المدينة الفاضلة المهدويّة(*)

آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ

 

يقول الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33) إنّه وعدٌ إلهيّ غير قابل للتخلّف؛ أي إنّ دينه الذي ارتضاه سيغلب جميع الأديان، ويحكم العالم، ويوحّد جميع البشر، فلا يدين البشر إلّا بالدين الوحيد الذي ارتضاه الله لهم، وهو دين الإسلام: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: 3). وإنّما يتحقّق هذا الوعد الإلهيّ الحتميّ حينما يظهر وليّ الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

* حكم الحقّ

عندما تعمّ عقيدة التوحيد كلّ المعمورة، وتزول عقيدة الشرك، ستحرق نار الحقّ كلّ معبود سواه وتفنيه إلى الأبد.

 

قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه﴾ (الأنفال: 39). روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال عن هذه الآية: "لم يجئ تأويل هذه الآية بعد"(1). كذلك قال الإمام الصادق عليه السلام عندما سُئل عن قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً﴾ (التوبة: 36): "ولو قد قام قائمنا بعده، سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغنّ دين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغ اللّيل، حتّى لا يكون شركٌ [مشرك] على ظهر الأرض، كما قال الله"(2)، كذلك روي عن الإمام الباقر عليه السلام يصف حال خروجه عجل الله تعالى فرجه الشريف إذ يقول: "فلا يبقى في الأرض معبودٌ دون الله عزّ وجلّ من صنم (ووثنٍ) وغيره إلّا وقعت فيه نارٌ فاحترق"(3). فمن اتّخذ آلهةً متفرّقة من خشبٍ أو حجارةٍ، كان مصيرها الزوال.

 

وعلى هذا الأساس، سيحكم الحقّ تمام العالم حكماً مطلقاً، ولن يبقَ معاندٌ لجوجٌ أو منكرٌ حقودٌ إلّا وأسلم لحكم العقل أو أُعمل فيه السيف؛ فلا ناصر ولا مدافع عنه أمام حكم الحقّ.

 

* لا تقيّة

وعلى ضوء ما تقدّم، يظهر أنّه لا مجال حينئذٍ للتقيّة. وأمّا البيان النوريّ لصادق آل محمّد عليه السلام في تفسير سدّ ذي النورَين، فناظر إلى التقيّة قبل ظهور صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف. عن المفضّل قال: سألت الصادق عليه السلام عن قوله: ﴿أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا﴾ (الكهف: 95)، قال عليه السلام: "ما استطاعوا له نقباً، إذا عمل بالتقيّة لم يقدروا في ذلك على حيلةٍ، وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقباً"(4). وأمّا بعد ظهور الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، فإنّ كلّ يأجوج وكلّ مأجوج إمّا أن يسكن وإمّا أن يسكت، فلا موقع حينئذٍ لممارسة التقيّة.

 

ثمّ فسّر الإمام عليه السلام الوعد الإلهيّ الذي يكون سبباً في اندكاك السدّ بقيام آخر حجّةٍ إلهيّةٍ عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ أي يوم الظهور، ذلك اليوم الذي ينتقم فيه الله من أعدائه. يقول المفضّل: سألته عليه السلام عن قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء﴾ (الكهف: 98) قال الإمام الصادق عليه السلام: "رفع التقيّة عند قيام القائم، فينتقم من أعداء الله"(5).

 

* حياة العدل

إنّ إقامة حكومة العدل والحقّ على يد آخر حجّةٍ إلهيّة عجل الله تعالى فرجه الشريف، لا تمثّل خاتمةً للشرك وعبادة الأصنام فحسب، بل هي نهاية لحياة البذخ والترف التي لا تكون طريقاً إلى السعادة، بل تصرف الإنسان عنها، ولا سيّما العيش المترف الذي يحجب العقل عن الفهم الصحيح للدين، كما لا يؤدّي إلّا إلى الانحراف عن حقيقة الدين الإلهيّ، والاقتصار على ظاهره وقشوره. كيف لا؟ وسعادة البشر مقرونةٌ بالتديّن وتعزيز الفهم الصحيح، والعمل الصالح، والحفاظ على الدين، لا بالرسوم والقشور كتذهيب القرآن وكتابته بماء الذهب، وتزيين المساجد بما أفتى الفقهاء بحرمته أو كراهته.

 

وقد أشار مولانا الإمام الصادق عليه السلام إلى مثال في بيان قوله تعالى: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ (الأعراف: 171)، موضّحاً أنّ المراد هو الإفادة من قدرة الفهم العقليّ والإيمان القلبيّ والعمل البدنيّ.

 

عن إسحاق بن عمّار ويونس قالا: "سألنا أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تعالى: ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾: قوّة [في] الأبدان أو قوّة في القلب؟ قال عليه السلام: فيهما جميعاً"(6). وعلى هذا الأساس، سيلغي الوجودُ المبارك لصاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مظاهرَ البذخ والرسوم البرّاقة ضمن إقامة العدل العالميّ في إطار إحياء المعارف الإلهيّة، وتقوية دور العقل والإيمان لدى الناس.

 

وقد وردت الإشارة إلى نشر العدل على يد صاحب العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف في البيانات النوريّة الصادرة عن أهل بيت الوحي والعصمة عليهم السلام، لا سيّما فيما بلغنا عن مولانا سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام، قال: "لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يومٌ واحدٌ لطوّل الله عزّ وجلّ ذلك اليوم، حتّى يخرج رجلٌ من ولدي، فيملأها عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً. كذلك سمعت رسول الله يقول"(7).

 

* الهدف المنشود

ويُستفاد من هذا الحديث الملكوتيّ أنّ الوجه في ظهور إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وإقامة حكومة العدل، أن يحقّق المجتمع البشريّ الهدف المنشود من خلقته، وهو إقامة العدل وأخذ حقّ المظلوم من الظالم، والحيلولة دون تعدّي المجرمين على المظلومين، وهو الميثاق الذي أخذه الله على علماء الحقّ والدين.

 

(*) من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود – الباب الثالث: من الظهور إلى المدينة الفاضلة – الفصل الثاني – بتصرّف.

 

1- الوافي، الفيض الكاشاني، ج 26، ص 432.

2- تفسير العيّاشي، ج 2، ص 56، تفسير سورة الأنفال.

3- كمال الدين، الصدوق، ص 331.

4- بحار الأنوار، المجلسي، ج 12، ص 207.

5- (م. ن.).

6- المحاسن، البرقي، ج 1، ص 407.

7- كمال الدين، (م. س.)، ج 1، ص 434-435، الباب 30.

 

المصدر: مجلة بقية الله