الشيخ مهدي أبو زيد

يدرك العاقل أنّ هدف الخلق يتلخّص في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)؛ والعبادة هي تلك التي ترتكز على المعرفة كشرط أساس(1).

 

وهذا يعني أنّ الخروج عن سلطة الهوى إلى حاكميّة العقل، ووضع مملكة الإنسان تحت هذه السلطة، هو اللبنة الأساس لتحسّس معالم الطريق الموصل إلى ذلك الهدف. إنّ تحقيق ذلك لا يتيسّر إلّا لمن كان من أهل ولاية الله تعالى، وهو الشرط الطبيعيّ لسلوك المحجّة البيضاء، الذي نفهمه من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55). فكيف تؤثّر الولاية في حياة الإنسان وسلوكه عمليّاً؟

 

معرفة وحبّ ثمّ عمل

إنَّ المنحرف عن الطريق المستقيم، كمن يشيّد صرحه على رمال الأوهام من غير أسس، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يا عليّ، لو أنّ عبداً عبد الله مثل ما قام نوحٌ في قومه، وكان له مثل أُحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله، ومُدّ في عمره حتّى حجّ ألف عام على قدميه، ثمّ قُتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثمّ لم يوالك يا عليّ، لم يشمّ ريح الجنّة ولم يدخلها"(2).

 

إلّا أنّ معرفة الوليّ لن تكون نافعةً إلّا إذا تحقّق شرط آخر؛ وهو الحبّ، وهو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو أنّ عبداً عبد الله بين الركن والمقام ألف عام ثمّ ألف عام ولم يكن يحبّنا أهل البيت، لأكبّه الله على منخره في النار"(3).

 

فإذا حصل الانقياد، وامتزج بنكهة عاطفيّة قوامها المحبّة التي تنساب مودّةً، حصلت الطاعة. قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 31-32).

 

فبعد معرفة الهدف الذي ينتج قرب الله ورضوانه، من الضروريّ أن يتحقّق السير طبق الخطّ المرسوم، محفوفاً بالرقابة، وهو يعني معرفة أعلام الهداية، التي إن حصلت، ولّدت الحبّ الذي يُسكن الوليّ شغاف القلب.

 

* اتّباعٌ تلقائيّ

ورد عن مولانا الرضا عليه السلام: "... فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا"(4). إنّ كنه الولاية ليس عاطفة سطحيّة، ولا عملاً عشوائيّاً، بل هو سعي عمليّ لإبراز مكامن القوّة في هذا الانتساب، وهو ما يشكّل عمليّة الجذب نحو المنهج القويم.

 

ويمكن أن نرى ذلك في ما رواه أمير المؤمنين عليه السلام عن علاقته برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به"(5).

 

هذا هو مشهد التسليم المبنيّ على المودّة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، التي أشرقت منها الكنوز المعرفيّة الربّانيّة، وعبق أريج الأخلاق. لذلك، فإنّ المطلوب هو ضرورة الالتزام بهذا التوجيه الصريح لتلك التحفة المباركة والمقام الشامخ.

 

ولأنّ هذا المنهج يساعد القابليّات على تحقّق ثمارها المرجوّة، يصف أمير المؤمنين عليه السلام باختصار مكانة مالك الأشتر: "لقد كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(6). فقد سلك أمير المؤمنين عليه السلام درب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صناعة الموالين، الذين يرفع لهم في كلّ يوم علماً، ويفيض عليهم أدباً، ويأمرهم بالاقتداء، وتكون النتيجة كما وصف هو عليه السلام: "مَالِكٌ ومَا مَالِكٌ واللَّهِ لَوْ كَانَ جَبَلًا لَكَانَ فِنْداً - وهو المنفرد من الجبال- [أَوْ] وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً - لَا يَرْتَقِيهِ الْحَافِرُ ولَا يُوفِي عَلَيْهِ الطَّائِرُ"(7).

 

* الانتساب الحقيقيّ إلى أهل البيت عليهم السلام

 

ثمّة خطوات عمليّة لهذا الانتساب:

 

1- عرض النفس على الثقلين: إنّ المنتسب الحقيقيّ هو من حقّق وصف مولانا الإمام الباقر عليه السلام في الوصيّة النورانيّة إلى جابر بن يزيد الجعفيّ، المفعمة بما يصهر الإنسان ويجعله نبراساً؛ إذ يقول عليه السلام: "اعلم بأنّك لا تكون لنا وليّاً حتّى لو اجتمع عليك أهل مصرك، وقالوا: إنّك رجل سوء لم يحزنك ذلك، ولو قالوا: إنّك رجل صالح لم يسرّك ذلك، ولكن أعرض نفسك على كتاب اللَّه، فإن كنت سالكاً سبيله زاهداً في تزهيده راغباً في ترغيبه خائفاً من تخويفه فاثبت"(8)؛ فالميزان الحقيقيّ منحصرٌ بالثقلين دون أحد من الخلق.

 

2- الاستنارة بعلومهم عليهم السلام: يوصي أمير المؤمنين عليه السلام واليه: "... ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به (ويستضيء) بنور علمه"(9).

 

3- أورع عباد الله: أمّا توجيه مولانا الإمام الصادق عليه السلام إلى عموم المنتسبين، حيث يقول: "أقرئ من ترى أنّه يطيعني ويأخذ بقولي منهم السلام، أوصيهم بتقوى الله، والورع في دينهم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّد صلى الله عليه وآله وسلم،(..) فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسّن خُلقه مع الناس، قيل: هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك(...) وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره(...) فاتّقوا الله وكونوا زَيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودّة وادفعوا عنّا كلّ قبيح"(10).

 

4- سلامة القلب: في جواب من قال أنا من شيعتكم، يؤكّد مولانا الإمام الحسين عليه السلام على أنّ وسام الولاية وشرف الانتماء لا يُتاح لأيّ أحد، بقوله عليه السلام: "اتّقِ الله ولا تدَّعينَّ شيئاً يقول الله لك: كذبت وفجرت في دعواك. إنّ شيعتنا من سلمت قلوبهم من كلّ غشّ وغلّ ودغل، ولكن قل أنا من مواليكم ومحبّيكم"(11).

 

5- الوقوف عند حدود الله: ثمّة وصيّة تتضمن خارطة طريق لمن يرنو إلى الكمال، يقول الإمام الباقر عليه السلام: "إن ظُلمت فلا تظلم، وإن خانوك فلا تخن. وإن كُذّبت فلا تغضب. وإن مُدحت فلا تفرح. وإن ذُممت فلا تجزع"(12).

 

* التأدّب بنهجهم عليهم السلام

عند الانحراف عن النهج، تُفاض الحكمة لتنير جنبات السالكين وتقوّم أي انحراف، من هذه الصور:

 

1- مآدب الوجهاء: ورد في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى والي البصرة: "أمّا بعد يا ابن حنيف! فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة، فأسرعت إليها، يستطاب لك الألوان،.. وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ.."(13). إنّ حقيقة الانتماء ليست مجرّد ارتباط نظريّ يتيح لابن الولاية أن يتصرّف كيف يشتهي، بل تجعل الموالي سفيراً يمثّل ذلك النهج ويعكس قيمه.

 

2- الجفاء مع الوالدين: لأنّ أخلاق المنتمي تؤثّر في الدعوة إلى طريق الحقّ، وقف أئمّتنا عليهم السلام بكلّ حزم أمام أيّ اختلال في مواصفات المنتمين. عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ أبي عليه السلام نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي والابن متّكئ على ذراع الأب، قال: فما كلَّمه أبي عليه السلام مقتاً له حتّى فارق الدّنيا"(14).

 

ربّما كان عامّة الناس ينظرون إلى هذا المشهد السوداويّ على أنّه مسألة عاديّة، ولكنّ الإمام عليه السلام أبرز أنّه مجافٍ لحقّ الأب، ولا يجد معه صاحب هذا السلوك مؤهّلاً ليكون ممّن يُحسب على الإمام عليه السلام في حركته.

 

3- بذاءة اللسان: يُروى أنّه كان لمولانا الإمام الصادق عليه السلام صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه.. ومعه غلام له سنديّ يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرّات فلم يره، فلمّا نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله عليه السلام يده فصكّ بها جبهة نفسه، ثمّ قال عليه السلام: "سبحان الله تقذف أمّه، قد كنت أرى أنّ لك ورعاً فإذا ليس لك ورع"، فقال: جُعلت فداك، إنّ أمّه سنديّة مشركة، فقال عليه السلام: "أما علمت أنّ لكلّ أمّة نكاحاً، تنحّ عنّي"، قال الراوي: فما رأيته يمشي معه حتّى فرّق الموت بينهما(15).

 

* أهل الثبات والاستقامة

لذا، فعلى من يريد الوصال أن يكون متنبّهاً لما يشير إليه المولى عجل الله تعالى فرجه الشريف: "ولو أنّ أشياعنا وفّقهم الله لطاعته، على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم، لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا، على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه"(16).

 

فإذا ما أردنا أن نكون في عداد من يعجّل في ظهوره عجل الله تعالى فرجه الشريف، علينا أن نرسّخ في أعماقنا معرفته، ونسقي في قلوبنا شجرة حبّه؛ لكي تثمر مودّةً، تجعلنا من أهل الثبات والاستقامة، حتّى لو قُتلنا أو حُرّقنا، أو دُفعت عنّا لقمة من هنا أو شربة من هناك، طالما أنّ هدفنا الأسمى أن نُسقى من الكأس الأوفى الذي لا ظمأ بعده أبداً، وعندها، نلتحق بركب من ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (المائدة: 119).

 

(1) شرح أصول الكافي، المازندرانيّ، ج 4، ص 211.

(2) بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 27، ص 194.

(3) نهج الإيمان، ابن جبر، ص451.

(4) الوافي، الكاشاني، ج 1، ص 215.

(5) نهج البلاغة، ج 2، ص 157.

(6) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العامليّ، ج 30، ص 453.

(7) شرح نهج البلاغة، البحرانيّ، ج 5، ص 455.

(8) الوافي، (م. س)، ج 26، ص 260.

(9) بحار الأنوار، (م. س) ج 33، ص 474.

(10) مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، الطبرسيّ، ص 132.

(11) بحار الأنوار، (م. س)،ج 65، ص 156.

(12) (م.ن)، ج 75، ص 162.

(13) (م.ن)، ج 33، ص 474.

(14) الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص349.

(15) الوافي، (م. س)، ج 5، ص913.

(16) بحار الأنوار، (م. س)، ج 53، ص 177.