حوار مع الدكتور روح الأمين سعيدي

 

 ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي نصّ الحوار الذي أجراه مع الأستاذ المساعد في مجموعة العلاقات الدوليّة في كليّة المعارف الإسلاميّة والعلوم السياسيّة في جامعة الإمام الصّادق (ع) السيّد روح الأمين سعيدي حول الأسباب التي أدّت إلى أفول أمريكا ومنها الفواصل الاجتماعيّة بين فئات المجتمع الأمريكي، ومدى تأثير الأحداث المتعلّقة بالحضور الدولي لأمريكا خلال العقود الأخيرة في هذا الأمر، إضافة إلى الحديث حول مدى أفول الهيمنة الفكريّة والرؤية الكونيّة والأنثروبولوجيا الأمريكيّة.

 

1. كيف وإلى أي مدى أدّت الفواصل الاجتماعية بين فئات مختلفة من المجتمع الأمريكي (ذوي البشرة السمراء والبيضاء، ديمقراطيين وجمهوريين، الرأسماليين والطبقة الوسطى...) إلى أفول أمريكا؟

 

منذ البداية، كان المجتمع الأمريكي مجتمعاً مبنياً على أساس المهاجرين. حسناً، فأمريكا، كما تعلمون، كان لديها سكان أصليون عند اكتشافها، أي «الهنود الحمر»، لكن السكان البيض الذين دخلوا أمريكا كانوا مهاجرين من أوروبا. غادر كثيرون من المتمولين من الدول الأوروبية، خاصة من بريطانيا، والكثير من اليهود الذين اعتقدوا أن أمريكا هي أرض الميعاد. وبالنظر إلى ثراء الجغرافيا الأمريكية، كانت مكاناً مناسباً جداً لتشكيل مجتمع بشري. ثم دخل أمريكا جاليات من دول ومجتمعات وألوان مختلفة، وبسبب مسألة العبودية دخلها ذوو البشرة السمراء بأعداد كبيرة.

 

لكن النقطة المهمة أن أمريكا كان يقال إنها "Melting pot". إناء صَهر، إناء مغلي يمكن أن يذيب هؤلاء المختلفين الذين يأتون من أعراق وجنسيات وطبقات اجتماعية مختلفة ويجمعهم معاً حول محور القيم الأمريكية وأساسها، وبطبيعة الحال، يحوّل هذه الاختلافات إلى تقارب. بالطبع، يُعد التماسك الاجتماعي من أهم سمات المجتمع الناجح.

 

لكن المسألة في حالة أمريكا والوضع السائد اليوم هي أن إناء الصهر لم يعمل جيداً، لأن أولئك الذين دخلوا أمريكا لا يزالون يحتفظون بتلك السمات الخاصة بهم وبمستعمراتهم. على سبيل المثال العرب الذين هاجروا إلى أمريكا لديهم نمط العيش الخاص بهم نفسه. مثلاً، استقروا في أجزاء من أمريكا قد يكون لها نمط العيش نفسه من حيث المتاجر والمساجد... أو الصينيون ممن ذهبوا إلى هناك وبنوا "Chinatown" (الحي الصيني)، وكذلك البورتوريكيون والإسبان والمكسيكيون على هذا المنوال. خلقت هذه المسألة وضعاً لأمريكا اليوم يُظهر الفواصل الاجتماعية، أي الاختلافات العرقية، واختلافات لون البشرة، والاختلافات الاجتماعية، وبديهي أن تلك القيم الأمريكية لم تتمكن من إزالتها.

 

لذلك، إذا التفتم اليوم، فإن النزاع بين المكسيكيين أو البورتوريكيين أو الإسبان، الذين هم جالية كبيرة جداً أيضاً، مع أولئك الأمريكيين الأصيلين، هو نزاع جاد... أو النزاع بين ذوي البشرة السمراء والبيضاء، فهو أيضاً نزاعٌ وجرح مزمن في أمريكا. ذوو البشرة السمراء يعتقدون أن كرامتهم الاجتماعية لم يحترمها البيض وتعرضوا للتعذيب على يد الشرطة الأمريكية لسنوات وعقود، وحركة "كو كلوكس كلان" (Ku Klux Klan) كانت تقتل ذوي البشرة السمراء، والتمييز العنصري الشديد كان ولا يزال ضد هؤلاء.

 

ما قلناه يوصلنا إلى حقيقة هي أن المجتمع الأمريكي صار اليوم مجتمعاً مقطّع الأوصال من الناحية الاجتماعية، وكان وصول دونالد ترامب إلى السلطة من المراحل التي أظهرت فيها هذه الأمور نفسها بقوة. جاء ترامب ونشّط هذه الشقوق إلى حد ما، أي التركيز على العرق الأبيض النقي، وتأكيد أمريكا النقية، ومعارضة المهاجرين، ومعارضة الصينيين، وعلى سبيل المثال معارضة المكسيكيين الذين «جاؤوا لأخذ وظائفنا وسببوا لنا البطالة». تُطرح نقاشات اليوم مثل Calexit، بمعنى فصل ولاية كاليفورنيا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك بعض الولايات الأخرى.

 

بالطبع هذا لا يعني الانهيار الفوري لأمريكا، فلا ينبغي بالضرورة اعتبار أفول أمريكا مرادفاً للانهيار (collapse). مع ذلك، فإن إحدى خصائص المجتمع الناجح التماسك الاجتماعي والتجانس والوحدة الاجتماعية. لكن المجتمع الأمريكي اليوم ليس لديه هذه الخصائص. لا يبدو أن هذه الأمور يمكن حلها في المستقبل القريب، ولا إناء الصهر الأمريكي ذاك سيكون قادراً على جمعها معاً. أدت هذه [المسألة] إلى أن يكون الوضع الاجتماعي الأمريكي وضعاً تعددياً. بالطبع - كما قلت - هذا لا يعني انهياراً وشيكاً، ومناقشة قضايا مثل Calexit هي أمور مطروحة، لكنها ليست محتملة جداً.

 

2. هل كان للأحداث المتعلقة بالحضور الدولي لأمريكا خلال العقود الأخيرة، مثل الوضع في أفغانستان والعراق والأزمة في أوكرانيا وما إلى ذلك، تأثير في انزواء الصورة الدولية لأمريكا وأفولها بين الدول الحليفة وغير الحليفة؟ أو سيكون لها تأثير؟

 

نعم، الجواب إيجابي تماماً. لاحظوا! كان من المفترض أن تدخل أمريكا، بصفتها الدولة التي ترى نفسها القوة المهيمنة والمنظمة للنظام الدولي، إلى أماكن مختلفة. لقد أرادت حل القضايا وفق قولها، وإحلال الديمقراطية، والتدخل الإنساني، وفق قولها، والقضاء على الأنظمة الديكتاتورية مثل قضية أفغانستان والعراق، وإحلال الأمن والديمقراطية للناس، وبالطبع هذه كلها سياسة معلنة.

 

لكن على الصعيد العملي ما لاحظته الدول الأخرى والرأي العام العالمي هو أن أمريكا أخفقت في معظم هذه المشاريع، ولم تتحقق الأمور التي كانت تقال وتُطرح في السياسات المعلنة. لقد غزت أمريكا أفغانستان عام 2001 بكم هائل من الشعارات البراقة لمحاربة الإرهاب ولقمع «طالبان» وإنقاذ الشعب الأفغاني من هؤلاء «الإرهابيين» لكنكم رأيتم الوضع بعد سنوات دون إنجازات حتى خروج بايدن من أفغانستان.

 

رأيتم حالة الانسحاب الأمريكي: خروج مفاجئ جداً ومتسرع. ثم لمَن أعطيَت أفغانستان؟ «طالبان» التي دخلت أمريكا أفغانستان عام 2001 بهدف الإطاحة بها. تلك الحرب وذلك الدمار وذلك القتل كله للنساء والأطفال، والهجوم على المدارس ومراسم الزفاف للناس الأبرياء... ماذا حدث في النهاية؟ بعد نحو عشرين عاماً من الاحتلال، خرجت أمريكا من أفغانستان بهذه الحالة.

 

في العراق كذلك. إن احتلال العراق والإطاحة بصدام حسين بهدف إحلال الديمقراطية أدى في النهاية إلى سنوات من الحرب فيه، وفضائح سجن أبو غريب وقتل الناس والأضرار الجسيمة التي سببها. في نهاية المطاف، اضطر الأمريكيون إلى ترك العراق، لكن قضية انعدام الأمن لم تحل أيضاً، فقد رأيتم ما فعله «داعش» بالعراق، ولولا مساعدة جمهورية إيران الإسلامية، لكان «داعش» اليوم هو المسيطر حتماً في العراق، أو على الأقل كنا سنرى العراق مُقسماً، وكان الأميركيون مستعدون لقبول هذا الوضع.

 

في أماكن أخرى على هذا المنوال أيضاً. اليوم تُسمع هذه القضية نفسها من بعض العلماء الذين ينتقدون حضور أمريكا وتدخلها في الشأن الأوكراني، مثل جون ميرشايمر، الأستاذ البارز في الواقعية البنيوية (الواقعية الجديدة)، الذي يقول إن تدخّلهم في قضية أوكرانيا أدى إلى حقيقة أن حلفاءهم في شرق آسيا على سبيل المثال لم يعد لديهم نظرة إيجابية إليهم، وهم قلقون. فرغم قولهم: سوف ندعم أوكرانيا عسكرياً ضد روسيا، لكن على أرض الواقع تركوا أوكرانيا وحدها، لأن أوكرانيا ليس لها قيمة إستراتيجية لديهم. ورغم بعض الدعم العسكري أو الإعلامي، ورغم ما قيل، لم يُقدم الدعم الحقيقي إلى أوكرانيا، ولا تزال اليوم بلا حماية أمام روسيا.

 

لقد أقرّ أمثال جان ميرشايمر بأن «حلفاءنا في أجزاء أخرى من العالم مثل شرق آسيا، حيث من المفترض أن ندعمهم ضد الصين وأن نتصدى للصين، يقولون لأنفسهم اليوم: هل يمكن لأمريكا أن تدعمنا حقاً؟». حسناً، لدينا نماذج أفغانستان والعراق وليبيا وأوكرانيا، ونرى ما فعلته أمريكا. لم يقتصر الأمر على أنها لم تحسّن الوضع فحسب، بل أدت إلى تصعيد الأزمات أين ما كانت، ما أضر كثيراً بدور أمريكا وصورتها على المستوى الدولي خاصة في أذهان حلفائها. إنهم يقولون: الأمريكي الذي كان من المفترض أن يضع مظلة أمنية فوقنا لن يتمكن من ذلك إطلاقاً، لأنه لم يفعل ذلك في حالات مماثلة. فهل يمكنه دعمنا حقاً؟ هذه علامة على شكوك حقيقة أمامهم. لذلك، أدت المشاريع الدولية لأمريكا في السنوات الأخيرة واحداً تلو آخر إلى أفول صورتها الدولية، خاصة في أذهان حلفائها وأعينهم.

 

3. أنفقت أمريكا تكاليف طائلة في غربي آسيا على مدى العقود الماضية، ولكن وفقاً لعدد كبير من الخبراء، لم تحقق أمريكا المصالح والإنجازات التي تتناسب مع إنفاقها الكبير. كيف يمكن تشريح هذه المقولة وتفسيرها في سياق الأفول الأمريكي (العسكري والإستراتيجي والمعرفي)؟

 

بطبيعة الحال، عندما نريد تقييم السياسة الخارجية لبلد من ناحية النجاح، ننظر إلى ماهية أهداف ذاك البلد وهل هو قادر على تحقيق تلك الأهداف والمصالح الوطنية، فالأهداف تُصمَم على أساس المصالح الوطنية، أي معيارنا لتقييم مدى نجاح إجراءات السياسة الخارجية لبلد ما هو تحقيق الأهداف. يمكن لهذا أن يكون معيارنا لتقييم السياسة الخارجية الأمريكية.

 

على سبيل المثال، جاءت أمريكا إلى غربي آسيا وفعلت ممارسات مثل مهاجمة أفغانستان وإنشاء قواعد عسكرية وحضور عدد كبير من الجنود، وكل منها كان له تكاليف باهظة. إذن، ما الهدف بناءً على سياستها المعلنة؟ كان هدفها المعلن: القضاء على «طالبان». كم سنة كانت في أفغانستان؟ نحو 20. السؤال: هل قُضيَ على «طالبان»؟ كلا. اليوم، «طالبان» لديها قيادة تامة لأفغانستان وسيطرت عليها وأطاحت بحكومة أشرف غني وجلست مكانه، وكان الأمريكيون يتفرجون أيضاً وخرجوا من هناك. هل استطاعت توفير الأمن في أفغانستان؟ كلا. هل استطاعت المساعدة في تنميتها؟ كلا. تدهورت أفغانستان كثيراً خلال المدة التي كان الأمريكيون فيها من حيث الفساد السياسي وتضاعف تهريب المخدرات وانعدام الأمن، والآن صارت «طالبان» هي المسيطر التام.

 

لذلك، يمكنكم تقييم الحضور الأمريكي في أفغانستان ومقدار الإنفاق طوال عشرين عاماً بالأهداف التي حددتها أمريكا لحضورها في أفغانستان.

 

ماذا بشأن العراق؟ في العراق حيث قال ترامب نفسه: أنفقنا نحو سبعة تريليونات دولار في العراق - إنه رقم عجيب - ما الأهداف التي حققوها؟ هل استتب الأمن في العراق؟ هل استطاعت أمريكا أن تسيطر على العراق مثلاً؟ قال ترامب نفسه: أنفقنا سبعة تريليونات دولار في العراق، والآن عندما أريد أن أدخل العراق، يجب أن أقود السيارة بمصابيح مطفأة وطريقة متخفية، لكنكم رأيتم مدى تأثير حضورنا الإقليمي في العراق. في زمن الحاج قاسم سليماني، كم من التأثير الذي اكتسبناه في العراق، التأثير الصلب والبرمجي! كنّا مَن قدنا القتال ضد «داعش». نحن مَن حفظنا وحدة أراضي العراق. كنّا الذين طردنا «داعش» من العراق عندما كان يسيطر كليّاً على أجزاء كبيرة جداً من العراق في محافظتي والموصل والأنبار، وشكّلَ حكومة وسَكّ العملات المعدنية وطبع الأوراق النقدية. كان الأمريكيون يقولون إن التصدي لـ«داعش» قد يستغرق 30 عاماً، فيما كان اللواء سليماني يقول إن «داعش» سينتهي في أقل من شهرين، وهذا ما حدث. بعد ذلك اضطرت أمريكا إلى الانسحاب من العراق، فيما أقر البرلمان العراقي قانون انسحاب القوات الأجنبية، أي تأسست الحكومة الوطنية في العراق عندما كانت أمريكا قد أزيحت عملياً وعلى الهامش ولم يكن لها دور في عملية بناء الدولة هذه.

 

الحال نفسها أيضاً إذا نظرتم إلى لبنان على سبيل المثال. عام 2006، رأت كوندوليزا رايس الهجوم الإسرائيلي على لبنان جزءاً من آلام المخاض لشرق أوسط كبير. كان من المقرر تنفيذ مشروع Great Middle East (الشرق الأوسط الكبير). ماذا حدث لهذا المشروع في النهاية؟ أين ذهبت النفقات الضخمة التي أنفقها الأمريكيون والإسرائيليون للمضي قدماً بهذا المشروع؟ في المرحلة الأولى، انتهت حرب لبنان عام 2006 بهزيمة نكراء لإسرائيل، وكان حزب الله هو المنتصر في هذه الحرب، ولم يعد أحد يذكر «الشرق الأوسط الكبير» وانتهى هذا المشروع.

 

أو في قضية سوريا: كم أنفقت أمريكا من نفقات مالية وائتمانية كبيرة للإطاحة بحكومة الرئيس الأسد! دربوا عبر الحكومات التابعة لهم في المنطقة مثل السعودية وغيرها المسلحين وسلّحوهم، واضطروا إلى التخلي عن كثير من معاييرهم الخاصة، وصنّفوا إرهاباً صالحاً وإرهاباً سيئاً من أجل تبرير حضور الإرهابيين في سوريا.

 

كانت هيلاري كلينتون تقول لسنوات عندما كانت وزيرة للخارجية الأمريكية: "Asad must go" (يجب أن يرحل الأسد)، لكن ما الذي حدث؟ رغم تلك النفقات كلها، تعززت إرادة إيران ومحور المقاومة ورحلت هيلاري كلينتون في حين لا يزال السيد بشار الأسد في مكانه.

 

لذلك، هذه الإخفاقات المتعددة في مشاريع السياسة الخارجية الأمريكية والفشل في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، رغم هذه النفقات العجيبة والغريبة، هي علامات على أفول أمريكا، لأنكم عندما تريدون تنفيذ مشروع في الساحة الدولية وتفشلون، هذا يدل على أن إرادتكم لا يمكن أن تتحقق، ورغم حقيقة أنكم تعدّون أنفسكم قوة عظمى، لا تملكون إرادة قاهرة، وتفشلون. هذا الفشل لا يحدث مرة واحدة بل في كثير من المجالات، وبالنسبة إلى محلل علاقات دولية هذا يشير بوضوح إلى أن ذلك العنصر الفعال في النظام الدولي لم يعد قائداً ولا مهيمناً ولا ناشطاً بفعالية ولا مقتدراً... بطبيعة الحال هو يصاب بالأفول.

 

4. يواجه عالم اليوم أزمات وتحديات متعددة في مجالات مثل: المرأة والأسرة، وحقوق الأطفال، وذوي البشرة السمراء، وكبار السن، والجوع والفقر المنتشرين والمتعمّدين أحياناً في أجزاء كبيرة من العالم (أفريقيا و...)، وغياب العدالة، واللامبالاة الدولية (في قضية اليمن وفلسطين...). بعض الناس يرون أن الأزمات المذكورة كانت نتيجة هيمنة الفكر والحضارة الأمريكية على العالم. إذا كانت هذه النقطة صحيحة، فإلى أي مدى ساهمت هذه القضية في أفول أمريكا، وهل يعني أفولها زوال تسلّط الرؤية الكونية والأنثروبولوجيا الأمريكية؟

 

نعم، هذا أيضاً صحيح تماماً. ليس نحن فقط من يرى ذلك، بل أيضاً كثير من العلماء الناقدين للغرب يرون أن هذه الأزمات هي نتيجة هيمنة الفكر والحضارة الأمريكية، أيْ ليس كلامنا فقط. على سبيل المثال إن مفكري مدرسة فرانكفورت، مثل ثيودور أدورنو وماركس هوركهايمر وهربرت ماركوز وغيرهم من المنظرين النقديين، قد شهدوا قبح الحداثة وطبقاتها السوداء التي أدت إلى حربين عالميتين، وتحديات واسعة النطاق، وتدمير البيئة، والفقر، وفقدان الأمن، والجوع، وغياب العدالة. عندما صارت هذه القضايا واضحة، وبعد دراستهم ومطالعتهم هذه الأزمات، وجّهوا رأس السهم في انتقاداتهم في سبيل إيجاد الجذور والأسباب لهذه الأزمات وحتى في المجال الفلسفي نحو الحداثة وأرضياتها وأسسها، وكانوا يعتقدون أن الحداثة وأسسها الفلسفية مثل الوضعية[1] والعقلانية[2] والعلموية[3] أدّت إلى إصابة البشرية بهذه الأزمات.

 

إنهم يحاولون عبر نظرياتهم الكشف عن الطبقة الخفية الظالمة وغير العادلة التي تريد النظريات السائدة[4] إخفاءها عن أعين الآخرين. يريد النقاد أن يقولوا إنها ناجمة عن هيمنة الليبرالية والرأسمالية، لكن النظريات السائدة مثل الليبرالية والواقعية تحاول تبرير هيمنة أمريكا.

 

لذلك، وُضع الفكر والحضارة الأمريكية تحت التشكيك ليس في العالم الإسلامي أو غير الغربي فقط بل في العالم الغربي اليوم. جرى التشكيك بشدة في حجية فرضياتهم العلمية والفلسفية. الموضوع الآخر هو أن الليبرالية صارت بعد انهيار الشيوعية الروسية نموذجاً متفوقاً وعالمياً - مثل ما قال فوكوياما في مقالته The End of History and the Last Man (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) حين بشّر بانتهاء التاريخ مع الليبرالية - لكن جرى التشكيك فيه تماماً، وهم يكشفون طبقات غياب العدالة والظلم. لذلك إن حقيقة أن الأزمات والتحديات التي تتفشى اليوم في مختلف القضايا والمجالات، بما في ذلك المرأة والأسرة والأطفال وذوو البشرة السمراء وكبار السن والفقر والجوع وفقدان الأمن والعدالة في أنحاء العالم كافة وحتى في نطاق الدول المتقدمة، هي نتاج هيمنة الفكر والحضارة الأمريكية هي حقيقة صحيحةٌ تماماً. ورداً على مدى مساهمة هذه القضية في أفول أمريكا، ينبغي القول: عند التشكيك في هذه الحضارة وهذا الفكر في الغرب نفسه، يظهر أنه لم يعد من الممكن استخدامها بعنوان البرنامج الأفضل في العالم. فاليوم هناك بدائل جدية. على سبيل المثال، تُطرح اليوم القيم الآسيوية مقابل الأمريكية. نشهد اليوم عودة تيار القوة والثروة من الغرب إلى الشرق. الغربيون أنفسهم يصرّحون في كتبهم ومقالاتهم المتعددة أن مركز القوة والثروة صار في حالة العودة إلى الشرق. العالم الإسلامي والإسلام السياسي الذي أحيا نفسه بعد انتصار الثورة الإسلامية هو اليوم بديل جاد عن الحوكمة. لقد طُرحت هذه القضايا وتحدّت هيمنة الثقافة والحضارة الأمريكية، وهذا يعني بطبيعة الحال فقدان هيمنة الرؤية الكونية الغربية والأنثروبولوجيا الأمريكية، ولذلك ثمة اليوم وضع تتعرّض فيه هيمنة الفكر والحضارة الأمريكية إلى تحديات جادة منذ فترة طويلة.

 

5. كيف وإلى أي مدى كان لتجربة للشعوب التاريخية مع أمريكا (فيتنام، العراق، أفغانستان، فلسطين، كوبا، فنزويلا...) تأثير سلبي في صورة الهيمنة الخيالية لأمريكا بين الشعوب، وإلى أي مدى تشير هذه القضية إلى أفول أمريكا وانزوائها؟

 

أظهرت التجربة التاريخية للشعوب أن الثقة والتقرّب من أمريكا بالنسبة إلى الشعوب غير الغربية سواء أكانت تسمى العالم الثالث أم غير النامية أم النامية، أو أياً كان ما يطلق عليها، لم يحققا إنجازات ملحوظة بل أديا إلى كثير من الأضرار، ووقعت انتكاسات كثيرة. انظروا إلى أمثلة مثل فيتنام والعراق وأفغانستان وفلسطين وكوبا وفنزويلا... كلها من العالم غير الغربي. ليست لدينا تجربة تاريخية ناجحة مع أمريكا في هذه البلدان. لذلك، أوضحت هذه التجربة التاريخية أن الجواب عن الاعتقاد السائد عند كثير من مدّعي التثقف أو المذهب العقلاني[5]، حتى في بلادنا، والقائل إن أصل المشكلات كلها هو انقطاع العلاقة مع أمريكا، فإذا كان لدينا علاقة مع أمريكا، فالمشكلات كلها سوف تُحلّ وسنحقق التقدم والإنماء والارتقاء وتوفير أمننا... هو جواب سلبي تماماً. هذا يعني أن أياً من الشعوب الأخرى التي جربت ذلك، لم تصل إلى النتيجة المطلوبة والجديرة.

 

نرى جارنا العراق، وكذلك جارتنا من الشرق أفغانستان. لقد رأى الفلسطينيون جراء الثقة بأمريكا في مؤتمرات عدة لـ«السلام»، التي كان من المفترض عقدها بوساطة أمريكية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، أنه لم يتم تحقيق أي نتائج، وانتهت وساطات أمريكا كلها في مصلحة "إسرائيل". على المنوال نفسه، رأى شعب كوبا وشعب فنزويلا أيضاً أن العلاقة مع أمريكا لم تكن الحلّ للمشكلات.

 

لذلك، كما ورد في الأسئلة السابقة، حتى حلفاء أمريكا اليوم ليسوا واثقين تماماً بثقتهم واتكالهم على أمريكا وأن قضاياهم الأمنية ستحل إذا ما دخلوا تحت المظلة الأمريكية. أظهرت التجربة التاريخية أن الأمر ليس كذلك، وأن أمريكا لن تعامل حلفاءها معاملة حسنة.

 

تجربة بلدنا خلال العهد البهلوي هي أكثر مرارة، أي رأينا ثقة السيد محمد مصدق بالأمريكيين، ما أدى إلى الانقلاب المشين في 28 مرداد 1332 (19/8/1953). الأهم من ذلك كان اعتماد حكومة بهلوي على الأمريكيين، وهو ما رأيتم فيه كم كانت العاقبة مريرة ومشؤومة وملهمة للعبر لشاه إيران.

 

لم يترك شاه إيران أي خدمة لم يفعلها للأمريكيين، ثم جاء الأمريكيون وقالوا: هذه جزيرة الاستقرار في منطقة غربي آسيا المضطربة. لكنكم رأيتم كيف بعد التحرّكات الثورية الأولى تخلّوا مباشرة عن شاه إيران ولم يسمحوا حتى للشاه، الذي كان يمتلك كثيراً من الممتلكات والأراضي في أمريكا، بدخولها، وبأيّ خزي اضطر الشاه أن يسكن في أماكن مختلفة! في النهاية، كان عليه أن يموت في مستشفى من الدرجة المتدنية في مصر، بينما كان ينتقد بشدة الأمريكيين وكان حزيناً لأنهم تركوه وحيداً.

 

إن مصير أمثال محمد رضا شاه وحسني مبارك ومعمر القذافي، هؤلاء الديكتاتوريين الذين دعمتهم أمريكا سنوات ثم تُركتهم، يُظهر أنها ليست حليفاً موثوقاً به إطلاقاً. لكن أمريكا أظهرت أنها لم تتصرف إطلاقاً كدولة قائدة ودائماً ما نظرت في مصالحها واعتباراتها وتركت حلفاءها في اللحظات الحرجة، حتى أولئك الذين خدموها لسنوات. واليوم أيضاً الشعب الأوكراني يرى ذلك. أوكرانيا، الموجودة في أوروبا والمُعرَّفة من ضمن عائلة العالم الغربي، رأت اليوم أن أمريكا تركتهم لأنها شعرت أن أوكرانيا ليس لها أي قيمة مضافة وإستراتيجية للأمريكيين، فتركوا أوكرانيا بمفردها على أرض الواقع أمام روسيا.

 

تُظهر هذه التجارب التاريخية أن أمريكا قد أصيبت بالأفول ولا يمكنها إظهار صورتها القيادية والمهيمنة والعمل بمستوى قوة مهيمنة. في جملة أخيرة، أود أن أشير إلى الخطاب الأخير للبروفيسور جون ميرشايمر بشأن أوكرانيا، الذي أعطى التحذير نفسه وقال: بسبب سياستنا الخارجية المخطئة، فإن حلفاءنا الآخرين، على سبيل المثال، في شرقي آسيا أمام الصين، قد يصيرون غير واثقين بنا... هذه الأمور ستؤدي بطبيعة الحال إلى انزواء أمريكا في السنوات والعقود المقبلة.