كربلاء موقفٌ... لا حياد

الشيخ محمود كرنيب

 

إنّ مسألة الحياد تُجاه الصراع الذي كان قائماً بين حكّام الجور وطواغيت العصر من بني أُميّة وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، لا سيّما الحسن المجتبى والحسين الشهيد عليهما السلام، ليست أمراً طُرح حديثاً، بل إنّه موقف مطروح في حمأة الصراع والعراك، وله تجلّياته في صفّين وما قبلها وما بعدها. وقد طرح كذلك في مرحلة التعبئة للثورة والنهضة الحسينيّة، وهو ما واجهته حركة سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه)، حيث إنّ إحدى العبارات المستخدمة آنذاك للتخذيل عنه (رضوان الله عليه) هي قول بعضهم لبعضهم الآخر: "ما لنا وللدخول بين السلاطين" وكذلك تصوير الصراع على أنّه صراع بين بيتين قرشيّين، البيت العلويّ والبيت الأمويّ.

 

* لطلب الإصلاح

إلّا أنّ الواقع كشف زيف هذه التصويرات للصراع والنزاع، ليبرز الحقّ في أنّ الأمر، وإن كانت دواعيه من جهة أهل الباطل تشمل الجانب المتعلّق بالعائلة والعشيرة، وكذلك حبّ السلطة والترؤس والتزعّم، لكنّها لا تقتصر على ذلك، بل إنّ العداء للإسلام ولنبيّه ولأهل بيته عليهم السلام من أهمّ الدواعي. وفي المقلب الآخر، فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام لم يكن داعيهم إلى الثورة والنهضة مشوباً ولا بأيّ درجة من الدرجات بهذه الدواعي وأمثالها، بل كانت كلّ محفّزات الثورة والتغيير لديهم إلهيّة وإنسانيّة ودينيّة، وهو ما تجلّى في مواقف الإمام الحسين عليه السلام: "إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"(1)، وكذلك قوله عليه السلام: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"(2). وعليه، فإنّ الحياد تُجاه النهضة الحسينيّة لا محلّ له لجملة من الأمور، نذكر منها اختصاراً:

 

* أوّلاً: عاشوراء أبعد من الزمان والمكان

ومعنى ذلك أنّه لا يمكن أن ننظر إليها كحدث له زمنه وظروفه التي تقيّده، فنقرأها كواقعة جرت ومضت وانتهت أحداثاً وأبعاداً ودلالات بدون أن تعنينا في حاضرنا ومستقبلنا؛ إذ إنّ قضيّة النهضة الحسينيّة هي قضيّة محقّة بخصوص ظرفها الزمنيّ؛ لأنّ الصراع بين الحقّ وطلّاب العدل من جهة، وبين الباطل وحكّام الجور من جهة أخرى، يمتدّ مع الزمن ومع الأجيال والأمكنة، وهذا ما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة السليمة التي تأبى الظلم وتتوق إلى العدل، وترفض الباطل وتسعى إلى إحقاق الحقّ، وهذا ما ينادي به الإسلام؛ لأنّه دين الفطرة، وهو ما أشارت إليه الرواية القائلة: "مَن رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله"(3).

 

فالتكليف الشرعيّ يقتضي أن لا نكون حياديّين بين رمز الطهر والنقاء والعدالة والتقى، ورمز الفسوق والفجور والظلم والطغيان. وهذا ما عبّر عنه الإمام الحسين عليه السلام: "إنّا أهل بيت النبوّة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله"(4)، وفي زيارة الإمام الحسين عليه السلام: "أشهد أنّك أمرتَ بالقسط والعدل، ودعوت إليهما"(5).

 

بالتالي، فنحن وكلّ الأجيال معنيّون بأن يكون لنا موقف إلى صفّ الحسين عليه السلام، وهذا ما ندبت إليه مختلف الزيارات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام للحسين عليه السلام: "يا أبا عبد الله، إنّي سلمٌ لمن سالمكم، وحربٌ لمن حاربكم إلى يوم القيامة"(6). وفي زيارة أخرى: "أدين الله بالبراءة ممّن قتلك، وممّن قاتلك وشايع عليك، وممّن جمع عليك، وممّن سمع صوتك ولم يعِنك، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً"(7).

 

وعليه، فقضايا مثل قضايا الحقّ والباطل والغدر والظلم والهدى والضلال لا يُقبل، بل لا يُتصوّر اتّجاهها الحياد، سواء كانت واقعاً معاشاً، أو حدثاً في التاريخ، أو إرهاصات لقادم الأحداث. فعاشوراء بهذا الاعتبار، لا يمكن اعتبارها قضيّة تاريخيّة ذهب بها الزمن أو ذهبت معه، لتبقى قصّة يتندّر بروايتها وتُستفاد منها العِبَر، بل مضافاً إلى الوعي الذي تزرعه، ومجالات الاستفادة من عِبَرها، لا بدّ من إبقائها حيّة من خلال الموقف الفكريّ والعاطفي، أوّلاً.

 

* ثانياً: الثائر هو حجّة الله ووليّه

ومعنى ذلك من الوجهة العقائديّة، حقّانيّة النهضة وصوابيّة الثورة، وكون الفعل مجيداً ومباركاً ومؤيَّداً، بل يكون مأموراً به من الله تعالى.

 

معنى ذلك أن الثورة إلهيّة المنطلقات والأساليب والغايات، والثائر هو مصباح الهداية كما عبّرت عنه الروايات، ومن نوابع ذلك ما جاء في الزيارات التي منها: "وأشهد أنّك نور الله الذي لم يُطفأ ولا يُطفأ أبداً"(8)، وكذلك: "وأشهد أنّك من دعائم الدين وأركان المؤمنين"(9).

 

وهو المعصوم الذي على أساس أفعاله وأقواله تنتظم الأقوال والأفعال وتُقاس صوابيّتها وصدقيّتها: "يا أبا عبد الله، أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهليّة بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهّمات ثيابها"(10).

 

فالواجب أن يكون المعيار للحقّ والحقيقة والصواب هو مدى قرب موقفنا، في أيّ زمان ومكان، مع أقوال وأفعال أدلّة الرشاد الأئمّة الهداة عليهم السلام، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ثمّة تكليف آخر هو عدم السماح بطمس هذه الأنوار والتشويش عليها، بل علينا أن نجد كلّ ما يحقّق فينا قابليّة الاستضاءة بها والاستفادة منها، أوَلَيس الحسين عليه السلام مصباح الهدى من أهل هذه البيوت التي تشرق منها أنوار الهداية في قوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور: 36)؟

 

لذا كان ردّ زينب عليها السلام في مجلس الطاغية لتقول إنّ قتل الإمام الحسين عليه السلام لا يطمس نوره، بل الشهادة الحسينيّة كانت فجراً جديداً لإشراقة الأنوار الحسينيّة والمحمّدية والعلويّة: "فوالله، لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا"(11).

 

وقد ورد في زيارة العيدين: "السلام عليك يا بطل المسلمين"(12).

 

* ثالثاً: موقع كربلاء في المخطّط الإلهيّ للبشريّة

ورد في الكثير من الزيارات التسليم على الإمام الحسين عليه السلام بالقول: "السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ"، ثمّ تذكر الزيارات وراثته لأولي العزم من نوح عليه السلام إلى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي إحداها إضافة إسماعيل عليه السلام ذبيح الله. ومن هذه الزيارات، الزيارات المطلقة التي أوردها الشيخ عبّاس القمّي (رحمه الله) في مفاتيح الجنان، في الثالثة منها والسابعة وكذلك في زيارة النصف من رجب، وزيارة عرفة، والعيدَين.

 

"السَّلامُ عَلَيْكَ يا حُجَّةَ الله وَابْنَ حُجَّتِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا قَتِيلَ الله وَابْنَ قَتِيلِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا ثارَ الله وَابْنَ ثارِهِ، السَّلامُ عَلَيْكَ يا وِتْرَ الله المَوْتُورِ فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ..."(13). فالتأمّل بأمثال هذه العبارات الرابطة بين الحسين عليه السلام ومفاصل المسيرة البشريّة، خصوصاً المسيرة بحسب التدبير الإلهيّ لها، المربوطة بعد آدم بأولي العزم عليهم السلام، ثمّ النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيّد الأوصياء عليه السلام، تشير بوضوح إلى موقعيّة النهضة العاشورائيّة، بل البطولة ثمّ الشهادة الحسينيّة في تصويب المسيرة البشريّة على طبق المخطّط الإلهيّ لتصل إلى الغاية المرسومة إلهيّاً، تحديداً إذا ما ضممنا إليها هذه العلاقة، التي أكّدت فيها الروايات والزيارات، بين ثورة الحسين عليه السلام وحركة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك: "وأسأل الله البرّ الرحيم... أن يوفّقني للطلب بثأركم مع الإمام المنتظر الهادي من آل محمّد..."(14)، ومنها: "اللّهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ الطَّالِبِينَ بِثَأْرِهِ مَعَ إِمامٍ عَدْلٍ تُعِزُّ بِهِ الإسْلامَ وَأَهْلَهُ، يا رَبَّ العالَمِينَ"(15).

 

الإمام الحسين عليه السلام أعطي مواريث الأنبياء عليهم السلام، بمعنى أنّه حمل أمانة مدّها بأسباب الحياة من خلال شهادته المؤكّدة على صدقها وحقّانيّتها، وليكون الثأر لدمه على يد حفيده الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بعد الانتقام من قاتليه، وتحقيق حلم الأنبياء، وتجسيد المشروع الإلهيّ للبشريّة على المعمورة بأكملها.

 

فإنّ الأمنية لمن تأخّروا بالزمن عن العام 61 للهجرة، تتلخّص بهذا المقطع وهو: "أسأل الله... أن يجعلني معكم في الدنيا والآخرة"(16). والنداء أبداً: "لبيك داعي الله، إن كان لم يجبك بدني عند استغاثتك وعند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري..." (17).

 

* لنستأهل الفوز

إنّ المطلوب تُجاه عاشوراء ليس عدم الحياد فحسب، بل إنّ المطلوب هو الانتماء، فلا مجال للحياد أمام قضايا إنسانيّة ودينيّة؛ إذ لا يستوي الحقّ والباطل والعدل والظلم، ولا حياد كذلك في قضايا ومعارك أحد طرفَيها القائد الإلهيّ المعصوم، الذي هو أحد استهدافات العدوّ شخصاً ومقاماً ودوراً، ولا معنى للحياد بإزاء المشروع الإلهيّ للبشريّة، حيث يبدو المحايد بلا عاطفة ولا رأي ولا موقف.

 

ومن العجيب أنّه في عاشوراء نماذج من المحايدين والحياد أغلبها ما له علاقة بالحياد العمليّ أو السلوكيّ؛ إذ يروي التاريخ أنّ جماعة وأفراداً، قلّوا أو كثروا، كانوا ينظرون إلى ساحة الطفّ من تلّ وهم يبكون ويدعون للحسين عليه السلام بالنصر، ولكنّهم كانوا لا يجرؤون على نصرته، وفئة عبّر عنها قول الفرزدق للإمام الحسين عليه السلام في حقّ أهل الكوفة: "قلوبهم معك وسيوفهم عليك".

 

هذه المواقف كلّها مخذّلة وغير مقبولة، فهم جميعاً ملعونون على حدّ سواء، فناصر الظلم وخاذل الحقّ، مهما كانت خلفيّته، مشمول بما جاء في الزيارة: "فَلَعَنَ الله أُمَّةً قَتَلَتْكَ وَلَعَنَ الله اُمَّةً ظَلَمَتْكَ وَلَعَنَ الله اُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرِضِيَتْ بِهِ".

 

فالمطلوب أن يصنعنا التفكّر والتأمّل والتعاطف مع الواقعة على عين الحسين عليه السلام، لنستأهل أن نفوز بشرف الأخذ بثأره مع حفيده المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

 

1- بحار الأنوار، المجلسي، ج 44، ص 239.

2- مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص 31.

3- تاريخ الطبري، ج 4، ص 304.

4- اللهوف، السيّد ابن طاووس، ص17.

5- مفاتيح الجنان، زيارة الحسين عليه السلام، أول رجب ونصفه ونصف شعبان.

6- (م. ن.)، زيارة عاشوراء الأولى.

7- (م. ن.)، الزيارة السادسة من الزيارات المطلقة للإمام الحسين عليه السلام.

8- بحار الأنوار، (م. س.)، ج 98، ص 342.

9- مفاتيح الجنان، (م. س.)، زيارة وارث، ص628.

10- (م. ن.).

11- مثير الأحزان، (م. س.)، ص 81.

12- المزار، الشهيد الأوّل، ص157.

13- الكافي، الكليني، ج 4، ص 576.

14- مستدرك الوسائل، الميرزا النوريّ، ج 10، ص 413.

15- (م. ن.)، ص 415.

16- كامل الزيارات، ابن قولويه، ص 330.

17- (م. ن.)، ص388.

 

المصدر: مجلة بقية الله