الباب الثاني

 

في نبذة من آداب اللباس

 

وفيه مقامان

 

المقام الأول

 

في آداب مطلق اللباس

 

اعلم إن النفس الناطقة الانسانية حقيقة، هي: - في عين الوحدة وكمال البساطة - ذات نشآت عمدتها كلّيّة ثلاث :

الأولى: النشأة الملكية الدنيوية الظاهرة ومظهرها الحواس الظاهرة والقشر الأدنى لها هو الحواس الملكيّة .

الثانية: النشأة البرزخية المتوسطة ومظهرها الحواس الباطنية والبدن البرزخي والقالب المثالي.

الثالثة: النشأة الغيبية الباطنية ومظهرها القلب والشؤون القلبية .

ونسبة كل من هذه المراتب إلى الأخرى نسبة الظاهرية والباطنية، ونسبة التجلي والمتجلي، ومن هذه الجهة تسري الآثار والخواص والانفعالات من مرتبة إلى أخرى، فمثلا إذا أدركت حاسّة البصر شيئا يقع منه أثر في الحسّ البصري البرزخي مناسب لتلك النشأة ويقع منه أثر في البصر الباطني القلبي يناسب تلك النشأة، وهكذا الآثار القلبية تظهر في النشأتين الأخيرتين. وهذا المطلب مضافاً إلى أنه مطابق للبرهان القوي المتين مطابق للوجدان أيضاً، فمن هذه الجهة يكون لجميع الآداب الصورية الشرعية في الباطن أثر بل آثار، ولكل من الأخلاق الجملية التي هي من حظوظ مقام برزخية النفس أيضا آثار في الظاهر والباطن ولكل من العارف الإلهية والعقائد الحقّة في النشأتين البرزخية والظاهرة آثار .

فمثلا الإيمان بأن المتصرف في مملكة الوجود وعوالم الغيب والشهود هو الحق تعالى وليس لسائر الموجودات فيها تصرّف إلا التصرّف الأدنى الظلّي يوجب كثيرا من الكمالات النفسانية والأخلاق الفاضلة الإنسانية مثل التوكل والاعتماد على الحق وقطع الطمع من المخلوق التي هي أمّ الكمالات، ويوجب كثيرا من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة وترك كثير من القبائح، وهكذا سائر المعارف التي تعدادها وتعداد تأثيراتها خارج عن مجال هذه الأوراق، والقلم القاصر للكاتب، ويحتاج إلى تحرير كتاب ضخم لمؤلف صاحب قلم قويّ من أهل المعرفة، أو من نفس حار لأحد أهل الحال (دست ما كوتاه وخرما بر نخيل) (مصراع معروف يعد كمثل دارج مضمونة: إن أيدينا قصيرة والتمر على النخل فلا تصل إليه أيدينا) . وهكذا مثلا خلق الرضا فانه من الأخلاق الكمالية الإنسانية وله تأثيرات كثيرة في تصفية النفس وتجلياتها، ويجعل القلب موردا للتجليات الخاصة الإلهية ويوصل الإيمان إلى كماله، وكمال الإيمان إلى الطمأنينة، والطمأنينة إلى كمالها وكمالها إلى المشاهدة، والمشاهدة إلى كمالها، وكمالها إلى المعاشقة، والمعاشقة إلى كمالها و كمالها إلى المراودة، والمراودة إلى كمالها وكمالها إلى المواصلة، والمواصلة إلى كمالها ويرتقي إلى ما لا يسعه وهمي ووهمك .

وفي ملك البدن والآثار والأفعال الصورية التي هي أغصان وأوراق تلك الشجرة تأثيرات غريبة فيصير السمع والبصر وسائر القوى والأعضاء إلهية ويظهر سرّ كنت سمعه وبصره شيئا ما كما أن لتلك المراتب في الظاهر تأثيرا بل تأثيرات وللهيئة الظاهرة وجميع الحركات والسكنات عادية وغير عادية ولجميع التروك والأفعال أيضا فيها تأثيرات عجيبة بحيث ربما يتفق أن السالك يسقط من الأوج الأعلى إلى أسفل السافلين بنظرة واحدة تحقيرية إلى عبد من عباد الله ولا يستطيع جبران هذا السقوط في السنين المتوالية ، وحيث أن قلوبنا نحن المساكين ضعيفة خفيفة وضئيلة ومثل شجرة الصفصاف (لهذه الشجرة صنف خاص يقال له بالفارسية (بيد مجنون) أي الصفصاف المجنون لها أغصان ضئيلة جدا متدلية إلى الأرض وهي كما مثل بها الأستاذ تتحرك بأدنى نسيم ) .

تضطرب بالنسيم الرقيق وتفقد حالة السكون ، فاللازم لنا أن نلاحظ الحالات القلبية حتى في الأمور العادية وأحدها ، اتخاذ اللباس ونتحفظ على القلب، وحيث أن للنفوس والشيطان حبائل مستحكمة وتسويلات دقيقة جدا والإحاطة بها خارجة عن طاقاتنا فلا بد لنا أن نقوم في مقابلها بقدر قوّتنا ونطاق وسعنا ونطلب التوفيق والتأييد من الحق تعالى .

فنقول بعدما اتضح أن للباطن في الظاهر وللظاهر في الباطن تأثيرا لابد للإنسان الطالب للحق والارتقاء الروحاني أن يحترز في انتخاب مادة اللباس وهيئته مما يكون له تأثير السوء في الروح ويخرج القلب عن الاستقامة ويغفله عن الحق ويجعل وجهة الروح دنيوية، ولا يتوهّم أن تسويل الشيطان وتدليس النفس الأمارة إنما هو في اللباس الفاخر الجميل فقط وفي التجمّل والتزين فحسب بل اللباس الخلق الذي لا قيمة له ربما يسقط الإنسان عن درجة الاعتبار، ومن هذه الجهة لابد للإنسان أن يحترز من لباس الشهرة بل من مطلق المشي على خلاف المعمول والمتعارف ، كما أنه لابدّ أن يحترز عن الألبسة الفاخرة التي تكون مادتها وجنسها فيمة وتكون هيئتها وخياطها جالبة للأنظار ومشارا إليها بالبنان لان قلوبنا ضعيفة وغير ثابتة، فبمجرد الامتياز والتعين يزلّ وينحرف عن الاعتدال فالإنسان المسكين الضعيف العاري من جميع مراحل الشرف والإنسانية وعزة النفس وكمال الآدمية والبريء منها ربما يتفق أنه بواسطة أذرع من الثوب الابريسم أو من الصوف وقد قلّد في خياطته الأجانب مع أنه تمكن منه بقيمة هي بيعه شرفه وارتكابه العارات، ينظر إلى عباد الله بنظر الحقارة والكبر ولا يعيّن لموجود قيمة، وهذا ليس إلا من كمال ضعف نفسه وقلّة ظرفيّته حيث يتوهّم أن فضلات القزّ ولباس الغنم موجبة لاعتباره وشرفه .

2- أيها الإنسان المسكين، ما هذا الضعف ؟ وما هذه المسكنة فيك ؟ فشأنك أن تكون فخرا لعالم الإمكان وخلاصة للكون والمكان، أنت ابن آدم وشأنك أن تكون معلّما للأسماء والصفات، أنت ابن خليفة الله وشأنك أن تكون من الآيات الباهرات (تورا زكنكره عرش ميزنند صفير) (مصراع بيت للحافظ الشيرازي يقول: أنت الطائر الذي تركت مكانك فمن أعالي العرش يصفرون لك كي ترجع إلى وكرك) . أيها الشقيّ والخلف غير الصالح غصبت مقدارا قليلا من فضلات الحيوانات وملبوساتها وتفتخر بها . لو كان هذا فخرا فهو للقزّ والغنم والإبل والسنجاب والأرنب . لماذا تفتخر بلباس غيرك وتدلّل بما هو فخر لهم وتتكبّر به ؟ وبالجملة كما أن لمادة اللباس وجنسه وكونه قيّما ومزيّنا تأثيرا في النفوس، ومن هذه الجهة قال أمير المؤمنين عليه السلام كما رواه القطب الرواندي (هو أبو الحسن سعيد بن هبة الله بن الحسن العالم المتبحّر الفقيه المحدّث صاحب الخرائج والجرائح وقصص الانبياء ولب اللباب وشرح النهج وغيره وهو أحد مشايخ ابن شهر آشوب يروي عن جماعة كثيرة من المشايخ . توفي القطب 4 شوال سنة 573 ( تعج ) كما في البحار نقلا عن خطّ الشهيد وقبره ببلد قُم في جوار الحضرة الفاطمية عليها السلام ، مزار معروف).عليه الرحمة: "من لبس ثوبا عاليا فلا بد من التكبر ولابد للمتكبّر من النار " .

كذلك في هيئته وكيفيّة قصّه وخياطته آثار ربما يحصل للانسان بواسطة أنه شبّه لباسه بالأجانب عصبية جاهلية للأجانب ويتضجّر ويتنفّر من الله ورسوله ويكون أعداء الله وأعداء رسوله محبوبين عنده ولذا ورد في الرواية عن الصادق عليه السلام: "إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى بعض أوليائه : قل للمؤمنين لا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تأكلوا كأعدائي ولا تمشوا كأعدائي فتكونوا أعدائي كا هم أعدائي " .

 

فكما أن للألبسة الفاخرة جدا في النفوس تأثيرا، كذلك للألبسة الدنية جدا من حيث المادة والجنس ومن حيث الهيئة والشكل في النفوس تأثير، وربما يكون فساد هذا اللباس أشد بمراتب من تلك الألبسة الفاخرة لان للنفس مكائد دقيقة جدا فبمجرد أن يرى السالك نفسه من النوع الممتاز بأنه لبس اللباس الخشن والكرباس ولبس سائر الناس الألبسة اللينة اللطيفة، فبواسطة حب النفس يغفل هو عن عيوبه ويحسب هذا الأمر العرضي وغير المربوط به سببا لافتخاره، وربما يعجب بنفسه ويتكبّر على عباد الله ويحسب سائر الناس مبعدين عن ساحة القدس للحق ويرى نفسه من المقربين ومن خلّص عباد الله وربما يبتلى بالرياء وسائر المفاسد العظيمة، فالمسكين اقتنع من جميع مراتب المعرفة والتقوى والكمالات النفسانية باللباس الخشن ولبس الخلق وغفل عن الآلاف من عيوبه التي من أعظمها هذا العيب الذي حدث فيه من سوء تأثير هذا اللباس، وحسب نفسه من أهل الله مع أنه من أولياء الشيطان وحسب عباد الله لا شيء وبلا قيمة .

وكذلك ايضا ربما يكون أن هيئة اللباس وكيفيته يبلي الإنسان بمفاسد مثل أن يرتّب اللباس على نحو يشتهر بالزهد والقدس، وبالجملة لباس الشهرة سواء في جانب الافراط أو في جانب التفريط من الامور التي تزلزل القلوب الضعيفة وتخلعها من مكارم الاخلاق وتوجب العجب والرياء والكبر (وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لابي ذرّ: "يا أبا ذرّ البس الخشن من اللباس والصفيق من الثياب لئلا يجد الفخر فيك مسلكه") . التي كل واحد منها من أمهات الرذائل النفسانية والموجب للركون إلى الدنيا . وعلاقة القلب بها الذي هو رأس كل الخطيئات ومنبع جميع القبائح .

وفي الأحاديث أيضا أشير إلى كثير من الأمور المذكورة كما في الكافي الشريف عن الصادق عليه السلام: "إن الله يبغض شهرة اللباس " .

وعنه أيضا قال: "الشهرة خيرها وشرها في النار" . وعنه عليه السلام: "إن الله يبغض الشهرتين، شهرة اللباس وشهرة الصلاة " .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله ما معناه: "من لبس ثياب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثياب الذلّ يوم القيامة " .