فهرست العناوين:

1- أمير المؤمنين (ع) والحكم في فكر القائد.

2- شرح وصية أمير المؤمنين علي (ع) للقائد.

3- خصائص أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفضائله.

4- أمير المؤمنين علي (ع) على لسان حفيده الإمام الخميني.

5- أمير المؤمين (ع) في حديث القائد.

**************

أمير المؤمنين (ع) والحكم في فكر القائد

2008-09-20

بسم الله الرحمن الرحيم

العدالة أبرز سمات أمير المؤمنين (عليه السلام)

إنّ الشيء الذي جعله الإمام علي في الدرجة الأولى من الأهمية في حياته الحافلة بالمعاني والمضامين والدروس. من هذه الأشياء قضية العدالة التي يمكن القول ربّما أنها كانت العلامة الأبرز في سيرته.

عدم مصانعة الظالم، والتعاطف مع المظلوم، والمساعدة لأخذ حق المظلوم من الظالم أحوال ممكن ملاحظتها في حياة أمير المؤمنين وكلماته وخطب نهج البلاغة بكل وضوح وفي مئات المواضع.

دقّقوا في هذه العبارات الثرة لأمير المؤمنين: «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً أو أجرّ في الأغلال مصفّداً أحب إلي من أن ألقى الله ظالماً لبعض العباد وغاصباً لشيء من الحطام»[1].

لاحظوا، هذا هو مؤشر حكومة الإمام علي وعلامتها. أي حتى لو تعرضت لأعتى الظروف فمن المستحيل أن أمارس أدنى ظلم ضد أحد من الخلق أو أجمع لنفسي شيئاً من حطام الدنيا وأطلب ذخائرها وطيباتها.

الدنيا في عين أمير المؤمنين ـ بمعنى ما يريده الإنسان لنفسه من خيرات الحياة ـ مرفوضة ومعافة تماماً. يخاطب الدنيا قائلاً: «غرّي غيري»[2]. أيتها اللذائذ ويا جماليات الحياة المادية اذهبي واخدعي غيري. لا تستطيعين خداع علي. هذا هو شعار أمير المؤمنين (عليه السلام) .

ما هو الشيء الأكثر أهمية اليوم في النظام الإسلامي ـ النظام الإسلامي الذي تأسّس باسم الإسلام في هذا البلد ـ والذي ينبغي أن يكون أشد حساسية من أي شيء آخر؟ إنه العدالة. أي لو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في زماننا ومجتمعنا هذا وبين أبناء شعبنا الذي يعبّر عن حبّه له بهذه الطريقة، فما هو الشيء الذي كان سيهتم به أكثر من غيره؟ العدالة يقيناً.

العدالة ليست مطلب جماعة خاصة من الناس أو أبناء بلد معين أو شعب بذاته. العدالة هي المطلب الطبيعي والتاريخي لكل أبناء البشر على امتداد تاريخهم. إنه الشيء الذي تتعطش له الإنسانية، والذي لم يتحقق بالمعني الحقيقي للكلمة إلاّ في حكومة الأنبياء الإلهيين العظام ممن استلموا زمام الحكم أو الأولياء الكبار كأمير المؤمنين. أرباب الدنيا والمليئة قلوبهم بأهوائها وشؤونها المادية لا يستطيعون تطبيق العدالة. تطبيق العدالة يستدعي روحاً ثرة وإرادة قوية وأقداماًً ثابتة.

من كلام القائد في 13/رجب/1429هـ ق.

سيرة أمير المؤمنين (ع) في الحكم

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾.

اليوم يوم استشهاد أمير المؤمنين (عليه السلام) ويوم استذكار المقام الشامخ لإمام المتقين والزاهدين.

ممّا يستحيل نسيانه بخصوص أمير المؤمنين (عليه السلام) تلك المعالم العملية والسلوكية التي تجلت خلال البرهة الوجيزة من حكمه (عليه السلام) على امتداد البلاد الإسلامية الشاسعة وخلدها التاريخ. إن للمراتب المعنوية والشمائل الأخلاقية والشخصية التي تحلّى بها هذا الرجل العظيم شأنها؛ فلو راجعتم المصادر ستجدون فصولاً مسهبةً تتعرض لبيان ملامح أمير المؤمنين، فعلمه وتقواه وشجاعته وسابقته في الإسلام وزهده وما شابه ذلك، كلها مما يفوق مستوى الحصر المتعارف ومن العظمة ما يثير الدهشة، وكل منها كالشمس الساطعة في بريقها، بيد أن ما أراه يسمو عليها جميعاً هو سيرة هذا الحكيم في الحكم التي تعد موضع امتحان جوهري، حيث تصبح السلطة بيد أمير المؤمنين وهي سلطة تمتد على بقعة شاسعة في البلاد؛ فلتكن هذه السيرة الفريدة من نوعها والتي تثير الإعجاب قدوة لنا؛ وكل المطلعين على سيرته (عليه السلام) في الحكم إنما يتحسرون أسفاً على قصر مدة حكمه، لأن هذا النهج لو قدر له الاستمرار سنوات عديدة فلربما تغير مسار التاريخ العالمي، ولو كتب لهذا النموذج الدوام وأصبح في متناول البشرية سنوات مديدة فلربما انعطف مصيرها ولم تبرز إلى الوجود هذه القوى القائمة على الفساد والثروة والشهوة والغطرسة والإحجاف والتي شهدها التاريخ وجرّت البشرية نحو الظلمات وغياهبها. وفي الوقت الحاضر فإن هذا النموذج ماثل أمامنا وما يشغل بالي ويستحوذ على اهتمامي أكثر من غيره هو ضرورة اقترابنا نحن في نظام الجمهورية الإسلامية من هذا الأنموذج، ولو تحقق ذلك فسيتنعم شعبنا الإيراني ويتبعه العالم الإسلامي بأسره والبشرية قاطبة بحكومتنا، ويجب أن تتركز كل مساعينا وجهودنا على أن نقترب من هذه النماذج.

إن حكومة أمير المؤمنين بمثابة الأسوة على صعيد إقامة العدل والدفاع عن المظلوم ومقارعة الظالم وملازمة الحق في جميع الأحوال، ولابد من الاحتذاء بها؛ وهذا مما لا يبلى، فبوسعه أن يغدو مقتدى في ظل جميع الظروف التي تمر بها الدنيا علمياً واجتماعياً لتحقيق السعادة لبني الإنسان، ونحن لا نريد تقليد ذات النهج الإداري لتلك الحقبة وندعي أنه مما يخضع للتطور الزمني ونقول باستمرار ولادة المناهج الحديثة يوماً بعد يوم، بل إننا نصبو لاقتفاء أثر المسار الذي اختطته تلك الحكومة والذي حاز الخلود إلى الأبد؛ فالدفاع عن المظلوم صفحة زاهرة على الدوام؛ وعدم مسالمة الظالم، ورفض الارتشاء من المتجبر الثري، والثبات على الحقيقة، كلها من الأمور التي لا ينتابها القدم في الدنيا أبداً؛ ولها شأنها تحت ظل مختلف الأوضاع والظروف، وعلينا الاقتداء بها لما تمثله من أصول، وإن ما نطلق عليه الحكم الأصولي إنما يعني الاحتذاء بمثل هذه القيم الخالدة التي لا تبلى والثبات عليها...

نماذج من سيرة أمير المؤمنين (ع) في الحكم

وتأسيساً على هذا فإنني أطرح هذه الأمور أمام الملأ العام مثلما خاطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الأمة بمثل هذه القضايا؛ فكتبه (عليه السلام) بالرغم من أنها كانت موجهة إلى أشخاص معينين بيد أن الجميع كانوا يطلعون عليها؛ وكذا الخطب التي كان (عليه السلام) يدلي بها بمرأى من أنظار الأمة؛ وإليكم نماذج من ذلك:

في مستهل حكومته ساوى أمير المؤمنين (عليه السلام) في تقسيم بيت المال بين الناس، لأن الأمور سارت على مدى ما يقرب من عشرين عاماً قبل مجيء أمير المؤمنين على تفضيل البعض لسابقتهم في الإسلام أو انتمائهم للمهاجرين أو الأنصار أو... على من سواهم، فكان يجري تقسيم ما يجبى إلى بيت المال في غنائم وزكوات على الأشخاص فرادى، وهكذا جرت العادة في المجال المالي يوم ذاك ولم تكن على ما عليه المؤسسات الحكومية في عالم اليوم، وكان دأبهم يومئذ تفضيل البعض في العطاء، فجاء (عليه السلام) وألغى ما كان سائداً، إذ قال من كان متديناً وأكثر إيماناً فأجره على الله، ومن كان ذا قوةٍ ويسعى في حياته لكسب المال فله ما كسب، أما بيت المال فإنني أقسمه بالسوية. فجاءه البعض مشفقاً محذراً من أن نتيجة ذلك ستكون الإخفاق وتدفع بالبعض إلى الوقوف بوجهك! فرد (عليه السلام) : «أتأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟! والله أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً»[3]، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يرفض كسب التأييد على حساب الظلم والجور.

وفي موضع آخر يقول في كتابه المعروف إلى عثمان بن حنيف:

«ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور عمله، ألا وأن أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه»[4]. وهنا يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى ملبسه ومأكله اللذين كأن يشابه بهما أفقر الناس يومها، ويقول أنا أمامكم أعيش هكذا حياة. ثم يقول لابن حنيف: «ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد»؛ وذاك ما يخاطبنا به أمير المؤمنين (عليه السلام) اليوم: تجنبوا المخالفات والذنوب وما كان غير مشروع، واجتهدوا للاقتراب بأنفسكم ممّا وسعكم الوصول إليه.

وفي أحد المواضع يخاطب ابن عباس قائلاً: «فلا يكن حظك في ولايتك مالاً تستفيده ولا غيظاً تشتفيه»؛ أي لا يكن ما تجنيه من ولايتك التي بعثناك إليها مالاً أو نقمة تفرغها على واحد من بني البشر، كأن تستغل السلطة ضد فرد أو فئة أو طبقة نحن على خلاف معها، فذلك مما لا يجوز لك، ثم يقول (عليه السلام):

«ولكن إماتة باطلٍ وإحياء حق»، أي إن نصيبك من هذه الحكومة أن تميت باطلاً أو تقيم حقاً.

وجاء أحدهم عند أمير المؤمنين (عليه السلام) يطلب مالاً، فيقول: «إن هذا المال ليس لي ولا لك، وإنما هو فَيءٌ للمسلمين وجلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم».

هذا هو منطق أمير المؤمنين (عليه السلام) في تعامله مع مثل هذه الأمور؛ فلقد كان تطبيق العدالة والدفاع عن المظلوم والشدة مع الظالم ـ أياً كان الظالم وأياً كان المظلوم ـ مهم بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) .

لم يجعل أمير المؤمنين من الإسلام شرطاً للدفاع عن المظلوم؛ فأمير المؤمنين المتمسك بالإسلام، المؤمن من الطراز الأول، أمير الفتوحات الإسلامية، لم يضع الإسلام شرطاً في دفاعه عن المظلوم؛ ففي واقعة «الأنبار» ـ وهي إحدى مدن العراق ـ حيث أغارت مجموعة من أتباع حكومة الشام على المدينة وقتلوا واليها المنصوب من قبل أمير المؤمنين وحملوا على الناس وداهموا البيوت وقتلوا عدداً من الناس ثم قفلوا راجعين، خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) تلك الخطبة التي تعد من الخطب العواصف التي وردت في نهج البلاغة، وهي خطبة الجهاد، حيث يقول (عليه السلام) : «إن الجهاد باب من أبواب الجنة»، قاصداً فيها حث الناس على التحرك لمواجهة هذا الظلم الشنيع، فيقول: «ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة»، فلا فرق لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) من أن تكون المرأة المعتدى عليها من أهل الكتاب ـ يهودية أم مسيحية أم مجوسية ـ أو مسلمة، فهو (عليه السلام) يذكرهن بلسان حال واحد، «فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعائها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام!»، ثم يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً»[5]!

وفي كتابه المشهور لمالك الأشتر حيث يحدد له فيه طبيعة التعامل مع الناس وأن لا يكون سبعاً ضارياً، يردف كلامه قائلاً: «فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق». وبناءً على هذا؛ فان الإسلام ليس مناطاً بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) في دفاعه عن المظلوم وإحقاق حقوق الإنسان، فالمسلم وغير المسلم كلاهما يتمتع بهذا الحق.

انظروا أي منطق رفيع هذا وأي لواء خفاق رفعه أمير المؤمنين (عليه السلام) على مر التاريخ! وهناك الآن نفر يهتفون باسم حقوق الإنسان في العالم زوراً ورياءً وهم لا يراعون للإنسان حقوقاً أبداً حتى داخل بلدانهم ناهيك عن سائر أصقاع الدنيا، فحقوق الإنسان بمعناها الحقيقي تلك التي صرح بها أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمل بها.

إننا مكلفون باقتفاء سيرة أمير المؤمنين (ع)

إننا اليوم مكلفون، وفي هذا العام الذي حمل اسم «عام السيرة العلوية»، أن نقتفي سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وإذا ما رفع شعار مكافحة الفساد المالي والاقتصادي فعلى كل موالٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام) التحرك خلف هذا الشعار؛ وعلى كل داعية للصلاح والإصلاح بالمعنى الحقيقي للكلمة التحرك صوب هذه المهمة؛ وعلى الأجهزة المختصة ـ سواء السلطة القضائية أو التنفيذية أو التشريعية ـ أن تعتبر نفسها مكلفة بتحقيق هذا الشعار ولا تدعه يراوح على مستوى شعار فارغ إلا من بعده اللفظي؛ فمكافحة الفساد من المرتكزات الأساسية التي تقوم عليها الحكومة والنظام الإسلامي، وهذا هو نهج أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فلم يكن (عليه السلام) يحابي الناس حتى أولئك الذين كانوا يطمعون به، فقد كافح الفساد حيثما وجده. إننا لا نقوى على العمل كأمير المؤمنين (عليه السلام) ولا ندعي ذلك البتة، ولسنا جديرين ـ وهذا ما أقصد به نفسي ـ أن نسير خلف أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولكن علينا الاجتهاد، وعلى الجميع اعتباره ذلك من صلب واجبهم لا أن تستنفر قوى الضغط لمجرد تصدي إحدى الأجهزة لحالة من الفساد أو أحد المفسدين فتثير ضجيجاً وزوبعة من شأنها إرعاب السائرين في هذا الدرب، وينبغي ـ طبعاً ـ عدم الاهتزاز أمامها، بل لابد من المضي قدماً في هذا الدرب بكل عزم، فالله هو المعين والشعب هو سندنا...

إننا حينما نحيي ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) فلابد أن يكون ذلك من أجل عملنا نحن، فلسنا قادرين على مطالبة الشعب باستمرار للعمل كأمير المؤمنين (عليه السلام) ؛ فنحن اليوم حيث نتولى مسؤولية في نظام الجمهورية الإسلامية إنما نتحمل القسط الأوفر من المسؤولية وتنوء عواتقنا بتكليف جسيم، آملاً أن يحظى المسؤولون في الجمهورية الإسلامية بهذا التوفيق كأمير المؤمنين (عليه السلام) ويختطوا ذات الدرب ويتحركوا إثر الخط والدليل الذي رسمته أنامل هذا الرجل العظيم.

 آلام أمير المؤمنين (ع)

لقد عانى أمير المؤمنين (عليه السلام) مصاعب جمة في هذا السبيل ـ واليوم يوم شهادة ذلك الرجل العظيم ـ ولعل ليس هناك من سمعه يبوح بشكاواه الأصلية خلال حياته، وإن كان (عليه السلام) كثيراً ما يشتكي القوم ويؤنبهم من على المنبر، ولم تقتصر شكواه على مساءلة الناس على عدم توجههم إلى ميادين الجهاد، فلقد كان قلب أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتصر ألماً؛ ففي دعاء كميل المعروف ـ وهو من إنشاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ يخاطب (عليه السلام) رب العالمين «الهي وسيدي ومولاي ومالك رقّي ..»، ومن بين ما احتواه خطابه هذا المقطع الذي طرق سمعي ومخيلتي بفائق حساسيته: «يا من إليه شكوت أحوالي»، فلقد كان (عليه السلام) يبث شكواه إلى الله وكان فؤاده يطفح بالألم، وكان الهاجس الذي يقلق أمير المؤمنين (عليه السلام) يتعلق بوضع الأمة والمجتمع، ومسيرة الدين والاتجاه الديني في النظام الإسلامي الذي كان حديث عهد يومذاك، وكذلك شعوره بثقل مسؤوليته التي لم يفرط بواحد من الألف منها.

لما انهال السيف على رأس أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في محراب العبادة كانت العبارة التي سمعت منه وتناقلتها المصادر هي «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، فزت وربِّ الكعبة»! فتلك الليلة التي هي بمثابة العزاء والمصيبة بالنسبة للمسلمين جميعاً، تحولت إلى ليلة ظفر وسرور وفوز بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان على موعد معها، ويبدو أنها كانت ليلة جمعة؛ ففي بعض الروايات كانت ليلة التاسع عشر ليلة جمعة، فيما تقول روايات أخرى إن ليلة الحادي والعشرين كانت ليلة جمعة، وفي تلك الليلة أفطر (عليه السلام) عند أم كلثوم بالصورة التي سمعتم بها حيث اقتصر إفطاره على الخبز والملح ـ وهذا يعني الإفطار بخبز لوحده في واقع الأمر ـ حيث رُفع اللبن وبقي الخبز، فأمضى (عليه السلام) تلك الليلة بالعبادة حتى الفجر حيث دخل المسجد، بعدها رفع صوته مؤذناً ونزل إلى محراب الصلاة، وإذا بالمنادي ينادي أثناء الصلاة: «تهدمت والله أركان الهدى»! ومن المؤكد أن الناس كانوا قد فهموا المعنى من «تهدمت أركان الهدى»، بيد أن المنادي سرعان ما أردف تلك العبارة بأخرى توضح مفهومها إذ نادى: «قتل علي المرتضى».

صلى الله عليك يا أمير المؤمنين.

21 رمضان 1422هـ ق.

معالم الحكومة العلوية

ثمة طائفة من خصال أمير المؤمنين (ع) وهي خصاله المعنوية والملكوتية التي نقصر حتى عن فهمها؛ فمقامه العلمي والمنزلة النورانية والقداسة التي كانت لديه؛ والحقائق التي كان يعمر بها كيانه وقلبه النوراني وتتدفق على لسانه المبارك حِكَماً، والقرب من الله وذكر الله الذي كان يكلّل فعله وقوله وكافة أحواله، وأمورٌ من قبيل فطرته النورانية، لَهي ممّا يتعذّر فهمها بالنسبة لنا، وإننا نؤمن بها ونفتخر بها لأننا سمعناها عن الصادق المصدَّق.

ولكن ثمة طائفة أخرى من خصوصيات أمير المؤمنين تصوغ منه أسوة وأنموذجاً بالنسبة للبشرية قاطبة تحتذي به على مر التاريخ. وإن الأسوة وسيلة ومعيار وميزان يقاس بها العمل الذي يروم الإنسان القيام به. إن هذه الأسوة لا تختص بقومٍ معينين، وهي لا تقتصر على المسلمين أيضاً، وإنكم إذ تشاهدون مدى جاذبية أمير المؤمنين (ع) على مر التاريخ إنّما بسبب هذه الخصال. لذا فحتى من لم يرتضِ الإسلام أو لم يصدِّق بإمامته (ع) يشعر في داخله بالتعظيم لهذه الخصال وينطلق لسانه مثنياً عليها شاء أم أبى. لذلك فإن هذه الخصال أمثولة الجميع؛ ونحن إذ نقيم الآن حكومة إسلامية وندَّعي الحكم العلوي فإننا نفوق سوانا إلحاحاً وحاجة لهذه الأسوة وتمسكاً بها. فإننا إذ رفعنا راية الولاية العلوية في هذه البقعة من العالم، علينا أن نرى ما هو خطابنا، وما الذي نروم تقديمه للإنسانية، وأي إطار نرسمه لإسعاد البشرية ونتمسك به ونرفعه؟ وخيرُ أسوة هنا أمير المؤمنين (ع) ؛ فلا يصح المناداة باسم أمير المؤمنين عليّ وإظهار المحبة والمودة باللسان فقط، ومخالفة فعله والدرس الذي علّمنا إيّاه في قوله وعمله على صعيد العمل.

لو أردنا إيضاح معالم حكومة أمير المؤمنين (ع) فربما يمكن الحديث عن عشر معالم مهمة، أشير إلى بعضها هنا:

1 ـ الإصرار على إقامة دين الله

الأولى: التمسك التام بدين الله والإصرار على إقامته، فأيّما حكومة لا يقوم أمرها على أساس إقامة الدين فليست حكومة علوية.

في خضمّ الحرب ـ وأولئك الذين كانوا وسط الميدان أثناء فترة الدفاع الذي استمر ثماني سنوات يعرفون ما أقول ـ ووسط ذلك المعترك، حيث كان كل مقاتل وجندي يصبّ جل اهتمامه على كيفية شنّه الهجوم أو الدفاع عن نفسه، جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع) ، فسأله عن قضية تخص التوحيد قائلاً: ما المراد من كلمة «أحد» في قوله تعالى {قل هو الله أحد}؟ وهذه ليست بقضية جوهرية، فهو لم يسأل عن وجود الله، وإنما سأل عن قضية ثانوية. فهمَّ به المحيطون بأمير المؤمنين (ع) قائلين: أهوَ وقت سؤال؟! فقال (ع) : دعوني أُجبه، فإنما نحن نقاتل لأجل هذا؛ أي أن قتال أمير المؤمنين وسياسته ومجابهته وحرقة قلبه وكافة الخطوط الأساسية التي اختارها لحكومته كانت من أجل إقامة دين الله؛ وهذا أحد المعالم. ولو كان الأمر في النظام الإسلامي والجمهورية الإسلامية التي تتخذ من الحكم العلوي عنواناً لها، أن لا يكون الهدف إقامة دين الله؛ عَمِلَ الناس بدين الله أو لم يعملوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا، أقيم الحق أو لم يُقم ونقول ما شأننا نحن، إذ ذاك لا تعدّ هذه الحكومة علوية؛ فإقامة دين الله هي أول المعالم، وهي أمّ سائر الخصوصيات في حياة أمير المؤمنين وحكومته، ومنها تنبثق عدالته وتعود إليها حاكمية الأمة ومداراة الناس التي تميزت بها حياة أمير المؤمنين (ع) .

2ـ العدالة المطلقة

الخصوصية الثانية والمعلم الثاني في حكومة أمير المؤمنين (ع) هي العدالة المطلقة؛ أي أنه لم يؤثر مصلحته الشخصية وأية سياسة تمسّ شخصه على العدالة قط؛ «والله لا أطلب النصر بالجور». فانظروا أيّ لوحة زاهرة هذه وأي بيرق سامٍ هذا؛ فلربما يقال لك إنك المنتصر في ميدان السياسة أو التنافس العلمي أو الانتخابات أو ساحة الحرب، ولكن ذلك منوط بأن تمارس الظلم؛ فأيهما تختار ياترى؟ إن أمير المؤمنين يرفض هذا النصر، ويقول لا ضير في أن أُهزم، ولكن لا أظلِم.

والمحور في كل ما سمعتموه حول أمير المؤمنين (ع) من كلام بشأن العدالة هو دعوته المطلقة للعدالة، العدالة للجميع وفي كافة الأمور؛ أي العدالة الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية والأخلاقية. وهذا معيار آخر لحكومة أمير المؤمنين (ع) ، فهو لا يطيق الظلم ولا يركن إليه ولو أُهدرت مصالحه. ومن أفظع الظلم هو التمييز، سواء في تطبيق القوانين أو في تنفيذ الأحكام؛ فهذا مرفوض على الإطلاق من قبل أمير المؤمنين (ع) .

ارتكب أحد أتباعه مخالفة، وكان شديداً في حبّه وماهراً في الدعوة إليه، وكثيراً ما كان يمارس الدعوة الحقّة له (ع) ، فأقام أمير المؤمنين (ع) عليه الحدّ، وكان ذلك خلافاً لما يتوقعه، فقال: يا أمير المؤمنين، أنا الذي أواليك وأدافع عنك. فردّ عليه (ع) : نعم، ولكن هذا حكم الله. والله هو الذي يتقبل منك موالاتك لي، ولك جزيل الشكر! وهكذا أجرى الحد عليه. لكنه ردَّ: ما دام الأمر كذلك، فإنني ذاهبٌ إلى معاوية، فهو الذي يعرف قدري! فذهب.

3ـ التقوى

من الخصوصيات والمعالم الأخرى لحكومة أمير المؤمنين (ع) هي التقوى؛ لاحظوا أن أياً منها بيرقاً وعلماً، فماذا تعني التقوى؟ إنها تعني تلك الشدة من المراقبة بحيث لا يحيد الإنسان عن جادة الحق في ممارساته الشخصية. وهذا ما تعنيه التقوى؛ أي أن يراقب المرء نفسه مراقبة تامّة في تداوله للأموال، في التلاعب بكرامة الناس، في الاختيار والرفض، في التحدث حيث يحتاط أن لا يقول ما يخالف الحق. تصفحوا نهج البلاغة فهو حافل بهذه المقولات. ومما يؤسف له الآن أن البعض درجوا على ارتكاب ما حلا لهم تحت طائلة أن أمير المؤمنين كان كذلك ويفعل هكذا، ما هو دليلهم ومن أين لهم هذا؟ إن أمير المؤمنين (ع) هو ذاك في نهج البلاغة، وهو ذاك في الروايات الواردة عنه وعن أولاده الطاهرين، فأين هذه الأمور التي يدعيها البعض قائلين إن علياً كان كذلك؟ كلاّ، فعلي هو ذاك في نهج البلاغة؛ طالعوا نهج البلاغة من أوله إلى آخره، فهو حافل بالحث على التقوى والدعوة إليها، وما لم يكن الإنسان تقياً فلا قدرة له على إقامة دين الله. فأسوأ المرض تلوث الباطن، فتلوث قلب الإنسان بالمعصية لا يدع للإنسان فرصة إدراك الحقيقة، ناهيك عن أن يتحرك صوبها.

4 ـ الانبثاق عن إرادة الأمة

من حكومة أمير المؤمنين (ع) الانبثاق عن إرادة الأمة، إذ ليس من منطق أمير المؤمنين (ع) «التغلّب»، أي التحكم بالناس عن طريق الغلبة والقهر، فبالرغم من علمه بأنه على حق تنحّى جانباً حتى جاءه الناس مصرّين معاهدين، ولعلهم بكوا ملتمسين إياه أن يمسك بزمام أمورهم، حينها نهض الإمام وأمسك بزمام أمور الأمة، وهو القائل: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيتُ حبلها على غاربها...»، فلا يستهوي أمير المؤمنين الإمساك بالسلطة وممارسة قدرته، فحب السلطة إنما يستهوي أولئك الذين يريدون إرضاء رغباتهم وأهوائهم النفسية، وليس أمير المؤمنين الذي يسعى لأداء التكليف الشرعي وإقامة الحق. ولقد استودعته الأمة السلطة فاستلمها وحافظ عليها بكل اقتدار، ولم يحابِ أولئك الذين انبروا لمناهضة سلطته الإسلامية ومناوئة حكومته الإسلامية؛ فليكونوا من صحابة رسول الله (ص) ومن الوجهاء وذوي السابقة بالجهاد في سبيل الإسلام، فماداموا قد انبروا لمناهضة الحق ومناوئته فلابد من التصدي لهم بكل اقتدار. وتصدى (ع) لهم! وعلى هذا المنوال كانت معاركه الثلاث. وهذه ميزة الحكومة الصالحة.

13 رجب 1423هـ ـ طهران

 ـــــــــــــــــــــــ

[1] نهج البلاغة: 443 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان.

[2] نهج البلاغة: 786 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان.

[3] نهج البلاغة: 285 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان.

[4] نهج البلاغة: 676 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان.

[5] نهج البلاغة: 79 تحقيق الشيخ فارس تبريزيان.

**************

شرح وصية أمير المؤمنين علي (ع) للقائد

2008-09-20

وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) للحسن والحسين(عليهما السلام)

إنّ للإمام وصايا عديدة أوصى بها الإمام الحسن (عليه السلام) أو الإمام الحسن والإمام الحسين (عليه السلام) معاً، أو أقواله للآخرين التي هي بمثابة وصاياه أيضاً، إلا أنّ هناك وصية قصيرة للإمام (عليه السلام) أوصى بها من بعد أن جُرِح في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك أودّ تبيانها لكم.

والسبب في أهمّية هذه الوصية هو أنّ الإنسان في اللحظات الأخيرة من عمره يسعى أن يبيّن حقيقة أفكاره وآرائه ومكنونات قلبه إلى أفضل الناس وأكثرهم أمانة لديه، وأميرالمؤمنين (عليه السلام) هو اُعجوبة الخليقة والشخص الثاني بعد النبي الأكرم  (صلى الله عليه وآله وسلم)  والمسلم المجاهد في سبيل اللّه (جاهد في اللّه حقّ جهاده)، والزاهد والحاكم والسياسي من الطراز الأوّل ومنزلته في السماء أشهر ممّا هي في الأرض، ومحبّيه من ملائكة السماء أكثر من محبّيه من أهل الأرض.

إنّ مثل هذا الإنسان المرتبط بالملكوت الأعلى والعارف بكلّ المعارف الإلهية المتعالية، ويمتلك كلّ هذه السجايا والخصال عندما يشعر باقتراب أجله يرى أنّ الوقت يمرّ بسرعة، فيجب عليه أن يبادر إلى تبيان الاُمور المهمة.

وعندما ضُرب (عليه السلام) في المسجد كان يعلم أنّ حياته مشرفة على الانتهاء فأراد أن يوصي أولاده وأهل الكوفة وجميع المسلمين الحيارى في ذلك العصر ويصدر بياناً مقتضباً يبقى خالداً على مدى التاريخ، وقد تمّ انتخاب فقرات هذا البيان بدقّة متناهية من قبله (عليه السلام).

وقد يشعر الإنسان بعدم التجانس بين فقرات هذه الوصية عندما تكون نظرته إليها سطحية، فتارةً يوصي بأمرٍ غايةً في الأهمّية من وجهة نظرنا يتبعه فجأة بآخر ليس له نفس المستوى من الأهمّية، ولكن نظرة علي (عليه السلام) للاُمور كنظرة اللّه لجميع الموجودات في العالم نظرة إلهية وصائبة، والاُمور الصغيرة والكبيرة تختلف في المقياس الإلهي والمقياس العَلَوي عما هي عليه في مقاييسنا نحن.

ونحن قاصرين عن الوصول إلى هذا المستوى ولكن حينما نقوم بتحليل تلك العبارات ـ ولو من بعيد ـ فسنجد أنّها متناسقة كلّ التناسق ونُظِّمت بصورة دقيقة جدّاً، فلنستمع إليها بدقّة وإمعان.

«ومن وصيّة[1] له (عليه السلام) للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ورده ابن ملجم (لعنه اللّه)»

لقد دعا الحسن والحسين (عليهما السلام) وأوصاهما بتلك الوصايا على الرغم مما كان يعانيه من ألم وحمّى على إثر نفوذ السم إلى بدنه الطاهر، وقد تكون الآلام مانعة للإنسان الاعتيادي عن أن يقوم بتأدية واجبه إلا أنها لا تستطيع أن تمنع شخصاً كعليٍّ (عليه السلام) من ذلك، فأراد (عليه السلام) أن يبادر إلى استغلال تلك الساعات القليلة التي أعقبت ضربته وحتى استشهاده (عليه السلام)، والتي لم تتجاوز 48 ساعة لإنجاز الأعمال الضرورية وأهمّها كانت وصيّته (عليه السلام) .

الفقرة الاُولى: «اُوصيكما بتقوى اللّه»

فبدأ وصيته بدون أي مقدّمة بالدعوة إلى تقوى اللّه سبحانه وتعالى، وكنتُ قد تحدّثت في الجمعة الاُولى من شهر رمضان بشكلٍ مجمل عن مسألة التقوى.

فالتقوى تعني كلّ شيءٍ للإنسان، وهي دنيا الاُمّة وآخرتها والزاد الحقيقي في هذا الطريق الطويل الذي لابدّ للبشرية أن تقطعه، فالتقوى هي كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) الأوّل والأخـير، وهي مقدّمة على كل شيءٍ في حيـاة الإنسان، فكأنّه (عليه السلام) يريـد أن يقول: يجب عليكم يا أولادي مراقبة أنفسكم وأعمالكم ووزنها بالمعيار الإلهي الحق.

وليس كلامه (عليه السلام) في مسألة الخوف من اللّه، كما فُسِّرت التقوى من قبل البعض بأنّها الخوف من اللّه وخشيته سبحانه وتعالى. صحيح أنّ الخشية والخوف من اللّه تعالى لها قيمة وتُعتبر من أنواع التقوى إلا أنّ التقوى الحقيقية تعني: مراقبة الإنسان المستمرة لأعماله كي تكون منطبقة مع المصالح الإلهية التي يقدِّرها المولى سبحانه وتعالى له، وهذا أمر لا يمكن للإنسان أن يستغني عنه بأيِّ حالٍ من الأحوال.

وإذا حاولنا الاستغناء عن هذه الحالة فالطريق أمامنا مليء بالأخطار والوادي عميق تحت الأقدام وسننزلق بلا ريب، إلا أنّه قد نعثر على حجرٍ أو شجر نتشبّت به لعلّه يعيننا على الصعود إلى الأعلى من جديد: ﴿إِنّ الّذِينَ اتّقَوْا إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾[2].

فالإنسان المتّقي عندما يشعر بمسّ الشيطان له يتذكر اللّه ويعود إلى نفسه حالاً بالمراقبة والمحاسبة، وعلي (عليه السلام) يعلم أنّ الشيطان لن يتركنا أبداً فلابدّ أن تكون الفقرة الاُولى من الوصية هي تقوى اللّه سبحانه وتعالى.

وأخذ بعد ذلك يوصي بالاُمور المهمة الأخرى، فقال: «وأن لا تبغيا الدنيا وإنْ بغتكما» .

هذه هي الفقرة الثانية وهي من مستلزمات التقوى وكلّ الأعمال الصالحة هي من مستلزمات التقوى، ومن جملة هذه الأعمال هو الأمر الذي ذكره(عليه السلام)، فلم يقل اتركوا الدنيا بل أوصى بعدم اتّباع الدنيا وبالتعبير الشائع عدم الركض وراء الدنيا.

فماذا تعني هذه الدنيا التي لا ينبغي السعي وراءها؟ هل تعني إعمار الأرض وإحياء الثروات الطبيعية؟ وهل هذه هي الدنيا التي ذمّها أميرالمؤمنين وحذّر منها؟

لا، ليس الأمر كذلك، فالدّنيا التي لا ينبغي اللهث وراءها تعني طلب اللّذات والسعي وراء الشهوات، أمّا إذا كان الهدف من إعمار الأرض خير البشرية وصلاحها، فهو الآخرة بعينها وهو أمر يجب السعي إليه.

أمّا الدنيا المذمومة والتي نُهي الإنسان من السعي وراءها فهي الأعمال التي تصد عن السير في طريق الخير والصلاح وتسلب منه إرادته وتستهلك قواه وسعيه وهمّته، وهي تعني الأنانية وحبّ الذات والسعي وراء جميع الأموال والسعي وراء اللّذات.

وهذه الدنيا على قسمين فمنها المباح ومنها الحرام، فليس كلّ ما يطلبه الإنسان لنفسه من اللذات حرام بل إنّ ما فيه المباح أيضاً، ولكن أهل البيت (عليهم السلام)  أوصوا بالابتعاد حتى عن اللذات المباحة عندما يصبح هدف الإنسان من الدنيا طلب اللذات والشهوات فقط.

فاجهدوا أن تسير مظاهر حياتكم المادية والمعنوية في المسير الإلهي المرسوم لها، فإنّ كلّ الأعمال الدنيوية يمكن وضعها في هذا المسار إذا كان الهدف منها هدفاً مقدّساً، فحتّى التجارة ـ مثلاً ـ يمكن أن تُجعل في سبيل اللّه عندما يكون الهدف منها تحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع وليس ادّخار الأموال الطائلة فقط.

إذن كانت الفقرة الثانية من وصيته (عليه السلام) هي عدم السعي وراء الدنيا بالمعنى الذي ذكرناه آنفاً، وقد كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو المصداق الأكمل لتلك الوصايا وقد جسّدها بشكل كامل في حياته وسلوكه، فإذا ألقينا نظرةً على حياته(عليه السلام) فسنجدها تجسيداً حيّاً لكلّ ما أوصى به(عليه السلام).

الفقرة الثالثة: «ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما»

أي لا تأسفا على ثروةٍ أو لذّة أو منصب لم تحصلوا عليه، لا تتأسّفوا لأنّكم لا تملكون وسائل الراحة والرخاء، ولا تأسفوا على أي شيء فاتكم من هذه الدنيا الدنية أبداً.

الفقرة الرابعة: «وقولا للحق»، أو في نسخة اُخرى: «وقولا الحق»

ولا فرق بينهما، ومعناه: لا تكتموا شيئاً عندما تعتقدون أنّه حقّ فيجب عليكم إظهاره حينما تدعو الضرورة لذلك.

إنّ جميع المصائب حلّت بالمجتمعات عندما قام الذين يعرفون الحق بكتمانه وعدم السعي لإظهاره، بل سعوا لإظهار الباطل أحياناً أو جعلوا الباطل حقّاً أحياناً اُخرى، وما كان الحق ليُظلم لو بادر الذين عرفوه لنشره وإظهاره، ولما طمع أهل الباطل في القضاء عليه.

الفقرة الخامسة: «واعملا للأجر»

يعني الأجر الحقيقي والإلهي، فلا تعمل عبثاً أيّها الإنسان، إنّ عمرك وعملك وحتى أنفاسك هي رأس مالك الوحيد والحقيقي فلا تفرّط به، فإذا أردت أن تعمل عملاً أو تتنفّس نفساً أو تصرف قواك في شيء فليكن ذلك من أجل الحصول على أجرٍ يتناسب مع ذلك.

فما هو هذا الأجر الذي يجب أن نحصل عليه؟ هل هو دراهم معدودة نحصل عليها؟ هل هو جلب رضا فلان وعلاّن من الناس؟ هل هذه الاُمور هي الأجر الحقيقي لضياع عمر الإنسان؟ من المؤكّد أنّ الجواب على ذلك سيكون بالنفي.

أتذكّر أنّ رواية عن الإمام السجاد (عليه السلام) يقول فيها: «فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، ألا فلا تبيعوها بغيرها»[3].

فكلما يكون الأجر أقل من ذلك فإن الغبن سيكون من نصيبنا، فلتكن أعمالنا من أجل الأجر الحقيقي وهو الأجر الاُخروي.

الفقرة السادسة: «وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»

الخصومة غير العداوة، فبغض الظالم ومعاداته غير كافية لأنّ الخصومة تعني الأخذ بتلابيب الظالم وعدم تركه.

لقد اكفهرّ وجه البشرية منذ وفاة أميرالمؤمنين (عليه السلام) وحتّى اليوم بسبب عدم إظهار الخصومة للظالمين، ولو أنّ الأيدي المؤمنة كانت تضيّق الخناق على الظالمين لما سنحت الفرصة للظلم كي ينتشر بهذا الحجم الواسع في العالم، بل كان ذلك يؤدّي إلى انحصاره وإسقاطه والقضاء عليه.

وما يريده أميرالمؤمنين (عليه السلام) هو ( كن للظالم خصماً )، فأينما يوجد ظالم يجب على الإنسان أن يضع نفسه موضع الخصومة له، وليس من الضروري إبراز هذه الخصومة دوماً، ولكن عندما تحين الفرصة فلابدّ من إبراز تلك الخصومة والأخذ بتلابيب الظالم ولو من بعيد إذا تعذّر ذلك عن قرب.

واليوم نرى أنّ العالم يغطّ في مستنقع الرذيلة نتيجةً لتركه لهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فأيّ ذلٍّ وامتهانٍ تعيشه البشرية اليوم؟ وأيّ ظلم ذلك الذي تمرّ به الشعوب الإسلامية المعاصرة لابتعادها عن الإسلام؟

ولو عُمل بهذا الجزء من وصيته (عليه السلام) لما وجدنا اليوم أثراً لكثيرٍ من تلك المظالم ولا المصائب المترتّبة عليها.

ويؤكّد (عليه السلام) على الأمر المهم الآخر فيقول: «وللمظلوم عوناً»، يعني: إذا وجدت مظلوماً فكن عوناً له، لم يقل كن مؤيّداً له بل يقول أعنه بكل ما تستطيع وكلّ ما يبلغه وسعك.

الى هنا كان الخطاب موجّهاً إلى الإمام الحسن والإمام الحسين(عليهما السلام)، طبعاً هذا لا يختصّ بهما فقط، فبالرغم من أنّ خطابه كان موجّهاً إليهما إلا أنّ وصيّته عامة تشمل الجميع، بينما العبارات التالية يقولها أميرالمؤمنين (عليه الصلاة والسلام) بصورة عامة.

فيقول: «اُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله».

فحتى نحن الجالسون هنا مخاطبون بهذه الوصية أيضاً، ثمّ يبدأ بالقسم الثاني من وصيته العامة فيعود من جديد ليؤكّد على أهمية التقوى مرةً اُخرى، فالتقوى هي الكلام الأوّل والأخير لأميرالمؤمنين(عليه السلام).

وبعد الوصية بالتقوى مجدداً يقول (عليه السلام): «ونظم أمركم».

فماذا يعني بنظم أمركم؟ هل يعني أنّ الأعمال التي تقومون بها في حياتكم اليومية يجب أن تكون منظمة ودقيقة؟

من المحتمل أن يكون هذا أحد معاني هذه العبارة، لكنّه لم يقل عليكم بنظم اُموركم بل «نظم أمركم»، إذن فظاهر هذه العبارة أنّ هناك أمراً مهماً يجب أن يتحقق وفقاً لضوابط ونظم معينة، فما هو ذلك الأمر المهم؟

يُفهم أنّ لهذا الأمر المهم قاسماً مشتركاً عند كل الناس، فيحتمل أن يكون معنى نظم الأمر هو عبارة عن إقامة الولاية والحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي، يعني أيّها المسلمون ليكن تعاملكم مع مسألة الحكومة والنظام وفق ضوابط ونظم معينة ومحددة، لا يكن هناك انفلات في تعاملكم مع النظام. فبسبب هذا الانفلات وصلت الاُمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه من انحطاط وتشتت.

يُروى عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)  أنّه قال ما معناه: (إذا بايعت الاُمة إماماً يرضى اللّه عنه فلا يجوز لأحدٍ مخالفته)، فلو أنّ الاُمة الإسلامية عملت بمضمون هذه الرواية بعد بيعتها للإمام علي (عليه السلام) لما وقعت تلك الحروب المدمرة كحرب الجمل وصفين والنهروان.

وهذا «الإخلال والانفلات» هو ما يقوم به البعض من أجل مصالحه وإرضاءً لميوله النفسية، فينشر الرعب في البلاد ويثير القلاقل ويخلّ بالنظام العام ويقتل الناس الأبرياء هنا وهناك، وهذا هو البلاء العظيم الذي حذّر منه أميرالمؤمنين(عليه السلام) ونهى عنه وأمر بخلافه.

الفقرة الثالثة في القسم الثاني من هذه الوصية: «وصلاح ذات بينكم»

يعني لتكن قلوبكم خالية من الضغائن، ولتكن كلمتكم واحدة ولا تتفرّقوا وتختلفوا، ولتكن علاقة بعضكم مع البعض أخوية وحسنة.

ثمّ يأتي(عليه السلام)  بحديث للنبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  دعماً لوصيّته، وهذا يكشف عن اهتمامه البالغ بهذا الأمر لا لأنّه أكثر أهمّية من مسألة نظم الأمر، بل لأنّ مسألة (إصلاح ذات البين) معرّضة للضرر أكثر من مسألة نظم الأمر؛ لذلك فهو يُشفع ذلك بحديثٍ لرسول اللّه  (صلى الله عليه وآله وسلم)  تأكيداً على أهمّية هذا الأمر، يقول: «فإنّي سمعت من جدّكما يقول صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام».

ليس أفضل من كل الصلوات والصيام بل أفضل من كلّ صلاة وصيام، فأنت عندما تريد أن تقوم بأداء صلاةٍ أو صيامٍ فلا بأس، لكن هناك عمل أفضل من هذه الصلاة وهذا الصيام، وهو السعي لإصلاح ذات البين. فعندما ترى تشتّتاً واختلافاً بين أبناء الاُمة الإسلامية عليك أن تسعى لرفع هذه الفرقة والاختلاف، فإن عملك هذا أفضل من عامة الصلاة والصيام.

وبعد هذه الفقرات يبدأ (عليه السلام) بوصايا اُخرى قصيرة وهادفة ومؤلمة فيقول:

«اللّه اللّه في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يُضيّعوا بحضرتكم» .

إيّاكم أن تنسوهم، أعينوهم بكل ما تستطيعون، إنّ هذا الإنسان العظيم العارف باللّه وصاحب القلب العطوف ينظر إلى كلّ الاُمور بعين الدقّة، فليست المسألة في نظره مسألة فردية وعاطفة عادية.

إنّ الذي فقد أباه هو إنسان فقد أهم حاجة في حياته وهو الاحتياج إلى الأب، فيجب السعي الحثيث لملء هذا الفراغ الذي حدث في حياته، طبعاً لا يمكن ملء هذا الفراغ، لكن يجب عليك أن ترعى هذا الطفل وهذا الصبي وذاك الشاب اليتيم لكي لا يصيبهم الضياع، يجب عليك أن توفّر لهم لقمة العيش حتّى لا يذوقوا ألم الجوع والحرمان.

لا تعطوهم يوماً وتمنعوهم يوماً، لابدّ للمجتمع من الاهتمام بشؤونهم المادّية، وإيّاكم أن يصيبهم الضياع على الرغم من حضوركم واطّلاعكم. ربما تكون معذوراً إذا كنت تجهل حالهم أو غائباً عنهم، ولكن إيّاك أن يُضيّع يتيم أو يُهمل وأنت حاضر ومطّلع، لا ينشغل كلّ واحدٍ منكم بأموره الخاصّة وتتركوا هذا اليتيم وحيداً يصارع مشاكل الحياة.

«واللّه اللّه في جيرانكم» .

لا تستصغروا مسألة الجوار فأمرها مهمّ جدّاً، إنّ ذلك التلاحم الاجتماعي المتماسك الذي أقامه الإسلام طبقاً للفطرة السليمة قد ضاع وللأسف في منعطفات التمدن البعيدة عن الفطرة الإنسانية التي فُطر الناس عليها.

يوجد من الناس من يقيم في بيت سنوات طويلة وهو لا يعرف من جاره، وما يجري عليه؟ ولا يساعده في حاجاته ومشاكله وضروريات حياته!

ونحن إذا عملنا بهذه الفقرة من وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) وقام كلّ واحدٍ منّا برعاية جيرانه ليس من الناحية الاقتصادية والمالية التي هي مهمة في ذاتها فحسب بل من جميع النواحي الإنسانية، فسنرى مدى التآلف والمحبّة اللذين سيسودان العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الإسلامي، وسنرى كيف يُشفى المجتمع من أمراضه الاجتماعية المزمنة التي يعاني منها.

ثمّ يكمل الوصية بالجيران فيقول: «فانّهم وصية نبيّكم، مازال يوصي بهم حتّى ظننّا أنّه سيؤرِّثهم».

«واللّه اللّه في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم».

إيّاكم أن يسبقكم للعمل بمفاهيم القرآن من ليس له إيمان بها فيتقدّموا عليكم وتتأخّروا عنهم؛ لترككم العمل بتلك المفاهيم الإلهية.

وهذا عين ما وقع تماماً، فالشعوب المتقدّمة في العالم كان وصولها إلى هذا المستوى من التقدم بفضل الجدّية والدقة في العمل ومتابعته، والاهتمام بالوقت وبنوعية الإنتاج وخصال اُخرى يحبّها اللّه سبحانه وتعالى، وليس عن طريق الفساد وشرب الخمور والظلم كما يتصوّر البعض.

وقد قلتُ كراراً : إنّ التقدّم العلمي لم يكن ليتحقق لولا امتلاك الدول الغربية التي أوجدته لبعض تلك الخصال الحميدة، وإلا لكان الدمار من نصيب تلك الدول نتيجةً لظلمها وتعسّفها.

إنّ هذه الخصال الحميدة هي التي حفظت تلك الشعوب التي تبنّتها من الانقراض، ولكنّنا تخلّينا وللأسف عن تلك الصفات والخصال فوصلنا إلى ما وصلنا إليه.

وإذا تحلّى عمّالنا وفلاّحونا وعلماؤنا وأساتذتنا وطلاّبنا وباقي طبقات المجتمع بتلك السجايا والخصال الحميدة ستتحوّل البلاد إلى روضةٍ يدخل فيها الجميع بالنعيم، وهذه هي طريقة العمل بمفاهيم القرآن.

وعبارة : «لا يسبقكم بالعمل به غيركم» لا تعني أنّ علياً لا يريد لأحدٍ أن يعمل بالقرآن، بل بالعكس فلو أنّ الناس جميعاً عملوا بما جاء به القرآن لكان في ذلك مسرّة كبيرة لعلي(عليه السلام)، ولكنّه يقول لا يسبقكم بالمفاهيم القرآنية من لا يؤمن بها فيؤدّي ذلك إلى تسلّطهم عليكم وتأخّركم عنهم بسبب عدم عملكم بما جاء به القرآن الكريم.

«واللّه اللّه في الصلاة فانّها عمود دينكم، واللّه اللّه في بيت ربّكم لا تُخلّوه ما بقيتم، فإنّه إن تُرك لم تُناوروا».

لا تدعوا هذا البيت يخلّي، فإن بيت اللّه تعالى لو اُخلي وترك لا يمهلكم سبحانه وتعالى، أو لا يمكنكم العيش بعد ذلك أبداً، وقد فسّرت هذه العبارة بمعاني مختلفة.

«واللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه».

إيّاكم وترك الجهاد في سبيل اللّه بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم. إنّ الاُمة الإسلامية كانت الاُمة النموذجية في العالم طالما كانت قائمة بالجهاد في سبيل اللّه، ولكنّها اُصيبت بالذلّ والهوان عندما تخلّت عن هذه الفريضة الإلهية.

وقد ذكر الكتّاب المسيحيون في إنجيلهم عن المسيح(عليه السلام) أنّه قال: «إذا ضربك أحد على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر»، يعنون بذلك إنّنا مسالمون ولا نعرف للحرب معنى، وشعارنا الرحمة والسلام، ولا يزالوا يردّدون هذا من دون حياء ويطعنون بالمسلمين؛ لأنّهم أهل الجهاد والحرب والسيف وسفك الدماء.

وقد كرّروا هذه الافتراءات إلى حدٍّ أصبح معه بعض المسلمين يخجل من طرح تلك المفاهيم الإسلامية، مما حدى ببعض العلماء والكتّاب المسلمين أن ينكروا وجود موضوع الجهاد في الإسلام، بل قالوا جهادنا هو دفاع فقط.

ماذا يعني هذا الكلام الهزيل؟ إنّ اللّه سبحانه يقول جاهدوا في سبيل اللّه، وهؤلاء يقولون لا يوجد عندنا جهاد وإنّما هناك دفاع، فاللّه تعالى يقول في قرآنه: ﴿ إِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ ﴾[4]، ويقول: ﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّارِ﴾[5]، وهؤلاء يقولون إنّ الجهاد في سبيل اللّه ليس هو الجهاد الابتدائي، وإنّما الجهاد الدفاعي فقط !

إنّ هذه الأفكار نشأت على إثر الإعلام والتبليغ المسيحي الذي يكرّر دوماً أنّ الحرب وسفك الدماء هو شيء قبيح ولابدّ من الصلح والسلام، وقد صدّق المسلمون هذه الترهات فأصبحوا أذلاء جليسي بيوتهم بعد أن كانت راية العزّة ترفرف على رؤوسهم؛ لقيامهم بفريضة الجهاد في سبيل اللّه سبحانه وتعالى.

إنّ اُولئك الذين كانوا يدعون إلى الصلح والسلام والرحمة، ويُشينون على المسلمين جهادهم في سبيل اللّه قاموا بقتل وذبح المسلمين وتشريدهم في شتّى بقاع الأرض، واليوم تشاهدون ما يقوم به هؤلاء في البوسنة والهرسك وما قاموا به من عملٍ شنيع في الحرم الإبراهيمي الشريف لمسجد خليل الرحمن في فلسطين المحتلة.

وإنّ اُولئك الذين كانوا ينتقدون المسلمين سنين طويلة بأنّهم دعاة الحرب وسفك الدماء، قاموا منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم بشنّ الحروب المدمّرة على المسلمين وارتكاب المجازر المروّعة بحقّهم، والتي لا مجال للخوض في تفاصيلها في هذا الوقت المحدود.

وحينما يقرأ الإنسان ما دُوِّن في التاريخ من وقائع وأحداث، فسيبكي دوماً لأجل المظالم التي ارتكبت، ومن أجل حالة النفاق التي يعيشها اُولئك الذين يرفعون أصواتهم بالصلح والسلام وهم يخفون خناجرهم لغرسها في صدور الأبرياء.

نعم، يجب أن يكون الجهاد في إطاره الإسلامي الذي شرّعه اللّه تعالى وضمن الضوابط التي وضعت له في الشريعة، فلا يوجد في الجهاد ظلم ولا تعدٍّ على حقوق الآخرين، ولا حجّة لقتل الأبرياء أو القضاء على المسلمين.

إنّ الجهاد فريضة إلهية إذا اُقيمت ستؤدّي إلى ارتفاع رؤوس المسلمين عالياً، ولهذا أكّد عليها أميرالمؤمنين (عليه السلام) في وصيته المباركة.

ثمّ يقول (عليه السلام): «وعليكم بالتواصل والتباذل، وإيّاكم والتدابر والتقاطع، ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يُستجاب لكم» .

إذا اعتادت الاُمة أن لا تقول للشرير إنّك شرير، فإنّها ستفتح الطريق أمام الأشرار والمنحرفين لتولّي زمام اُمورها، وعندها لا يُستجاب حتى دعاء الأخيار للخلاص من هؤلاء الأشرار الفاسقين.

هذه هي وصية أميرالمؤمنين (عليه السلام) والتي اشتملت على عشرين فقرة تناولت أهمّ القضايا التي اختارها وبيّنها للاُمة.

ثمّ تعرّض بعد ذلك لأمرٍ أساسي ومهم وهو مسألة الانتقام من قاتليه، فيقول: «يا بني عبدالمطلب لا اُلفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً تقولون قُتِل أميرالمؤمنين، ألا لا تقتلنّ بي إلا قاتلي، انظروا إذا أنا متُّ من ضربته هذه فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يُمثّل بالرجل، فإنّي سمعت رسول اللّه  (صلى الله عليه وآله وسلم)  يقول: إيّاكم والمُثلة ولو بالكلب العقور» .

فأمير المؤمنين (عليه السلام) العارف باللّه صاحب القلب الإلهي الرؤوف كان يخاف من أن يهجم الناس على ذلك الرجل الخبيث ويقطّعوه إرباً إرباً ويمثّلوا به.

كانت تلك آخر وصايا أميرالمؤمنين (عليه السلام)، وإنّنا مخاطبون بها، فيجب علينا أخذها والعمل بمضامينها، ولا أدري كم عدد الساعات التي عاشها أميرالمؤمنين بعد أن أنهى وصيّته؟

إنّ شوارع الكوفة وأزقّتها ومسجدها كانت مملوءة بكلمات وحكم هذا الرجل العظيم وينبوع الحكمة المتدفِّق، وتختزن ذكرياته في قلبها وأسماعها، وقد سُلبت تلك النعمة الإلهية من يد الاُمة في مثل ليلة البارحة.

وهناك عبارة اُخرى في نهج البلاغة قالها لولده الحسن (عليه السلام)، وأودّ أن أذكرها هنا في يوم عزاء أميرالمؤمنين (عليه السلام) لعلّ عيونكم تبتل بالدموع لمصاب هذا الإنسان العظيم، يقول (عليه السلام): «ملكتني عيني وأنا جالس، فسنح لي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)  فقلت يا رسـول اللّه مـاذا لقـيت مـن اُمّتك مـن الأود واللّدد»، لاحظوا علياً (عليه السلام) يقف أمام رسول اللّه كما يقف الابن بين يدي أبيه، فهو(عليه السلام) نشأ وترعرع في حجر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)  .

كان النبي بمنزلة أبيه في كلّ أدوار حياته، والآن هو شيخ بلغ الثالثة والستّين من عمره حينما يرى رسول اللّه في المنام يخامره نفس إحساس الطفولة أمام النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيشكو له كما يشكو الطفل لأبيه فيقول: «ماذا لقيت من اُمّتك من الأود واللدد، فقال: ادعُ عليهم، فقلت: أبدَلني اللّه بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً لهم مني»[6] يعني: يقول اللّهم عجّل في منيّتي، وقد اُجِيبت تلك الدعوة.

ففي مثل ليلة البارحة أحاط الأصحاب ببيت عليّ (عليه السلام)، ويُروى أنّ الأيتام جاءوا ـ وإن كنت لم أرَ هذه الرواية ـ وأحاطوا بالبيت وبيد كل واحدٍ منم كأس من لبن، لأنهم سمعوا بأنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) كان قد طلب لبناً ليشربه، وعلى الرغم من عدم ذكر هذه الحادثة في الكتب التاريخية إلا أنّها قد تكون محتملة الصحة.

لكن المسلّم به تاريخياً أن بيت عليّ اُحيط بعشّاق عليّ ومحبّيه وهم يبكون وينحبون، ثمّ خرج الإمام الحسن (عليه السلام) وقال للناس: إنّ حال أبي ليست على ما يرام فتفرّقوا، فتفرّق الناس.

وقد أوصى أميرالمؤمنين (عليه السلام) أن يُغسّل بدنه الطاهر ويدفن ليلاً، ويبدو كأنّ هذه المسألة أصبحت سنّة عند أهل البيت(عليها السلام)،  فكما غُسِّلت فاطمة وكُفّنت ودُفنت ليلاً، فأميرالمؤمنين أيضاً غُسّل وكُفّن ودُفن ليلاً ؛ لأنّه لم يكن مُستبعد من اُولئك الذين سبّوا علياً سنوات طويلة على منابر المسلمين أن يقوموا بنبش قبره (عليه السلام) إذا علموا موضعه، ويهينوا بدنه الطاهر، وقد كان أميرالمؤمنين يعرف ذلك ببعد نظره.

وعندما تناصف الليل أخذوا الجسد الطاهر ودفنوه ورجعوا، ولم يكن المشيّعيون سوى أولاد علي(عليه السلام) وبعض خواص أصحابه. وقد فكّرت في مظلومية الإمام (عليه السلام) في ذلك التشييع المظلوم والدفن البعيد عن أنظار الناس وفي بيت الإمام المظلم، وفي هذه الأيام الصعبة التي مرّت على أهل البيت (عليه السلام).

فلا أظنّ أنّه مرّت على أحد أيام أصعب كما مرّت على زينب (عليها السلام)، فقد شاهدت اُمّها وهي تدفن ليلاً، ورأت أباها يدفن ليلاً كالليلة الماضية، وكانت قد شاهدت السهام التي رُميت بها جنازة أخيها الحسن (عليه السلام)، وفي عاشوراء رأت ذلك المشهد المؤلم المهول، فنادت: «يا رسول اللّه صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمّل بالدماء ومقطّع الأعضاء»، لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العلي العظيم..

ــــــــــــــــــــ

[1] نهج البلاغة: 543 .

[2] الأعراف: 201.

[3] الكافي كتاب العقل و الجهل ج‏1 ص 19.

[4] الأنفال: 15.

[5] التوبة: 123.

[6] ميزان الحكمة، الريشهري: ج2، ص865.

**************

خصائص أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفضائله

2010-08-29

 

 

المكان: قم‏

المصدر: صحيفة الإمام، ج‏7، ص: 200

الموضوع: خصائص أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وفضائله‏

التاريخ: 23 أرديبهشت 1358 ﻫ.ش/ 16 جمادى الثانية 1399 ﻫ.ق‏

الحاضرون: جمع من أعضاء الفريق الوطني وهيئة رفع الأثقال في طهران‏

بسم الله الرحمن الرحيم‏

إنسانٌ نموذجي‏

العقل السليم في الجسم السليم. إن الرياضة مثلما تقوي البدن وتحفظه سليماً، فإنها تجعل العقل سليماً أيضاً وإذا كان العقل سليما فيجب أن تتبعه تزكية النفس.

إنكم وكما تتدربون وتعملون على تقوية عضلاتكم و سوف تكونون مفيدين إن شاء الله لبلدكم في المستقبل، لابد لكم من التربية الرياضية لجميع أبعادكم الوجودية. فهذا علي (عليه السلام) نجد اسمه أمامنا أينما ذهبنا، عندما نذهب إلى الفقهاء نجد فقه علي، عندما نذهب إلى الزهاد نجد زهد علي، وإذا ذهبنا إلى المتصوفة نجدهم يقولون إن التصوف مأخوذ من علي، حتى عندما نذهب إلى الرياضيين فإننا نجدهم يقولون أيضاً: علي. ويبدؤون باسم علي. إن علياً هذا الأول في جميع الأبعاد الإنسانية. ولهذا تتقرب إليه كل الطوائف وفيه خصوصيات كل الطبقات، ففيه خصوصية قوة الرياضيين بشكل واف. يقال إن ساعده (عليه السلام) كان كالحديد! وكانت القوة التي يستعملها في الضرب بالسيف كبيرة لدرجة يقال إن ضربته كانت واحدة، إن علا قدّ وإن اعترض قطّ، (ضربات علي وتر)[1].

فعلي هذا فيه كل شي‏ء. ويجب أن يكون قدوة لنا. ففي العبادة هو فوق جميع العبَّاد، وفي الزهد فوق جميع الزهَّاد، وفي الحرب فوق جميع المحاربين، وفي القوة فوق جميع الأقوياء وهو أعجوبة إذ يجمع فيه الأضداد، فالإنسان العابد لا يمكنه عادة أن يكون رياضياً، الإنسان الزاهد لا يمكنه أن يكون مقاتلاً. الفقيه لا يمكنه فعل هذه الأمور أيضاً .. إنه أسوة فرغم أن زهده فوق زهد الجميع وقد سمعتم أي شي‏ء كان طعامه، وقد حفظه التاريخ، يقولون إنه كان يضع طعامه في كيس ويختمه لئلا يضيف إليه أولاده أو ابنته شيئاً من الزيت شفقة عليه! كان يختم رأس الكيس لئلا يفتحه أحد. وفي الليلة الأخيرة، في الليلة الأخيرة من حياته، وكما ينقل، كان ضيفاً عند ابنته كلثوم وكانت قد أحضرت له لبناً وملحاً ليفطر، فقال أنه قال: متى رأيتني آكل طعامين؟! أرادت أن ترفع الملح فقال لها لا ارفعي اللبن، ثم أفطر ملحاً .. وكان البعض يتعجب من قوَّته (عليه السلام) مع طعامه البسيط هذا، فكان سلام الله عليه يجيبهم بأن النباتات البرية أصلب عوداً فالنباتات الموجودة في الصحاري تشرب ماءً قليلًا ولكنها أشدّ ناراً وأمتن عوداً فليست قوة الإنسان بكثرة طعامه[2].

اقتداء الرياضيين بالإمام علي‏

على كل حال، هذا علي الذي يتحدثون عنه. وإنني آمل منكم أيها الرياضيون، وكما تسعون لتحصيل القوة البدنية، وما شاء الله فقد جلستم هنا بأذرع قوية وأنا أسرَّ بهذا أيضاً، أن تقتدوا بسيرة علي عليه السلام، بالزهد الذي كان عنده، بالتقوى التي كان يتحلى بها. ولا شك في أنه لا يستطيع أحد منا أن يكون مثله وإنما نتبعه على قدر استطاعتنا، ونزكي أنفسنا، وآمل أن تكونوا مفيدين لأمتكم وعزاً لبلدكم .. منَّ الله عليكم بالمزيد من القوة، وبقوة الإيمان، قوة تزكية النفس، قدرة التسلط على النفس، والسلام عليكم جميعا أيها الشباب النجباء.

 [في النهاية، وبعد تبادل حديث قصير بين الإمام وبعض الرياضيين، قال الإمام في رده على أحد الحاضرين وقد طلب تغيير النشيد الملكي]:

لقد كانت جميع أمورنا سابقاً مرتبطة بالغير، ببريطانيا، بأمريكا، أما الآن فيجب علينا التخلص من ذلك بهمة الجميع، لا يمكن للنشيد الملكي أن يبقى بعد الآن، انتهى أمره، يجب أن يصبح نشيد (الجمهورية الإسلامية) وفقكم الله تعالى.

ـــــــــــــــــــ

[1] بحار الأنوار، ج 41، ص 143.

[2] بحار الأنوار، ج 42، ص 226 و 238.

**************

 

أمير المؤمنين علي (ع) على لسان حفيده الإمام الخميني

2008-09-20

بسم الله الرحمن الرحيم

* «أنا لا أستطيع ولا يستطيع غيري التحدث في شخصية أمير المؤمنين (عليه السلام). نحن لا نتمكن من إدراك الجوانب المختلفة من هذا الإنسان العظيم. إنه الإنسان الكامل ومظهر جميع أسماء الله وصفاته وبالتالي فان أبعاده وجوانب شخصيته تكون ألفاً حسب أسماء الله تعالى ونحن لا نستطيع أن نوضح واحدا منها. هذا الإنسان الذي يجمع في نفسه الأضداد، لا يتمكن أحد من التحدث حوله. لذا أرى من الأفضل أن أصمت وأسكت …

* كلما قيل أو كتب في شخصية أمير المؤمنين لم يف بحقه أبدا أي أن هذه المعجزة الإلهية ما زالت غامضة على الجميع. جميع الطوائف الإسلامية وبالأحرى الشيعة، ينسبونه إلى أنفسهم. العرفاء والحكماء والفقهاء والفلاسفة وحتى المتصوفة والدراويش والذين لا يعتقدون بالإسلام، كلهم يستشهدون بكلامه وأقواله. عندما كنت مقيما في العراق، الحزب العفلقي (البعث) الذي لا يعتقد أساسا بالإسلام، بل إنه ضد الدين والإسلام، حتى هذا الحزب كان يستشهد بأقواله ويكتبها على جدران الشوارع……

* وعلى كل حال فان هذا اللغز لم يحل ولن يحل. هذا الموجود، معجزة إلهية لا يستطيع أحد الوصول إلى حقيقته بل الجميع يتكلمون حسب فهمهم ومقدار إدراكهم والإمام علي (عليه السلام) غير ما يتصورونه ويتوهمونه أي أننا لا نستطيع أبدا أن نمدحه بما هو هو. ولهذا فالكل يأخذ بضعة من صفاته المتضادة ويخيل إليه أنه قد عرف أمير المؤمنين (عليه السلام)… إذ ذاك فالأفضل علينا غض الطرف عن التحدث حوله بل نأمل أن نسير في مسير هدايته ونصل إلى بعض هذا الصراط».

(جريدة رسالت345 تاريخ25/12/65 ه ش)

* «نحن لا نتمكن من الخوض في الأبعاد المعنوية لأمير المؤمنين، إلا أن بعض الأبعاد المادية والاجتماعية، يمكننا التحدث عنها. لاحظوا أن خليفة المسلمين وأميرهم كيف يصبح ويمسي وماذا يلبس؟! يريد أن يخطب خطبة الجمعة، فيرتقي المنبر ويحرك لباسه ليجف، ذلك لأنه لم يكن للإمام رداءين ولباسين يرتديهما (حسب الرواية) وأما نعله فهو يخصفه بيديه وعندما يُسأل عن ثمن نعله يجيب أنه لا فرق بين النعل وبين الإمرة عليكم إلا أن أقيم حدا أو أحكم عدلا. أين نحن من أمير وقائد كهذا؟!

* إن أمير المؤمنين سلام الله عليه مظلومٌ حقا وحتى بين الشيعة فإنه مظلوم. عندما يريدون ذكر مناقبه وفضائله، يأتون بأمور غير صحيحة بل كلها إهانة له.

* مثلا يدّعون أن الخاتم الذي أنفقه في صلاته على المسكين، تساوي قيمته خراج (ميزانية) بلاد الشام كلها! ذلك الإنسان الزاهد بذلك اللباس المتواضع والنعل الممزق، كيف يلبس مثل هذا الخاتم الثمين؟! هذا كذب وافتراء حتى لو جاء ضمن حديث فمثل هذا الحديث كذب مزخرف ولكنه ليس في الحديث أبدا……

* نحن لا يمكننا أبدا أن نقلده في أفعاله وأعماله لكن -وكما أمرنا أيضا- علينا أن نعينه بصبر وسداد وتقوى واجتهاد».

(جريدة رسالت رقم628، 12/12/66 ه ش)

* «كل أعماله وأقواله تنبع من قلب إلهي. عندما يقول الرسول (صلى الله عليه وآله) «ضربة على يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» إذا فرضنا أن شخصا آخر ضرب مثل تلك الضربة القاضية، فبالتأكيد كم تكن فيها مثل هذه الفضيلة أن تكون هذه الضربة أفضل من صلاة وعبادة الناس بما فيهم الأنبياء. ولكن هذه الضربة تنبع من روح أمير المؤمنين ولذا فضربة علي في كل يوم تربو على عباده الثقلين وليس في ذلك اليوم فحسب لأن القلب، قلب إلهي؛ قلب لا يشغله شيء سوى الله تبارك وتعالى وبهذا فإن الضربة التي تنبع من مثل هذا القلب، بل وكل عمل من أعماله، أفضل من جميع عبادات البشر».

(صحيفة نور ج8 ص66)

* «ثواب الأعمال على مقدار حبّ الله تبارك وتعالى، فكلما فني الإنسان في الله وكلما زاد توحيده وزادت معرفته، يزيد أجر عمله، وعلى هذا الأساس فإن ضربة على يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين. هدف الأعمال يكمن في هدفه المعنوي لا الصوري. فإذا فرضنا أن شخصا آخر ضرب مثل تلك الضربة القاضية وكانت نتيجة ضربته فوز الإسلام وترويج الدين، ولكن ليس في قلبه العشق والحب (لذات الله تعالى) فهل تكون ضربته على أجر أو فضيلة؟ (طبعا لا). الضربة تعني حركة اليد وقتل الكافر فكثير من الناس كانوا يضربون ضربات قاضية إلا أن بعض هذه الضربات كانت بلا أجر أبدا وإن كان في بعضها أجر فلا يكمن أن يصل إلى أفضل من عبادة الثقلين. فالمغزى إذن في ضربة علي ذلك الحب التوحيدي الكامن في قلبه، فتلك اليد التي تمسك بمقبض السيف لم تكن يده وتلك العين لم تكن عينه، إنها يد الله وإنها عين الله.

نحن نستطيع أن نتحدث بمثل هذا الحديث ولكن لا يمكننا تصوره، صدقناه ولا نتمكن من تصوره أبدا».

(صحيفة نورج9ص61)  

**************

أمير المؤمين (ع) في حديث القائد

2008-09-20

منذ قرون والعارفون ـ من المسلمين وغير المسلمين ـ بهذه الشخصيّة المقدّسة يتكلّمون ويكتبون حول أميرالمؤمنين (عليه السلام)، إلا أنّ ما قيل ليس كافياً في بيان جميع أبعاد شخصية هذه الاعجوبة والنموذج للقدرة الإلهية الكاملة والكلمة التامّة للّه.

وبديهي أنّنا سبب المشكلة غالباً، فنحن الذين لا يمكننا تصوّر هذه الشخصية المعنوية والروحية لضعف أذهاننا واستئناسنا بالمقاييس المادّية والاُناس العاديين، نعم بالإمكان رسم ملامح تلك الشخصية المعنوية العظيمة في الذهن ببركة أقوال من هم بمستوى أميرالمؤمنين أو أعلى منه، وهو خاتم الأنبياء محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

الإمام مثل أعلى وقدوة

إنّ ما يهمّنا أيّها الاخوة والأخوات ـ بعد المعرفة الإجمالية أو مدى الدرجة الممكنة في معرفة هذا الإنسان العظيم وسائر أولياء اللّه ـ هو أن نلتفت الى أنّ الإمام هو ذلك المثل الأعلى الذي يجعله اللّه على الأرض ويبيّنه للبشر ليعرف الناس ما هي القدرة والاُسوة؟ وماهو الهدف الذي يتحرّك نحوه؟

فبمعرفة الإمام يهتدي الإنسان الطريق، وهذا هو المهم، ولذا فالإمام في مفهومه الإسلامي الصحيح هو: من يرشد الناس بسلوكه وشخصيته وأفعاله الى الطريق المستقيم بمقدار ما يرشدهم بلسانه وأوامره أو أكثر، وهذه مسألة مهمة.

* ليكن أميرالمؤمنين (عليه السلام) اُسوتنا في جميع هذه، ونسعى لنكون مثل ذلك الإمام؛ إذ كيف يمكن لأحدٍ أن يدّعي أنّه من شيعة علي بن أبي طالب ويكون أميرالمؤمنين (عليه السلام) إمامه بينما تكون علاقته القلبية مع اللّه أقلّ أمرٍ يهتمّ به؟

إنّ الإمام (عليه السلام) صرف كلّ عمره في العبادة والعمل للّه، منذ أول لحظة أشرق نور الهداية الإلهية في وجود ذلك الإمام عن طريق الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحتّى تلك اللحظة التي نال فيها لقاء اللّه لم يغفل الإمام لحظة عن عبادة اللّه، وعن ذكر اللّه، وعن الارتباط باللّه.

فقد كان في ارتباط دائم مع اللّه، في الفرح وفي الحزن، في الحرب وفي السلم، ليلاً ونهاراً، في المسجد وفي الحرب، في الحكم وفي القضاء.

كان ذلك الإنسان يحمل همّ ضعفاء المجتمع في جميع لحظات وآنات الحكم والسلطة، ويفكر بهم، وكذلك يوصي من يرسلهم الى أماكن مختلفة كولاة وحكّام وسفراء وغيرهم بذلك.

فقد عهد الى مالك الأشتر بأن يبحث عن اُولئك الذين لا تقع عيون أمثاله عليهم، فبإمكان الأثرياء والأذكياء وأهل المناصب والألسن الوصول إلى أمثال مالك الأشتر، ولكن هناك من لا يقدر على ذلك، حيث لا يملك الجرأة ولا المال ولا من يعرّفه عنده، يقول (عليه السلام) له بأن يبحث عنهم ويتفقّدهم.

* أميرالمؤمنين (عليه السلام) يأمر ولاته، وكان يباشر هذا العمل بنفسه، فيذهب إلى بيوت الفقراء ويطعم اليتامى بيده، حتّى إنّ شخصاً قال: إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) قد أطعم اليتامى بيده الى درجة أنّنا كنّا نتمنّى أن نكون يتامى.

فكيف يدّعي شخص أنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) إمامه في حين أنّه لا يتفقّد في فترة حكمه وسلطته ورئاسته ـ ولو كانت رئاسة محدودة في منطقة من مناطق البلد ـ المحرومين والفقراء والمستضعفين؟

حكومتنا سائرة على نهج أمير المؤمنين

إنّ هذه الحكومة التي شُكّلت اليوم في نظام الجمهورية الإسلامية بعد قرون هي حكومة سائرة على نهج أميرالمؤمنين (عليه السلام)، أمّا الآخرون فيتحرّكون في الطريق المعاكس وفي النقطة المقابلة لما كان يريده أميرالمؤمنين (عليه السلام).

إنّ هذه الحكومة تتحرك على ذلك النهج، فيجب مساندتها والسير معها وتأييدها وتذكيرها بعيوبها بصورة أخوية وودّية كي تتمكن من المحافظة على هذا الصراط المستقيم.

فكما كان القاسطون والمارقون والناكثون يعارضون حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان الكفّار من خلفهم يخالفونها وسعوا لمحاربتها، كذلك الحال هذا اليوم، من الذي يدافع اليوم عن حقوق المسلمين؟ من الذي يطرح مسألة فلسطين وقضية لبنان بصدق؟ إنّه نظام الجمهورية الإسلامية.

‍13 رجب 1414 ﻫ ـ ق/ طهران

أمير المؤمنين مثال لرجال التعبئة

* إنّه اسبوع التعبئة، وهذا هو معنى التعبوي، أي أنه وقف حياته كلها للإسلام ولنبيّه مرضاةً لله، ولم يعمل لنفسه أبداً.

ففي العشر السنوات من حياة النبي كان كل عمل أميرالمؤمنين (عليه السلام) لأجل رفعة الإسلام، وان يقال إنّ أمير المؤمنين والزهراء وبنيهم (عليها السلام) ظلّوا جياعاً فكان هذا سببه، وإلاّ لو كان يفكّر كبقية الشباب في التجارة لكان أفضل التجّار جميعاً.

هذا هو علي بن أبي طالب الذي كان في أواخر عمره يحفر البئر ولا يخرج منه حتى يتدفّق الماء ولا يغسل يديه ووجه حتى يوقفه لبيت المال، فقد أحيى الكثير من البساتين، فلماذا يبقى أمير المؤمنين (عليه السلام) جائعاً، فقد ورد في الرواية أن الزهراء (عليها السلام) جاءت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بان على وجهها آثار الجوع، فرقّ قلب النبي لها فدعا لها.

لقد كانت كل مساعي أمير المؤمنين (عليه السلام) خالصة لله وللإسلام، فهو اُمثولة رجال التعبئة، وإنني اُهيب بمقاتلي التعبئة في بلادنا العلوية الفاطمية أن يجعلوا أمير المؤمنين (عليه السلام) قدوة لهم، فإنّه (عليه السلام) أفضل وأعظم قدوة للتعبويين المسلمين في كل أرجاء العالم، ثم أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي إبنة قائد الإسلام العظيم والحاكم المقتدر في زمانه رغم كل الذين تقدّموا لها ومن بينهم المتموّلين والشخصيات، إلاّ أنها انتخبت ـ أي أن الله انتخبه وهي كانت راضية بالانتخاب الإلهي وفرحة بذلك ـ هذا الشاب الذي وهب حياته مرضاةً لله وقضى عمره في الجهاد، ثم تعيش معه بتلك الصورة حيث كان أميرالمؤمنين (عليه السلام) راضٍ بكل وجوده عنها، وعبارات أميرالمؤمنين (عليه السلام) لها ـ والتي لا اُريد ذكرها في يوم العيد هذا ـ في أواخر حياتها خير دليل على ذلك.

فصبرت وربّت بَنيها، ودافعت عن حق الولاية دفاع المستميت وتحمّلت في ذلك كل ذلك العذاب وتلك المصائب ثم استقبلت تلك الشهادة العظيمة بكل رحابة صدر.

فهذه هي فاطمة الزهراء (عليها السلام).

20/ جمادى الثانية/ 1415هـ ـ ق ـ طهران

علي (ع) مظهر العدل الإلهي

إن لمفردة العدالة ومفهومها موقعاً متميزاً في حياة أمير المؤمنين (ع) وشخصيته، وبالرغم من اجتماع العديد من الخصال فيه (ع)، إلاّ أن من أبرزها ـ وهي التي لازمته على الدوام ـ هي العدالة التي تنطوي على مفاهيم متعددة وتتشعب إلى شعب شتى اجتمعت كلها في وجود أمير المؤمنين (ع)، فهو مظهر العدل الإلهي.

لقد اقتضى العدل ـ الذي نعتبره من أصول الدين ـ أن يختار الله سبحانه شخصاً كأمير المؤمنين (ع) لإمامة الأمة وقيادتها، وهذا ما فعله الباري جلت قدرته؛ فوجود أمير المؤمنين وشخصيته وتربيته وعظمته وبالتالي تنصيبه للخلافة كلها مظهر للعدل الإلهي، ولقد تجسدت العدالة بمعناها الإنساني بأكمل صورها في كيانه (ع).

البعد الفردي لعدالة أمير المؤمنين (ع)

كان (ع) يجسد العدالة الإنسانية ببعديها الفردي والاجتماعي؛ حيث تجلت عدالة الإنسان في حدود حياته الفردية، وعدالته في مضمار الحكم والسلطة ـ تلك التي نطلق عليها العدالة الاجتماعية ـ في حياة أمير المؤمنين (ع)، وعلينا أن نعرف ذلك بنية تطبيقه عملياً، لاسيما بالنسبة لأولئك الذين يتحملون المسؤوليات في المجتمع ويتبوءون موقعاً في الحكومة، فلقد تمثلت العدالة الفردية بأعلى درجاتها في شخصية أمير المؤمنين (ع)، وذاك هو ما نعبر عنه بالتقوى، تلك التقوى التي كان (ع) يجسدها في عمله السياسي والعسكري وفي توزيعه لبيت المال استفادته من بمواهب الحياة واستثماره لبيت المال، وفي قضائه وجميع شؤونه؛ فالعدالة الفردية والذاتية للمرء تمثل في واقع الأمر سنداً للعدالة الاجتماعية وصاحبة التأثير في العدالة على صعيد الحياة الاجتماعية.

ليس بمقدور من يفتقد للتقوى في ذاته وفي عمله، وهو رهين أهوائه النفسية وأسير للشيطان، الادعاء بقدرته على تطبيق العدالة في المجتمع، فذلك محال؛ فمن أراد أن يكون مصدر اشعاع للعدالة في حياة الأمة، فلابد له ـ والحال هذه ـ أن يلتزم التقوى على صعيد نفسه أولاً؛ تلك التقوى التي أشرت لها في مستهل الخطبة، والتي تعني المراقبة للحيلولة دون الوقوع في الخطأ. وهذا لا يعني أن الإنسان لن يخطئ، كلا فلا مفر لغير المعصوم من ارتكاب الخطأ، وما هذه المراقبة إلا صراط مستقيم وسبيل للنجاة تنتشل الإنسان من الغرق وتمنحه القوة، والذي لا يمارس الرقابة على نفسه ويعاني من فقدان العدالة والتقوى على صعيد القول والفعل وحياته الشخصية لا قدرة له على أن يكون مصدراً للعدالة الاجتماعية في أوساط المجتمع.

وظيفة الولاة في كلام أمير المؤمنين (ع)

لقد أعطى أمير المؤمنين (ع) درسه الخالد لكل الذين يمارسون دوراً على الصعيد السياسي لمجتمعاتهم، حيث يقول (ع): «مَن نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه»، إذ بإمكان اللسان النطق بكثير من الأشياء، أما ما يأخذ بيد الإنسانية لسلوك صراط الله فهو سيرة وأفعال من يقع عليه الاختيار ليكون إماماً للناس، سواء على مستوى المجتمع أو أدنى مستوى من ذلك. ثم يقول (ع): «ومعلم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم».

هذا هو منطق أمير المؤمنين (ع) ودرسه؛ فالحكومة ليست ممارسة للسلطة وحسب، بل هي نفوذ في القلوب واستقرار في العقول، فمن كان في هذا الموقع أو وضع نفسه فيه عليه بادئ ذي بدء أن ينهمك دوماً بتهذيب نفسه وإرشادها ومحاسبتها ووعظها.

من المواصفات التي ذكرها أمير المؤمنين (ع) لمن يتمتع بالأهلية لإمارة الناس أو تولي مسؤولية قطاع من شؤونهم ـ وهذا ما يبتدئ من زعامة البلد ويسري إلى ما هو أدنى من الدوائر والمؤسسات، كما يصدق على القاضي أو المتصدي لدائرة من دوائر هذا الجهاز الوسيع ـ وكان (ع) يوصي ولاته وقادتها بها، نجدها في قوله (ع): «فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحق ويعمل به». من هنا يأتي التلازم بين السلطة والأخلاق في الإسلام، فالسلطة إنما هي ظالمة غاصبة إذا ما خلت من الأخلاق.

* أما عدالته (ع) على صعيد المجتمع، أي تطبيقه للعدالة الاجتماعية، فأمير المؤمنين (ع) يمثل وصفة الإسلام الكاملة؛ إذ كانت حكومته إسلامية 100% وليست 99% أو 99,99%؛ فلم يخرج ما كان يصدر عن أمير المؤمنين (ع) وحدود صلاحياته وسلطته من تحرك أو قرار عن صبغته الإسلامية؛ أي أنه العدالة المطلقة، وربما حصل في بعض الولايات التابعة لحكومة أمير المؤمنين (ع) أن مورست أعمال تتنافى مع العدالة، بيد أنه (ع) كمسؤول كان يشعر بتكليفه عندما يواجه مثل هذه الممارسات، فكانت كتبه وتحذيراته وخطبه وحروبه كلها تصب في مجرى تطبيق هذه العدالة.

20 ذي الحجة 1421هـ