بسم اللَّه الرحمن الرحيم

إن من أهمّ‏ِ الأمور في مسير الإنسان في الحياة، أن يعرف بمن يقتدي، ويعلم صفات مقتداه جيِّداً.

فالقول الذي يقوله الناس: «الناس أعداء ما جهلو» قول صحيح، وينطبق على مقامنا.

فإذا لم يعلم الإنسان بمن يقتدي أو علم ولكن جهله وقدَّره تقديراً خاطئاً، فسيكون عدواً له إن شعر أو لم يشعر.

ونحن نعرفُ مقتدانا وهم أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ولكن هل عرفناهم حقّ معرفتهم؟ هل قدّرناهم حق قدرهم؟

هنا السؤال، ولكننا في الحقيقة نحتاج إلى تقديرهم التقدير الواقعي، ومعرفتهم معرفة حقيقية.

لقد قال علي (عليه الصلاة والسلام):

«ليحبني أقوام حتى يدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوا حتى يدخلوا النار في بغضي»([1]).

وقال (عليه الصلاة والسلام):

«يهلك فيّ‏َ رجلان: مح مفرط بما ليس فيّ ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني»([2]).

وصدق علي (عليه الصلاة والسلام) في غلو الطرفين من محبيه ومن مبغضيه.

فقد بلغ من حب بعضهم إياه أن رفعوه إلى مرتبة الآلهة المعبودين، وبلغ من كراهة بعضهم إياه أن حكموا عليه بالمروق من الدين.

وليست معرفة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) عملاً فكرياً أو قلبياً فحسب، بل تتعدى ذلك إلى معرفة أهدافهم، والسير لتحقيقها، فهم القدوة والأسوة.

يقول القائد (دام ظله):

«يجب علينا أن ننظرَ إلى حياة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا، لا كمجرد ذكريات قيّمة وعظيمة حدثت في التاريخ. وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظام...».

فاقتداؤنا بالأئمة (عليهم الصلاة والسلام)، إنما هو اقتداء هادف:

«إن سلسلة الحوادث في تاريخ الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) هي امتداد خط الجهاد والمواجهة التي استمرت طيلة مئتين وخمسين سنة بأشكال مختلفة، وكان الهدف منها،

أولاً: تبيين الإسلام الأصيل وتفسير القرآن وإظهار الصورة الواضحة للمعرفة الإسلامية.

وثانياً: تبيين قضية الإمامة والحاكمية السياسية في المجتمع الإسلامي.

وثالثاً: السعي لأجل تحقيقها في المجتمع وتحقيق هدف الرسول الأعظم "صلى الله عليه وآله" وجميع الأنبياء، أي إقامة القسط والعدل وإزالة أنداد اللَّه من ساحة الحكومة وايداع زمام إدارة الحياة بيد خلفاء اللَّه وعباده الصالحين».

فمن أهداف الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) السامية إقامة حكومة إلهية عادلة.

«إن جميع أئمتنا بدون استثناء قد جاهدوا في سبيل ايجاد الحكومة العلوية وحكومة الحق الإلهية».

في هذا الكتاب شذرات قليلة من أقوال القائد الخامنئي (دام ظله) في أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) التي ينبغي أن يكون ارتباطنا معهم قوياً:

«إننا بدون المحبة لا يمكن أن نتقدم بهذه النهضة. ونحن في الفكر الإسلامي نمتلك أعلى مصداق للمحبة. وهو محبة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)».

«فعلينا الاهتمام بقضية أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فهي من أهم وأعظم قضايا الإسلام، وهي في مصافِ قضايا الدرجة الأولى لهذا الدين المقدس».

ومن هذا المنطلق كانت هذه الإضاءات التي اقتبسناها من كلام القائد، في كلمات متفرقة، جمعناها، عسى أن نجتمع على أهل البيت‏(عليهم الصلاة والسلام)، فنرتقي بأنفسنا إلى مستوى طموحاتهم، فنكون زيناً لهم، ولا نكون شيناً عليهم.

خطوط عامة من سيرة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)

_________________________________

 ([1]) ينابيع المودة، ج‏2، ص‏181.

([2]) الأمالي، للشيخ الطوسي، ص‏256.

نظرات خاطئة

لقد نظر البعض إلى الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) نظراتٍ خاطئة، ولم يقيِّمهم التقييم الصحيح، والواقعي، وهذا ما يتكلّم عنه سماحة القائد (دام ظله)، انطلاقاً من حديثه عن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام):

«ثمّة نظرتان خاطئتان بشأن الإمام الصادق ناشئتان عن لونين من التفكير: ومن الغريب أنهما على اختلافهما تتقاربان في الشكل والمحتوى والمنشأ، بل يمكننا القول إن النظرتين تشتركان في بعض المحاور اشتراكاً تاماً.

النظرة الأولى

نظرة شيعة الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) بالقول، لا بالعمل، وتتلخص بما يلي:

إن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) توفرت له ظروف لم تتوفر لإمام من قبله ولا من بعده، استطاع أن يستغلها لنشر أحكام الدين، وأن يفتح أبواب مجلسه لطلاب العلم، جلس في بيته، وفتح صدره للمراجعين، وتصدّى للتدريس ونشر المعارف، وارتوى منه كل من قصده من طلاب العلم وناشدي الحقيقة، اشترك في مجلس درسه أربعة آلاف تلميذ...

وتصدّى الإمام (عليه الصلاة والسلام) لمناقشة المنتمين إلى الأفكار الدخيلة، والرد على الزنادقة والماديين والملحدين، مباشرة أو عن طريق تلاميذه... ويقول أصحاب هذه النظرة أيضاً إن الإمام (عليه الصلاة والسلام)  وحرصاً على استمرار هذا المشروع العلمي  اضطر إلى عدم التدخل في السياسة، فلم يقدِم على أي عمل سياسي، بل وأكثر من ذلك فإنه سلك طريقاً يتماشى مع سياسة خلفاء زمانه لاسترضائهم، ولاستبعاد أية شبهة يمكن أن تحوم حول نشاطه. لذلك لم يجابههم، ومنع أيضاً أن يجابههم أحد. وقد تستلزم الظروف أن يذهب إليهم وينال جائزتهم وحظوتهم، وإن حدث أن أساء الحاكم به الظن  نتيجة حدوث حركة ثورية أو تهمة لفّقها نمّام  يتجه الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى استمالة الحاكم ومجاملته.

... هذه نظرة تصور الإمام عالماً، باحثاً، وأستاذاً كبيراً انتهل من بحر علمه أبو حنيفة ومالك ولكنه بعيداً كل البعد عن كل مقاومة لعدوان السلطة على الدين، وعن كل ما تتطلبه مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام السلطان الجائر...

كان بعيداً كل البعد عن الثوار من أمثال: زيد بن علي ومحمد بن عبد اللَّه والحسين بن علي شهيد فخ، بل عن الجنود المقاتلين من هؤلاء الثوار، ولم يكن يبدي أي رد فعل تجاه ما يحل بالمجتمع الإسلامي، ولا يكترث بما كان يكتنزه المنصور من أموال طائلة، ولا بما كان يعاني منه أبناء رسول اللَّه في جبال طبرستان ومازندران، وفي رساتيق العراق وإيران من جوع، بحيث لا يجدون ما يسدون رمقهم... ولا يهتم بما كان يتعرض له أتباعه من قتل وتعذيب وتشريد وهم صفر اليدين من كل متاع يتنعم به الأفراد العاديون من أبناء المجتمع آنذاك!

هذه هي صورة الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) كما يرسمها أصحاب النظرة الأولى».

النظرة الثانية

يحملها أولئك الذين لا يعترفون بإمامة الصادق، وهي نظرة متحاملة على الإمام ترى أنه (عليه الصلاة والسلام) وقف تجاه ما كان يحيق بالمجتمع من ظلم، موقف عدم إكتراث.

فالمجتمع في زمانه كان يضج بالمظالم الطبقية والطغيان السياسي والسيطرة المقيتة على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم، وأكثر من ذلك على عقولهم ونفوسهم وتفكيرهم ومشاعرهم. حتى لم تعد الأمة تتمتع بأبسط الحقوق الإنسانية، بما في ذلك القدرة على الانتخاب. مقابل هذا كان الطواغيت يتلاعبون بمقدرات الناس كيفما شاؤوا، ويبنون القصور الفارهة، مثل قصر الحمراء جوار آلاف الخرائب التي يعيش فيها البؤساء من عامة الشعب.

في مثل هذا المجتمع الملي‏ء بألوان التعسف والاضطهاد يتجه الصادق إلى البحث والدراسة وتربية الطلبة، ويصب اهتمامه على تخريج الفقهاء والمتكلمين!.

هذه النظرة التي تتلاقى مع نظرة المستشرقين ودورهم في تشويه صورة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)؛ هؤلاء المستشرقون الذين جاؤوا لدراسة وتحقيق الدين والتاريخ الإسلامي، ولكن في الحقيقة جاؤوا ليكيدوا للإسلام قصداً عن سابق علم واختيار، أو عن غير قصد؛ حيث إنهم سطحيون في بحثهم، ومتسرعون في حكمهم.

يقول القائد (دام ظله)

«... والنظرة الثانية أيضاً واهية بالدرجة نفسها وغير علمية. إنها تشبه أحكام المستشرقين المنطلقة من غرض أو جهل، ومن روح مادية محضة لا تنسجم إطلاقاً مع طبيعة الأحداث الإسلامية.

ولقد شاهدنا تلك الأحكام الفجّة التافهة التي تصدر عن بعض المستشرقين تجاه الإسلام وأئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، كقول أحدهم عن الإمام الحسن المجتبى أنه باع الخلافة بالمال! وقضى عمره بين العطر والمرأة والترف!

وقول مستشرق آخر: إن الإسلام نقل المجتمع من مرحلة الرقيّة إلى مرحلة الاقطاع!

والنظرة الثانية التي نتحدث عنها تشترك مع أقوال هؤلاء المستشرقين في السطحية والتسرع والمنطق المادي...».

النظرة الصحيحة

يقول القائد (دام ظله)

«... النظرية الثالثة (الواقعية): والآن نبدأ بالنظرة الثالثة بشأن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وهي نظرة يمكن أن يستنبطها كل ثاقب نظر بالرجوع إلى المصادر والمراجع. وهذا الاستنباط لا يختص بحياة الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وحده، بل يشمل كل أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، مع الفارق في خصائص عمل كل منهم حسب ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا الاختلاف في الخصائص لا يتنافى مع وحدة روح العمل المشترك وحقيقته ومع وحدة الهدف والمسير.

من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)، علينا أولاً أن نبين فلسفة الإمامة...».

إن النظرة الصحيحة إلى الأئمة تعرف من خلال معرفة فلسفة الإمامة ومعنى الإمامة ومن ثم المنهج العام للأئمة (عليهم الصلاة والسلام).

فلسفة الإمامة (امتداد للنبوة)

يقول سماحة القائد (دام ظله)

«... من أجل أن نفهم طبيعة المسيرة العامة لحياة الأئمة (من وفاة الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) حتى وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه الصلاة والسلام) ) علينا أولاً أن نتبين فلسفة الإمامة. التيار الذي عرف في مدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) باسم الإمامة، والذي تتكون عناصره الأصلية من أحد عشر شخصاً توالوا خلال قرنين ونصف القرن تقريباً، إنما هو في الواقع امتداد للنبوة.

فالنبي يبعثه اللَّه سبحانه بمنهج جديد للحياة، وبعقيدة جديدة، وبمشروع جديد للعلاقات البشرية، وبرسالة إلى الإنسانية. ويطوي حياته في جهاد مستمر، وجهد متواصل، ليؤدي مهمّة الرسالة الملقاة على عاتقه قدر ما يسمح له عمره المحدود.

وعملية الدعوة يجب أن تستمر بعده؛ كي تبلغ الرسالة أعلى الدرجات المتوخاة في تحقيق الأهداف.

ويجب أن يحمل أعباء المواصلة من هو أقرب الناس إلى صاحب الرسالة في جميع الأبعاد، كي يبلغ بالأمانة إلى محطة آمنة وقاعدة رصينة ثابتة مستمرة.

هؤلاء هم الأئمة وأوصياء النبي، وكل الأنبياء العظام وأصحاب الرسالات كان لهم أوصياء وخلفاء.

ومن أجل أن نعرف مهمة الإمام (عليه الصلاة والسلام)، لا بد أن نعرف مهمة النبي‏"صلى الله عليه وآله". والمهمّة يبينّها القرآن الكريم إذ يقول:

«لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط»([1]).

هذه إحدى الآيات التي تبين علّة النبوة، وتبين من جهة أخرى مهمة الأنبياء.

فالأنبياء قد بعثوا لبناء مجتمع جديد، ولاقتلاع جذور الفساد، ولإعلان ثورة على جاهلية زمانهم، وتخليص مجتمعاتهم.

وعملية التغيير هذه يعبّر عنها الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في مطلع استلام مهام حكومته بقوله:

«... حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم...»([2]).

«... إلا أن أقيم حقاً وأدفع باطل»([3]).

إنها عملية صناعة مجتمع على أساس التوحيد والعدل الاجتماعي وتكريم الإنسان، وتحريره، وتحقيق المساواة الحقوقية والقانونية بين المجموعات والأفراد، ورفض الاستغلال والاستبداد والاحتكار، وافساح المجال للطاقات والكفاءات الإنسانية، وتشجيع التعلّم والتعليم والفكر والتفكير...

إنها عملية إقامة مجتمع تنمو فيه كل عوامل سمو الإنسان في جميع الأبعاد الأساسية، وتدفع الكائن البشري فيه باتجاه مسيرته التكاملية على ساحة التاريخ.

هذه هي المهمة التي بعث اللَّه الأنبياء من أجلها، ونستنتج من ذلك أن الإمامة، باعتبارها امتداداً لمهام النبوّة تتحمَّل نفس هذه الأعباء... هدف الإمامة هو نفس هدف النبوة، والطريق هو الطريق، أي ايجاد مجتمع إسلامي عادل، والسعي لصيانة مسيرته الصحيحة».

معنى الإمامة

ينطلق سماحة القائد للحديث عن معنى الإمامة من خلال حديثه عن الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام)، فيقول (دام ظله):

«... انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) من أسلوبه الجذاب، حيث يقول:

«ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده».

إلى أن يقول الإمام (عليه الصلاة والسلام):

«وعن إمامك الذي كنت تتولاه»([4]).

فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة أيضاً، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمة (عليهم الصلاة والسلام). وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض ولكن هاتين القضيتين، الولاية والإمامة، على لسان الأئمة أمر واحد، وكلمة الإمام المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفّل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي (صلي الله عليه وآله وسلم).

الناس في إيران وفي الفترة السابقة لعهد الإمام الخميني (قدس سره) لم يكونوا يعرفون المعنى الحقيقي للإمام ولكن الشعب اليوم أصبح يفهم معناه جيداً، فنحن نقول إن الإمام هو قائد المجتمع، أي ذلك الإنسان الذي نتعلّم منه ديننا وتكون بيده أيضاً إدارة دنيانا بحيث تكون إطاعته في أمور الدين وأمور الدنيا واجبة علينا. ولحسن الحظ أن هذا المعنى (للإمام) قد ركز في أذهان الناس بعد الثورة.

في عالم التشيع تعرضت هذه القضية (دور الإمام) إلى فهم خاطى‏ء، ففي السابق كان الناس يتصورون أن الإمام يتفرد بحكم المجتمع، وهو الذي ينبغي أن يدير أمور الحياة بيده وبجهده الذاتي، فيحارب ويصالح ويعمل وينفذ كل طلب بنفسه، فهو يأمر الناس وينهاهم من جهة وفي نفس الوقت هو الذي ينفّذ هذه الأمور وحده لإصلاح دينهم!

واليوم أيضاً تعرّضت هذه القضية للفهم الخاطى‏ء بحيث أصبحنا نعتبر أن الإمام في عصر الغيبة ليس إلا عالماً دينياً، وهذا بالطبع تصور خاطى‏ء، لفظة الإمام تعني المتقدم والقائد. فالإمام الصادق‏(عليه الصلاة والسلام) عندما كان يخاطب الناس في منى وعرفات بقوله:

«أيها الناس إن رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) كان الإمام»([5]).

كان يشير إلى أن الإمام هو ذلك الإنسان الذي يتولى أمور الناس الدينية والدنيوية.

في المجتمع الإسلامي أيام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) كان هذا المعنى يفهم بشكل خاطى‏ء، لأن إمامة المجتمع وهي إدارة شؤون حياة الناس، قد سلبت من أهلها وأعطيت إلى من لا أهلية لهم بها حيث كانوا يلقبون أنفسهم بالأئمة ويعرفهم الناس بذلك.

فالناس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره، وقد قبلوهم على أساس أنهم قادة المجتمع وحكام الناس.

وهكذا عندما كان الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) يقول إنك لتسأل عن إمامك في القبر، كان يشير بذلك إلى أنك هل انتخبت الإمام المناسب والصحيح؟ وهل أن ذلك الشخص الذي يحكمك، ويقود المجتمع الذي تعيش فيه هو حقاً إمام؟ وهل هو ممن رضي اللَّه عنه؟ لقد كان الإمام‏(عليه الصلاة والسلام) بهذا الكلام يوقظ الناس ليجعل هذه القضية في نفوسهم حساسة...».

فهدف الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) هو هدف الرسول "صلى الله عليه وآله" وهو تشكيل الحكومة الإسلامية، كما يؤكِّد هذا المعنى الإمام القائد:

«... إذن فالرسول "صلى الله عليه وآله" نهض من أجل تأسيس حكومة حقّة حيث بُني النظام الإسلامي وتأسس آنذاك نتيجة نضال وجهاد الرسول "صلى الله عليه وآله"، ومن بعدها جاهد الرسول "صلى الله عليه وآله" أيضاً من أجل الحفاظ على هذا النظام واستمراره، ولا يُعقل أن يغفل الإمام الذي يأتي من أجل متابعة مسيرة الرسول "صلى الله عليه وآله" عن مثل هذا الموضوع المهم...».

المنهج العام للأئمة (عليهم الصلاة والسلام)

يقول القائد الخامنئي (دام ظله)

«... كان أئمة الشيعة (عليهم الصلاة والسلام) يتجهون  كالنبي "صلى الله عليه وآله"  نحو هذا الهدف نفسه، نحو إقامة نظام عادل إسلامي بنفس الخصائص وعلى نفس المسير. وفي حالة قيام هذا النظام تتجه الجهود نحو صيانة مسيرته واستمرارها.

ما الذي تتطلبه إقامة نظام اجتماعي أو مواصلة مسيرة هذا النظام؟

تتطلب أولاً أيديولوجية موجّهة وهادية ينبثق عنها ذلك النظام وتصوغه بصياغتها، ثم تحتاج ثانياً إلى قوة تنفيذية تستطيع أن تشق الطريق وسط الصعاب والمشاكل والعقبات نحو تحقيق الهدف.

نعرف أن أيديولوجية الأئمة هي الإسلام، والإسلام رسالة البشرية الخالدة، رسالة تحمل في مضمونها عناصر بقائها وخلودها.

وبملاحظة هذه الأمور، نستطيع بسهولة أن نفهم المنهج العام لأئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) وأوصياء النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله"، هذا المنهج ذو جانبين متلازمين: الأول يرتبط بالعقيدة، والثاني بتوفير القدرة التنفيذية والاجتماعية.

ففي الجانب الأول

تتجه جهودهم وهممهم إلى نشر مفاهيم الرسالة وبلورتها وترسيخها، والكشف عن الانحرافات التي تصدر عن المغرضين والمنحرفين، وبيان الأطروحة الإسلامية لما يستجد من أمور، واحياء ما اندثر من معالم الرسالة بسبب اصطدامها مع مصالح ذوي القدرة والنفوذ، وتوضيح ما خفي على الأذهان العادية من كتاب اللَّه وسنّة نبيه.

فمهمّة الجانب الأول تتلخص إذن بصيانة الرسالة الإسلامية حيّة بناءة متحركة على مرِّ الأجيال.

وفي الجانب الثاني

كانوا يسعون، وفقاً لما تقتضيه الظروف السياسية والاجتماعية والعالمية في المجتمع الإسلامي، إلى إعداد المقدمات اللازمة لاستلام زمام قيادة الحكم في المجتمع بأنفسهم بشكل عاجل، أو التمهيد لكي يستلمها على المدى البعيد من يواصل مسيرتهم في المستقبل.

هذا موجز هدف حياة الأئمة الأطهار (عليهم الصلاة والسلام)، وهذه هي الخطوط العامة لأهدافهم، من أجلها عاشوا، ومن أجلها استشهدو».

من أهدافهم الحكومة الإسلامية

إن كثيراً من الناس يظن ظنّاً خاطئاً، أن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) هم ممَّن تركوا الدنيا وزهدوا بها وبمشاكلها، بحيث يلجأون إلى صومعتهم ليتعبّدوا للَّه تعالى، ويدعوه، غير آبهين بالمجتمع وما يحصل فيه؛ ولا يهمُّهم إلا إلقاء العلم الإسلامي؛ أما تطبيق هذا العلم في الواقع؛ بحيث يؤدي إلى تشكيل حكومة إسلامية؛ فهذا لم يسعوا إليه.

السيد القائد (دام ظله) يتحدَّث عن هذا الموضوع ويؤكِّد أن أهداف الأئمة أبعد من هذا النظر الضيِّق، يقول سماحته:

«... ماذا نقصد عندما ننسب المواجهة السياسية أو النضال السياسي للأئمة (عليهم الصلاة والسلام)؟

إن المقصود من هذا الكلام أن جهاد الأئمة لم يكن جهاداً علمياً من قبيل النزاعات التي تدور بين الكلاميين والتي نشاهدها عبر التاريخ، مثل النزاع بين المعتزلة والأشاعرة وغيرهم. فلم يكن هدف الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من اجتماعاتهم العلمية وحلقات دروسهم وأحاديثهم نقل المعارف الإسلامية والأحكام فقط حتى يثبتوا مدرستهم الكلامية الفقيهة، بل كان هدفهم يفوق هذا.

... إن مواجهة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كانت مواجهة ذات هدف سياسي؛ فما هو هذا الهدف إذن؟

الهدف هو عبارة عن تشكيل حكومة إسلامية، وبحسب تعبيرنا حكومة علوية. فكان سعي الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ومنذ وفاة الرسول "صلى الله عليه وآله" وحتى عام 260ه هو إيجاد وتأسيس حكومة إلهية في المجتمع. ولا نستطيع أن نقول إن كل إمام كان بصدد تأسيس حكومة في زمانه وعصره، ولكن هدف كل إمام كان يتضمن تأسيس حكومة إسلامية مستقبلية، وقد يكون المستقبل البعيد أو القريب...

إذن هدف تأسيس الحكومة كان دائماً نصب أعين الأئمة (عليهم الصلاة والسلام). لكن الزمن المنشود لتأسيسها وقيامها يختلف من إمام إلى آخر.

إن كل الأعمال التي كان يقوم بها الأئمة (عليهم الصلاة والسلام)، بغض النظر عن الأمور المعنوية والروحية التي تهدف إلى تكامل ورقي النفس الإنسانية وقربها إلى اللَّه تعالى، كانت أعمالاً تهدف إلى تأسيس هذه الحكومة الإسلامية، فنشاطاتهم في نشر العلم والمناظرات التي كانوا يقومون بها ضد خصومهم في العلم والسياسة ومواقفهم إلى جانب جماعة ووقوفهم في وجه أخرى كلها في هذا المجال، وهو تأسيس الحكومة الإسلامية».

__________________________________

 ([1]) سورة الحديد، الآية/25.

([2]) نهج البلاغة، الخطبة 16.

([3]) نهج البلاغة، ج‏1، من خطبة له × عند خروجه لحرب أهل البصرة.

([4]) الكافي، ج‏8، ص‏73.

([5]) الكافي، ج‏4، ص‏466.

الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) للناس جميعاً

كما أن الإسلام هذا الدين العظيم للناس كافة، وكما أن القرآن الحكيم للناس كافة، وكما أن الرسول محمَّداً (صلي الله عليه وآله وسلم) للناس كافة، كذلك أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) هم للنّاس كافة، وليسوا لفئةٍ دون أخرى.

«وما أرسلناك إلا كافة للناس»([1]).

والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) أيضاً ليسوا مختصين بنخبة من الناس أو بشريحة دون أخرى وهذا ما يظهر من سيرة وأقوال الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) وكمثال على ذلك نشاهد الإمام السجّاد (عليه الصلاة والسلام) ينوِّع خطاباته إلى الجهات المخاطبة، يقول سماحة القائد (دام ظله):

«... ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) الواردة في كتاب «تحف العقول» حيث نشاهد عدّة أنواع من الأسلوب المذكور والتي تشير إلى طبيعة الجهات المخاطبة. أحد تلك الأنواع، البيانات الموجّهة لعامة الناس والتي يظهر فيها أن المستمع ليس من الجماعة المقرّبة والخاصة للإمام أو من الكوادر التابعين له...

فالخطاب يبدأ هكذا: {أيها الناس، اتقوا اللَّه واعلموا أنكم إليه راجعون}([2]).

ثم يتطرق الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى العقائد الإسلامية ويوجِّه الناس إلى ضرورة فهم الإسلام الصحيح... يريد بذلك ايقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه...».

البكاء

هل البكاء علامة ضعف الإنسان؟ وإذا كان كذلك، فهل يعني هذا أن شيعة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) الذين يبكون مظلوميتهم وغربتهم وخاصة غربة ومظلومية سيد الشهداء ومن كان معه في كربلاء  ضعفاء؟

هل البكاء يعني الانهزام النفسي؟

في الحقيقة إن المتأمِّل في حقيقة البكاء، يرى أنه على أنواع من حيث دوافعه، فقد يكون البكاء علامة ضعف، وقد يكون علامة قوّة، وهذا ما دعا إليه أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

يقول القائد (دام ظله)

«... نجد أن الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) استمر في جهاده، وذلك في إقامة مجالس العزاء في منى. وحتى أنه أوصى أن يقام له العزاء، ولمدّة عشرة سنوات في منى.

«تندبني النوادب بمنى عشر سنين».

فهذا استمرار للجهاد. لماذا البكاء على الإمام الباقر في منى، وما هو الهدف منه؟ فمن خلال حياة الأئمة (عليه الصلاة والسلام) نلاحظ التأكيد والحث على مسألة البكاء. ولقد ظهر هذا التأكيد في الروايات التي ذكرت فضل وأهميّة البكاء على ما جرى في حادثة كربلاء.

ولدينا روايات صحيحة ومعتبرة في هذا المجال ولا أذكر أنه قد أكّد على البكاء في حادثة أخرى غيرها، إلا في زمن الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام)، عندما عزم الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام) على الرحيل واقتربت منيته قام بجمع أهله ليبكوا عليه، فهذه الحركة لها دلالة ومعنى سياسياً يتعلق بالفترة التي سبقت سفره وشهادته (عليه الصلاة والسلام).

فقط في زمن الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) أمر بالبكاء وحتى أنه أوصى بعد شهادته، ووضع 800 درهم من ماله لإنجاز هذه الوصية في «منى». «فمنى» تختلف عن منطقة عرفات والمشعر وحتى مكة. ففي مكة الناس متفرقون وكل واحد منهم مشغول بعمله وعرفات لا يكون المكوث فيها إلا من الصباح حتى وقت (بعد الظهر) وعندما يأتي الناس إلى عرفات يأتون بعجلة ويسرعون بالرحيل بعد الظهر أيضاً؛ وذلك ليلتحقوا بأعمالهم.

وأما المشعر فلا يدوم المكوث فيه إلا عدّة ساعات، فهو ليس إلا ممرّاً في طريق منى.

أما في منى فالمكوث يدوم فيه ثلاث ليالٍ متتالية. فقليل من الناس خلال هذه الليالي الثلاث من يذهب إلى مكة ويرجع ثانية.

بل أكثر الناس يمكثون الأيام الثلاثة وبصورة مستمرة في منى، وخاصة في ذاك الزمان ومع بساطة الوسائل المتوفرة، حيث يجتمع الآلاف من الناس الذين يأتون من جميع أنحاء العالم ويمكثون ثلاث ليالٍ، وكل شخص يعلم أن هذا المكان هو المناسب لإيصال أي نداء إلى العالم، وخاصة في تلك الأيام التي تنعدم وسائل الأعلام كالراديو والتلفزيون والجرائد وغيرها من الوسائل الأخرى، فعندما يبكي جماعة على آل الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) فمن المؤكد أن يسأل الجميع عن سبب البكاء. فلا أحد، عادة، يبكي على ميّت عادي وبعد مرور سنين طويلة. إذن فهل ظُلم؟ أو قُتِل؟ ومن الذي ظلمه؟ ولماذا ظُلم؟ تُطرح أسئلة كثيرة من هذا القبيل. إذن فهذه (أي الأمر بالبكاء) حركة جهادية دقيقة ومخطط لها...».

أيها الموالون لا تيأسوا

إذن البكاء الذي دعا إليه أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ليس ضعفاً، إنما هو قوّ وجهاد، وإظها للمظلومية بأسلوب الحزن والبكاء. فهم لا يدعون إلى اليأس والانهزام النفسي، بل إلى الأمل والطمأنينة إلى مستقبل زاهر يحكمه الإسلام الأصيل، إسلام محمد وعلي وأهل بيته (عليهم الصلاة والسلام).

يقول القائد (دام ظله) مشيراً إلى دور أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) في تقوية قلوب شيعتهم وتأميلها بالمستقبل:

«ومع كل ذلك، يتجنّب الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) أي مواجهة حادة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم...

ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام (عليه الصلاة والسلام) من توضيح «حركة الإمامة» لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق، والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد السبل التي مارسها الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) مع أتباعه. وهو يشير أيضاً إلى تقويم الإمام (عليه الصلاة والسلام) للمرحلة التي يعيشها من الحركة.

يقول الحكم بن عيينة

«بينا أنا مع أبي جعفر (عليه الصلاة والسلام) والبيت غاص بأهله، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا ابن رسول اللَّه ورحمة اللَّه وبركاته. ثم سكت فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة اللَّه وبركاته.

ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام.

ثم أقبل بوجهه على الإمام (عليه الصلاة والسلام) وقال: يابن رسول اللَّه أدنني منك جعلني اللَّه فداك. فواللَّه إني لأحبكم وأحب من يحبكم، وواللَّه ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في الدنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، وواللَّه ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. واللَّه إني لأحلّ حلالكم وأحرّم حرامكم، وانتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني اللَّه فداك؟

فقال الإمام (عليه الصلاة والسلام): إليّ إليّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال‏(عليه الصلاة والسلام): «أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له أبي (عليه الصلاة والسلام): «إن تمت ترد على رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينك، وتُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش ترى ما يقر اللَّه به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى».

قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: اللَّه أكبر يا أبا جعفر، إن أنا متّ‏ُ أرد على رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقر عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين، لو قد بلغت نفسي ها هنا. وإن أعش أرى ما يقر اللَّه به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره وقام فودّع وخرج والإمام ينظر إليه ويقول: «من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا»([3]).

مثل هذه التصريحات، تزكي روح الأمل في قلوب تعيش جو الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادلة».

لا تكفي العاطفة

إن محبَّة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) مطلوبة وهذا ما أكّده القرآن الكريم:

«قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى»([4]).

ولكن في نفس الوقت يحدِّد القرآن الحكيم معنى للمحبَّة تتجاوز القلب إلى شي‏ء آخر وهو الاتباع والعمل.

«إن كنتم تحبّون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه...» ([5]).

فلا يكفي حبّ اللَّه تعالى دون الاتباع، ولا يكفي حب الرسول (صلي الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم الصلاة والسلام) دون الاتباع أيضاً، يقول القائد (دام ظله): «... وقد صوّر الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) وضع الإمام الرابع ودوره الرائد يقول (عليه الصلاة والسلام):

«ارتدّ الناس بعد الحسين (عليه الصلاة والسلام) إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول اللَّه(صلي الله عليه وآله وسلم) ويقول: «كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء»([6]).

هذه الرواية تصوِّر حالة المجتمع الإسلامي بعد مقتل الحسين‏(عليه الصلاة والسلام)، إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الإسلامي إبان وقوع هذه الحادثة، فمأساة كربلاء كانت مؤشراً على هبوط معنويات هذا المجتمع عامة، حتى شيعة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)؛ هؤلاء الشيعة الذين اكتفوا بارتباطهم العاطفي بالأئمة (عليهم الصلاة والسلام)، بينما ركنوا عملياً إلى الدنيا ومتاعها وبريقها... ومثل هؤلاء كانوا موجودين على مرِّ التاريخ، وليسوا قليلين حتى يومنا هذا.

فمن بين الآلاف من مدّعي التشيّع في زمن الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) بقي ثلاثة فقط على الطريق! ثلاثة فقط لم يرعبهم الإرهاب الأموي، ولا بطش النظام الحاكم، ولم يثن عزمهم حب السلامة وطلب العافية، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات.

هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجر كالرعاع وراء إرادة الحاكم الظالم، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيى بن أم الطويل في مسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، معلناً براءته منهم... ويستشهد بما قاله إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) وأتباعه، لمعارضي زمانه:

{كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء}([7]).

أراد ابن أم الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاء لأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين: جبهة الرساليين الملتزمين، وجبهة الخلود إلى الأرض والانحطاط إلى مستوى الأماني الرخيصة والانشدادات المادّية التافهة، وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهية. والإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) عبّر عن هذا الانفصال بين الجبهتين بقوله: «من لم يكن معنا كان علين» أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين، ولا معنى للحياد في هذا الانتماء.

إن يحيى بن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة، وبين أولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالإمام...».

ويقول (دام ظله) أيضاً حول هذه النقطة في حديثٍ آخر:

«... نحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً (أي زمن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ) كانوا يفسرون الولاية بالمحبة، وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة جعفر بن محمد (عليه الصلاة والسلام)، فهل يصح هذا؟ فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي الشي‏ء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبّة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال (عليه الصلاة والسلام): «ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت  ومن الذي ينكر ويرد محبّة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) في العالم الإسلامي  وفرقة ورعت ووقفت»([8]).

وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذه قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة...».

_________________________________

 ([1]) سورة سبأ، الآية/28.

([2]) تحف العقول، ص‏249.

([3]) الكافي، ج‏8، ص‏7775.

([4]) سورة الشورى، الآية/23.

([5])  سورة آل عمران، الآية/31.

([6])  بحار الأنوار، ج‏46، ص‏144، ط الدار الإسلامية.

([7]) سورة الممتحنة، الآية/4.

([8])  بصائر الدرجات، ص‏264.

الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) والحكام‏

الإمام القائد (دام ظله) يتحدّث عن هذا الجانب، بإشارته إلى رواية مهمّة، يقول (دام ظله):

«... الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلَّمه صندوقاً... تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم... وتذكر أن فيه سلاح رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) وقال له:

«يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك».

ثم قال (عليه الصلاة والسلام):

«أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علم»([1]).

لعلّ هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) سلَّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلَّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي)».

فتسليم الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) لابنه الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) السلاح إلى جانب الوثائق العلمية، دلالة على أن الأئمة ليسوا علماء فحسب، بل هم أيضاً مجاهدون وتاريخهم يحكي لنا عن ذلك، وإن اختلفت صور جهادهم باختلاف ظروفهم. ويعطي القائد مثالاً عن جهاد الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام)، الذي يحسبه الكثيرون أنه إمام دعاء ومناجاة وعلمٍ فقط.

يقول القائد (دام ظله)

«... لم أرَ في حياة الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة كانت تقتضي ذلك  كما ذكرنا  لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) وبعده من الأئمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّر للإمام الباقر(عليه الصلاة والسلام) فرصة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله.

في مواقف نادرة نلمس من الإمام (عليه الصلاة والسلام) رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس على مستوى المواجهة، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ...

ثمّة وثيقة... هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى عبد الملك بن مروان بعد أن أرسل الثاني رسالة يعيّر فيها الإمام بزواجه من أمته المحرّرة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للإمام (عليه الصلاة والسلام) أنه محيط بكل ما يفعله حتى في أموره الشخصية، كما أراد أيضاً أن يذكّر الإمام بقرابته منه طمعاً في استمالته، والإمام (عليه الصلاة والسلام) في رسالته الجوابية يوضح رأي الإسلام في هذه المسألة. ويؤكد أن امتياز الإيمان والإسلام يلغي كلّ‏َ امتياز آخر. ثم بأسلوب كناية في غاية الروعة يشير الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى جاهلية آباء الخليفة، بل لعله يشير أيضاً إلى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذ يقول له:

«فلا لؤم على امرى‏ء مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية»([2]).

وحين قرأ الخليفة الأموي عبارة الإمام (عليه الصلاة والسلام) أدرك معناها تماماً، كما أدرك المعنى ابنه سليمان إذ قال له: «يا أمير المؤمنين لسَدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين».

والخليفة بحنكته السياسية يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: «يا بني لا تقل ذلك فإنها ألسن بني هاشم التي تغلق الصخر وتغرق من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضّع الناس»([3]).

ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الإمام (عليه الصلاة والسلام) على طلب تقدم به عبد الملك بن مروان. كان عبد الملك قد أبلغه أن سيف رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) عند الإمام. فبعث إليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه.

فكتب إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام):

«أما بعد فإن اللَّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: «إن اللَّه لا يحب كل خوان كفور، فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية...»([4]).

الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) ووعاظ السلاطين‏

صحي أن العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، إلا أن هذا السلك يدخله أحياناً من ليس بأهلٍ أن يتّبع، لأنه لا يكون للمستضعفين، بل يكون بوقاً للحكّام المستكبرين.

وهؤلاء كانوا على مرِّ التاريخ، ولقد ابتلي بهم أئمة أهل البيت بلاءً عظيماً، وواجههم الأئمة مواجهة ساخنة، لخطورتهم على عامَّة الناس؛ إذ أن الناس تبهرهم ظواهر الأمور ولا يتطلّعون إلى عمق القضايا، وروح الحقائق.

يقول القائد (دام ظله)

«... بالنسبة للزهري وأمثاله فقد وقف الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) موقفاً حازماً وقاسياً جدّاً حيث يلحظ هذا من خلال الرسالة التي وجهها إليه، وقد يتساءل البعض إلى أي مدى يمكن أن تعكس «الرسالة» هذا الموقف الشديد، ولكن بالالتفات إلى شدّة اللهجة في مضمون هذه الرسالة الموجهة إلى نفس الزهري وكذلك بالنسبة للجهاز الحاكم وإنها لا تنحصر بمحمد بن شهاب بل كانت تقع في أيدي الآخرين وتنتقل عبر الألسن وتبقى عبر التاريخ...

بالالتفات إلى هذه الأمور، يمكن أن ندرك حجم الضربة التي وجهت للقداسة الشيطانية والاصطناعية لمثل أولئك العلماء. لقد كانت الرسالة خطاباً لمحمد بن شهاب ولكنها نالت من أشخاص آخرين على شاكلته. ومن المعلوم أن هذه الرسالة عندما تقع بأيدي المسلمين وبالأخص شيعة ذلك العصر وتنتقل عبر الأيدي فأي سقوط لهيبة هؤلاء ومكانتهم في الأعين؟

وهنا ننقل مقاطع من هذه الرسالة، في البداية يقول (عليه الصلاة والسلام):

«كفانا اللَّه وإياك من الفتن ورحمك من النار»([5]).

في الجزء الثاني من هذه الجملة نجده يخصه بالخطاب، لماذا؟ لأن كل إنسان يتعرض للفتن حتى الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) بدون أن يسقط فيها، ومحمد بن شهاب يتعرض للفتنة ولكنه سقط، أما بالنسبة لنار جهنم فإنها لا تقترب من الإمام زين العابدين (عليه الصلاة والسلام) ولهذا خصّ الكلام هنا الزهري.

وابتداء الرسالة بمثل هذه اللهجة دليل على تعامل الإمام معه بطريقة تحقير ومعاداة.

ثم يقول (عليه الصلاة والسلام):

«فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك...» ([6]).

ويذكر جملة من آيات القرآن ويقول أن اللَّه تعالى لن يرضى أبداً عن قصورك وتقصيرك لأنه سبحانه قد أمر العلماء بتبيين الحقائق للناس:

«لتبيننه للناس ولا تكتمونه»([7]).

وبعد هذه المقدمة يحمل عليه بطريقة قاسية جداً بقوله (عليه الصلاة والسلام):

«واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت واجابتك له حين دعيت...».

والجملة المؤثرة جداً في هذه الفقرة عندما يقول (عليه الصلاة والسلام):

«أو ليس بدعائه إياك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيّهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم».

ثم يقول (عليه الصلاة والسلام):

«فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم»([8]).

في هذه الرسالة الشديدة اللهجة والبليغة يفضح الإمام السجاد تلك الحركة السياسية التي استغلت الفكر والعلم.

فأولئك الذين قبلوا مهادنة النظام أصبحوا مطالبين بالإجابة عن السؤال الذي بقي في المجتمع الإسلامي وسوف يبقى عبر التاريخ...».

الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) والشعراء

لقد كان الشعراء في زمن الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) بمثابة الإعلام في عصرنا، فلهم التأثير القوي على الرأي العام، ومنهم الشعراء المخلصون بكلمتهم لأهل البيت، ومنهم من باع دينه وضميره ولسانه للحكّام الفاسدين الظلمة.

ومن الشعراء الشجعان، الذين يقولون الكلمة الحقّة ولو على حساب مصالحهم الفرزدق، يقول القائد (دام ظله):

«... ويمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجاً آخر (للتحدي والقوة والثورة)، فقد نقل المؤرخون والمحدثون هذه الحادثة (ما ملخصها):

عندما قدم هشام بن عبد الملك قبل فترة خلافته إلى الحج وأثناء الطواف أراد أن يتقدم لاستلام الحجر الأسود ولكن العدد الهائل والازدحام الكبير منعه من الوصول.

رغم محاولته المتكررة مع أنه كان ابن الخليفة ومحاطاً بالمرافقين والحواشي ولكن الناس كانوا يمرّون من حوله بدون اكتراث. فيئس من استلام الحجر وقعد جانباً منتظراً انصراف الناس، وكان أصحابه جالسين حوله.

وفي هذه الأثناء يأتي رجل يعلوه الوقار والهيبة سيماه سيماء الزاهدين ووجهه وجه الملكوتيين يسطع من بين الحجاج كالشمس فتنحّى الناس له جانباً ليمر من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود فيقبّله ثم يرجع للطواف مجدّداً.

فصعب ذلك على هشام كثيراً، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يعطيه قيمة بل يبعدونه بالركل والمطاحنة، ثم من جانب آخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الأسود بكل هدوء.

فسأل غاضباً من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنه علي بن الحسين‏(عليه الصلاة والسلام) ولكن لئلا يغضب منهم لم يقولوا شيئاً لأنهم يعلمون بوجود العداء المتجذر بين بني أميّة وبني هاشم فلم يريدوا أن يقولوا أن هذا كبير العائلة المعادية لكم والناس يظهرون له كل هذا الحب والاحترام لأنهم اعتبروا ذلك نوعاً من الإهانة لهشام.

كان الشاعر الفرزدق من المحبين لأهل البيت حاضراً هناك وقد رأى تجاهلهم وإنكارهم لعلي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) فتقدم قائلاً: أيها الأمير، هل تسمح لي بأن أعرّفك عليه.

فقال هشام: قل، فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشعرية التي قيلت بحق أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام)، وبدأها بهذا البيت:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته‏

والبيت يعرفه والحل والحرم‏

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله‏

بجدّه أنبياء اللَّه قد ختموا

وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السيوف على قلب هشام فغضب منه وطرده، من جانب آخر أرسل إليه الإمام (عليه الصلاة والسلام) مالاً فلم يقبله وقال: «ما قلته للَّه لم أرد منه مالاً...».

هذا مثال الشاعر المبدأي الذي لا يبيع دينه ولسانه، وهناك الشعراء الذين ينطبق عليهم قول اللَّه تعالى:

«والشعراء يتّبعهم الغاوون ء ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون ء وأنهم يقولون ما لا يفعلون...» ([9]).

يقول القائد (دام ظله) في هذا الصنف من الشعراء

«... كان شعراء بني العباس يحاولون إثبات حق الحكم لبني العباس استناداً إلى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون إلى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم، ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والإجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية، وللحجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير.

يذكر صاحب كتاب «العباسيون الأوائل» دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول: «... كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم إلى هذه الفئة أو تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبِّر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو الدليل على صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثر وأسلوب بليغ»([10]).

شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في إثبات حق العباسيين في الخلافة، باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الإرث لا ينتقل إلى أبناء البنت مع وجود الأعمام. فالخلافة بعد النبي من حقّ العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس.

قال مروان بن أبي حفصة:

أنّى يكون وليس ذاك بكائن‏                  لبني البنات وراثة الأعمام‏

وقال أبان بن عبد الحميد اللاحقي:

فأبناء عباس هـم يرثـونـــه‏  كما العمُ لابن العم في الإرث قد حجب‏

وقد كان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) يهاجمون الشعراء الداعمين والمادحين للظلمة، يقول القائد (دام ظله):

«اتجهت مدرسة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة لايقاظ ضمائرهم أو ضمائر أتباعهم من عامة الناس».

نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً: «امتدحت عبد الملك؟ قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ.

فتبسم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:

من لقلبٍ متيم مستهام      غير ما صبوةٍ ولا أحلام‏

وبهذه الميمية يضع الحد الفاصل بين الاتجاه العلوي والأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة...».

__________________________________

 ([1]) بحار الأنوار، ج‏46، ص‏229.

([2]) الكافي، ج‏5، ص‏345.

([3]) تحف العقول، الحرّاني، ص‏272، ط جماعة المدرسين قم.

([4]) المصدر نفسه، ص‏95.

([5]) بحار الأنوار، ج‏75، ص‏132.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) سورة آل عمران، الآية/187.

([8]) بحار الأنوار، ج‏75، ص‏132.

([9]) سورة الشعراء، الآيات/226225224.

([10]) العباسيون الأوائل، د. فاروق عمر، ص‏104.

الإمام علي (عليه الصلاة والسلام)

عندما يقف الإنسان أمام عليّ‏ٍ، يخضع ويخشع، وكفاه أن يقول فيه رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم):

«علي مع الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار».

عن الإمام عليّ‏ٍ (عليه الصلاة والسلام) يتحدَّث القائد بكلمات ترى فيها الشوق والحب والهيام والحزن، في ذكرى الشهادة قال القائد (دام ظله):

«... ويصادف اليوم الذكرى الدامية لضرب الرأس الشريف لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، هذه الليلة الحزينة... المظلمة في الكوفة، لن تتصوروا كيف كانت هذه المدينة في تلك الليلة. كل الناس كانوا أصحاب العزاء فقد رحل المواسي، والمؤنس، كان علي (عليه الصلاة والسلام) هو من يعزيهم في الماضي، ذاك الذي كتب يوماً إلى أحد ولاته:

«... أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر».

كان الإمام شريك الناس في كل آلامهم وهمومهم، مذكّراً في وصيته:

«اللَّه اللَّه في الأيتام».

كان (عليه الصلاة والسلام) السبّاق في رعاية الأيتام، فاليتيم أشد حاجة للعطف والحنان، محروم من تلك البسمة الأبوية العامرة بالمحبة، محروم من مداعبة أبيه له، فمن يملأ هذا الفراغ؟

علي (عليه الصلاة والسلام)، يسير ليلاً بين تلك المنازل التي كان يعرفها ويعرف أحوال أهلها، حاملاً إليهم الطحين والأرز والزيت، ومساعداً لهم، بإشعال التنّور أحياناً... ملاطفاً الأيتام، يجلسهم في حضنه، يلاعبهم كي لا يشعروا بالحزن والكآبة. عظمة علي (عليه الصلاة والسلام) معروفة ومشهورة في الحرب وساعات الوغى، لكن الأهم والأعظم مواساته وخدمته للأيتام والمحرومين، في دموعه المليئة عطفاً وحناناً... في تلك الليلة... في ليلة العشرين من شهر رمضان، انتظره الأطفال... الذين كان يجلسهم على ركبته ويمسح على رؤوسهم بكل لطف، يطعمهم بيده، انتظروا ذلك الرجل... لكنه لم يأتِ... في تلك الليلة عرفوا من هو... ولعلكم سمعتم بما جرى عندما طلب الطبيب المعالج للأمير (عليه الصلاة والسلام) إحضار الحليب لعله يدفع أثر السم كيف أن عشرات الأطفال الأيتام أتوا من كل أنحاء الكوفة يحمل كلّ منهم كوباً فيه حليب واندفعوا نحو منزل الإمام يريدون ردّ الجميل وشكره على محبته ورعايته وحنانه... ولعلكم سمعتم أيضاً عن ذلك العجوز الأعمى الذي كان في تلك الليلة يأن من عذاب الوحدة وألم الجوع فسأله بعضهم... فكيف كنت تصنع في الأيام السابقة؟ فذكر لهم بأن رجلاً كان يأتي إليه يواسيه ويطعمه بيده وأخبرهم بمواصفات ذاك الرجل... الذي ما كان سوى علي (عليه الصلاة والسلام)...

هذا الإنسان المتعدد الأبعاد والذي كان حقاً كما وصفه الرسول الأكرم(صلي الله عليه وآله وسلم):

«فإنه الصديق الأكبر والفاروق الأعظم يفرق بين الحق والباطل»([1]).

فكان الملجأ والحامي لكل من يشعر بالضعف والحاجة والوحشة هذا الإنسان الذي كان يقع مغشياً عليه في محراب العبادة من خشية اللَّه هو نفسه الحاكم الذي لم يتحمل وجود والٍ ظالم كمعاوية، وهو نفسه من وبّخ أحد الولاة وكان من أصحابه، لأنه أسرع في تلبية دعوة أحد الأشراف إلى الضيافة والولائم.

وهو الحافظ لبيت المال، بحيث أنه وفي الليلة الأولى لاستلامه الخلافة يطفى‏ء المصباح كي لا يصرف من بيت مال المسلمين، وكي ينبه بعض الصحابة المدّعين ويحذرهم من سوء أعمالهم.

هذا الإمام كان مظهراً للدفاع عن البشر وحقوق الإنسان واحترامه، وهذا هو الإسلام الذي يتجلى بالتوحيد بكل أبعاده الحيّة، وإكرام الإنسان وعزته، وروح الأخوّة بين جميع الناس.

ومن يخرج عن هذا النهج فلا يعدّ مسلماً حقاً، وإن لم يخرج ظاهراً، فإن قلبه لم يؤمن بعد باللَّه والقرآن إيماناً كاملاً.

ومن يكن أسيراً للآمال والأهواء والانجذاب نحو حياة الترف والوجاهة المليئة بالزبارج والزخارف ويطلب المسؤولية والسلطة والمال فقط ويرغب في المظاهر الفارغة وإظهار القوة والقدرة... مثل هكذا شخص لا يمكن أن يدّعي بأنه خليفة لعلي‏(عليه الصلاة والسلام)، يجب علينا جميعاً أن نحفظ هذا المعيار دائماً كوننا ننادي بعلي ونبحث عن نهجه...».

السيدة الزهراء (صلوة الله عليها)

يقول القائد (دام ظله) فيمن أذهب اللَّه عنها الرجس وطهرها تطهيراً:

«إن كل ما نقوله حول الزهراء (صلوة الله عليها) قليل، وفي الحقيقة إننا لا نعلم ما يجب قوله في الزهراء (صلوة الله عليها) وما يجب التفكير فيه، فالأبعاد الوجودية لهذه الحوراء الإنسية والروح الخالصة وخلاصة النبوة والولاية، واسعة ولا متناهية وغير قابلة للإدراك وهي بصورة بحيث يتحيّر الإنسان فيها.

... إن فاطمة الزهراء (صلوة الله عليها) كانت في عصرها بصورة بحيث لم يمتدحها أبوها وبعلها وبنوها وخواص شيعتهم فحسب، بل أنها كانت تُمتدح حتى من قبل أولئك الذين لم يكن لهم علاقات سليمة معها.

انظروا إلى الكتب التي ألفت حول الزهراء (صلوة الله عليها) أو حول كيفية تعامل النبي مع هذه العظيمة، فقد رويت من قبل الذين أشرنا إليهم كزوجات النبي والآخرين، فهذه الرواية المعروفة عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً وحديثاً برسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) في قيامه وقعوده من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول اللَّه قام إليه»([2]) أي أنه (صلي الله عليه وآله وسلم) كان يقوم من مكانه ويتحرك نحوها بكل شوق، هذا معنى «قام إليه»... وفي بعض الروايات المروية عن عائشة أيضاً جاء هكذا وكان يقبّلها ويجلسها مجلسه. هذه في منزلة الزهراء (صلوة الله عليها) مشهودة في سيرتها.

... فلا بد للإنسان العاقل الذي وهبه اللَّه العين أن يستفيد من هذا النجم في حياته...

أعزائي: إن نجم عالم الخلق، الزهراء، ليس بالذي نراه ونتصوّره، بل هو أعظم من هذا بكثير، إننا نرى نور شخصية الزهراء (صلوة الله عليها)، لكنه أعظم من هذا بكثير. إذاً ماذا نستفيد نحن منها؟ بهذا القدر الذي نعرف فيه أنها الزهراء(صلوة الله عليها).

لقد قرأت هنا في إحدى المرات الرواية التي تقول: «إنها تظهر لأهل السماء» فنحن لا شي‏ء أمام هذا النور، فالكروبيون (الملائكة المقربون في الملأ الأعلى) تنبهر عيونهم من نور الزهراء (صلوة الله عليها)، فيجب علينا الاهتداء بها إلى اللَّه وإلى طريق العبودية، وإلى الصراط المستقيم.

فالزهراء (صلوة الله عليها) قد سلكت هذا الطريق فأصبحت الزهراء، وإن رأيتم أن اللَّه قد جعل طينتها طينة متعالية، لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادة و...

«امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة»([3]).

فالباري سبحانه وتعالى قد ألطف على تلك الطينة وجعلها متعالية... هذا جانب من حياة الزهراء (صلوة الله عليها) التي نحتاج إليها لتطهير أنفسنا.

... اللهم لا تحرمنا حبّ الزهراء (صلوة الله عليها) وولايتها في الدنيا والآخرة بحق محمد وآل محمد، واهدنا بنور الزهراء المطهرة. اللهم زد حبها في قلوبنا يوماً بعد يوم، وأمتنا على حب آل النبي (صلي الله عليه وآله وسلم)، واحشرنا يوم القيامة على حب آل النبي...».

الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)

الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) ظَلَمَهُ التاريخ والمؤرخون، ولم يُعطى حقَّه من قِبل كثير من مناصريه، رغم أن اللَّه تعالى طهّره تطهيراً، وتكفيه شهادة اللَّه بتطهيره عن الدَّنس.

«إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير»([4]).

القائد (دام ظله) يقول حول الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)

«... وبالانتقال إلى عهد الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) نرى أنه قد أصبح وحيداً بعد ستة أشهر من توليه للخلافة، وعليه رأى الإمام الحسن‏(عليه الصلاة والسلام) أن ذهابه مع قلّة قليلة لمحاربة معاوية وسقوطه شهيداً في المعركة ليس له تلك الأهمية والمؤثرية في هذا المجتمع المنحط أخلاقياً، ولا حتى فيما بين الخواص، إذ أنهم لن يستفيدوا من تلك الدماء الطاهرة لمتابعة المسيرة.

فمعاوية بإعلامه وأمواله ومكره كان قادراً على أن يُفقد هذه الدماء مؤثريتها. والناس بعد سنة على خلافة الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام) كانوا يقولون له لا ينبغي لك أن تقف في وجه معاوية وتقاومه. في ظل هذا الوضع رأى الإمام أن دمه سيذهب هدراً من دون فائدة. فقاوم كل هذه المتاعب والمصاعب ولم يدفع بنفسه إلى ساحة الشهادة. مع أنه في بعض الأحيان تكون الشهادة بالنسبة إلى الإنسان أسهل بكثير من البقاء حياً. والأشخاص الذين هم أولو الألباب والحكمة والدقة، يدركون ذلك تماماً. أحياناً البقاء على قيد الحياة والعيش في محيط متعب ومجهد يكون أصعب بمراتب من القتل والاستشهاد والوصول إلى لقاء اللَّه، وهذا الأصعب هو الذي اختاره الإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)...».

الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)

الحديث عن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) يأخذ حرارته من الحديث عن ثورته وشهادته، التي كان فيها دروس، يستلهمها المسلمون المخلصون، يقول القائد (دام ظله) عن ثورة الحسين المعطاءة المباركة:

«... إذن ثورة الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) كانت تأدية لواجب وهو عبارة عن وجوب الثورة على كل مسلم حال رؤية تفشي الفساد في جذور المجتمع الإسلامي بحيث يخاف من تغيير كلي في أحكام الإسلام، وكانت الظروف مؤاتية، وعلم بأن لهذه الثورة نتيجة، وليس شرطاً البقاء حياً وعدم القتل وعدم التعرّض للتعذيب والأذى والمعاناة. فالحسين (عليه الصلاة والسلام) قد ثار وأدّى هذا الواجب عملياً ليكون درساً للجميع، وقد تتوفر الظروف المناسبة لأي أحد للقيام بهذا العمل على مر التاريخ.

طبعاً الظروف لم تكن مؤاتية في عصر سائر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من بعد الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام)، وهذا الأمر له تفسير وهو وجود أعمال مهمّة أخرى وجب القيام بها فلم تتوفر هذه الظروف بعد ذلك في المجتمع الإسلامي إلى أواخر عصر الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) وبداية عصر الغيبة، لكن قد تتوفر مثل هذه الظروف في الدول الإسلامية على مر التاريخ، وقد تكون الأرضية في بعض أقطار العالم الإسلامي  الآن  مهيئة لقيام المسلمين بذلك أيضاً، فإن قاموا بذلك فقد صانوا الإسلام وضمنوا بقاءه...

إن الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) قد علّم التاريخ الإسلامي درساً عملياً عظيماً، وضمن بقاء الإسلام في عصره وسائر الأعصار. فأينما وجد مثل هذا الفساد، كان الإمام الحسين (عليه الصلاة والسلام) حيّاً حاضراً هناك يعلّمنا بأسلوبه وفعله ما يجب علينا عمله. لهذا يجب أن يبقى اسم الحسين‏(عليه الصلاة والسلام) حياً وتبقى ذكرى كربلاء حيّة...

ومع الأسف إن درس عاشوراء ليس معروفاً في سائر الدول الإسلامية كما ينبغي...

والحقيقة فإن ما هو أمام أعيننا من واقعة عاشوراء التي لا نظير ولا مثيل لها بين جميع الحوادث والفواجع البشرية، وكما قال النبي (صلي الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) والإمام الحسن (عليه الصلاة والسلام)  على ما ورد في الروايات:

«لا يوم كيومك يا أبا عبد اللَّه»([5]).

هذا اليوم هو يوم عاشوراء وهذه أيام بكاء ونعي. إن كربلاء كلها عزاء ومصائب، وحوادث عاشوراء كلها بكاء وألم...».

الإمام علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد (دام ظله)

«إن الحديث عن الإمام السجاد وكتابة سيرته صع، لأن أساس تعرف الناس على هذا الإمام تم في أجواء غير مساعدة اطلاقاً.

ففي ذهن أغلب كتّاب السيرة والمحللين أن هذا الإنسان العظيم قد انزوى للعبادة ولم يكن له أي تدخل في السياسة. حتى أن بعض المؤرخين وكتّاب السيرة ذكروا هذه المسألة بشكل صريح، أما الذين لم يقولوا هذا الأمر بصراحة فإن مفهومهم عن حياة الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) ليس سوى هذا الأمر. وهذا المعنى موجود في الألقاب التي تنسب إليه والتعابير التي يطلقها الناس عليه، كما يطلق البعض لقب «المريض» عليه، في حين أن مرضه لم يستغرق أكثر من عدّة أيام في واقعة عاشوراء. ومن الطبيعي أن كل إنسان يمرض في حياته عدة أيام، وإن كان مرض الإمام للمصلحة الإلهية حتى لا يكلف هذا العظيم بالدفاع والجهاد في سبيل اللَّه في تلك الأيام ليستطيع في المستقبل أن يحمل الحمل الثقيل للأمانة والإمامة على عاتقه، ويبقى حياً بعد والده لمدّة 35 أو 34 سنة ويقضي فترة أصعب عصور الإمامة عند الشيعة. أنتم عندما تنظرون إلى ماضي حياة الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) سوف تجدون حوادث متنوعة وملفتة جداً، كما حدث لبقية الأئمة، وربما إذا جمعنا سير الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) معاً فلن نجد مثل سيرة السجاد(عليه الصلاة والسلام)».

ويتحدّث القائد عن فلسفة الإمامة عند الإمام زين العابدين فيقول‏(دام ظله):

«من جملة الأشياء التي أراها جلية وشديدة الأهمية في هذا القسم من بيانات الإمام السجاد (عليه الصلاة والسلام) تلك الكلمات التي يذكر فيها بتجارب أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) الماضية.

ففي هذا القسم يشير الإمام (عليه الصلاة والسلام) إلى تلك الأيام التي مرت على الشيعة من قبل الحكام الجائرين مثل معاوية ويزيد ومروان ووقائع مثل الحرة وعاشوراء وشهادة حجر بن عدي ورشيد الهجري وعشرات الحوادث الشديدة، على التحرك والثورة. والتفتوا الآن إلى هذه الجملة:

«فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والانهماك فيها ما تستدلون به على تجنب الغواة و...» ([6]).

أي أنكم تستحضرون تلك التجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد. وهم حكام الجور، عندما يتسلطون عليكم؛ ولذلك يجب عليكم أن تتجنبوهم وتواجهوهم، وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة. أي قضية الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على الناس وإدارة النظام الإسلامي ولم يكن بمقدور الإمام في ذلك الوقت أن يوجه هذا الخطاب لعامة الناس. ثم يقول: «فقدموا أمر اللَّه وطاعته وطاعة من أوجب اللَّه طاعته».

وهنا يعيش الإمام فلسفة الإمامة عند الشيعة والإنسان الذي يجب أن يطاع بعد اللَّه. ولو فكّر الناس في ذلك الوقت بهذه المسألة لعلموا بوضوح أنه لا يجب طاعة عبد الملك. لأنه من غير الجائز أن يوجب اللَّه طاعة عبد الملك. ذلك الحاكم الجائر بكل فساده وبغيه.

وبعد أن يقدم الإمام هذه المسألة يتعرض لرد شبهة مقدّرة فيقول‏(عليه الصلاة والسلام):

«ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر اللَّه وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم»([7]).

ففي هذا الخطاب والخطاب السابق يركّز الإمام (عليه الصلاة والسلام) على مسألتين:

الأولى: تدوين الفكر الإسلامي واحياؤه في أذهان الناس والحث على تعلمه.

والأخرى: مسألة الولاية السياسية أي الحكومة والقيادة للنظام الإسلامي.

وعندما يعرّف الإمام (عليه الصلاة والسلام) هاتين المسألتين فإنه يقوم في الواقع بتعريف النظام العلوي والنظام الإسلامي الإلهي».

الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد في خصوص الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام): «... فعندما كان يدخل الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) إلى المسجد كان الناس يجلسون حوله ويحيطون به ليستفيدوا منه. ويروي الراوي قائلاً: «رأيت الإمام الباقر(عليه الصلاة والسلام) في مسجد المدينة وحوله أهل خراسان وغيرهم» يعني يحيط به أناس من أقصى البلاد كخراسان ومناطق أخرى. وهذا يدل أن أمواج التبليغ كانت قد عمّت العالم بأجمعه، وأصبحت قلوب الناس ومن أقصى العالم تقترب من أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وفي رواية أخرى ذكر «احتوته أهل خراسان»، يعني جلسوا حوله وأحاطوه، وكان الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) يعلمهم مسائل الحلال والحرام حيث كان كبار العلماء يأتون إليه ويتلقون علومهم عنده. ومن بينهم عكرمة، الذي يعتبر شخصية معروفة ومن تلامذة ابن عباس.

فعندما أتى إلى الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام) ليستمع إلى أحاديثه أصابته رجفة وسقط في حضن الإمام (عليه الصلاة والسلام) وقال: يا ابن رسول اللَّه أصابني أمامك، ما لم يصبني من قبل أمام أحد من الناس، فأجابه الإمام (عليه الصلاة والسلام) قائلاً:

«... يا عبيد أهل الشام إنك بين يدي بيوت أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه»([8]).

وأيضاً شخص آخر مثل أبي حنيفة، والذي كان يعتبر من عظماء فقهاء ذاك الزمان، كان يأتي ويتلقى علومه على يد الإمام الباقر (عليه الصلاة والسلام)، وغيره من بقية العلماء كانوا يتلقون علومهم على يده (عليه الصلاة والسلام)، حتى وصلت شهرته العلمية إلى أرجاء العالم وعرف بباقر العلوم...».

الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد (دام ظله)

«... وعندما بدأت مرحلة إمامة الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) كانت الصدامات والحروب منتشرة في العالم الإسلامي كأفريقيا وخراسان وفارس وبلاد ما وراء النهر ونقاط أخرى من العالم الإسلامي مما سبّب مشكلات كثيرة لبني أمية وهكذا استطاع الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) في هذه المرحلة أن يستفيد من هذه الفرصة وقام بالتركيز... على إمامة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

وعلى سبيل المثال: يروي عمر بن المقدام قائلاً: «رأيت أبا عبد اللَّه يوم عرفة بالموقف وهو ينادي بأعلى صوته، فكان يقول جملة ثم يلتفت إلى الطرف الآخر ويكررها ومن ثم إلى الطرف الآخر... وهكذا إلى أربعة أطراف وكل مرة يكررها ثلاثاً والجملة هي:

«أيها الناس إن رسول اللَّه (صلي الله عليه وآله وسلم) كان هو الإمام».

التفتوا إلى نفس استعمال كلمة إمام، كان هذا لأجل الفات الناس إلى حقيقة الإمامة ولإشاعة هذه الفكرة حتى يُصار إلى التساؤل: هل أن هؤلاء الحكام المتسلطين على الحكم لائقون بالإمامة أم لا؟

فينادي ثلاث مرّات لمن بين يديه ولمن خلفه وعن يساره اثنا عشر صوتاً:

«أيها الناس رسول اللَّه كان هو الإمام ومن بعده علي بن أبي طالب وبعده الحسن وبعده الحسين ومن ثم علي بن الحسين ومحمد بن علي وبعدها هاه».

ويكرر هذه الكلمات اثنا عشر مرة.

يقول الراوي سألت ما معنى هاه، قال معناها في لغة (لهجة) بني فلان (أنا) كناية للإشادة عن نفسه (عليه الصلاة والسلام) يعني بعد:

«محمد بن علي (عليه الصلاة والسلام) أنا الإمام...».».

الإمام موسى الكاظم !(عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد (دام ظله)

«... فأحياناً كانت كلمات الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) تطرح أموراً ليست بالبسيطة والعادية بل تتعلق بهدف محدد ومشروع خاص كان هو نفسه استراتيجية الإمامة. ومن جملة هذه الموارد، الحوار الذي دار بين الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه الصلاة والسلام)، وهارون الرشيد، حول ما يتعلق بمسألة «فدك».

ففي أحد الأيام قال هارون للإمام الكاظم (عليه الصلاة والسلام): «حدّ فدكاً حتى أردها إليك» وكان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز «فدك» الذي كان أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميتهم التاريخية، فبإرجاعه «لفدك» يسحب هذا السلاح من أيديهم. ولعله أيضاً يصبح مميزاً، بنظر الشيعة، عن أولئك السلاطين الذي استمروا بغصب «فدك» والإمام في البداية امتنع عن تنفيذ هذا الطلب ولكن بعد إصرار هارون قال الإمام (عليه الصلاة والسلام): «لا آخذها إلا بحدوده». فقبل هارون بذلك، فبدأ الإمام بذكر تلك الحدود قائلاً: «أما الحد الأول فعدن»، فتغير وجه هارون، وقال: إيه!! تابع الإمام (عليه الصلاة والسلام): «والحد الثاني سمرقند، أي الحدود الشرقية لأراضي حكومة هارون فاربد وجهه، فتابع الإمام (عليه الصلاة والسلام) وقال: «الحد الثالث أفريقيا، ويعني تونس» أي الحدود الغربية للبلاد.

يقول الراوي

«فاسودّ وجه هارون وقال: هيه!! عندها أنهى الإمام (عليه الصلاة والسلام) كلامه وقال: «والحد الرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرميني»، أي الحدود الشمالية.

عندها قال هارون غاضباً مستهزئاً: فلم يبق لنا شي‏ء. فتحول إلى المجلس. فقال الإمام (عليه الصلاة والسلام): «قد أعلمتك أنني إن حددتها لن تردّها، وكما جاء في نهاية هذه الرواية: «فعند ذلك عزم على قتله»([9]).

في هذا الحوار يظهر أهم مطلب للإمام موسى الكاظم (عليه الصلاة والسلام) والذي كان كافياً حتى يقرر هارون الرشيد قتله، وكذلك الأمر، فإن مطالب الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) الواضحة في حياة الإمام الباقر والإمام الصادق والإمام الرضا (عليهم الصلاة والسلام) بحيث أنها لو جُمعت سترسم استراتيجية الإمامة...».

الإمام الرضا (عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد (دام ظله)

«.. كان تشكيل مجالس المناظرات مع أي شخص عنده أقل أمل في أن يتفوق على الإمام، واحدة من الإجراءات التي مارسها المأمون. ولما كان الإمام (عليه الصلاة والسلام) يتفوق ويغلب مناظريه من مختلف الأديان والمذاهب في كافة البحوث كان يذيع صيته بالعلم والحجة القاطعة في كل مكان، وفي مقابل ذلك كان المأمون يأتي بكل متكلم من أهل المجادلة إلى مجلس المناظرة مع الإمام لعل أحداً منهم يستطيع أن يغلب الإمام‏(عليه الصلاة والسلام) وكما تعلمون فإنه كلما كانت تكثر المناظرات وتطول كانت القدرة العلمية للإمام (عليه الصلاة والسلام) تزداد وضوحاً وجلاءاً.

وفي النهاية يئس المأمون من تأثير هذه الوسيلة (لإسقاط الإمام الرضا(عليه الصلاة والسلام) من مقامه). وحاول أن يتآمر لقتل الإمام كما تذكر الروايات من خلال حاشيته وخدم الخليفة.

وفي إحدى المرات وضع الامام في سجن سرخس (منطقة شمال شرق إيران) لكن هذا لم يكن نتيجته إلا إيمان الجلاوزة والسجانين أنفسهم بالمقام المعنوي للإمام.

وهنا لم يجد المأمون العاجز والغاضب أن يكلف أي أحد وقام بذلك فعلاً، ففي شهر صفر من سنة 203هـ، ...قام المأمون بجريمته العظيمة التي لا تنسى وهي قتل الإمام (عليه الصلاة والسلام)....».

في الإمام الجواد ومن بعده (عليه الصلاة والسلام)

يقول القائد (دام ظله)

«حسب رأيي أن المحن والمشكلات التي واجهت أهل البيت (عليه الصلاة والسلام) بلغت ذروتها في زمن الإمام الجواد (عليه الصلاة والسلام) وشملت عصور الأئمة الذين جاءوا من بعده».

المهدي #

يقول القائد (دام ظله)

«إن قضية المهدوية من القضايا الأساسية في الاسلام ولا ينفرد بها الشيعة دون سواهم، وإن تذهب الفرق الاسلامية بأجمعها إلى أن المهدي(عليه الصلاة والسلام) من النسل الطيب الطاهر لرسول الله‏(صلي الله عليه وآله وسلم) وإنه سيملأ العالم قسطاً وعدلاً وسيظهر لإقامة دين الله وبسط الحق.

كما يعتقد غير المسلمين على نحو آخر بمستقبل مشرق للبشرية يتحقق خلال قضية مهدوية.

أما الخاصية التي تتفرد بها العقيدة الشيعية في هذا المجال فهي عدم وجود أي غموض فيها لأن الشيعة يحيطون بكل تفاصيل هذا الموضوع وعلى معرفة تامة بشخصية المهدي (عليه الصلاة والسلام)، فنحن نعرف وليّنا وسيّدنا وإمامنا، وسيد العالمين، ونعرف أباه وأمه وتاريخ ولادته وكل ما يتعلق بولادته المباركة، وهناك من نقلوا هذه القضايا بأخبار صادقة موثّقة. وهذه الأمور كلها واضحة لدينا ولا لبس فيها. ومعنى هذا أننا على بينة بمن نحب ومن نؤمن ونعتقد بأن إمامنا المعصوم، بقية عترة الرسول وأهل البيت(عليهم الصلاة والسلام)، قائماً طوال الأزمنة الأخيرة بين المجتمعات البشرية، وهو موجود اليوم بين ظهرانينا، إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن نعيش هذا الانتظار الكبير، وأن يعيش الامام ذاته مثل هذا الانتظار أيضاً، انتظار ذاك اليوم الذي يظهر فيه بصفته كنهضة الأنبياء تنتهي بنصر ساحق على جبهة الكفر والنفاق، وينقذ العالم من الظلم والجور والتمايز والتسلط والاستغلال، وسيأتي هذا اليوم ويتحقق هذا الوعد....

إن هذه العقيدة ستكون بالنسبة للشيعة  فيما إذا فهموها على حقيقتها وتعاملوا معها كما ينبغي  مصدر فيض ونور، كما أنها توجب أيضاً على كل مسلم وعلى كل مؤمن بها وعلى كل شيعي أن يسعى فكراً وعملاً للحفاظ على علاقته المعنوية والفكرية بإمام زمانه، وتربية وتهذيب ذاته بالشكل الذي يبعث الرضا في نفس هذا الامام المعصوم..

أضف إلى ذلك أن لهذه العقيدة آثاراً وخصائص ذات أهمية بالغة بالنسبة لجميع الشعوب ومنها شعبنا، ومن أهم هذه الخصائص والآثار هو الأمل بالمستقبل، ليعلم كل شيعي أن بساط الظلم والجور والتسلط الموجود اليوم في العالم سيطوى ذات يوم  وقد يكون قريباً جداً، أو قد يكون بعيداً، إلا أنه على كل الأحوال سيأتي قطعاً.....

______________________________

 ([1]) عيون أخبار الرضا (عليه الصلاة والسلام)، ج‏2، ص‏116.

([2]) الغدير، ج‏3، ص‏18.

([3]) وسائل الشيعة، ج‏14، ص‏368.

([4]) سورة الأحزاب، الآية/33.

([5]) بحار الأنوار، ج‏45، ص‏218.

([6]) الكافي، ج‏8، ص‏15.

([7]) الكافي، ج‏8، ص‏15.

([8]) بحار الأنوار، ج‏46، ص‏258.

([9]) بحار الأنوار، ج‏29، ص‏201.

أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) ليسوا أشخاصاً يعيشون عصرهم وينتهون، وكذلك هم ليسوا أشخاصاً كباقي الناس، يهتمون بهوامش الحياة، وليس لهم المشاريع الكبرى.

فهم ليسوا أفراداً في أمة، بل كلّ‏ُ واحد منهم كان أمة في رجل.

فعلينا أن نفهم جيداً، ونتعامل معهم التعامل اللائق، ونقدِّرهم التقدير الواقعي.

لقد ظلم الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) من التاريخ، وكذلك ممن ينتسبون إليهم، وعاشوا الغربة المؤلمة.

يقول القائد (دام ظله)

«إن غربة الأئمة لم تقتصر على الفترة الزمنية التي عاشوها في حياتهم، وإنما استمرت ولعصور متمادية من بعدهم، والسبب في ذلك يرجع إلى إهمال الجوانب المهمة، بل والأساسية من حياتهم.

من المؤكد أن هناك كتباً ومؤلفات كثيرة قد حظيت بمكانة رفيعة وقديرة، وذلك لما حملته بين طيّاتها من روايات تصف حال الأئمة(عليهم الصلاة والسلام).

ولما نقلته للأجيال المتعاقبة من أخبار تصف سيرتهم، ولكن عنصر المواجهة والجهاد المرير والذي يمثل الخط الممتد للأئمة (عليهم الصلاة والسلام) طوال 250 سنة من حياتهم كان قليل الذكر في هذه الروايات التي تضمنت فقط عناوين أخرى كالجوانب العلمية أو المعنوية من سيرتهم.

يجب علينا أن ننظر إلى حياة الأئمة (عليهم الصلاة والسلام) كأسوة وقدوة نقتدي بها في حياتنا لا كمجرد ذكريات قيمة وعظيمة حدثت في التاريخ.

وهذا لا يتحقق إلا بالاهتمام والتركيز على المنهج والأسلوب السياسي من سيرة هؤلاء العظماء (عليهم الصلاة والسلام)«.

فأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) علماء وعابدون وأتقياء ومجاهدون وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر؛ وبكلمة إنهم معصومون كاملون، استغرقوا في طاعة الله وحبِّه، وذابوا في الإسلام والقرآن، فكانوا كما قال تعالى:

{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهير}([1]).

وبذلك كانوا خير قدوة ومثل.

فلنكن كما هم، وإن لم نستطع ولن نستطيع، كما يقول الإمام علي‏(عليه الصلاة والسلام):

«إنكم لا تقدرون على ذلك».

فما العمل يا أمير المؤمنين ويأتي تكملة قوله (عليه الصلاة والسلام):

«أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد»([2]).

____________________________________

 ([1]) سورة الأحزاب، الآية/33.

([2]) بحار الأنوار، ج‏33، ص‏474.