في حادثة كربلاء، الحسين وزينب عليهما السلام. لا بل نستطيع أن نقول أكثر من ذلك، إنّ السيّدة زينب عليها السلام أُعدّت، منذ طفولتها، وهُيئت وعُلّمت وثُقّفت ورُبيّت وجُهّزت لهذه المهمّة الإلهيّة العظيمة التي كان يتوقّف عليها حفظ الإسلام إلى قيام الساعة، وعندما أنجزت المهمّة غادرت هذه الحياة.

 

وإنّ مجرّد انتقال موكب السبايا من مكان إلى آخر، كان كافياً ليُحدث هزّة كبيرة لدى الناس، الذين اكتشفوا أنّ هؤلاء السبايا هنّ بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام، وزوجات الحسن والحسين عليهما السلام.

 

أمّا التأثير الأقوى، فكان في الكوفة، عندما وقفت السيّدة زينب عليها السلام صلبةً شامخةً أمام عبيد الله بن زياد الذي سألها: "كيف رأيت صنع الله بأخيك؟"، فأجابته بتلك الإجابة المدوّية، التي لا تزال أصداؤها إلى يومنا هذا: "ما رأيتُ إلّا جميلاً"(1). وكذلك الأمر في مجلس يزيد في دمشق، حيث وقفت أيضاً قويّة راسخة أمام الطاغية يزيد وهي تخطب ببلاغة أبيها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، والجميع يصغون إليها ويبكون من شدّة تأثّرهم.

 

ثالثاً: مسؤوليّتنا في جهاد التبيين

1. مسؤوليّةٌ جماعيّةٌ: عندما نأتي إلى زماننا المعاصر، نجد أنّ المقاومة مارست جهاد التبيين أيضاً، على مدى أربعين عاماً، من خلال علمائنا ومشايخنا وإخواننا وأخواتنا، الذين لعبوا دوراً مهمّاً في تلك المرحلة في الدعوة إلى المقاومة والتأييد لها ومساندتها، ويأتي في مقدّمتهم الإمام الخمينيّ قدس سره والسيّد عبّاس الموسويّ والشيخ راغب حرب (رضوان الله عليهما) وغيرهم الكثير. فالمقاومة ليست عملاً مسلّحاً فقط، وهي ما كانت لتستمرّ وتتعاظم وتكبر لولا جهاد التبيين.

 

أمّا نحن، فكيف نستفيد من جهاد التبيين؟ وما هي مسؤوليّاتنا تجاهه؟

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: إنّ جهاد التبيين هو واجب حتميّ وفوريّ، بمعنى أنّه يجب عدم تأجيله، بل القيام به في وقته حتّى يقوم بالتأثير المطلوب.

 

وهو أيضاً مسؤوليّتنا كلّنا، فعلى الجميع: من علماء، وخطباء، وأساتذة، ومثقّفين، وشعراء، وأدباء، وفنّانين، وكتّاب، ورجال، ونساء، وشباب، وشابّات، وغيرهم أن يبيّنوا ويشرحوا ويوضّحوا للآخرين، كلّ ضمن دائرة علاقاته ومحيطه، وحسب قدرته في التأثير على الآخرين. إنّها مسؤوليّة كبيرة على عاتقنا، خصوصاً في هذا الزمن الخطير الذي نعيشه، في ظلّ ما تقوم به قوى الكفر والاستكبار والطغيان والاستبداد والنهب العالميّ، التي لا توفّر مالاً ولا سلاحاً ولا تهديداً لتحقيق أهدافها الشيطانيّة، سواء بالحصار أو بالعقوبات أو بالتجويع، وعبر استخدام وسائل الإعلام والإنترنت والمال.

 

2. مواجهة مخطّطات الإفساد: إنّنا جميعاً، شعوب هذه المنطقة، مستهدفون في تلك المخطّطات، التي لا تسعى وراء تحقيق أهداف سياسيّة وعسكريّة وعقوبات اقتصاديّة فقط، وإنّما تعمل أيضاً، وخصوصاً الولايات المتّحدة الأميركيّة وبعض القوى الغربيّة، على إفساد البشريّة أخلاقيّاً وروحيّاً، عبر الترويج لقضايا لا تمتّ إلى الأديان السماويّة والأخلاق بصلة، يأتي في مقدّمتها قضيّة المثليّة الجنسيّة، التي باتت في قائمة الأولويّات التي تسعى تلك الدول إلى تكريسها، لا بل إلى فرضها أحياناً، في حين أنّها تشكّل خطراً كبيراً يتهدّد كلّ المجتمعات، الأمر الذي يتطلّب منّا جميعاً الاستنفار بهدف مواجهتها والتصدّي لها دون أيّ تأجيل أو تأخير، وقبل فوات الأوان، حيث يصبح من الصعب السيطرة عليها أو دفع خطرها.

 

 

(*) من كلمة لسماحته (حفظه الله) في الليلة السابعة من عاشوراء 1443هـ، تاريخ 4/8/2022م.

(1) العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 45، ص116.

 

المصدر: مجلة بقية الله