مقابلة مع سماحة الشيخ نجم الدين الطبسيّ

 

يقول الشافعيّ في إحدى قصائده:

 

يا آلَ بَيتِ رَسولِ اللهِ حُبُّكُمُ

 

فَرضٌ مِنَ اللهِ في القُرآنِ أنْزَلَهُ

 

يَكْفيكُمُ مِنْ عَظيمِ الفَخرِ أَنَّكُمُ

 

مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيكُمُ لا صَلاةَ لَهُ

 

كلمات لطالما ردّدناها، وفهمنا عمق معناها المتّصل بمكانة آل بيت محمّد عليهم السلام العظيمة عند الله سبحانه وتعالى. هذه المكانة التي تفرض حبّهم وطاعتهم أوّلاً، ثمّ ترجمة هذا الحبّ والطاعة سلوكاً عمليّاً.

 

عن هذه العلاقة الوجدانيّة وأثرها في سلوك الإنسان وحياته، كانت هذه المقابلة مع المحقّق سماحة الشيخ نجم الدين الطبسيّ.

 

يحدّد السيّد القائد دام ظله مفهوم الولاية بثلاثة ركائز: الارتباط المعرفيّ بأهل البيت عليهم السلام، ثمّ الوجدانيّ، ثمّ السلوكيّ. فما هو دور الارتباط الوجدانيّ في تكوين ولاية حقيقيّة لأهل البيت عليهم السلام؟

 

عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "يا أبا ذر، إنّ الله تبارك وتعالى تفرّد بملكه ووحدانيّته، فعرف عباده المخلصين لنفسه، وأباح لهم الجنّة، فمن أراد أن يهديه، عرّفه ولايته". نحن نحاول أن نُقرّب المعقول بالمحسوس، فنقول: إنّ الذي يريد أن يجعل الماء النقيّ في إناء، لا يجعله في أيّ إناء؛ بل لا بدّ من أن يكون الإناء نقيّاً، ثمّ يسكب فيه الماء. أمّا إذا كان الماء مثلاً، ماءً لغسل السيّارة، أو البيت، أو الشارع، فيمكن وضعه في أيّ وعاء. وهذا هو معنى: "فمن أراد أن يهديه عرّفه ولايته". ثمّ يتابع صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن أراد أن يطمس على قلبه، أمسك عنه معرفته"(1).

 

إنّ محبّة أهل البيت عليهم السلام تتمّ على مراحل:

 

المرحلة الأولى: المعرفة: أي تلك التي تُعرِّفنا بأهل البيت عليهم السلام بمقدار معيّن: "من أراد الله بدأ بكم، ومن وحّده قبِل عنكم"(2)، وليس المقصود هنا كنه المعرفة؛ لأنّ هذا غير ممكن. وروى في الدعاء: "جئتك زائراً عارفاً"(4). ما هي هذه المعرفة؟ معرفة أنّه إمامٌ معصوم؛ فالإمام عليّ عليه السلام هو أوّل الحُجج، والحسن عليه السلام ثاني الحجج، والحسين عليه السلام ثالث الحُجج، وهكذا. وحجّة الله هو مفترض الطاعة، وكلامه كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلام الله عزّ وجلّ، ويجب إطاعته. هذه هي المعرفة المطلوبة منّا. ومع الأسف، لقد حُرم كثيرون من هذا المقدار، وذلك بسبب أجواء التضليل الإعلاميّ والتعتيم المقصود على سيرة أهل البيت عليهم السلام.

 

المرحلة الثانية: الوجدان: يعني أن يعيش المؤمن حضور إمامه بكلّ أحاسيسه، ويشعر به في صميم قلبه، كالدم الذي يجري في كلّ عروقه. فمن يجتاز المرحلة الأولى ويصل إلى هذه المرحلة، تراه في كلّ وجوده سمعاً وطاعةً لأهل البيت عليهم السلام، وينفّذ كلّ ما يأمرونه به دون أيّ اعتراض؛ فهذا هو معنى معرفة الإمام عليه السلام في الصميم، وهذه هي تربية مدرسة آل محمّد عليهم السلام.

 

ولتوضيح هذه المسألة، نستذكر النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حينما أمر عليّاً عليه السلام أن ينام في فراشه. تلك الليلة لم تكن ليلة ضيافة واستضافة؛ بل كانت ليلة سفك الدم. أربعون شخصاً، من أربعين قبيلة، جاؤوا لقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه، فكان لا بدّ من أن يبيت أحدٌ مكانه. كانت مهمّةً خاصّة، ورسالةً، وواجباً لا يقوم به إلّا الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام، الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سمعاً وطاعة. فالشيعيّ في هذه المرحلة، عليه أن يعيش حضور الإمام المعصوم عليه السلام ويدركه، ويشعر بالولاية بهذا المعنى؛ فلا يرى وليّ أمر غيره، ولا يطيع غيره.

 

المرحلة الثالثة: العمل: يكون ثمرةً طبيعيّة لما تقدّم، ويصدّق ما قبله.

 

هذا هو المعنى، والله العالِم، الذي أشار إليه الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله.

 

للموالين المحبّين لأهل البيت عليهم السلام ميزات وخصائص. ما هي؟ وما الذي يمكن أن يفعله الحبّ في المحبّ؟

"إنّ المحبّ لمَن أحبَّ مطيعُ"(5)؛ وهذا يعني أنّ المحبّ والموالي الحقّ لا يتأثّر بأيّ تيّار، أو اتّجاه، أو دين، أو مذهب يخالف توجّهاته.

 

والطاعة هنا في الواقع هي رمز الولاية؛ إذ يأخذ المحبّ التكاليف، والعلوم، والمسائل الفقهيّة من محبوبه، وهو الوليّ أو الإمام المعصوم عليه السلام، ويسير وفقها.

 

ورد في الحديث ما مفاده أنّ: "حبّنا أهل البيت عبادة"، في حين أنّ الحبّ هو عمل قلبيّ. كيف نفهم دلالة هذا الحديث؟

ورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "نزل –جبرائيل- على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمّد، إنّ الله يأمرك أن تحبّ عليًّا"(6)، هذا يعني أنّ حبّه عليه السلام هو تكليف.

 

الأعمال تارةً جوانحيّة؛ أي باطنيّة، وأخرى جوارحيّة؛ أي ظاهريّة. فالعمل الجوانحيّ له آثاره ونتائجه؛ وهذا يعني أنّ من يكون مأموراً بحبّ عليّ عليه السلام، فهو حتماً مأمور باتّباع سلوكه. بالتالي، فإنّ عليّاً عليه السلام غير بعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنّ "عليّ منّي وأنا من عليّ"(7).

 

ما هي الموانع التي تحول دون حبّ أهل البيت عليهم السلام؟ وكيف نعمل على إزالتها؟

موانع حبّ أهل البيت عليهم السلام عديدة، نذكر منها:

 

1- الكِبَر والزهو: ورد أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في يوم جمعةٍ صادف يوم الغدير: "أفتدرون [الاستكبار] ما هو؟ ترك الطاعة لمَن أمر الله بطاعته، والترفّع عمَّن نُدبوا إلى متابعته"(8).

 

يجب أن ندرك أنّ الله عزّ وجلّ أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالإعلان عن ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، والرسول الأعظم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلّا وحيٌ يوحى. ففي ذلك المكان، وفي تلك الأجواء، قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه"(9)؛ فهو لا يقصد المحبّة هنا؛ بل يقصد شيئاً أبعد منها، إنّها مسألة الولاية والتبعيّة.

 

ومن موانع الحبّ: الكِبَر، والزهو، والإعراض عمّا يقوله أهل البيت عليهم السلام، وتوجيهاتهم، وفقههم، وتفسيرهم؛ لذلك، يرى بعض الناس أنّ ما لديهم من علوم ومعارف أهمّ بكثير ممّا يمكن أن يجدوه عند أهل البيت عليهم السلام - والعياذ بالله- فيكتفون بما لديهم.

 

2- عدم الاطّلاع على سيرتهم عليهم السلام: إنّ عدم الاطّلاع على سيرتهم المباركة، وعدم معرفة مقاماتهم ومناقبهم عليهم السلام تمثّل مانعًا أمام تولّيهم.

 

في إحدى المرّات، كنت أتحدّث عن السيّدة زينب عليها السلام، ذاكراً قسماً من خطبتها، ودورها، وكيف تمّ التعامل معها. وكان أحدهم يصغي إليّ ولكنّه كان لا يُبدي أيّ تفاعل، إلى أن تطرّقت إلى مسألة حجابها، وإذ بدموع ذاك الشخص بدأت تنهمر فجأةً على وجنتيه، قائلاً: "أهذه هي السيّدة زينب حقّاً؟! والله، إنّ ما أسمعه الآن جديد عليّ! أنا ملتزم، ولا أترك صلاة الجمعة، ولكنّها المرّة الأولى التي أسمع فيها قصصاً كهذه عن السيّدة زينب عليها السلام".

 

وهكذا، يتبيّن بوضوح، أنّ عدم معرفة أهل البيت عليهم السلام هو أحد أهمّ الموانع التي تحول دون حبّهم.

 

التربية على حبّ أهل البيت عليهم السلام هي من أبرز الأسباب التي تؤدّي إلى معرفتهم وحبّهم. فكيف نزرع في نفوس أبنائنا بذور حبّهم عليهم السلام؟

لا بدّ من أن نجعل البيت مدرسةً؛ فبسلوكنا وممارساتنا، قبل ألسنتنا، نستطيع أن نروّج لمذهبنا ولمعتقداتنا، كالصلاة في أوّل الوقت، وإحياء المجالس في الدار.

 

بالنسبة إليّ، فقد ورثتُ هذا الحبّ عن طريق الشعائر التي كانت تُقام في بيتنا. على سبيل المثال: قبل شهر محرّم بأيّام، كان الوالد يستأجر خيمةً كبيرة، فيأتي الجميع إليها لحضور مجالس العزاء الحسينيّ. كما كان يأخذني إلى حرم أمير المؤمنين والإمام الحسين عليهما السلام لزيارتهما وللصلاة في حضرتيهما الشريفتين. وفعلاً، لا أستطيع أن أنسى هذه اللحظات؛ لأنّها حُفرت عميقاً في ذاكرتي، وهذا ما أورثني حبّهم ومحبّتهم. فالوالد لم يطلب منّي قولاً حبّ أهل البيت عليهم السلام ؛ بل سلوكه وعمله هو الذي زرع في نفسي هذه المحبّة، حتّى ربّاني على هذه الممارسات.

 

اليوم، تقوم مواقع التواصل الاجتماعيّ بترصّد الناشئة والشباب، وهي مواقع أَعدّها راصدون؛ لتكون محرقةً للشباب، وللأجيال، وللأحداث. عن الإمام الصادق عليه السلام: "بادروا أولادكم بالحديث، قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة"(10)؛ فكان عليه السلام يطلب تربية الأولاد بطريقة صحيحة قبل أن يصل إليهم المرجئة، وهم فرقة منحرفة، تحرف أفكار ذلك الجيل، فيجب أن نجعل بيوتنا مدرسةً لتربية هذا الجيل على حبّ أهل البيت عليهم السلام ومعرفتهم حقّ المعرفة.

 

هل ساهم، بنظركم، نشيد "سلام يا مهدي" بخلق هذه الحالة الوجدانيّة، التي تحدّثنا عنها، فضلاً عن تكريس الارتباط العميق بأهل البيت عليهم السلام؟

لقد انتشر هذا النشيد كانتشار النار في الهشيم. وهذا كلّه مردّه إلى الحالة الوجدانيّة الناشئة عن العلاقة بأهل البيت عليهم السلام وحبّهم.

 

كان ثمّة من يعتقد أنّ حبّ أهل البيت عليهم السلام يُباع ويُشترى، ولكنّ هذا النشيد وأمثاله، جاء ليثبّت هذا الترابط الراسخ بأئمّتنا عليهم السلام في كثير من دول العالم، ما يدلّ على أنّ حبّ أهل البيت عليهم السلام أصبح في صميم كلّ واحد فينا، صغيراً وكبيراً. وسترَون في المستقبل القريب أنّ هذه الرائحة الطيّبة لآل بيت محمّد عليهم السلام سوف تنتشر في كلّ أصقاع الأرض.

 

(1) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 40، ص 56.

(2) (م.ن)، ج 99، ص 131.

(3) الكافي، الكليني، ج 1، ص 401.

(4) بحار الأنوار، (م. س)، ج 97، ص 321.

(5) (م. ن)، ج 75، ص 174.

(6) كنز العمّال، الهندي، ج 5، ص 723.

(7) الآمالي، الصدوق، ص 58.

(8) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 2، ص 258.

(9) الكافي، (م. س)، ج 1، ص 420.

(10) (م. ن)، ج 6، ص 47.

 

المصدر: مجلة بقية الله