إنّ أيّام النصف الثاني من ذي الحجّة، أيّام مهمّة بالنسبة إلى تاريخ الإسلام؛ إذ تتضمّن مناسبات هامّة مثل يوم المباهلة، وهو يوم نزول سورة ﴿هَلْ أَتَى﴾ (الإنسان: 1)، وكذلك يوم نزول آية الولاية في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)، وكذلك يوم الغدير، وهو العيد الأكبر والحادثة المهمّة في تاريخ الإسلام.

إنَّ المباهلة، والتي ينبغي إحياء ذكراها، هي في الواقع مظهر الطمأنينة، والاقتدار الإيمانيّ، والاعتماد على الأحقّيّة، وهذا هو ما نحتاج إليه دوماً؛ لأنّنا نسير في طريق الحقّ. وسورة ﴿هَلْ أَتَى﴾ بدورها هي مظهرٌ لبركة عمل مُخلَص. إنّه إيثار مُخلَص، والله تعالى لأجل هذا الإيثار الذي قام به أهل البيت عليهم السلام، أنزل سورة في حقّهم، وهي -إلى جانب كونها حادثة تاريخيّة مهمّة جدّاً، وعزيزة، ومبعث فخر- درسٌ: حينما يكون الإيثار مصحوباً بالإخلاص، فإنّ له عند الله أجراً دنيويّاً وأخرويّاً. لذلك، ينبغي الاستفادة من معاني هذه المناسبات في مجالات شتّى، وهو ما سنشير إليه.

 

* ضرورة اليقظة للظروف

في صدر الإسلام نماذج للنصر، لكنّ المقتضيات كانت متنوّعة، والظروف متعدّدة، والواجبات على أشكال عدّة. تارةً يقول الله تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ (الأنفال: 65)، ويقول في ظرف آخر: ﴿فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ (الأنفال: 66)، أي إنّه، في يوم يجب أن تقاتلوا فئة تبلغ عشرة أضعافكم، وفي يوم آخر يجب أن تحاربوا فئة تبلغ أكثر منكم بضعفين. لا شكَّ في أنّ الأمر لا يعني اختلاف الحكمة الإلهيّة، بل إنّه يعود إلى الظروف. اختلاف الظروف هذا يستتبع اختلاف الأحكام والتكاليف والواجبات. وإذا حصلت غفلةٌ عن الظروف فسوف نتضرّر، سواء لم يعلم الناس بها، أو لم تتنبّه النخب لها.

 

* لا تنشروا "فايروس" التشاؤم!

يشنُّ العدو ضدّنا حرباً اقتصاديّة شاملة. لديه غرفة عمليّات، والأعداء يدرسون الأمور بدقّة، ويتحرّكون باستمرار. ولكن ثمّة حرب أخرى نغفل عنها في كثير من الأحيان، وخطرها ليس بأقلّ من الحرب الاقتصاديّة، بل تشكّل في بعض الأحيان الأرضيّة الممهّدة لتأثيرات الحروب الاقتصاديّة؛ إنّها الحرب الإعلاميّة وحرب صناعة الجوّ العامّ والرأي العامّ، التي تشتدّ وتزداد من أجل تلويث الأجواء الفكريّة والإعلاميّة للأمّة. إنّها قضيّة حسّاسة جدّاً؛ أن تتسبّب الأجواء الإعلاميّة إمّا باضطراب الناس، أو يأسهم وقنوطهم، أو سوء الظنّ والتشاؤم، تُجاه بعضهم بعضاً وتُجاه الأجهزة المسؤولة، أو الإيحاء للناس بأنّ الطريق مسدود، بل نشر هذا التشاؤم يزيد من المشكلات الاقتصاديّة.

المهمّ أن لا نساعد العدوّ في خلق هذه الأجواء، ولا نساهم في تسميم وتلويث الأجواء العامّة لأذهان الناس، فيجب أن نتحرّك بالاتجاه المعاكس. أحياناً، لا نتفطّن فيحدث هذا، وأحياناً نبالغ في طرح بعض المشكلات وبيانها، وأحياناً نبالغ في نقدنا لجهاز من الأجهزة أو لشخص من الأشخاص. هذه المبالغات ضارّة وسوف تُستخدم في تلويث الأجواء أكثر، وزيادة اضطراب الرأي العامّ. يجب عدم نشر "فايروس" التشاؤم.

 

* في النقد: ﴿وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾

لا إشكال في النقد، بل إنّه ضروريٌّ من أجل الإصلاح، وهو فعل صداقة ومودّة، وليس فعل خصام وعداوة. عندما تنتقدون، فإنّ عملكم هذا فعل صداقة، فإنّ "اَلمُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِن"(1)؛ أي إنّ العيوب الموجودة في الطرف المقابل، والتي تنتقدونها وتخبرونه بها، عمليّة حسنة جدّاً. وفي بعض الأحيان، ينبغي أن يكون النقد علنيّاً وعموميّاً، لكن دون أن يؤدّي ذلك إلى أن "تتقطّع نياط قلب" المنتَقَد، فيُصاب باليأس. ينبغي مشاهدة الأعمال الإيجابيّة، وكذلك الأعمال السلبيّة، وينبغي أن لا يكون الأمر بحيث لا نشاهد سوى السلبيّات فقط. وهذا الخلط بين العمل الصالح والسيّئ حالة موجودة لدى الجميع وفي كلّ مكان. ولكن إذا كنّا نشير إلى العمل السيّئ، فيجب أن نشير إلى العمل الصالح أيضاً. تقول الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (الأحزاب: 70 - 71)، والقول السديد هو القول الذي له أدلة وبراهين. فيجب أن نتحرّك بهذه الطريقة ونعمل على هذه الشاكلة.

 

* نماذج متألّقة

قرأت في الآونة الأخيرة كتاب [يادت باشد](2)، كان لافتاً جدّاً بالنسبة إليّ، عن فتاة وشابّ جامعيَّين، نذرا أن يصوما ثلاثة أيّام من أجل أن لا يحصل إثم ومعصية في حفل زفافهما، ثمّ بعد الزواج، يتوجّه الشابّ للدفاع عن حرم السيّدة زينب عليها السلام، لكنّ بكاء الزوجة زلزل قلبه، فقال لها: "إنّ بكاءك يزلزل فؤادي، لكنّه لا يزلزل إيماني"! فتجيبه: "إنّني لن أعارض ذهابك، فلا أريد أن أكون ممّن ينكسن رؤوسهنّ يوم القيامة خجلاً أمام الزهراء عليها السلام"! ذهب الشاب وكان من الشهداء الأعزّاء في الدفاع عن حرم السيّدة زينب عليها السلام.

هذه ليست أحداث ما قبل مائة سنة ومائتي سنة، بل من أحداث أيّامنا هذه. وقد يقال: "يا سيّد! إنّ زهرة واحدة لا تنتج الربيع"! إنّها ليست قضيّة زهرة واحدة، فالنماذج من هذا القبيل كثيرة، إنّها تثبت أنّ الإسلام إذا كان له أتباع مستعدّون وجاهزون للجهاد والدفاع، فإنّه سينتصر حتماً في كلّ مكان، وسيكون هذا نموذجاً وأسوة للمسلمين كلّهم.

ــــــــــ

(*) من كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في لقائه أعضاء مجلس خبراء القيادة في تاريخ 6/9/2018م.

1- تحف العقول، ص 173.

2- كتاب "يادت باشد" (لا تنسَ) سيرة قصصيّة للشهيد المدافع عن المراقد المقدّسة حميد سياهكالي مرادي.

 

المصدر: مجلة بقية الله