الجانب الإعلاميّ في الحركـة الحسينيّة (1)(*)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)

 

عندما نريد أن ندرس عن كربلاء أو نتحدّث عنها، يجب ألّا يقتصر حديثنا أو نظرتنا على الأيّام الأولى من شهر محرّم فقط، أو أحداث يوم العاشر وليلته؛ بل يجب أن نقرأها وندرسها ونواكبها منذ اللحظة الأولى في المدينة المنوّرة، التي أعلن فيها أبو عبد الله الحسين عليه السلام رفضه لبيعة يزيد، معلناً بداية حركته وثورته، وصولاً إلى كلّ هذا المسار؛ أي إنّ الخروج من المدينة إلى مكّة، والخروج من مكّة إلى الكوفة، وكلّ ما جرى في الطريق إلى كربلاء وصولاً إلى الشهادة، هو جزء من حادثة كربلاء. مضافاً إلى مجريات السبي والانتقال إلى الكوفة والشام، ثمّ العودة إلى المدينة، كلّ ذلك هو حركة واحدة، لها روح وأهداف واحدة، وهي حركة منسجمة ومنظّمة ومخطّطة، وتمشي في مسار واحد.

 

* من المدينة إلى المدينة

قبل سنوات، قام بعض العلماء الكبار والمحقّقين من علماء الحوزة العلميّة في قمّ، بكتابة تحقيقات حملت عنواناً جميلاً، هو "من المدينة إلى المدينة"، وهذه التحقيقات تجسّد هذه الحركة الكاملة، وتمثّل ما جرى يوم العاشر، المرحلة الأعلى في هذه الحركة وقمّة الصراع عندما استشهد أبو عبد الله الحسين عليه السلام ومن معه، وبدأت رحلة السبي.

 

كلّ هذه الحركة، كان الإمام الحسين عليه السلام قد خطّط لها، وقادها، وحدّد قيادتها حتّى بعد شهادته. كلّنا يعرف أنَّ هذه الحركة كان لها أهداف تتّصل بالإسلام وبالأمّة، والإمام الحسين عليه السلام أعلنها في أكثر من مناسبة؛ مثلاً عندما يقول عليه السلام: "إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد صلى الله عليه وآله وسلم " فهذا هدف؛ إذاً، الحسين عليه السلام خرج من أجل الإصلاح في الأمّة، "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"؛ هذا عنوان ثانٍ، "وأن أسير بسيرة جدّي وأبي" وهذا النصّ فيه إشارة إلى موضوع إعادة الحكم في البلاد والأمّة الإسلاميّة إلى الحكم بالإسلام النبويّ المحمّدي الأصيل، بعد أن حوّله معاوية ويزيد وبنو أميّة إلى مُلكٍ عضوض.

 

* شهادة مدروسة

قد يتصوّرنَّ أحدٌ أنَّ هدف الحسين عليه السلام كان الشهادة كيفما كان، وأنّه كان يريد أن يُقتل؛ لأنّه لم يعد يطيق الحياة والبقاء في جوار هؤلاء الظالمين! ثمّة التباس كبير في هذا الشأن؛ فالحسين عليه السلام لم يبحث عن الشهادة أو الموت أو القتل كيفما كان، بل كان يعمل في خدمة الأهداف الإلهيّة التي هي أعلى وأسمى من أيّ عنوان آخر. وإلّا لبقي عليه السلام في المدينة ومعه العبّاس عليه السلام وأولاده وإخوته وأبناء عمومته والنساء من أهل بيته، الذين ذهبوا معه إلى كربلاء، وقد يجد أصحاباً أكثر من أولئك 72 الذين كانوا معه في كربلاء، ويقاتل ويصمد ليوم أو يومين أو ثلاثة، ثمّ يستشهد هو ومن معه؛ لأنّه كان ثمّة قرار من قِبل يزيد بقتل الحسين عليه السلام إن لم يبايعه، دون أيّ داعٍ لهذا السفر والعناء الطويل، ولما كانت سُبيت زينب وسكينة وفاطمة عليهم السلام!

 

لكنّ الحسين عليه السلام بدأ حركته باتّجاه الأهداف التي أعلنها وحدّدها ووضعها للناس، وذهب إلى الأمكنة التي تجعله يقترب من تحقيقها. أمّا لو حصلت المعركة في المدينة، لصادرت السلطة أخبارها ووقائعها وحاصرتها، ولَمَا سمحت بوصولها إلى بقيّة العالم الإسلاميّ، ولَمَا سُمع صوت الحسين عليه السلام ومنطقه وصرخته.

 

فعندما تحرّك الحسين عليه السلام بهذه الطريقة، جعل الحركة ممتدّة زمنيّاً ومكانيّاً وبشريّاً؛ لأنّ المسار الذي سلكه عليه السلام عند خروجه من المدينة، وصولاً إلى كربلاء، ثمّ حركة السبايا إلى الكوفة والشام فالمدينة، كلّ ذلك استغرق أشهراً عدّة، فضلاً عن المرور في مدن ومناطق كثيرة، والمسلمون في هذه المناطق علموا بكلّ ما جرى مع الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام.

 

* الجانب الإعلاميّ في الحركة الحسينيّة

في الحركة الحسينيّة جوانب مهمّة عديدة، نكتفي بالوقوف عند أحدها: الجانب الإعلاميّ، وهو جزء أساسيّ وجوهريّ من حركة الحسين عليه السلام بشقّيها الحسينيّ والزينبيّ.

 

استخدم الإمام الحسين عليه السلام في حركته كلّ إمكانات الإعلام والاتّصال والعلاقات العامّة المتاحة في ذلك الزمن، وفق خطّة مدروسة، خطّط لها؛ لأنَّ الحسين عليه السلام كان يريد أن يوصل الموقف والرسالة والقضيّة والمعنى والهدف إلى ضمائر المسلمين وعقولهم في ذلك الزمن، وعلى مدى الأجيال إلى قيام الساعة.

 

1- الخروج جهاراً من المدينة: عندما رفض عليه السلام البيعة عند والي المدينة الأمويّ، أعلن موقفه في اليوم الثاني بكلّ وضوح وصراحة، وعلم أهل المدينة كلهم أنّ الحسين عليه السلام رفض البيعة ليزيد. وعندما خرج من المدينة، أقام عليه السلام مظاهرة جهاراً نهاراً وليس بالخفاء، فجمع عائلته وأثاثه وما لديه من مال، وأخذ يتحضّر للرحيل عن المدينة. والحسين عليه السلام ليس شخصيّةً عاديّة عند أهل المدينة، بل هو شخصيّة مقدّسة عند الأمّة كلّها؛ فعندما يخرج الحسين عليه السلام من المدينة، فهذا يعني أنّ ثمّة حدثاً كبيراً وخطيراً جدّاً يحصل له دلالات كبيرة. وهذا بطبيعة الحال سيطرح تساؤلات كبيرة عند أهل المدينة، وعندها، يفهمون تماماً أنَّ الحسين عليه السلام بدأ حركة المواجهة مع هذا المُلك العضوض والحاكم الطاغية السفّاح الظالم.

 

2- عقد اللقاءات في مكّة: خرج الحسين عليه السلام من المدينة في أواخر رجب، وعندما وصل إلى مكّة بقي فيها حتّى الثامن من ذي الحجة، فعلم أهلها بمجيء ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان من ناحية الاحترام والتقدير والتقديس الشخصيّة الأولى في الأمّة، بلا نقاش. فقَدِمَ إليه كلّ الوجهاء في مكّة، والناس والعائلات، وراح يشرح لهم موقفه، وبقي على هذا الحال حتّى في شهر رمضان. وظلّ المسلمون يتوافدون من كلّ أنحاء البلاد الإسلاميّة من أجل العمرة، فيلتقي بهم الحسين عليه السلام في شوّال وذي القعدة، حيث تصل طلائع الحجّاج من كلّ أنحاء البلاد الإسلاميّة. كلّ هؤلاء سمعوا نداءه وصرخته، ودخلوا معه في نقاشات خياراته: هل يبقى في مكّة؟ أم يعود إلى المدينة؟ أم يذهب إلى العراق، أو الكوفة أو البصرة أو اليمن أو الصحراء؟ كلّ ذلك هدفه إحداث حالة ثورة ومواجهة مع يزيد والسلطة الأمويّة القائمة.

 

إذاً، الإمام الحسين عليه السلام عمل على كلّ هذه الأمور بالحضور المباشر والاتّصالات المباشرة، والعلاقات العامّة، وإرسال الرسائل، خصوصاً إلى البصرة والكوفة. وقد جاءته الرسائل من الكوفة، فأرسل مسلم بن عقيل ليتأكّد من سلامتها، ثمّ كان الخروج في الثامن من ذي الحجّة.

 

3- الخروج في أيام الحجّ: لماذا اختار الإمام عليه السلام هذا اليوم للخروج من مكّة؛ أي في ذروة الحجّ؟ في حين أنّه كان يستطيع الانتظار قبل خروجه، والقيام بإجراءات أمنيّة إذا كان ثمّة خوف من أن يغتاله زبانية يزيد، بعدما قال لهم الأخير: "اقتلوا الحسين ولو وجدتموه معلّقاً بأستار الكعبة"!

 

أراد الحسين عليه السلام من خروجه في أيّام الحجّ أن يثير سؤالاً كبيراً عند كلّ الحجيج، فالمسافة كانت طويلة، وعندما كان عليه السلام يستريح بين الحين والآخر، كان يأتي إليه الناس للسلام عليه والتبرّك منه؛ فيستغلّ ذلك ويخبرهم بموقفه وأهدافه.

 

4- الخطاب المباشر في كربلاء: قبل يوم العاشر، طلب من أصحابه المعروفين والمؤثّرين في أهل الكوفة، أمثال حبيب بن مظاهر، ومسلم بن عوسجة، وزهير بن القين وآخرين، أن يخطبوا بالجماعة التي أرادت قتالهم؛ لأنّه أراد إلقاء الحجّة عليهم قبل بدء النزال، ثمّ توجّه عليه السلام بعد ذلك مخاطباً إيّاهم؛ مستخدماً المنطق والدليل والحجّة، وعمل أيضاً على إثارة عواطفهم، عن طريق الحديث عن العمامة التي كان يضعها على رأسه، قائلاً: "أليست هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ألست أنا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ هل يوجد على وجه الأرض ابن بنت نبيٍّ غيري؟"

 

لقد خاطبهم الإمام عليه السلام بصفتهم مسلمين، وإذا لم يكونوا مسلمين خاطبهم بصفتهم عرباً، وإذا لم يكونوا عرباً خاطبهم بصفتهم أحراراً، إلى أن قالوا في نهاية المطاف: "يا حسين، لا نفقه ما تقول"! هذه النتيجة التي توصّلوا إليها، وطلبوا منه النزول على حكم يزيد وابن زياد. وعند هذا الموقف انتهى الكلام، وصولاً إلى يوم الاستشهاد، حيث شهدنا مرحلة جديدة من العمل الإعلاميّ لحركة الإمام الحسين عليه السلام.

 

* صوت الحسين عليه السلام في موكب السبايا

حمل الإمام الحسين عليه السلام عياله ونساءه إلى كربلاء من أجل أن يحملوا صوته ونداءه ودمه وصرخته، وهذا ما حصل؛ فما قالته زينب عليها السلام وسكينة وأمّ كلثوم وباقي النساء، وما قاله الإمام زين العابدين عليه السلام في الكوفة، كاد يجعل أهل الكوفة ينقلبون على ابن زياد، فأسرع في إخراج موكب السبايا.

 

على طول الطريق إلى دمشق، كان الموقف والصوت عاليين، وصولاً إلى قصر يزيد بن معاوية، في داخل المسجد الأمويّ، مسجد بني أميّة الكبير، حيث كاد المشهد كلّه أن ينقلب عليه نتيجة هذا الموقف القويّ البيّن، والمثير للعواطف والمشاعر، إلى درجة أنَّ يزيد تنصّل من مسؤوليّة حادثة كربلاء، وقال إنّ عبيد الله بن زياد هو المسؤول عنها، وأنّه لم يطلب منه ذلك. طبعاً، هو كذّاب؛ لأنّ الوثائق التاريخيّة كلّها تؤكّد أنّه هو الذي أمر والي المدينة بقتل الحسين عليه السلام إذا رفض البيعة.

 

* مسار متكامل

هذه الحركة التي قام بها الحسين عليه السلام كانت كلّها حركة محسوبة ومدروسة. والإمام عليه السلام استغلّ الجانب الإعلاميّ على صعيد الاتّصال والعلاقات العامّة في هذه الحركة الحسينيّة الإيمانيّة الجهاديّة لتقويض شرعيّة يزيد وإسقاطها، وهزّ سلطانه، ولإصلاح الأمّة، وإحياء الإسلام من جديد، وتذكير الأمّة بالإسلام واستنهاض هممها. هذا كلّه تحقّق، وما زال يتحقّق إلى اليوم، بفضل هذا المسار المتكامل.

 

(*) من خطبة لسماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة الثالثة من محرّم 1443هـ الموافق 11-8-2021م.