القرآن هو كتاب العلم والمعرفة؛ يروي القلب والعقل. هو نبع لا ينتهي بالنسبة إلى أولئك الذين يسعون إلى نيل المعرفة. وهو قانون الحياة أيضاً، ينطوي على تعليمات عمليّة للحياة؛ أي أنّه يبني بيئة الحياة، ويجعلها آمنة وسليمة ومريحة. ﴿يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾ (المائدة: 16)؛ يدلّ الإنسان على طرق السلامة، والأمان والطمأنينة في الحياة. على مرّ التاريخ، كان البشر ضحايا للقمع والتمييز والحرب وانعدام الأمن وسحق القيم، وما زالوا كذلك حتّى اليوم. ولكن سيتمّ بلا شكّ إنقاذ المجتمعات البشريّة من المشاكل كلّها إذا اتُّبعت التعليمات العمليّة للقرآن، والتي سأتطرّق لبعضها بشكلٍ مختصرٍ.

 

* تنظيم قواعد الحياة

1- ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾ (البقرة: 200): ثمّة مَن يحصر جميع قواعد الحياة البشريّة والصداقات (المحبّة) والعداوات والعلاقات والأهداف والدوافع على أنّها من أمور الدنيا؛ ماذا تعني الدنيا؟ تعني المال، السلطة، الشهوة، فصداقتهم لهذه الغايات، وكذلك عداوتهم، وإنشاء علاقاتهم، وسعيهم، وأهدافهم. فإنشاء قاعدة كهذه للحياة أمر مرفوض عند الله تعالى. ﴿وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾، هؤلاء سيحصلون على أشياء في هذه الحياة الدنيويّة، والمؤقّتة، والقصيرة، ولكن في الحياة الأصليّة والحقيقيّة والأخرويّة حيث حياة الإنسان هناك؛ لا يملكون شيئاً، لا شيء من نصيبهم فيها، ولا ينتفعون منها.

 

2- ﴿وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً﴾: ثمّة قاعدة أخرى للحياة: ﴿وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: 201)؛ أي أولئك الذين يسعون إلى خير الدنيا ولا يسعون إلى أي شيء آخر؛ يدعون أن أعطنا الأشياء الحسنة التي تتوافق مع فطرة الإنسان، واحتياجاته الحقيقيّة، وهم يسعون وراء الآخرة أيضاً.

 

* تنظيم العلاقات الاجتماعيّة

ثمّة بعض الآيات التي تتعلّق بتنظيم العلاقات الاجتماعيّة؛ مثلاً:

1- ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ (الحجرات: 12): لا تغتابوا. هذا [الأمر] ينظّم العلاقات الاجتماعيّة. عندما تغتابون، فإنّكم تلوّثون قلوبكم، وتلوّثون قلوب مخاطَبيكم، وتفضحون الحقيقة المخفيّة لأخ مؤمن، وأخت مؤمنة، أمام هذا وذاك. وهذا أمر خاطئ وغير صحيح. وقد يفعل هو أيضاً الشيء نفسه لكم. هذا العمل، يُخرج الحياة والعلاقات الاجتماعيّة عن طورها الصحيح.

 

2- ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ (المائدة: 8): إذا اختلفت مع شخص ما، أو كنت على عداوة مع شخص ما، فلا ينبغي أن يجعلك ذلك غير منصف له، وظالماً وغير عادل معه. نعم، قد تختلفون مع شخص ما، ولكن في الأمور التي يكون الحقّ معه، فينبغي ألّا يجعلكم [هذا] تخفون الحقّ ولا تنصفونه بسبب مخالفتكم له. إذا عملنا بهذه الآية مع الذين يخالفوننا؛ أي أن نكون منصفين معهم وهم أيضاً يكونون منصفين معنا، سيكون الوضع في المجتمع مقبولاً وجيّداً.

 

3- ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36): لا تسعَ وراء الشيء الذي ليس عندك يقين به؛ لا تثق بما أنت لست موقناً به. مع الأسف، تتصرّف الصحافة السائدة في العالم الآن بعكس هذا تماماً؛ أي أنّهم يقومون عبثاً بنشر الشائعات، وينشرون الكذب حولها، وهم غير مطّلعين عليها، وليس لديهم علم بها. إذا قمنا بتنفيذ هذا الأمر، فإنّ جزءاً كبيراً من مشاكلنا سوف يحلُّ.

 

4- ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ (هود: 113): لا تثقوا بالمستبدّ، والظالم، ولا تتّجهوا نحوه. "الركون" يعني الميل إليه والتوجّه نحوه والوثوق به. فالدول والجماعات الإسلاميّة التي تثق بأكثر الأفراد ظلماً والأكثر استبداداً في العالم، يرون نتائج ذلك.

 

5- ﴿لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾ (الأنفال: 27): لا تخونوا الأمانة. الأمانة لا تعني الأمانة في المال الذي وضعتموه عندي فقط؛ فالمنصب والمسؤوليّة التي منحتموني إيّاها هي أمانة أيضاً. فإذا لم أعمل بهذه الأمانة بشكل صحيح، فأكون قد خنت فيها.

 

6- ﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 175): اعبدوا الله تعالى، وثقوا به، واصمدوا في وجه العدوّ، فيمكنكم أن تدحروه.

هذا الخائف من الظالمين، هو نفسه الذي يقول للإنسان اِخشَ هذا وذاك، اخشوا هذه القوى وتماشوا معها، هذا شيطان. وما نشاهده على مرّ التاريخ، أنّ هناك أشخاصاً خافوا هذه القوى، وبذلك ابتلوا بامتحانات صعبة ومريرة في حياتهم. القوى والدول الإسلاميّة اليوم، تراعي القوى المستبدّة، تخاف منها وتتعامى عن قوّة نفسها؛ ونتيجة ذلك فإنها تحصد المذلّة.

 

* سعادة الدنيا والآخرة

إنّنا إذا تقيّدنا بالتعليمات العمليّة التي يقدّمها لنا القرآن الكريم، وطابقنا حياتنا مع قواعده، فإنّ حياتنا ستخلو من الشوائب والمشاكل، وسيكون لها سعادة الدنيا والآخرة.

 

 

(*) من كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله في محفل الأنس بالقرآن الكريم بتاريخ 25/4/2020م.