بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

 

{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}

 

صدق اللَّه العلي العظيم‏

 

 بطاقة الهوية

 

الاسم: عباس علي حجازي‏

 

اسم الأم: ليلى حجازي‏

 

محل وتاريخ الولادة: بليدا 1 - 4 - 1973

 

الوضع العائلي: عازب‏

 

رقم السجل: 154

 

مكان وتاريخ الاستشهاد: اقليم التفاح 25 - 6 - 1997

 

لن يسكت الظمأ في صحراء الشوق حيث الروح تسعى بين غبار الرمال عن واحة لقاء: «عباسُ ما كان أصعب ألا تعود... عباسُ ما أقسى أن لا يمل القلب من انتظارك... عباسُ والروح أصابتها نبال الحرقة لرؤيا وجهك ولو لمرة أخيرة... الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي... عباس...».

 

وماذا يُقال عن فتى حمل زاد دنياه من فتات مجاهدين سبقوه إلى الشهادة فاكتفى، عن يدٍ حملت الدماء مشعلاً للطريق فاهتدت... عن غدٍ صارت أمانيه لحظة أُمْنِيَة مباركة فارتقى... ماذا يُقال غير أنه من الذين رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه...

 

ها قد خلع عباس ثوب الدنيا ليدثِّر روحه بغطاءٍ نُسِجَ من فيض الملكوت الأعلى، وصَوّب ناظريه إلى هدفِ الشهادة فأصاب ولم يطل انتظاره، فكان رحيله في وقتٍ كان الجميع أحوجُ لبقائِه دمعة حيرى بين انتظارٍ وتسليم بقضاء اللَّه...

 

إنه عباس، الطفل المدلّل، بين تسعة أخوة وأخوات سعوا لرفده بمشاعر العاطفة والحب وهمهم الوحيد أن يكون مرتاحاً وسعيداً، فكل ما يريده عباس يلّبوه لأن القناعة الموسومة بها عزة نفسه والطاعة (العمياء) التي كان يتعاطى بها معهم عمقتا التعلق به وألهبتا العاطفة الجياشة نحوه...

 

وإذا كان الاسم الذي انتقوه له (عباس) تيمناً بأبي الفضل العباس (ع)، فإن عباس أبى إلا أن يمزج روحه بفضائل وخصال خلّدت أبا الفضل في ذاكرة التاريخ ليكون رمزاً للإيثار والإخلاص والوفاء، فعلّم عباسُ نفسه من الصغر أن يتحمل المسؤولية إلى جانب اخوته، ولم يُغرِق نفسه في متاهة الدلال والطلب، بل صار يتعاطى معهم وهو في سن التاسعة كأنه شاب في العشرين من عمره.

 

عندما حزمت شقيقته الكبرى حقيبة خروجهم من قريتهم المحتلة بليدا في آخر زيارة لهم، وكان آنذاك في التاسعة من عمره، كان تركه للقرية جرحاً عميقاً حمله طوال عمره، فقد بقيت رائحة التراب مزروعة بين مسامات جسمه يتنشقها ويعيش في خيالات شوقٍ وثّابٍ للعودة من جديد، للسير في ذلك الوادي العميق الواقع على أطراف بلدة شقرا الذي أخذته إليه أخته لقطف الصعتر في مشوارهم الأخير، ولكم تلهَّف للركض قرب بركة القرية وأن يضحك ويضحك، ولكن الاحتلال الإسرائيلي الذي سرق منه هذا التواجد في قريته وحرمه من سعادة البقاء فيها لم يلغِ الانتماء إليها بل عمَّقها، فإن الانتماء الحقيقي هو الممهور بدمٍ صادقٍ وحب مخلص.

 

بقيت بيروت، التي ولد فيها، بالنسبة إليه المكان المؤقت إلى حين تسمح له الفرص بالعودة إلى قريته، غير أن خوفاً ما تسرب إلى نفوس أهله وأخوته كلما كبر، فهو لم يكن بالصورة (الظاهرة) كما أحبوا أن يكون، خصوصاً بعد أن ترك دراسته الثانوية ليعين والده في عمله بمحله، ومرافقة بعض الأشخاص له، غير أنه قابل كل الانتقادات التي وجهت إليه بابتسامة عريضة وروح متسامحة مُبيناً لهم أن إيمان المرء يُقاس بجوهره وليس بظاهره، وأن الركيزة الأساس هو قيام كل فرد بتكليفه...

 

كان استشهاد أمين عام حزب اللَّه سماحة السيد عباس الموسوي (رض) هو المفصل الحقيقي في حياة عباس، وانقلبت حياته رأساً على عقب، فقد صار يغيب عن المنزل، ويترك في كثير من الأوقات محل والده للالتحاق بعملٍ لا أحد يعرفه، وصار يشارك بالدورات العسكرية والثقافية، وما لبث أن منّ اللَّه عليه بمرابطات على الثغور، وقد استغرب الجميع بدايةً سر هذا التحول الواضح لكنهم سرعان ما عرفوا أن حقيقة الأمر لم يتغير شي‏ء في شخصية عباس غير أنه بيّن باطنه على ظاهره... مع مجموعة من رفاق الحي الذي يقطن فيه، صار يقضي وقته في مُجمع خاتم الأنبياء (ع)  النويري حيث اتخذوا مكاناً عُرِف باسمهم، وسعى لبث أفكاره النورانية في عقول الناشئة والأطفال من أولاد أخيه وأقاربه، فهو المبادر دائماً لجمع العائلة، ويستغل الفرص في المكوث بين أهله وعائلته، فتلك الابتسامة العابقة بعطفٍ وحنان لا تزال تطير كأمنياتٍ بينهم، واغماضة عينيه عند الابتسام تفتح ستارة الذكريات، وضحكاته مع الأطفال الذين طالما غفوا على ساعديهم، ومراجيحهم التي كان يدفعها صوب السماء، وركضهم الجميل، وبعض الأدعية والصلوات التي أوصاهم بها كل ذلك إرثٌ لا يزال بنبضُ بالحياة...

 

عندما وفق اللَّه والدته لأداء فريضة الحج، كان من الصعب عليها وداعه، لكن كان لا بد من ذلك، فأودعته اللَّه، وذكرّتها ابنتها الكبرى أن اللَّه سبحانه وتعالى يستجيب للإنسان دعواته في بيته الحرام، فكانت أمانتها أن تدعو اللَّه ليطيل بعمر عباس... فكانت دعوتها المستجابة لتعود من الحج وتراه من جديد، ولكن ليس لفترة طويلة!

 

وإذا كان جوهر عباس قد ارتسم على مُحياه في آخر فترات حياته، فإنه قد زهد في الدنيا أيما زهدٍ في أيامه الأخيرة، وكان يقتنص الفرص عندما يكون في عمله على المحاور ليذهب إلى قرية شقرا حيث يجلس على صخرةٍ تطلُّ على الوادي العابق بذكريات طفولةٍ حُرمت من تراب القرية، ووضع نفسه في خدمة المجاهدين، ليؤدي تكليفه بصمتٍ وحبٍ لقاء رضى اللَّه...

 

وفي ذلك النهار، هيأ عباسُ حقيبته، وودَّع اخوته فرداً فرداً كعادته... كانت أخته الكبرى تقف على الشرفة تخنقها العبرات، ودعها وخرج، لكنه ما لبث أن عاد ليجد الدموع قد شقتْ لوعاتها على خديها، سألها: «لماذا البكاء وأنتِ زينبية؟!» فلم تجد جواباً لأن الدمع أقوى من كل الكلمات...

 

وهناك، بين هضاب جبل الرفيع، وقع في كمين هو ورفيق له، فاختبأوا خلف صخرة، وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية تشعل المنطقة بالقذائف، ومع صوت القذائف كانت همسات رفيقه تخبره عن مكان سقوطها، فإذا بعباس صامت لا ينبس بكلمة، التفت صديقه إليه ليجده مستشهداً بشظية صغيرة جعلته يبدو كملاكٍ نائم في جنةٍ النعيم...

 

ارتفعت ستارة الغموض التي سعى عباسُ طوال عمره أن يسدلها على حياته، وأشرقت بسمته كشمسٍ في يومٍ ممطرٍ حزين... ونبتت ورود الأقحوان من جسده الطري...

 

عباسُ، لن ينضبَ فرات قلبك المُدمى والشوق باقٍ لا محالة... عباس هذا وجهك، أشياؤك، وصاياك زاد في قحط العمر والزمن طويل، وأنتَ، يا عباس، دمعةٌ، لوعةٌ، في كبد السنين.

 

من وصية الشهيد:

 

أمي الحبيبة: ما أجمل أن تأتي يوم القيامة وتستقبلك السيدة الزهراء (ع) وأنت مرفوعة الرأس.

 

وأذكِّرك يا والدي أنه لا يوجد مصيبة أعظم من مصيبة أبي عبد اللَّه الحسين (ع).

 

اخوتي الأعزاء: إن هذا النهج هو النهج المحمدي الأصيل، هو صراط ممتد من البيداء إلى ما نحن عليه الآن، أوصيكم بأن تعملوا صادقين مع اللَّه وأنفسكم، وأن تحافظوا على هذا الصراط كمحافظتكم على أنفسكم وأولادكم... الكثير الكثير في سبيل اللَّه وإن اللَّه لا يضيع أجر المحسنين.