ثــوراتٌ تمهيديّة للظهور المبارك (*)

آية الله الشيخ عبد الله جوادي الآمليّ

إذا كان لنائب من نوّاب إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كالإمام الراحل قدس سره، القدرة على إقامة نظام إسلاميّ، فلا شكّ في أنّ للوجود المبارك لوليّ الله الأعظم عجل الله تعالى فرجه الشريف القدرة على تغيير العالم وتسخيره، بواسطة 313 ناصراً ومريداً، وإن التحق سائر الناس برَكب أصحاب إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف وأنصاره وأوليائه لاحقاً.

 

•نقطة تحوّل عالميّة

على ضوء هذا، تكون الثورة الإسلاميّة العظيمة من جهات متعدّدة مرآة للثورة المهدويّة العالميّة. ولا شكّ في أنّ الثورة المهدويّة العظيمة نقطة تحوّل في التاريخ، وكذلك مصداقها المُصغّر، لكنّ نقطة التحوّل التي أحدثتها الثورة الإسلاميّة بالقياس إلى تلك التي تحدثها الثورة المهدويّة العالميّة، من قبيل قطر الندى في قبال البحر الزاخر(1). كما أنّ الأنبياء عليهم السلام، وإن شكّلوا نقطة تحوّل تاريخيّ في عصورهم، إلّا أنّ ذلك مقارنةً بالثورة المهدويّة كالندى مضافاً إلى البحر الزاخر.

والوجه فيه: أنّ الثورة التي تغيّر العالم وتملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، تمثّل نقطة تحوّل شاملة عالميّة. وإلى ذلك يشير في ما أفاده مولى الموحّدين عليّ عليه السلام بالقول: "يعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي"(2).

 

•ضياء للقلوب

إنّ للثورة المهدويّة أثراً على القلوب؛ إذ تخرجها من حبّ الأنا والهوى إلى حبّ الله الواحد الأحد، فتحيل ظلمة الجهل والضلال إلى نور الهداية والعلم، وتبدّل الخوف والاضطراب بالشجاعة والثبات. ويمكن ملاحظة مثالٍ لها في ما حصل من تحوّل إبّان اندلاع الثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخمينيّ قدس سره من خلال الثبات على المقاومة طيلة ثماني سنوات من الدفاع المقدّس.

 

•﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾

إنّ أولئك الذين يشمّون رائحة أبنائهم الشهداء ويقبّلون جباههم ثمّ ينطلقون بأنفسهم إلى جبهة القتال مصاديق بارزة لقوله تعالى: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ (الأنبياء: 73)؛ وذلك أنّه حصل تغيّر وتبدّل في قلوبهم، ما دفعهم إلى نحت أبهى صور الإيثار والفداء. إنّ شدّة الشوق القلبيّ، والحماس الكبير، والإحساس غير القابل للوصف، والحضور في الصفوف الأماميّة للقتال، والدفاع عن التعاليم المقدّسة وعن حريم الإسلام، إلى جانب التعلّق الشديد بالشهادة، والابتعاد عن أسر مظاهر الحياة الطبيعيّة، لا يمكن تصوّره وتحقّقه إلّا من خلال قوله تعالى: ﴿يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾ ضمن تحوّل جذريّ للقلوب. لقد كان أولئك الرجال جندَ الله الذين ادّخرهم تعالى لوقت الشدّة، حين تفتر العزائم يأتيهم الإلهام الباطنيّ، فيتركون حياة الدعة، ويساقون إلى الشهادة والفداء، ما يفضي إلى التحقّق العينيّ للجهاد الذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿لَوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾ (آل عمران: 154).

 

•القرآن ملهم الشهداء

لا يتمّ العروج الملكوتيّ لروح الشهيد إلّا بالاستعانة بالفكر النيّر والاستمداد الخالص من الله تعالى شأنه. إنّ سالك طريق الشهادة يتزوّد بزاد اسمه معرفة الله ونصر الدين، وطيّ ساحة الإيثار، وبرأس مال عنوانه الهجرة من التكاثر إلى الكوثر والشوق إلى لقاء الله. وإنّما تتحقّق جملةٌ من النعم في ظلّ الوحي الإلهيّ وولاية أهل بيت العصمة عليهم السلام، عبّر عنها القرآن الكريم كميزات للمجاهدين:

 

1- شراء المال والنفس: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ (التوبة: 111)، كانوا مستعدّين لشراء بضاعة المال والنفس.

 

2- الاستعداد للمواجهة: قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: 60)، أعلنوا بكلّ إخلاص استعدادهم الكامل للمواجهة.

 

3- جهوزيّة للجهاد بكلّ الجبهات: قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه﴾ (الأنفال: 39)، رحّبوا بكلّ أنواع الجهاد: الاستعباد والاستعمار والاستغلال والاستبداد...

 

4- إحقاق الحقّ: قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ*لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ (الأنفال: 7 - 8)، لم يكن لهم هدفٌ سوى إحقاق الحقّ وإبطال الباطل.

 

5- مجاهدة الكفّار والمنافقين: قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (التوبة: 73)، شاركوا في مجاهدة الكفّار والمنافقين، فحدّدوا العدوّ الداخليّ (المنافق)، كما شخّصوا العدوّ الخارجيّ (الكافر)، وسعوا إلى اتّقاء شرّهما.

 

6- اتّباع الولاية: قال تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ (النساء: 59)، سلكوا طريق تعاليم عصر غيبة بقيّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف، واتّبعوا نوّابه الحقيقيّين، وامتثلوا أوامرهم.

 

والحاصل؛ لقد سعى هؤلاء الرجال إلى تطبيق كلّ ما تعلّموه من القرآن، وعملوا به بكلّ إخلاص، وتبرّؤوا ممّا عداه من مسالك ومزالق.

 

•شروط التمهيد

إنّ هذه الثورات العظيمة التي كانت ثمرةً لمجاهَدات ثلّة طيّبة من الشباب والأنصار والنساء والرجال، الذين أنجبتهم هذه الأرض الطيّبة المعطاءة، لم تكن إلّا تمهيداً لظهور ذلك الوجود المبارك. لكن ما ينبغي عدم الذهول عنه، هو أنّ النظام المقدّس إنّما يكون ممهّداً لظهور بقيّة الله عجل الله تعالى فرجه الشريف حينما يكتب رجال العلم والثقافة في هذا النظام الآليّات العلميّة الصحيحة، وتحافظ عليها الأجيال، وتعمل الأعمال الصالحة على ضوء المعارف الإلهيّة وأحكام الإسلام المضيئة، وتبتعد عن الصور الجاهليّة المعاصرة للحداثة، حتّى تتحقّق التجربة العمليّة في محضر الإسلام الأصيل بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، فتُعرض للعالم أبهى حلّةً وصورةً.

 

 (*) مقتبس من كتاب: الإمام المهديّ الموجود الموعود عجل الله تعالى فرجه الشريف، آية الله الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، الفصل الأوّل- الباب الثاني- بتصرّف.

1.قال حافظ الشيرازي في ديوانه (غزل، 471):

قياس كردم وتدبير عقل در ره عشق

چو شبنمى است كه بر بحر مى كشد رقمى

أيّ: تأمّلت فأدركت أنّ سلوك طريق العقل لنيل العشق عقيمٌ جدّاً كسقوط قطر الندى في البحر.

2.نهج البلاغة، الخطبة 138.