التأصيل الإسلامي؛ انتصار النبوّة.. المحاضرة العشرون من سلسة محاضرات ألقاها سماحة الإمام الخامنئي بمدينة مشهد قبل 46 سنة

 

انتصار النبوّة (1)

الثلاثاء 21 رمضان المبارك 1394 هجرية

16/7/1353 هجرية شمسية

 

ذكرنا في الأيام الماضية أن الأنبياء بُعثوا لتحقيق أهداف سامية راقية هي، في معيار ثقافة عصر النور وعصر وعي البشرية أي القرن العشرين، أسمى الأهداف وأكثرها رقيًا، وأعني هدف المساواة بين البشر واقتلاع جذور الفقر والظلم والاستغلال والتمييز الطبقي.

ومنذ بِعثتِهِم لم يقرّ لهم قرار ولم يخلدوا إلى الراحة، بل كان جهادهم دائبًا متواصلًا، وهذه خلاصة حياة أنبياء الله. وفي آخر حياتهم ــ كما تذكر النصوص الدينية ــ فَدوا أنفسهم على هذا الطريق ونقم الجبابرة والطغاة من بعضهم شرّ انتقام. وغادروا الحياة دون أن يتركوا مالًا ومتاعًا. وهذه قصة حياة الأنبياء، ورُسُل الله تعالى.

وقد يطرح سؤال حول المصير الذي آلت إليه مساعي الأنبياء. هل ذهبت أتعابهم وجهودهم سدى ولم تحقق النتيجة المتوخاة؟ هل بقي الكفر والطغيان والظلم مستفحلًا في مسيرة البشرية؟ لا، نحن نؤمن بخلاف ذلك. نؤمن أن الرسل على مرّ التاريخ البشري من آدم ونوح وإبراهيم لم يفشلوا في مهمتهم ولم ينهزموا، بل إنهم حققوا ما لم يحققه أصحاب الأهداف والمبادئ الأخرى. سجلوا من النجاحات ما لم يسجله أحد. نعتقد أن عاقبة النبوة ونهاية شوط نشاط الأنبياء كان وفق ما أرادوه في التاريخ، وسيكون كذلك في المستقبل. ونحن نثبت ذلك.

هنا موضوعان نود في هذه الجلسة أن نستوفيهما:

الأول: شهدت الساحة البشرية ظهور سلسلة من الأنبياء. هل إن هذا الرهط الكريم بمجموعه قد حقق أهدافه أم فشل؟

والثاني: هل حقق كُلٌّ من الأنبياء هدفه في زمانه أم فشل؟

بداية أذكر أن بعض المعلومات التي نحصل عليها لا فائدة فيها سوى أنها تزيد تراكم معلوماتنا، لا تقربنا من رضوان الله، ولا تساعدنا في إقامة حياة إسلامية صحيحة في هذه الدنيا، غير أن الموضوع الذي نتناوله اليوم يزيد في معلوماتنا ووعينا وفي الشعور بمسؤولياتنا. هذا من نوع الإيمان الذي ذكرناه في الجلسات الثالثة والرابعة والخامسة.

نعود إلى السؤال: ماذا فعل هذا الرهط الكريم من الأنبياء؟ ماذا قدّموا للبشرية؟ والجواب، إنهم جاؤوا من أجل أن يأخذوا بيد البشرية لينتشلوها من حضيض التوحّش والجهل وليرفعوها إلى مستوى الإنسانية المتحضرة فيما لو عملت بتعاليمهم. يستطيع البشر بهذه التعاليم أن يقيموا أسمى وأجمل مظاهر الحياة الإنسانية. حتى أقرّبَ الموضوع إلى الأذهان أضرب المثال التالي. الأنبياء مثل معلّمين جاؤوا إلى طالب خالي الذهن، لا يعرف حتى الحروف الأبجدية. يجهدون أنفسهم من أجل رفع مستواه، ثم يغادرون الحياة ليتركوه إلى معلمين آخرين ينقلوه إلى مستوى أرفع، وهكذا يتدرج هذا الطالب في ارتفاع مستواه ليصل إلى مستوى راق من الوعي والفهم والفكر.

وقد يواجه بعض المعلّمين شغبًا يؤدي إلى قتلهم، ولكن هل يعني ذلك أنهم فشلوا في مهمتهم؟ لا، لأن هدفهم دفعُ مسيرة البشرية إلى مرحلة أرقى، ثم لترتقي باستمرار. ونحن إذ نشهد تكامل البشرية في مسيرتها العامة رغم ما يطرأ على بعض مقاطعها من انتكاس، إنما هو تحقيق لهدف الأنبياء. شاء الله سبحانه أن تتحرك البشرية بحركة طبيعية لتصل إلى مقصدها الطبيعي الفطري، وهو التكامل والسموّ. إرادة الله شاءت أن تصل البشرية إلى نقطة كمالها النهائي، وهذه سنة الله في الأرض. أي سيأتي اليوم الذي يزول فيه الظلم، والقبح، وتصبح الأمور وفق مراد الإنسان. هذه طبيعة خلقة الإنسان، وهذه طبيعة خلقة هذا الكون، وهي أن يصل الكائن البشري إلى هذه المحطة المرسومة. في تلك المرحلة الزمنية ستتوفر كل مستلزمات تكامل الإنسان. وستطوي عندئذ المسيرة بسرعة طريقها إلى الكمال المطلق.. أي إلى الله. هذا هو جبر التاريخ، وهذا طبعًا لا يعني إلغاء إرادة الإنسان كما سنوضح ذلك.

هذا مبدأ إسلامي يقضي أن يكون مصير البشرية إلى خير، لماذا؟ لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وفق موازين الحق، وخلق الإنسان لينشد الحق بفطرته. والإنسان بما عنده من إرادة يجب أن يتحرك وفق ما تقتضيه فطرته ليصل إلى ذلك المقصد. ومَن الذي يضع أمام الإنسان هذا الطريق، ويضع له منهج الحركة وفق الفطرة؟ إنهم الأنبياء. وهذا هدف بعثة الأنبياء. جاؤوا ليبيّنوا له طريق الفطرة، وليحثّوا خطاه ويسهّلوا له السبيل نحو حسن العاقبة. فالبشرية إذن في حالة تقدم مستمر، وهي تقطع الخطى نحو تحقيق سعادتها. وهذا نتيجة ما قدمه لها الأنبياء من توجيه. الأنبياء دفعوا المسيرة نحو حركتها التكاملية، وإذا حدث تأخير في هذه الحركة عند مقطع زمني فذلك بسبب الابتعاد عن تعاليم الأنبياء، ولكنها مستمرة في شكلها العام نحو هدفها المنشود.

فالأنبياء العظام بمجموعهم قد وجّهوا البشرية نحو الرقي والسمو رغم ما عاناه بعضهم من عوائق في تحقيق أهدافه. هذه هي المسألة الأولى.

أما المسألة الثانية، وهي تحوز على اهتمام لدى الكثيرين، فهي هل يمكن القول بأن النبي حين يدخل ساحة الدعوة سيحقق نجاحًا في جهوده؟ هل يمكن عقد الأمل على هذه النتيجة؟ ما هي القاعدة العامة في هذا المجال؟

هناك من يقول: أينما انطلق نداء يدعو إلى الحق فإنه قُبر في مهده ولم يحقق هدفه. والتاريخ يتحدث عن عدم بلوغ الأنبياء أهدافهم. لم يستطيعوا أن يحكّموا الحق ويزهقوا الباطل. وإذا كان الأنبياء غير قادرين على إعلاء كلمة الحق فما شأننا نحن؟! لابدّ أن نترك ساحة النضال، وننتظر عاملًا غيبيًا يعيد الحقّ إلى نصابه!! هذا هو المنطق الذي يسعى الطغاة إلى ترسيخه في الأذهان، كي لا ينهض بوجههم مُطالب بالحق.

العربدات التي نسمعها من أبواق الجبارين تعزف على هذه النغمة. محور خطاب هذه الأبواق يدور حول عدم إمكان انتصار أية نهضة تقف بوجه الظالمين. تتحدث عما يمتلكه الطواغيت من قوة ضاربة لا تُقهر! والمعارضون لا يمتلكون شيئًا!!

وليس هذا خطاب طواغيت اليوم فحسب، بل كنا نسمع هذه النغمة على مرّ التاريخ.

المنصور العباسي كان أكثر خلفاء بني العباس اقتدارًا وقوة وبطشًا بمعارضيه، لكنه كان يواجه معارضة شديدة من محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم وهما ابنا عبد الله المحض[1] وكان المنصور يشيع بين معارضيه من أهل بيت رسول الله الأساطير عن قدرته وقوته حتى أشاع أنه يملك مرآة يستطيع بها أن يعرف مكان اختفاء محمد وإبراهيم ومَنْ يوفّر لهما المكان الآمن. وهذا يشبه ما كان يشيعه الحاكم الإيراني جمشيد في العهود القديمة بأنه يملك كأسًا يرى فيها العالم كله!!

جبابرة العالم كانوا يودّون من أعماق قلوبهم أن يرسخ في ذهن الناس بأن حَمَلَة الرسالة الإلهية معرّضون للهزيمة لا محالة، وأنه لا توجد إطلاقًا قوة غيبية تساندهم وتساعدهم، كل ذلك من أجل أن يبثوا روح اليأس في أتباع هذه الرسالات، هل الأمر في الواقع بهذه الصورة؟ هل إن سنن التاريخ تقضي بفشل السائرين على طريق الأنبياء؟ نستنطق القرآن الكريم في هذا السؤال، ثم نعود إلى نصوص التاريخ لتكون شاهدة على ما نقول.

القرآن الكريم يعلّمنا أن كل واحدة من النبوّات كان لها دور وفاعلية في سلسلة النبوات، إضافة إلى أنها دفعت بالبشرية خطوة إلى الأمام، وهذا ما تؤيده وثائق التاريخ. ليس الأمر كما كان يروج له المنصور العباسي وأمثاله من طواغيت التاريخ بأنه لا يمكن للناس أن يقفوا بوجه القوى المتسلطة، وبأن الناس ليس لهم حقّ أن ينبسوا ببنت شفة أمام قوى الضلال المتحكّمة. بل العكس هو الصحيح، الأنبياء حققوا نجاحات في وقتهم. وهكذا أتباع الأنبياء يستطيعون أن يحققوا النجاحات بشكل مؤكد، ولكن بشرطين. وإذا تحقق هذان الشرطان فالنصر حتمي، وليس من الضروري أن يتحقق هذا الانتصار بمعجزة. وما هما الشرطان؟

الأول: الإيمان، العقيدة الواعية، إيمان مقرون بالتزام، ومقرون بالسعي والحركة.

الثاني: الصبر، ويعني المقاومة، والثبات في الساحة، وعدم ترك الميدان في اللحظات الحساسة والخطرة.

متى ما رأيتم تراجعًا في مهمة النبيّ وهزيمة أمام طاغوت زمانه فذلك يعود إلى أن أتباعه لم يكونوا يتحلّون بالإيمان الكافي أو بالصبر اللازم. ومتى ما رأيتم أن الحق حقق انتصارًا فذلك بفضل إيمان مناصريه وصبرهم. وهل لذلك شاهد من القرآن الكريم؟ نعم.

أذكر لكم اليوم آيات تشكل القاعدة الفكرية لما ذهبنا إليه، وثمة آيات كثيرة أخرى في هذا الموضوع.

يقول سبحانه: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِینَ)[2] هذه الآية محكمة وليست متشابهة، وهي نص قرآني، وليست رواية يعتريها الشك في صحتها. نعم، أنتم الأعلون، وأنتم المنتصرون على عدوكم، وأنتم الذين ستكونون قادة البشرية، على شرط أن تكونوا مؤمنين.

قد تقولون: إن الإمام الصادق صلوات الله عليه جاهد ضد طاغوت زمانه لكنه لم يستطع أن يستلم زمام قيادة مجتمعه. نعم، وذلك يعود إلى أن كثيرًا من أتباعه كانوا مثلي ومثلك ينقصهم الصبر الكافي والإيمان الكافي. أنتم تريدون أن يحقق الإمام الصادق هدفه خلافًا للسنن الإلهية في هذا الكون! لا يمكن أن يحدث ذلك. وهذا دليل على أن النصر لا يأتي بمعجزة. وهكذا الأمر بالنسبة للإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، لم يكن أتباعه يحملون ما يكفي من شحنة الإيمان والصبر. واليوم أيضًا إن كان الأمر بهذا الشكل لا يتحقق للإسلام نصر. أمّا لو كنّا اليوم كما كان المسلمون في عصر رسول الله حيث الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع، وحيث الصبر الذي تصغر أمامه ملائكة السماء، الصبر الذي يجعل المسلمين وهم صائمون في شهر رمضان، ووسط حرّ الحجاز يحفرون الخندق، ويحاربون العدوّ، لو كنا اليوم كما كانوا لكان النصر حليفنا حتمًا.

(ِاسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)[3] هذه معجزة الصبر، وهذه وسيلة الانتصار. وليس الصبر كما يخيّل لبعض القاعدين هو الجلوس وعدم التحرك وتحمّل الذلّ والشقاء والهوان. فهذا الصبر فقدان الدين والدنيا: (خَسِرَ الدُّنْیَا وَ الْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِین)[4].

تأملوا في الآيات 103 وما بعدها من سورة الأعراف وهي تتحدث عن المواجهة بين موسى وفرعون، ومحاولة فرعون أن يهزم موسى بالسحرة، ثم هزيمة السحرة أمام موسى، وأمام هذه الهزيمة (قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِیُفْسِدُوا فِی الأَرْضِ وَیَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَ نَسْتَحْیِی نِسَاءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)[5].

حين يئس فرعون من مواجهة موسى، وفشل في استخدام سَحَرته، قرر أن يُنزل ضربته القاضية. في مثل هذه المواقف، التي تبعث الرعب في النفوس، وترتجف لها الأفئدة والقلوب، يجب على أمثال موسى وأتباعه أن يثبتوا ويشحذوا عزيمتهم ولا يشعروا بالهزيمة أمام هذا التهديد.

أذكر بالمناسبة كلام شخص من تاريخنا الحديث كان يخاطب أتباعه في الحركة الدستورية الإيرانية ويقول لهم: ناضلوا، وإن اشتدت عليكم الأمور ناضلوا أيضًا، وإن أيقنتم بالفشل الحتمي واصلوا النضال، عندئذ سوف يُكتب لكم النصر، هذا كلام صحيح. حين يبقى الأمل بالنصر في كل أحوال الشدّة فإن النصر عاقبة الأمور، أما إذا دبّ اليأس فثمة الفشل والهزيمة.

موسى(ع) استند إلى هذه القاعدة من أجل تعبئة بني إسرائيل وتثبيت عزائمهم. ماذا قال لهم: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِینُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِله یُورِثُهَا مَن یَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ)[6].

القرآن الكريم يقدم لنا صورًا من نجاح هذه القاعدة، إبراهيم(ع) نراه في موقف يُراد إلقاؤه في النار. وفي موقف آخر يرفع القواعد من البيت الحرام ويقيم المجتمع التوحيدي الذي يبقى بعده لقرون متمادية.

والنبي موسى(ع) نراه في مقطع من حياته يتعرض لمواجهة فرعون وتمرّد بني إسرائيل، وفي مقطع آخر يقول لقومه: (یَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ)[7] وأقيموا المجتمع التوحيدي هناك. والنبي عيسى(ع) خلال مدة إقامته القصيرة بين قومه لا تسفر جهوده على الظاهر عن نتيجة، ولكن بعد أن رفعه الله إليه، وبعد قرن أو قرنين تخضع أكبر قوة عالمية آنذاك إلى الفكر المسيحي، فإمبراطور روما يدين بالمسيحية وتصبح إمبراطوريته على دين المسيح.

نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام واجه ما واجه من شدائد خلال ثلاثة عشر عامًا في مكة، ثم هاجر إلى المدينة وأقام المجتمع الإسلامي، وشكل الحكومة الإسلامية، وهدى الناس إلى الكمال، وانتصر على أعدائه الألداء. ولكن طبعًا بشرط الصبر والتقوى: (بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا)[8].

وهذه سنة الكون.. سنة ربّ العالمين في التاريخ، في الماضي وفي حاضرنا أيضًا. أية مجموعة تسعى إلى أن تستظل بالقرآن والنبوة والتوحيد ومبادئ الإسلام المقدسة، وتريد أن تمسك بزمام أمور الحياة، وتحكّم الله في الحياة، لابد أن يَستحكم في نفوسها عاملان: الإيمان والصبر.

وهذا هو جواب السؤال الأول: هل الأنبياء بمجموعهم قد حققوا النجاح في مسيرتهم أم لا؟ والجواب أنهم بمجموعهم قد حققوا النجاح، إذ إنهم أرادوا أن يرفعوا مستوى البشرية، وضربتُ لكم في هذا المجال مثالًا بالطالب ومعلميه.

أما السؤال الثاني بشأن الأنبياء واحدًا واحدًا، هل نجحوا في نهضتهم ودعوتهم؟ فالجواب هو ما ذكرناه بشأن القاعدة العامة في هذا الإطار. النبي وقومه يحققون من النصر بقدر ما كان عندهم من إيمان وصبر، والفشل قرين انعدام هذين العنصرين.

فلنتناول آيات هذه الجلسة من سورة الرعد، ومن سورة الصافات.

(قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَیْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ الْقَهَّارُ)[9] فهو سبحانه خالق الأشياء، وهو الواحد القوي المقتدر العالم بعاقبة الأمور، وهو أعلم بسنن هذا الكون. وهذه مقدمة للحديث عن المواجهة بين الحق والباطل.

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً). وهذه من جماليات اللغة العربية، لم تذكر الآية أنها في صدد ضرب مثال، تقدم صورة تفهم بعدها أنها على سبيل التمثيل.

(فَسَالَتْ أَوْدِیَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّیْلُ زَبَدًا رَّابِیًا) سيول تجري على أثر الأمطار، وهذه السيول يعلوها زبد طافح. حين تنظر إلى السيول المتدفقة لا ترى ماءً بل ترى زبدًا طافيًا عليه. فالبارز للعيان هو الزبد، والماء تحته. هذه صورة.

والصورة الأخرى هي:(وَمِمَّا یُوقِدُونَ عَلَیْهِ فِی النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْیَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ).

هذه الخامات التي تحمل المواد المعدنية كالذهب والحديد تُذاب كي تُتخذ حلية أو يصنع منها أشياء. وحين توضع على النار كي تُذاب يعلوها الزبد أيضًا كما يعلو الزبدُ السيولَ.

في الصورة الأولى: هل المادة الحياتية هي الماء أو الزبد؟ طبعًا الماء. أما الظاهر والبارز فهو الزبد طبعًا.

وفي الصورة الثانية المطلوب والمفيد هو الفلز أو الزبد؟ طبعًا الفلز: الذهب أو الحديد. وما هو دور الزبد؟ إنه شيء زائد طفيلي، ولكن ما هو البارز أمام الأعين؟ إنه الزبد لا الذهب ولا الحديد. ثم يقول سبحانه:

(كَذَلِكَ یَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) هكذا يمثّل الله سبحانه للحق والباطل.

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَیَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا یَنفَعُ النَّاسَ فَیَمْكُثُ فِی الأَرْضِ) الزبد يزول ويتلف ولا يكتب له البقاء. والبقاء لما ينفع الناس: للماء وللذهب وللحديد.

(كَذَلِكَ یَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ) هكذا يضرب الله الأمثال للفرق بين دعوة الأنبياء، والجبهة المعارضة لهم. جبهة المواجهة تنتفش وتحاول أن تغطي على صوت الحق، لكنها مثل فقاعة سرعان ما تزول.

ويستمر السياق القرآني في الحديث عن النضال الاجتماعي للمسلمين. يقول سبحانه:(لِلَّذِینَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) فالذين استجابوا للدعوة لهم عاقبة حسنة.

(وَالَّذِینَ لَمْ یَسْتَجِیبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِی الأَرْضِ جَمِیعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) هؤلاء الذين لم يستجيبوا للدعوة على استعداد يوم القيامة لأن يفدوا بكل ما عندهم، حتى ولو كان لهم جميع ما في الأرض وما يعادله معه، ليتخلّصوا من هذه الضائقة. وهؤلاء لهم أسوأ الحساب وأسوأ العاقبة.

الآيات الأخرى من سورة الصافات:

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِینَ)[10] هذا هو القرار الذي اتخذه ربّ العالمين لجماعة الصالحين في كل زمان ومكان. (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ # وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) هذه هي سنة الله في الأرض شرط توفر الإيمان والصبر لديهم.

في ساحات القتال كان رسول الله يوصي المجاهدين بالصبر، كما كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يوصي المقاتلين بالصبر. وما معنى الصبر في ساحة الجهاد؟ إنه دعوة إلى عدم التراخي وعدم ترك الأمور قبل اكتمالها.

لو أن المسلمين في العالم قد التزموا بهذين العاملين: الإيمان والصبر في مشاريع التطوير الاقتصادي والسياسي والثقافي لكانت الغلبة لهم على غيرهم في هذه المجالات جميعًا.

لا يخالنَّ المسلمون أن التخلّف والفقر والذلّ مقرون بهم ومطبوع عليهم ولا يمكن أن يفارقهم، وأن القوى المتجبّرة في العالم قد قُدّر لها أن تبقى مسيطرة على رقاب الأمة تمتص دماءهم وتستنزف ثرواتهم!! لا، لو أن الملايين من أبناء الأمة الإسلامية قد التزموا بالإيمان وتحلّوا بالصبر لكانت الغلبة لهم. هذه هي توصية القرآن الكريم للمسلمين في كل زمان ومكان. وهذه حصيلة جلستنا هذا اليوم.

والحمد لله رب العالمين.

[1] ـ عبد الله بن الحسن المثنى المعروف بالمحض، سمي بالمحض لأنه علوي خالص من الأب ومن الأم فهو ابن الحسن المثنى بن الإمام الحسن وأمه فاطمة بنت الإمام الحسين. ولداه محمد وإبراهيم عارضا المنصور العباسي، واختفيا عن الأنظار، وبذلك تعرض عبد الله للسجن، ثم ثار ولداه وقتلا، وقتل عبد الله أيضًا بأمر المنصور في سن الخامسة والسبعين سنة 145هـ.

[2] ـ آل عمران/ 139

[3] ـ البقرة/ 153

[4] ـ الحج/ 11

[5] ـ الأعراف/ 127

[6] ـ الأعراف/ 128

[7] ـ المائدة/ 21

[8] ـ آل عمران/ 125

[9] ـ الرعد/ 16 - 18

[10] ـ الصافات/ 171 - 173