محيرة هي الحاجة سعدى بدر الدين. لا هي من عالم الفلسفة، ولا من عالم العرفان، ولا من عالم المفكرين، ربما هي بعضٌ من كل هذه العوالم.

ليس في الكلام تملّق صحفي، ولا كثرة في الانشاء، فزوجة العماد كما العماد، استثناء لا يماثله كُثُر. في منزل الحاجّة سَكينة لا تضاهيها سَكينة. دموع تسعى الى حبسها مجرّد دخولك الى غرفة الجلوس، فهنا، الشهداء حاضرون، بكل أًنس. صورة كبيرة تجمع القائد الجهادي الكبير الحاج عماد مع ابنه الشهيد جهاد، وصورة أخرى على الحائط الأيمن مخصصة للشهيد السيد ذو الفقار، وثالثة، أضيفت حديثًا، لسيد شهداء محور المقاومة الشهيد قاسم سليماني.

 هي امرأة واحدة جامعة لخصال كثيرة، وألقاب عدّة: "أم الشهيد"، و"أخت الشهيد"، و"زوجة الشهيد". برباطة جأش تحمل صورة جهاد مستشهدًا ووجهه الباسم لا يفارق ما تبقى من جثمانه. ثم تسترجع شريط ذكرياتها مع السيد ذو الفقار الذي كان أقرب إخوتها اليها. لكن الغصة تغلبها عند ذكر اسم "العماد"، حتى بعد اثني عشر عامًا على الشهادة.

فريدةٌ هي بين النساء. فقد غسّلت عماد شهيدًا، زفت ذو الفقار شهيدًا، ثم تقول بافتخار "جهاد ما غسلناه.."، والسبب الذي تقوى الحاجة على قوله لنا، لا نقوى نحن على كتابته.. لكن السؤال الذي يدور في البال: ترى ما تكتنز هذه السيدة من صبر هو من قدرة الإنسان، أم من مِداد الرب؟

بداية تعارف الحاجة سعدى والحاج عماد كانت من خلال زياراته إلى منزلهم، حيث كان صديقًا للسيد مصطفى بدر الدين. رأت فيه شابا ثوريًا يفكر ويخطط وينفذ. عندما تزوجا لم يكن الحاج عماد يملك شيئاً من "متطلبات" غالبية "زيجات" الجيل الحالي، حتى أنه لم يكن يملك القدرة المادية لاستئجار منزل. عاشت سنوات من عمرها معه في غرفة من منزل أهل الحاج عماد، أمّا سنيّ عمرهما الباقي، فأمضياه مع أطفالهما، يتنقلون في المسكن بين مراكز العمل (العمل الجهادي للحاج عماد)، من مركز إلى آخر.

بالكثير من الودّ والطيبة تحدّث الحاجة سعدى ضيوفها حتى لو كانت تلقاهم للمرة الأولى. هي التي أمضت عمرها بين المراكز بعيدة عن الحياة الاجتماعية الطبيعية التي تمارسها كل العوائل، تتقن فنّ العبور نحو القلوب دونما استئذان. تدعونا الى دخول غرفة ابنها الشهيد جهاد. هناك كل شيء في مكانه. وكأن جهاد كان للتو في غرفته، حتّى سجادة صلاته ما تزال في زاوية الغرفة الدافئة، تنتظر عودته.

 

الحاجة سعدى بدر الدين مغنية لـ"العهد": في عين الله لم أر إلا جميلًا

المرأة المتميّزة في كل تفاصيل حياتها، ما يزال شوقها الى الحاج عماد، رفيق العمر، مميزًا أيضًا. تبكيه أكثر من مرّة عند ذكر اسمه، وتردد "انا لا أبكيه لأنه شهيد، أبكيه لأنه -والحمد الله- عرف طريق وصوله الى الله". وتقول في وصفه: "لم يكن من الأشخاص الذين يوجهون النصائح أو الوصايا بشكل مباشر. لم يكن مربيًا بالكلمة، كان سلوكه اتجاه عمله الجهادي والذي عاينته عن قرب طوال مسيرته أبلغ من الكلام والنصح وكان وصية عملية". أما عن مرارة فراق الأحبة، وكثرة الشوق والحنين، ومسيرة الصبر الطويلة، فتختصر بشيء من مدرسة السيدة زينب (ع): "في عين الله.. لم أر إلا جميلًا".

 

في ما يلي، نص المقابلة الأولى التي تجريها الحاجة سعدى بدر الدين زوجة الشهيد عماد مغنية مع الإعلام:

 

1- كيف كانت بداية مشوار الحاجة أم مصطفى مع الحاج عماد؟ من أين بدأ التعارف؟

 

لم تكن المسافة الفاصلة بين منزلي آل مغنية وآل بدر الدين مسافة بعيدة فهي ذاتها المسافة التي تفصل بين مسجد الشياح ومسجد الامام زين العابدين في الغبيري وذلك لملاصقة المسجدين لمنزل العائلتين. فمسجد الشياح الذي كان إمامه الشيخ محمد قبيسي قريب جدا من منزل آل مغنية ومسجد الغبيري الذي كان إمامه الشيخ عواد ملاصق لمنزل آل بدر الدين. في تلك المرحلة، ارتاد المسجدين فتيان أرادوا لواقعهم حقيقة مغايرة، سيّما أن التقليد السائد حينها كان يقول إن المساجد لا يدخلها إلا كبار السن، أما الفتيان فلا شأن لهم في المسجد. اجتمع فتية بعفوية على هدف بسيط ولكنه شكّل تحديًا للعرف السائد. وعند هذا الهدف بالذات التقى رواد المسجدين الذين كان من بينهم عماد مغنية والسيد مصطفى بدر الدين. هذا التعارف بين الشابين اليافعين في تلك الفترة الزمنية أدى إلى زيارات متبادلة، وأثناء إحدى زيارات الحاج عماد إلى منزلنا في الغبيري تعرفت عليه. تعرفت على شاب ثوري يفكر ويخطط وينفذ. يرى الأمور من زاوية مختلفة عن أقرانه كما أخي السيد مصطفى. هذا الهدف البسيط الذي بدأ به فتية في المسجد كبر مع ازدياد التحديات والفرص التي فرضتها الأحداث، بدءا من الحرب الأهلية وصولًا إلى انتصار الثورة الإسلامية 1979 وشهادة السيد محمد باقر الصدر 1980 واجتياح بيروت عام 1982. كل ذلك جعل من هؤلاء الفتية روادا في الوقوف أما هذه التحديات واقتناص الفرص.

 

2- ماذا كان يملك الحاج عماد في بداية زواجكما؟

 

حين تعارفنا لم يكن يملك شيئًا. تزوجنا وانتقلنا مباشرة إلى إيران حيث قطنت عند إحدى العائلات اللبنانية لأن الحاج عماد لم تكن لديه القدرة المادية حتى على استئجار منزل. وحين عدنا إلى بيروت كان بيتنا الزوجي عبارة عن شرفة منزل والديه في الشياح حيث تم ترتيبها لتصبح قابلة للسكن. كانت تلك الغرفة هي منزلي حتى بعد ولادة ابنتي فاطمة. وبعد ولادة ابني البكر، بدأنا بالتنقل معه في مراكز عمله. استمر بتغيير مقرّ عمله طيلة سنوات عدة إلى أن استقررنا بشكل نهائي ما بين العامين 2000 - 2006 في مقر عمله الأخير، وكان قد أصبح لديّ جهاد. كان مسكننا في مقر عمله الأخير مدة 6 سنوات وكانت تلك أكثر السنوات استقرارًا، إلى حين وقوع حرب تموز 2006. كانت طبيعة عمله تفرض علينا التنقل معه باستمرار للحفاظ على أمنه. على الرغم من صعوبة ما عانيناه بفعل الظروف المفروضة علينا كعائلة إذ لم يكن يأتي أحد لزيارتنا حتى من الأقارب إلا أننا كنا جميعنا نشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقنا اتجاهه ليس كزوج وأب فقط، بل كقائد أيضًا.

 

3- ماذا تحدثيننا أيضا عن بدايات الجهاد ورحلة الصبر الطويلة؟

 

على أي منا أن يدرك أن الحياة تُخاض. فلسفة البلاء هي خوض الحياة لمعرفتها ومعرفة أنفسنا. تدعونا الأدبيات الدينية وأدبيات أهل البيت "عليهم السلام" إلى الصبر على تلك البلاءات لنيل درجة إنسانية كرمنا بها الله. أستعيد كلام زوجي الحاج عماد: المحور الأهم في كل المعادلات الجهادية هو "الإنسان". على كل منا أن يعي أن رقيّ هذا الإنسان أن يحقق إنسانيته على هذه الأرض. منذ اللحظة الأولى التي تزوجت بها أدركت أني في طريق صعب وشائك. وشخّصتُ على إثره دوري ومهمتي وعليه اخترت الاستمرار فيه لمعرفتي الحقّة أن هذا هو كمالي كانسان. وكانت تلك قناعة تترسخ عند تجاوز كل بلاء كنا نمر به كعائلة معًا بعيدًا عن تناول حيثيات هذا البلاء وشدّته. بات معروفا أن حياة الحاج كانت معقدة بفعل عمله الجهادي التي كانت تفرضه المرحلة السابقة لعمل المقاومة. كانت الظروف تتطلب أن نعيش معه في الظل كما عاش ولهذه الطريقة من العيش خصوصيتها: عدم التعريف عن أسمائنا، عدم الكشف عن انتسابنا له، عدم البوح باسمه، التنقل المستمر، عدم زيارة الأقارب لنا، لا جيران، لم يكن لدينا منزلنا الخاص كما ذكرت سابقا. أي أن الحياة الاجتماعية الطبيعية معدومة. فضلا عن شعورنا الدائم بالقلق على فقدانه، كان الانتظار ديدننا. كل تلك الظروف لم تمنعنا من أن نعيش لحظاتنا العائلية الخاصة ككل العائلات؛ الأعياد، المناسبات الخاصة، ... كنا نعيش الحياة بما توفر لدينا من وقت ومكان ومال على قلّتها.

 

4- كيف كان يتجلى إخلاص الحاج عماد في عمله؟ بماذا كان يوصي عائلته؟

 

عُرف الحاج عماد منذ صغره بقلة كلامه وهذا ما تؤكده والدته الراحلة الحاجة أم عماد. وهذا أيضًا ما عاينته معه خلال مسيرة زواجي. لم يكن يتحدث بشيء يخص عمله الجهادي خلال جلساتنا العائلية. في الجلسات كان لطيفًا وضحوكًا، وكان شديد "الشرود". كنت أعلم أنه يفكر بشكل مستمر في عمله. لم يعش الحاج لحظة واحدة من حياته يفصل فيها بين شخصه وعمله. كانت كل ذرة من روحه وجسده هي عمل. خلال جلساتنا العائلية عندما كان يتعرف على شيء جديد ويسترعي انتباهه كنت أعلم ضمنًا وبشكل تلقائي أنه يفكر باستثماره في عمله حتى لو كان بسيطًا جدًا وعاديًا بالنسبة لنا. هذا العشق الممزوج بالفطنة والذكاء، وهذه القدرة على عدم نسبة شيء من انجازات المقاومة له لا أستطيع فهمها إلا أنها هبة خاصة ممنوحة له. لم يكن يتكلّف الكتمان، كان هذا جزءا من شخصيته ولم يكتسبه كمهارة نتيجة خصوصية عمله الأمني. الإخلاص هو نتيجة لسلوك يومي وإصرار على الذكر. كان يطلب مني بشكل خاص أن أبحث له عن أذكار لتعينه على أداء عمله وكنت أقوم بالبحث والسؤال. حتى كنت أقترح عليه أذكارا وصلواتٍ حين كنت أرى التعب قد بدا عليه وقد كان يؤديها جميعها.

لم يكن من الأشخاص الذين يوجهون النصائح أو الوصايا بشكل مباشر. لم يكن مربيًا بالكلمة، كان سلوكه اتجاه عمله الجهادي والذي عاينته عن قرب طوال مسيرته أبلغ من الكلام والنصح وكان وصية عملية. الأولوية لديه هي "البذل" لاستمرار وحفظ هذه المقاومة وهذا ديدن كل قادتها الشهداء. فخطاب السيد عباس الموسوي قبل استشهاده عبّر بشكل واضح عن قناعة كل أمة حزب الله: "الوصية الأساس حفظ المقاومة".

 

5ـ هلا تفضلتم بالكشف عن بعض جوانب شخصية الزوج والأب والقائد؟

 

كان عبدًا ليس بالتعبد فقط، بل بالفاعلية اتجاه أمته وكل مظلوم. سخّر نفسه وروحه وقدراته العقلية ومهاراته الجسدية لأمته ولإحقاق الحق. لم يكن زوجًا وأبًا تقليديًا أو لديه أوقات محددة مع العائلة ومحسوبة بدقة، ولكن حينما كان يحضر جلساتنا العائلية كان ضحوكًا وودودًا، يشاركنا لحظاتنا العفوية، يتفاعل معنا بأي حديث نجريه خاصًا وعامًا، لم نكن نشعر معه بثقل المسؤوليات الملقاة على كاهله.

 

6- ما هو اللقب الأحب إلى قلبك: زوجة الشهيد العماد، أخت الشهيد ذو الفقار أو أم الشهيد جهاد؟

 

لا ألقاب في مقابل درجة الشهيد. أنا "عبدة صالحة" منحني الله نعمة الحياة لأرافق هؤلاء الشهداء: زوجي وأخي وابني، في مراحل حياتهم لينالوا هذه الدرجة.

 

7- ما هي أصعب المواقف في رحلتك الجهادية مع الحاج عماد وأجملها؟

 

في عين الله لم أر إلا جميلا. حتى أكثر المواقف صعوبة كنت أراها جميلة. كل الأحداث التي مررنا بها كعائلة جميعنا على مرّ تلك السنوات أعتقد أن أصعبها انتظار عودته كلّ مرة وأحلاها لقياه بعد انتظاره في كل مرة.

 

8- كيف كان عزاء سماحة الأمين العام لكم باستشهاد كل من الحاج عماد والشهيد جهاد والسيد ذو الفقار؟

 

لم يكن هناك أي استثناء لنا بعزاء السيد حسن نصر الله. قدم لنا العزاء كما كان يعزي جميع عوائل الشهداء. ولكن بخصوص شهادة جهاد ابني وجهت له سؤالًا مباشرًا حول كيفية استشهاده، فتوجه لي قائلا: "أنا أغبطه على هذه الشهادة".

 

9- ما هي القصة التي يمكن للحاجة سعدى أن ترويها لنا عن حرب تموز 2006 وإعدادها الطعام للحاج عماد ولقائها الأول بالحاج قاسم سليماني؟

في حرب تموز 2006 كنت ألتقي بالحاج عماد لأحضر له طعام افطاره، لأنه كان صائمًا طيلة أيام الحرب. لغاية سنة 2006 لم أكن أعرف الحاج قاسم سليماني. لكن في احد أيام الحرب، كنت قد اتفقت مع الحاج على مكان ألتقيه فيه لأعطيه الطعام، وقد وصل الحاج حينها على متن دراجة نارية، مع شخص آخر، وعندما حمل عني الطعام طلب مني أن ألقي السلام على الشخص الذي برفقته، فألقيته ولمحت الحاج قاسم للمرة الأولى. معرفتنا بالحاج قاسم تعززت لاحقا بعد استشهاد الحاج عماد أما سابقا فلم تكن هناك أي معرفة شخصية.

 

10- هل صحيح أن الحاج سليماني طلب من الحاجة سعدى أن تدعو له بالشهادة؟

 

قبل شهرين من شهادته، طلب مني الحاج سليماني الدعاء له بشهادة مماثلة لشهادة جهاد، وقد دعوت له مرارًا.

 

11- أي رسالة تحملها الحاجة سعدى من بيت الشهادة إلى شباب حزب الله والى قائدهم؟

 

الشكر لكلّ "البذل"، الشكر لهم على أنهم منحونا فرصة الجهاد معهم وإلى جانبهم. الشكر لهم لما منحونا إياه من تجربة ومعرفة وقوة وعزة. التجربة الإنسانية التي خضناها معهم هي تجربة فريدة واستثنائية، ولهذه التجربة، وفق فهمنا الديني والعقائدي لهذا الكون، أجرها وثوابها في العالم الآخر. أنا أقول لهم إن وجود سماحة السيد حسن نصر الله كشخصية علمائية بيننا في هذا الزمن هو فرصة عظيمة علينا استثمارها والحرص عليها ومعرفتها والشكر الدائم لمنحها لنا. كانت سمة الحاج عماد الأبرز هي استثمار الفرص وتحويل التهديد إلى فرصة باعتراف العدو وبشهادة الصديق. وشخص السيد حسن نصر الله هو فرصة لنا كأمة لإحقاق حق ورفض أي ظلم. أما على المستوى الشخصي فإن أي تكليف يشخصه لي السيد حسن نصر الله في هذا المسير الجهادي أنا مستعدة لأدائه.

 

المصدر: موقع العهد