القصاص العادل من أجل كلّ الشهداء (*)

سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 169-171) صدق الله العليّ العظيم.

اليوم نحن نُقيم احتفالاً تأبينيّاً تكريميّاً لقائدٍ جهاديٍّ إسلاميٍّ عالميٍّ عظيم هو الحاج قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإسلاميّة، ولقائدٍ كبيرٍ ومجاهدٍ عزيزٍ الحاج أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبيّ المقدّس في العراق، ولصحبهما من الشهداء الإيرانيّين والعراقيّين الذين استشهدوا في الجريمة الأخيرة.

 

•تاريخ فاصل "تذكّروه"

اليوم 2 كانون الثاني 2020م، هو تاريخ فاصل بين مرحلتين في المنطقة، هو بداية مرحلة جديدة، ليس لإيران أو للعراق وإنّما للمنطقة كلها. اسمحوا لي، في البداية، أن أقف قليلاً عند الجانب الشخصيّ من الحادثة، ومن الجريمة والاغتيال.

لقد حقّق الحاج قاسم سليماني الأخ الحبيب والعزيز غاية آماله وآمانيه، حقّق هدفه؛ لأنّ هذه الأمنيّة دائماً في ذكريات الشهداء، كنت أقول: الشهادة عند المجاهدين وعند القادة هدف شخصيّ، أمّا ما يريدونه للأمّة فهو الخير والحياة الهانئة، والسعادة والعزّة والكرامة، والقوّة والمنعة، والعيش في طيّبات الله وحلاله. أمّا على المستوى الشخصيّ فمشروعهم الشهادة.

 

•الشهادة أمنيّته

هذه هي نيّته منذ أن كان شابّاً، والتحق بجبهات القتال في إيران، وبقي يحمل هذه الأمنيّة وهذا الهدف طوال مسيرته. إنّ الذين يمشون في هذا الطريق بعضهم يسقط في ربعه أو في وسطه قبل النهاية، حين تَخمد فيه هذه الشعلة، ويذوي فيه هذا العشق، ويموت فيه هذا الشوق إلى اللقاء، وقومٌ آخرون كلّما تقدّم بهم الزمن ازدادت شعلة اللّقاء توهُّجاً وقوّةً وحضوراً واشتعالاً. الحاج قاسم وأبو مهدي المهندس كانا من النوع الثاني، خصوصاً في السنوات الأخيرة. عندما يتقدّم الإنسان في العمر ويرى الشيب قد ملأ لحيته وشعره، يخشى أن يموت على الفراش، وهو الذي كان حاضراً دائماً في الجبهات بين القذائف والشظايا التي تملأ جسده، والكثير من الليالي كان يقضيها باكياً، عندما يُذكر الشهداء. في كثير من اللقاءات كان يقول لي: "ضاق صدري في هذه الدنيا؛ لشدّة شوقي إلى لقاء الله والشهداء" الذين مضوا من أصدقائه وأحبّائه، الذين عاش معهم، وقاتل معهم، وتألّم معهم... كان مشتاقاً جداً إلى الالتحاق بهم.

أتوجّه إلى عائلة الحاج قاسم سليماني وأهله، بالقول: إن ما يجب أن يُواسيكم هو أنّ الشهيد حقّق غاية الآمال، ووصل إلى منتهى المنى. وأنا أعلم وأنتم تعلمون أنّ هذا كان دائماً هدفه وغاية شوقه.

كذلك، الحاج أبو مهدي، قبل شهرين أو ثلاثة شرّفني بزيارته، وقال لي في آخر اللقاء: "يا سيّد، يبدو أنّ المعركة مع داعش في العراق شارفت على النهاية، وقد استُشهد من استُشهد، وبقيتُ على قيد الحياة، وقد طال بي العمر وشاب شعر رأسي ولحيتي، ادعُ الله لي أن تكون عاقبتي الشهادة". فأقول لزوجته الفاضلة ولبناته الكريمات: "إنّ أمنيّته تلك يجب أن تكون عامل مواساةٍ لكنّ جميعاً، وهذه حال الشهداء الأحبّة الذين استشهدوا مع الحاج قاسم ومع الحاج أبو مهدي".

 

•المؤمنون لا يُهزَمون

في ثقافتنا الإيمانيّة، الشهادة هي إحدى الحسنيَين؛ النصر أو الشهادة، فمن عجائب الثقافة الإيمانيّة كيف تُبدل المعادلات؛ إذ إنّ أقصى ما يملكه عدوُّنا هو أن يقتلنا، وإنّ أقصى ما يمكن أن نتطلّع إليه هو أن نُقتل في سبيل الله عزّ وجلّ. المعادلة الإيمانيّة تُحوّل نقطة قوّة العدوّ القصوى إلى نقطة قوّتنا القصوى؛ وبالتالي نحن لا نُهزم، عندما ننتصر ننتصر، وعندما نُستشهد ننتصر.

مساء الخميس هو يوم انتصارٍ للمقاومة ولمحورها، وسيكون نموذجاً جديداً لانتصار الدم على السيف؛ إن شاء الله.

أنا أعرف الحاج قاسم والحاج أبو مهدي والإخوة الذين معهما، هو كان يتطلّع إلى الشهادة، ربّما الذي حصل عليه هو أكثر من الذي كان يتمنّاه، أن تكون الخاتمة بلا رأس كالحسين، وبلا يدين كالعبّاس، والجسد مقطّع إرباً إرباً كعليّ الأكبر، لا أدري إذا كانت هذه الصورة هي التي كانت حاضرة في مخيّلة الحاج قاسم والحاج أبو مهدي. والذي قطع رأسه ويداه... هو الحاج قاسم لا الاثنان، فالشهيد المهندس بقي منه جزء بسيط.

مباركٌ للحاج قاسم وللحاج أبو مهدي، ومباركٌ لصحبهما من المجاهدين الإيرانيّين والعراقيّين، هذه الشهادة العظيمة والخاتمة الجميلة. وفي مدرسة الحسين وزينب عليهما السلام نعشق الشهادة، ولا نرى إلّا جميلاً.

 

•لماذا قاسم سليماني؟

قبل أسابيع عدّة، كان الحاج قاسم في زيارتي، وتحدّثنا -وهي قبل زيارته يوم الأربعاء أوّل يوم في السنة الميلاديّة الجديدة، حيث قال لي: "ليس لديّ شيء، لكن أتيت لكي أراك وأسلّم عليك ونتحدّث"، وأنا قلت له: "هذه بداية عام جميل أن يبدأ عامي الميلاديّ بلقائك والتشرُّف بالنظر إلى وجهك الشريف"- تحدّثنا عن الصحف والمجلّات الأميركيّة التي تقوم بتمهيد إعلاميّ وسياسيّ لاغتياله، كان يضحك ويقول: "يا ليت، ادعُ لي". هكذا كان يفكر الرّجل في الشهادة.

بينما كان يرى الأعداء أنّهم أينما بحثوا في محور المقاومة، فثمّة اسم واحد يتكرّر "قاسم سليماني". المقاومة في فلسطين: غزّة، المقاومة الفلسطينيّة، دعم المقاومة الفلسطينيّة بالسلاح والتدريب والإمكانات التكنولوجيّة، دعم القضيّة الفلسطينيّة بالإعلام والمؤتمرات والعلاقات... يجدون "قاسم سليماني". يأتون إلى لبنان والمقاومة وتحرير عام 2000م، وحرب تمّوز 2006م وتعاظم قوّة المقاومة وقدراتها الصاروخيّة... سوريا، العراق، اليمن، حتّى أفغانستان يجدون "قاسم سليماني"، في كلّ تفصيل من تفاصيل المقاومة يجدون "قاسم سليماني".

عدوّتنا إسرائيل تعتبر "قاسم سليماني" الرجل الأخطر عليها منذ تأسيسها، فتتحدّث عن "قاسم سليماني" الذي أحاط كيان العدوّ الغاصب لفلسطين بالصواريخ في كلّ المنطقة، الخطر الوجودي على بقائها وعلى كيانها، وكانت لا تجرؤ على قتله، كانت تستطيع أن تقتله في سوريا، لكنّها لم تجرؤ، فلجأت إلى الأميركيّين.

"قاسم سليماني" كان النقطة المركزيّة لتواصل وترابط وقوّة ووحدة المسار ووحدة الهدف، التي تبعث روحاً واحدة في شعوب المقاومة. إذاً، لنقتل هذا الرجل، ولنقتله علناً، لتحقيق أهداف معنويّة ونفسيّة وسياسيّة وعسكريّة.

 

•ما هي مسؤوليّتنا؟

سوف تبقى حركات المقاومة متمسّكة بأهدافها، وبقضيّتها المركزيّة، ولن تتراجع، ولن تضعف، ولن تخاف، ولن تصاب بأيّ إرهاب، ولا بأيّ ارتباك، فقامت سريعاً بجمع صفوفها.

وعلى المستوى المعنويّ، إنّ شهادة الحاج قاسم والحاج أبو مهدي وهؤلاء الإخوة، ستشكّل حافزاً إضافيّاً قويّاً، ودافعاً هائلاً لنا لنتقدّم نحو الأهداف؛ لأنّنا نشعر أنّنا على مفترق انتصار تاريخيّ واستراتيجيّ كبير على مستوى المنطقة.

إذاً، نحن على مشارف انتصار كبير، لا يجوز أن ننهزم نتيجة سقوط قائد عظيم من قادتنا، بل يجب أن نحمل دمه، ويجب أن نحمل رايته، ويجب أن نحمل أهدافه ونمضي إلى الأمام بعزم راسخ، وإرادة وإيمان وعشق للقاء الله كعشق قاسم سليماني.

هؤلاء الذين يهدّدوننا بالقتل وبالموت لنضعف ونتراجع، نستحضر لهم التاريخ، ونقول لهم نحن أبناء من قال: أبالموت تهددني يا بن الطلقاء؟ إنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة. هذا أوّلاً.

وثانياً، على عاتق قوى المقاومة أن تتعاون وتتناسق وتستمرّ في الجهد لتعظيم قوّتها وقدراتها؛ إذ يبدو أنّ المنطقة ذاهبة إلى حراك مختلف وإلى وضع مختلف. شهادة الحاج قاسم سليماني على مستوى المنطقة لا يجوز أن تؤثّر أو تؤدّي إلى ضَعف أو وَهن في استكمال الخطّة والبرنامج اللذين كان يقودهما، والقصاص العادل هو إخراج الوجود الأميركيّ كلّه من المنطقة، وأن تبدأ نعوش الجنود بالعودة إلى بلادهم.

سأختم باستعارة بعض أدبيّات السيّدة زينب عليها السلام، فأقول للجهلة: أيّ دم لنا سفكتم؟ وأيّ كبد لنا فريتم؟ هذا ليس كأيّ دم، وهذا ليس كأيّ كبد، هذه قصّة مختلفة. اليوم القصاص العادل من أجل قاسم سليماني هو القصاص العادل من أجل عماد مغنيّة ومن أجل السيّد عبّاس الموسويّ، ومن أجل الشيخ راغب حرب، ومن أجل مصطفى بدر الدين، ومن أجل أبو مهدي المهندس، ومن أجل كلّ شهداء هذه الأمّة.

مع هذا الدم، كما مع كلّ شهيد من شهدائنا العظام والكبار والأحبّة والأعزّة، نحن وإيّاكم يا شعب المقاومة، ويا جمهور المقاومة، أيّها الصابرون، الصادقون، المحتسبون، يا أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس سنواصل الطريق، ولن تضيع دماء الشهداء، وسننتصر في نهاية المطاف.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

(*) من كلمة الأمين العام لحزب الله سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في احتفال تأبين الشهيدين القائدين الفريق قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس الذي أقامه حزب الله في مجمع سيّد الشهداء عليه السلام في الرويس 5/1/2020م.

 

المصدر: مجلة بقية الله