وعاد تموز يحيي فينا أجمل الذكريات، عاد ليوقظنا على رفاق وأبناء وأحباء رحلوا عنا قبل خمس سنوات، رحلوا وأصداء بطولاتهم تملأ الأرجاء، رحلوا ولا يزال طيفهم يحمينا ويؤنسنا، هم الذين امتشقوا السلاح بيد وباليد الأخرى قبضوا على كتاب، وبكلتا اليدين سطّروا أعظم الملاحم التي سمّيت بأسماء القرى التي سطّرت فيها في تموز 2006، فمن منّا ينسى أسطورة بنت جبيل وعيناتا ومن لم يحفظ عن ظهر قلب عيتا ومارون الراس ووادي الحجير وغيرها من قرى الجنوب الذي لا يزال يقيم الأعراس لشبانه.

 

شبان بعمر الورد تركوا كلّ مغريات الدنيا وتركوا أحلامهم وطموحاتهم، تركوا مقاعد الدراسة تركوا جامعاتهم ورحلوا لتأدية الواجب، مؤكدين أن تحرير الأرض وصون السيادة تحتاج لتضحيات جسام لا يقدر عليها إلا الراسخون في العلم والإيمان، رحلوا طالبين لقاء الله وهزيمة العدو، فنالوا الحسنيين وارتفعوا شهداء.

 

هذا هو حال العديد من شهداء المقاومة الإسلامية الذين استشهدوا في حرب تموز 2006، ممّن لم ينه دراسته الجامعية بعد أو أنه أنهاها ولكنه لم يحقق طموحاته وما كان يخطط له في حياته من آمال وطموحات، بل فضّل نصرة الحق وطرد المحتل على مستقبل يعيشه في ظل سطوة العدو واستكباره.

 

ولكن بعد مرور خمس سنوات على شهادتهم كيف لنا أن لا ننحني أمام ذكراهم ونحن نتلمس كل يوم أهمية تضحياتهم التي أنتجت النصر الإلهي في تموز 2006، وكيف يذكر أحباء الشهداء شهداءهم في عيدهم الخامس؟ وكيف يعيشون الذكريات التي قضوها مع هؤلاء الشهداء؟ وهل غاب الشهيد عن أهله وأحبائه؟ وكيف يعيش المحبون روحانية العلاقة مع من ارتفع شهيدا في سبيل الله؟

 

الشهيد علي حجازي، محام وحائز دكتوراه في القانون كان ينظم وقته بين عمله في المحاماة ونشاطه المقاوم

 

حول ذلك قالت والدة الشهيد الدكتور علي محمد حجازي (محام وحائز على دكتوراه في الحقوق من جامعة بيروت العربية) إن "الشهيد كان مجتهدا جدا في كل تفاصيل حياته سواء خلال الدراسة أو خلال العمل وكان يحب عمله ومتميز به بشكل كبير"، وأضافت أن "الشهيد كان يحب المطالعة رغم انه ليس لديه وقت فراغ كبير".

 

وأشارت والدة الشهيد حجازي إلى أن "الشهيد كان يعمل خلال النهار بمهنة المحاماة بالإضافة إلى تخصيص جزء من وقته لمتابعة نشاطه في العمل المقاوم كجزء من واجبه الشرعي والجهادي"، وتابعت أن "الشهيد كان متعدد الانشغالات خلال حياته وكان يتميز بتنظيم وقته بشكل كبير ولذلك كان يغطي كل انشغالاته دون تضارب في مواعيده".

 

وفيما قالت والدة الشهيد حجازي إن "الشهيد منذ صغره كان تعامله مميزا جدا في المنزل مع أهله وحتى مع أصدقائه خارج المنزل"، أكدت أن "الشهيد لم يرسب في حياته خلال دراسته سواء المدرسية أو الجامعية حتى نيله شهادة الدكتوراه في القانون"، ولفتت إلى أنها "كانت دائما منذ صغره تحثه على العمل والمثابرة وأنه كان دائما يهز لها برأسه من دون أي جواب أو رد"، وأضافت "لم أكن أعلم أنه سيكون صاحب عزيمة وإصرار وتصميم على العمل والنجاح إلى هذه الدرجة إن على صعيد مسيرته التعليمية أو في دنياه أو حتى في استشهاده".

 

وشددت والدة الشهيد حجازي على أنه "وبعد خمس سنوات على استشهاد الشهيد علي إلا أنه لم يفارقني للحظة واحدة ولا لساعة ولا ليوم فهو يرافقني في كل مشوار أو زيارة أو رحلة"، وأملت أن "يشفع لها الشهيد عند الله  لنيل رضى الله والأئمة الأطهار(ع)".

 

الشهيد علي سويدان كان على مشارف تخرجه من إدارة الأعمال وكان يطمح بمتابعة الدراسات العليا

 

من جهته أشار صهر الشهيد محمد علي سويدان (من بلدة ياطر الجنوبية وكان رابع سنة في كلية إدارة أعمال في الجامعة اللبنانية عندما استشهد) إلى أن  "الشهيد كان طموحا خلوقا صاحب شخصية قوية ومتميزة يخدم الآخرين بشكل لافت"، وأضاف أنه "كان ينسق وقته بين دراسته وعمله المقاوم بشكل دقيق ولكن سري للغاية"، ولفت إلى أنه "أول مرة علم أن الشهيد ينتمي إلى المقاومة الإسلامية كان عندما شاهده صدفة وهو يشارك في فعاليات يوم القدس العالمي"، وأكد أن "الشهيد كان طموحا لأبعد الحدود وكان يسعى لمتابعة الدراسات العليا في اختصاص إدارة الأعمال إلى جانب نشاطه الجهادي والمقاوم".

 

وذكر صهر الشهيد سويدان أن "الشهيد علي استشهد في بلدته ياطر خلال قيامه بواجبه الجهادي خلال تموز 2006 عندما كان ضمن مجموعة للمقاومة ترابط خلال الحرب داخل منزل ذويه في البلدة"، وأضاف أن "أم الشهيد كانت تذهب إلى المنزل لتحضّر الطعام للشهيد ورفاقه في كل يوم خلال الحرب وقد استشهدت معهم في نفس القصف الجوي الذي استهدف المنزل المذكور".

 

الشهيد حسام قرعوني مجاز في الإعلام ومشروع تخرجه كان فيلما عن المقاومة

 

بدورها قالت والدة الشهيد حسام نزيه قرعوني (متخرج من كلية الإعلام ـ قسم الإعلام المرئي والمسموع في الجامعة اللبنانية في العام 2000) إن "الشهيد كان يحب العمل بالإعلام بشكل كبير ولذلك انتقل من بلدته البازورية إلى بيروت لمتابعة دراسته الجامعية في كلية الإعلام"، وأشارت إلى أنه "خلال فترة الجامعة أنهى الشهيد كل الدورات الجهادية المطلوبة منه في عمله ضمن المقاومة من دون أن يجعل أحدا من أهله أو رفاقه يلتفت إلى أنه يقوم بذلك"، ولفتت إلى أنه "عند حصول التحرير في العام 2000 كان الشهيد في آخر سنة جامعية له وكان عنده امتحانات آخر السنة فترك الامتحان وذهب إلى الجنوب للقيام بواجبه الجهادي الميداني مما اضطره إلى تقديم الامتحان بالدورة الثانية ونجح وقتها"، وأشارت إلى أن "موضوع أو مشروع التخرّج الذي قدّمه الشهيد في الجامعة كان ريبورتاجا مصورا عن المقاومة والجنوب".

 

وحول الطموحات التي يرسمها الشهيد لحياته، ذكرت والدة الشهيد قرعوني أن "من طموحات الشهيد أنه كان يريد ويحب أن يتابع دراسته في مجال الإعلام الموجه ومدى تأثير الإعلام على الناس والرأي العام"، وأشارت إلى أن "هذا التخصص لم يكن موجودا في لبنان والشهيد رفض ترك البلد والذهاب إلى فرنسا لمتابعة الدراسة في هذا المجال".

 

علما أن والدة الشهيد حسام القرعوني كانت تزور مقام سيد شهداء المقاومة الإسلامية الشهيد السيد عباس الموسوي في بلدة النبي شيت البقاعية عندما تحدثت إلينا هاتفيا، وأكدت أنه "بعد مرور خمس سنوات على استشهاد حسام فهو لم يفارقها أبدا منذ الشهادة"، ولفتت إلى أنها "تزور ضريح السيد عباس وهي متأكدة أنه مع ابنها الشهيد الآن"، وأكدت "أنها تحس بإبنها الشهيد في كل وقت وهي تعلم أنه يراها بينما هي لا تراه".

 

ولكن كيف يمكن تمجيد ذكرى الشهداء وكيف يمكن تكريمهم وهم أصحاب العطاء وأصحاب الكرم وهم الذين قدّموا ما لم يقدمه أحد وأعطوا حيث بخل الآخرون وأقدموا حيث تراجع غيرهم، وهم الذين صنعوا مجد هذه الأمة وعمّدوا بالدم انتصاراتها، من هنا نشأت فكرة تكريم الشهداء الجامعيين بإقامة نصب تذكاري أقيم في حرم المدينة الجامعية التابعة للجامعة اللبنانية في الحدث(جنوب بيروت)، ولكن ما الغاية من إقامة هذا النصب؟ وماذا يمثل هذا الأمر؟

 

نصب تذكاري تكريما للشهداء الجامعيين وشهداء الجامعة اللبنانية

 

وحول هذا الموضوع أوضح "مصمم هذا النصب" الدكتور سامي كنعان (دكتور في الجامعة اللبنانية - كلية الفنون) أن "الفكرة نشأت من قبل بعض الطلاب والأساتذة في الجامعة اللبنانية الذين أرادوا تكريم شهداء الجامعة اللبنانية والبالغ عددهم 33 شهيدا وقد تمَّ طرح الموضوع على رئيس الجامعة الذي وافق وأبدى تأييدا للموضوع"، ونوّه "بالدعم المادي والمعنوي الذي قدمته هيئة التعليم العالي في الجامعة".

 

الدكتور كنعان: نخبة الشباب العربي توجهوا إلى ساحات القتال واستشهدوا في الخطوط الأمامية

 

وأشار كنعان إلى أن "الهاجس الأساس قبل تصميم النصب ووضع مجسمه بشكله الحالي كان أنك تصمم نصبا لأشخاص ضحّوا بأنفسهم في سبيل الله والوطن والأرض"، وِشدد على "أنهم نخبة الشباب العربي المثقف والمتعلم حيث أنهم إما خريجون من الجامعة أو لا يزالون يتابعون تحصيلهم العلمي على مقاعد الدراسة ومع ذلك تركوا كل ذلك وتوجهوا إلى ساحات القتال والمواجهة واستشهدوا على الخطوط الأمامية فلذلك المهم كان وضع نصب تذكاري على قدر هؤلاء الشباب".

 

وقال الدكتور كنعان "في الجامعة أنت تضع نصبا تذكاريا لهؤلاء الشباب ومن خلاله تخاطب عقول كل شباب لبنان من كل الأطياف بالإضافة إلى الوفود الأجنبية التي تزور الجامعة"، وأشار إلى أن "أساس فكرة النصب كانت أن الإنسان هو محور كل شيء في هذه الدنيا وأن محور الإنسان هو الشهيد الذي يضحي بنفسه كي تحيا الأمة ويحيا الوطن"، مضيفا أن "فكرة المشروع كانت تدور حول الشهادة والشهداء".

 

أما عن صلب فكرة النصب التذكاري للشهداء، فأوضح كنعان أن "هناك حركة لولبية وإنسان غير مقروء بشكل مباشر"، وأضاف أن "من أسفل العمل توجد حركة حلازونية وفي الرأس توجد يد ترفع الراية التي تمثل الغاية من هذا العمل بأن الشهيد أصبح نصفه مغطّى والأرض تحضنه ومع ذلك يده لا تزال ممدودة إلى الأعلى لتبقى الراية مرفوعة ليستلمها من سيأتي من بعده من الأجيال والشباب ليكمل المسيرة والجهاد"، وتابع أن "تحت رأس العمل توجد حركة ملفوفة حول الجسم وترمز إلى الوصية التي هي حفظ المقاومة كما أودعها فينا وفي شباب المقاومة سيد شهداء المقاومة السلامية الشهيد السيد عباس الموسوي"، ولفت إلى أنه "تحت العقدة في أسفل جسم العمل يوجد ما يمثل انفكاك الإنسان عن الأرض بما يظهر أن الإنسان ينفك عن الحياة وهذا الإنسان عندما يصل إلى هذا الحد من الإدراك يفهم معنى الموت في سبيل ما هو أنبل من الحياة".

 

"إني أشكر الله على عظيم نعمه أن تطلّع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيدا وقبلني وعائلتي أعضاء في الجمع المبارك المقدس لعوائل الشهداء الذين كنت عندما أزورهم أخجل أمام أب الشهيد وأم الشهيد وزوجة الشهيد، وسأبقى اخجل أمام هؤلاء..."، هكذا أعلن السيد حسن نصر الله خجله من عوائل الشهداء وذلك في نفس اليوم الذي أُعلن فيه عن استشهاد نجله الشهيد السيد هادي، ومن سماحته نتعلم أن الخجل من هؤلاء الناس سواء الشهداء أو عائلاتهم (والسيد نصر الله وعائلته على رأس هؤلاء المضحين) هو واجب علينا ليس لأنهم ضحوا في سبيل الله والوطن والأمة بل لأنه لولا هؤلاء المضحين بدمهم وبفلذات أكبادهم وبأغلى ما لديهم ما كنا نعيش في لبنان عيشة كريمة في بلد محصن ضد أي اعتداء محمي بحمى الله وسواعد المجاهدين الأبطال.