الشيخ علي متيرك

 

ورد في دعاء الندبة: "ثمّ جعلت أجر محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مودّتهم في كتابك، فقلت: ﴿لا أَسألكم عليهِ أَجْراً إِلاّ المَودَّة فِي القُربى﴾ (الشورى: 23)، وقلت: ﴿قل مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ (سبأ: 47)، وقلت: ﴿مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 57)، فكانوا هم السبيل إليك، والمسلك إلى رضوانك"(1).

 

واحدٌ من أبعاد ولاية أهل البيت عليهم السلام، هو اتّخاذهم سبيلاً إلى الله ومسلكاً لرضوانه، ومن آثار ذلك: التوّسل بهم، والاعتقاد بشفاعتهم عليهم السلام.

 

التوسّل فيضٌ خاصّ

إنّ الاقتداء بالنموذج والقدوة يعود بالنفع على المقتدي والسالك، وأوّل الآثار وأهمّها في ما يرتبط بمحبّة أهل البيت عليهم السلام وولايتهم؛ هو الفوز والنجاة في القيامة، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا ومن أحبّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أحبّني فقد رضي الله عنه، ومن رضي عنه كافأه الجنّة..."(2). وثمّة فيوضات وآثار أخرى تترتّب على هذه الولاية والاتّباع للقدوة المتمثّلة بالإنسان الكامل؛ وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، فللمحبّة دورها وتأثيرها في حياة الإنسان وتوجّهاته، وإنّ من أعظم الفيوضات والآثار التي منّ الله بها على الموالين التوسّلَ بهم عليهم السلام.

 

التوسّل وحقيقته

الوسيلة هي ما يجعله الإنسان بينه وبين خالقه، للوصول إلى الغاية المنشودة؛ أي إنّ العبد يتقرّب إلى خالقه بوسيلة ما، لنيل مقصوده ومراده، وإلى هذا المعنى أشار القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64)، فالقرآن يرشدهم إلى أن يأتوا الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم، فيكون وسيلةً لتوبة الله عليهم، وهذا توسّلٌ بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

فالوسيلة ليست إلّا رابطة للاتّصال المعنويّ بالله، وابتغاء الوسيلة هو التماس ما يُقرّب العبد إلى ربّه استجابةً لأمره تعالى، إذ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 35).

 

ما الحاجة إلى التوسّل؟

جعل الله تعالى هذا الكون قائماً على نظام العلّة والمعلول، فحياة الإنسان في الدنيا تستند إلى الوسائل والأسباب والوسائط، على الصعيدين المادّيّ والمعنويّ؛ فعند شعور المرء بالجوع، فإنّه يتوسّل الطعام لسدّ جوعه، وعند إرادة الانتقال من مكانٍ إلى آخر، فإنّه يتوسّل وسائل النقل المناسبة، وهكذا.

 

وكذا الأمر في ما يرتبط بالأمور المعنويّة؛ فإنّ الإنسان يحتاج إلى الأسباب والوسائط الغيبيّة عند الشعور بحاجةٍ معنويّةٍ ما، إذ إنّ لهذه الأسباب ارتباطاً وثيقاً بعالمنا، ولا انفكاك بينهما؛ فالتوسّل من الأمور المهمّة في عقيدة الإنسان، إذ إنّه يشكّل الطريق لقضاء الحاجات، ولغفران الذنوب، ولاستجابة الدعاء، ولنيل شفاعة من نتوسّل بهم يوم القيامة، هذا فضلاً عن بيان مقام المتوسَّل به وفضله.

 

التوسّل باب الاستجابة

إنّ من المؤكّد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام هم أقرب الخلق إلى الله، وأنّ دعاءهم أقرب إلى الإجابة من قِبَله تعالى، لما لهم من كرامة ومقام لديه؛ فهم بابٌ لا يُرَدّ طارقه، ولا يُمنَع طالبه، ولا يُحرَم سائلُه، إذ جعل الله التوسّل بأعظم خلقه من علل ضمان الإجابة وسرعتها، عن الإمام الصادق عليه السلام: "يا معاوية، أما علمت أنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين عليه السلام، فشكى الإبطاء عليه في الجواب في دعائه، فقال له عليه السلام: أين أنت عن الدعاء السريع الإجابة؟ فقال له الرجل: ما هو؟ قال عليه السلام: قل: اللهمّ، إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم الأجلّ الأكرم المخزون المكنون النور الحقّ البرهان المبين... وأتوجّه إليك بمحمّد وأهل بيته، أسألك بك وبهم، أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تفعل بي كذا وكذا"(3).

 

وكذلك يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 35)، وفي هذه الآية المباركة خطابٌ للمؤمنين أنّ تكليفهم هو اختيار وسيلة لهم إلى الله تعالى، مضافاً إلى التقوى والجهاد، وإشارة إلى أنّ أثر الالتزام بهذا التكليف هو الفلاح. فإنّ اتّباع الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والاقتداء بهم، من أهمّ ما يمكن أن يُتقرَّب به إلى الساحة الإلهيّة المقدَّسة، فهذا داخلٌ في المفهوم الواسع لكلمة "الوسيلة"؛ إذ إنّها كلّ ما يؤدّي إلى التقرّب.

 

عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"(4)؛ فالإسلام متمثّلٌ بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والدخول إليه يكون من خلال أمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام. عن محمّد بن الفضيل، قال: سألتُه -أي الإمام الصادق عليه السلام - عن أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله عزّ وجلّ، فقال عليه السلام: "طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر"، ثمّ قال عليه السلام: "حُبّنا إيمان، وبغضنا كفر"(5).

 

فالتوسّل هو الطلب من الله عبر هذا الباب؛ فهم باب الله الذي منه يُؤتى، كما ورد في العديد من الزيارات، وهذا إن دلّ على شيء، فإنمّا يدلّ على عظيم مقامهم، وعلوّ درجاتهم عند الله تبارك وتعالى. وبما أنّهم أقرب الخلق إلى الله تعالى، ولهم كرامة ومقام عظيمين عنده، فإنّ التوجّه إلى الله من خلالهم، يجعل استجابة الدعاء أقرب وأسرع.

 

الشفاعة

كذلك الشفاعة، فإنّها فيضٌ من الفيوضات على الموالين؛ وهي طلب الشفيع من الله أن يمنّ بالمغفرة على إنسانٍ معيّن ويُدخله الجنّة، وقد جعلها الله عزّ وجلّ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وللأئمّة عليهم السلام في الدرجة الأولى؛ تعظيماً لشأنهم وإظهاراً لعلوّ مكانتهم ورفعة مقامهم، وهي في واقعها باب من أبواب رحمته تعالى بعباده وخلقه؛ كي لا ييأسوا من روح الله، ويغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه، فيتمادوا في المعصية.

 

عن معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام  عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً﴾، قال عليه السلام: "نحن والله المأذون لهم في ذلك، والقائلون صواباً"، قلت: جعلتُ فداك! وما تقولون إذا تكلّمتم؟ قال: "نمجّد ربّنا، ونصلّي على نبيّنا، ونشفع لشيعتنا، فلا يردّنا ربّنا"(6).

 

وهذه الرواية تدلّ على أنّ الشفاعة من الله، وبإذنه تعالى، ومن الأسباب التي جعلها الله في عالم المعنويّات، والتمسّك بها هو تمسّكٌ بإرادته تعالى في الرجوع إلى الشفيع الذي جعله هو، وأذِن له بهذا الدور لما له من عظيم كرامة ومقام. عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الزموا مودّتنا أهل البيت؛ فإنّه من لقي اللّه يوم القيامة وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينتفع عبد بعمله إلّا بمعرفة حقّنا"(7).

 

(1) إقبال الأعمال، ابن طاووس، ج 1، ص 506.

(2) بحار الأنوار، المجلسيّ ج 7، ص 222.

(3) الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص 582.

(4) الآمالي، الصدوق، ص 425.

(5) الكافي، (م. س)، ج 1، ص 188.

(6) (م. ن)، ج 1، ص 435.

(7) المحاسن، البرقيّ، ج 1، ص 61.

 

المصدر: مجلة بقية الله