«دروس في الحكومة الإسلامية»؛ الدرس الثاني عشر: تكملة للطائفة الخامسة الماضية من نهج البلاغة وتمامه (الاستدلال لولاية النبي والأئمة)

آية الله الشيخ محمد مؤمن

 تكملة للطائفة الخامسة الماضية من نهج البلاغة وتمامه:

1. فمنها قوله عليه السلام: أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا وحسداً لنا، أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يُستعطى الهدى (لا بهم) وبنا يُستجلى العمى (لا بهم) إن الأئمة من قريش غُرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاية من غيرهم[1].

فجملته الأخيرة واضحة الدلالة على اختصاص إمامة الأمة والولاية عليها بهذا البطن من هاشم الذي يراد به البطن الذي كان هو وأولاده عليهم السلام منه، فقد صرّح بولاية أنفسهم وعدم صلاحية غيرهم لأمر الولاية.

2. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطب بها لما جيء به عليه السلام ليبايع أباب بكر من قوله: الحمد لله الذي اتخذ محمداً صلى الله عليه وآله منا نبيّاً وبعثه إلينا رسولاً، الله الله يا معشر المهاجرين والأنصار لا تنسوا عهد نبيكم إليكم في أمري، الله الله يا معشر قريش لا تخرجوا سلطان محمد صلى الله عليه وآله في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدافعوا أهل بيته عن مقامه في الناس وحقه، فوالله معاشر الجمع إن الله قضى وحكم ونبيه أعلم وأنتم تعلمون بأنا أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة وأمان أهل الأرض ونجاة الأمة من المشقة والبلاء، ونحن أحق بهذا الأمر منكم، أما كان فينا القاري لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله المضطلع بأمر الرعية الدافع عنهم الأمور السيئة القاسم بينهم بالسوية؟ والله إن لفينا لا فيكم فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بُعداً وتفسدوا قديمكم بحديثكم، إن لنا حقاً فإن أعطيناه أخذناه وإن لا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهداً لجادلنا عليه حتى نموت ولم أترك ابن أبي قراحة يرق درجة واحدة من منبره...[2].

فقد صرح عليه السلام بأن حق الولاية على الأمة التي قام أبو بكر بتصديها كان له عليه السلام، ولا محالة أن أبا بكر بل كل من يتصداها غيره فلا محالة يكون غاصباً عاصياً، بل إن تعبيره عليه السلام بأنهم عليهم السلام بما أنهم أهل بيت النبوة أحق بهذا الأمر من سائر الناس يدل دلالة واضحة على أن حق ولاية أمر الأمة إنما هو لأهل البيت الذين أولهم هو عليه السلام إلى خاتمهم الذي هو قائمهم.

3. ومنها قوله عليه السلام ضمن خطبة خطب بها حين بلغه خلع طلحة والزبير بيعتهما: نحن أهل بيت النبوة وعترة الرسول صلى الله عليه وآله وأحق الخلق بسلطان الرسالة ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة، وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل بيت النبوة ولا من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله، وليسا من هذا الأمر بسبيل حين رأيا أن الله قد رد علينا حقّنا بعد أعصر، لم يصبرا حولاً كاملاً ولا شهراً واحداً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي ويفرّقا جماعة المسلمين عني، والله الذي لا إله إلا هو إن طلحة والزبير وعائشة بايعوني ونكثوا بيعتي، وما استأنوا فيَّ حتى يعرفوا جوري من عدلي، وأنهم ليعلمون أني على الحق وأنهم مبطلون[3].

ودلالته على أن الولاية على أمور المسلمين حق له قد أخذه الماضون ورده الله تعالى عليه واضحة، بل إن جعل موضوع صاحب الحق عترة الرسول صلى الله عليه وآله يدل على ثبوت الحق لسائر الأئمة عليهم السلام أيضاً. ولا يحتمل إرادة غيره هذا المعنى من الولاية إذ هي بهذا المعنى هي التي أخذوها عنه ثم ردّها الله إليها.

4. ومنها ما كتبه في كتاب إلى بعض أكابر أصحابه: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن العبد إذا دخل حفرته أتاه ملَكان: أحدهما منكر والآخر نكير، فأول ما يسألانه عن ربه ثم عن نبيه ثم عن وليه، فإن أجاب نجا وإن تحير عذباه. فقال قائل: فما حال من عرف ربه وعرف نبيه ولم يعرف وليه؟ فقال صلى الله عليه وآله: ذلك مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾. قيل: فمن الولي يا رسول الله؟ فقال: وليكم في هذا الزمان أنا، ومن بعدي وصيي علي، ومن بعده وصيه ـ إلى أن قال: ـ وكذلك أوحى تبارك وتعالى إلى آدم: قد انقضت مدتك وقضيت نبوتك واستكملت أيامك وحضر أجلك فخذ النبوة وميراث العلم واسم الله الأكبر فادفعه إلى ابنك هبة الله، فإني لم أدع الأرض بغير عَلَم تُعرف به طاعتي وتُعرف به ولايتي، فلم يزل الأنبياء والأوصياء يتوارثون ذلك حتى انتهى الأمر إليَّ، وأنا أدفع ذلك إلى علي بن أبي طالب وصيي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى، وإن علياً يورّث ولده حيهم عن ميتهم، فمن سره أن يدخل جنة ربه فليتول علياً والأوصياء من بعده، وليسلم لفضلهم فإنهم الهداة بعدي)[4].

ودلالة فقرتيه على المطلوب واضحة، إذ في الفقرات الأولى صرح بأنه صلى الله عليه وآله ما دام حياً فهو ولي المسلمين وبعده يكون وليهم علياً عليه السلام ثم أوصياؤه الآخرون، كما أن الفقرات الثانية قد جعل هو صلى الله عليه وآله ولياً من الله تعالى ودفع هذه الولاية إلى علي بن أبي طالب ونص فيه أنه منه بمنزلة هارون من موسى، فالولاية بنفسه ظاهرة في المعنى المطلوب وإطلاق المنزلة أيضاً يقتضي هذا المعنى، ثم صرح بأن هذه الولاية ثابتة لأولاد علي الذين هم أوصياؤه.

5. ومنها ما ذكره في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر خطاباً لأهل مصر من قوله عليه السلام: واعلموا يا عباد الله أنكم إذا اتقيتم ربّكم وحفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عُبد وذركتموه بأفضل ما ذُكر وشكرتموه بأفضل ما شُكر وأخذتم بأفضل الصبر وجاهدتم بأفضل الجهاد وإن كان غيركم أطول منكم صلاةً وأكثر صياماً وصدقةً، إذ كنتم أنتم أتقى وأخشع لله عز وجل منهم وأنصح لأولياء الله ومن هو ولي الأمر من آل رسول الله صلى الله عليه وآله[5].

وموضوع كلامه عليه السلام أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقد وصفهم بأنهم ولي الأمر من آله وكونهم ولي الأمر لا معنى له إلا أن بيدهم أمر ولاية أمور الأمة الإسلامية فهو أيضاً تام الدلالة على المطلوب.

وهذه الموارد الخمسة كان مدلولها ثبوت ولاية الأمر لأهل بيت العصمة والأئمة المعصومين عليه السلام كلهم.

6. ومنها قوله عليه السلام ضمن خطبة خطب بها بعد انصرافه من صفين قال: إنه لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أطول الناس أغراساً وأفضل الناس أنفاساً، هم أساس الدين وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة وحجة الله عليكم في حجة الوداع يوم غدير خم وبذي الحليفة وبعد المقام الثالث بأحجار الزيت، تلك فرائض ضيّعتموها وحرمات انتهكتموها، ولو سلّمتم الأمر لأهله سلمتم ولو أبصرتم باب الهدى رشدتم[6].

فقد صرح بأن خصائص حق الولاية إنما هي لآل محمد عليهم السلام وأن فيهم الوصية والوراثة، وقد ذكر ثلاثة موارد منها حجة الوداع في غدير خم، كما وبّخ الناس بتضييع هذه الفرائض وانتهاك هذه الحرمات إذ سلّموا أمر الولاية إلى غير الأهل، ولو سلّموه إلى أهله سلموا.

وهذا المقال أيضاً كما عرفت لم يختص بنفسه عليه السلام بل أثبت الولاية لآل محمد عليهم السلام.

7. ومنها قوله عليه السلام ضمن الخطبة المذكورة: وعلى يدي يتم الله موعده ويكمل كلماته، وبولايتي أكمل الله لهذه الأمة دينها، وأنا النعمة التي أنعمها الله على خلقه[7].

فقد ذكر ولاية نفسه عليه السلام وأنها من الله تعالى وبها أكمل الله دين الأمة كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ وقد مرت روايات كثيرة ذيل هذه الآية تفسّرها بولاية أمير المؤمنين عليه السلام، فتذكر.

ومنها قوله عليه السلام في نفس هذه الخطبة: الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله وقد طلع طالع ولمع لامع واعتدل مائل واستبدل الله بقوم قوماً وبيوم يوماً ـ إلى أن قال: ـ لقد عملت الولاة قبلي أعمالاً عظيمة خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين لخلافه ناقضين لعهده مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها وتحويلها عن مواضعها إلى ما كانت تجري عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرّق عني جندي حتى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله.

ثم ذكر سبعة وعشرين مورداً من هذه الموارد وأنه عليه السلام لو ردّها إلى ما كانت في عهد الرسول لتفرّق عنه الجند، ثم قال: بؤسي لما لقيت من هذه الأمة بعد نبيها من الفرقة وطاعة أئمة الضلال والدعاة إلى النار[8].

فقوله عليه السلام هذا يدل على أن حق الولاية على الأمة إنما كان له قد رجع إليه بعد ما انتقل عنه، كما يدل على أن الولاة الثلاثة الذين كانوا قبله قد غيّروا سنة رسول الله في موارد كثيرة متعمدين لخلافه ناقضين عهده، واعتاد الناس على هذه الموارد المتغيرة بحيث يوجب رد هذه الموارد إلى ما كانت عليه في عهده تفرق جنده إلا القليل من شيعته.

فدلالة هذا المقال أيضاً على حق الولاية له عليه السلام وأن غيره عاص طاغوت تامة واضحة.

9. ومنها قوله عليه السلام في ذيل خطبة: فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته واستشعروا خوف الله جل ذكره وأخلصوا النفس، وتوبوا إليه من قبيح ما استفزكم الشيطان من قتال ولي الأمر وأهل العلم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة وتشتيت الأمر وفساد صلاح ذات البين، إن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون إنه قريب مجيب[9].

فإنه دال بوضوح على أنه عليه السلام كان ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وقد تعاونوا على قتله وتشتيت أمر الأمة، وأمر الناس بالتوبة من فعلهم هذا إلى الله تعالى فإنه قريبٌ مجيب.

10. ومنها قوله عليه السلام في خطبته المعروفة بالقاصمة: ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك لوزير إنك لعلى خير[10].

ودلالته مبنيّة على أن وزارته تقتضي أن يكون قائماً مقام الرسول في حياته وبعد وفاته، وشمول هذه الوزارة لما بعد الوفاة عبارة أخرى عن كونه ولي أمر الأمة بعده إلا أن في شموله لما بعد الوفاة تأمّلاً واضحاً فإن الوزارة مساوقة للإعانة، وهي تختص بزمن حياة المعان كما لا يخفى.

11. ومنها قوله عليه السلام في خطبة طويلة معروفة بالوسيلة: (أيها الناس) إن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحّاده وجعلني زلفةً للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين، وشد بي أزر رسوله وأكرمني بنصره وشرفني بعلمه وحباني بأحكامه واختصني بوصيته واصطفاني بخلافته في أمته، فقال صلى الله عليه وآله وقد حشده المهاجرون والأنصار وانغصّت بهم المحافل: (يا أيها الناس؛ إن علياً مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول، إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه ولا كنت نبياً فأقتضي نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسى هارون عليهما السلام حيث يقول: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾. وقوله صلى الله عليه وآله حين تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى حجة الوداع ثم صار إلى غدير خم فأمر فأصلح له شبه المنبر ثم علاه وأخذ بعضدي حتى رئي بياض إبطيه رافعاً صوته قائلاً في محفله: (من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه).

فكانت على ولايتي ولاية الله وعلى عداوتي عداوة الله. وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره... .

ولئن تقمّصها دوني الأشقيان ونازعاني فيما ليس لهما بحق وركباها ضلالة واعتقداها جهالة فلبئس ما عليه وردا ولبئس ما لأنفسهما مهدا يتلاعنان في دورهما ويبرأ كل واحد منهما من صاحبه يقول لقرينه إذا التقيا: ﴿يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ﴾ فيجيبه الأشقى على وثوبه: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه مال والإيمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب... .

إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان... قد استحوذ عليهم الشيطان... فأخرجنا الله إليهم رحمة... أبدت لهم أيام الرسول صلى الله عليه وآله آثار الصالحين... حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب... وغيروا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله ورغبوا عن أحكامه وبعدوا من أنواره واستبدلوا بمستخلفه بديلاً ﴿اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله ممن أختاره رسول الله صلى الله عليه وآله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس بني هاشم بن عبد مناف، ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله مضى لم يستخلف[11].

ودلالة هذا القول المبارك منه عليه السلام على أنه ولي أمر الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله اختاره لذلك وأنزل الله تعالى في كتابه الكريم أن ولايته إكمال للدين ورضا الرب فكان هو عليه السلام ولي أمر المسلمين من الله تعالى ومن النبي وعلى أن الطواغيت الثلاثة ولاسيما الأولين منهم ركبوها ضلالةً يتلاعنان أنفسهما في سوء ما فعلاه وارتكباه وأن الناس أيضاً أعانوهم على ارتكاب هذه الضلالة، فدلالة هذا الحديث على جميع هذه المطالب واضحة تامة.

12. ومنها قوله عليه السلام في هذه الخطبة المباركة أيضاً: ألا إن حقي هو حق الله، ألا إن حقي هو حق الله، من عرفني وعرف حقي فقد عرف ربه لأني وصي نبيه في أرضه وحجته على خلقه، لا ينكر هذا إلا راد على الله ورسوله[12].

ودلالته على المطلوب بعناية أن مراده عليه السلام من حقه إنما هو حق الولاية على أمة الإسلام وذلك بقرينة سبق ذكره في العبارات السابقة وبقرينة أنه استدل بأنه وصي النبي، والوصاية له عبارة أخرى عن الولاية.

13. ومنها قوله عليه السلام في خطبة يومي فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلالة، قال عليه السلام: حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله رجع قوم على الأعقاب وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم وهجروا السبب (النسب ـ خ ل) الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه فبنوه في غير موضعه[13].

ووجه دلالته أن الظاهر كونه إشارة إلى الخلاف الذي ارتكبه المسلمون فهجروا النسب الذي هو علي عليه السلام وعترة النبي صلى الله عليه وآله ولم يخضعوا لولايتهم عليهم السلام ومالوا إلى غيرهم فوصلوا غير الرحم ونقلوا بناء الولاية عن رصّ أساسه الذي بناها فيه الله تعالى ورسوله وبنوها في غير موضعه من الطواغيت الثلاثة.

فيدل الحديث على أن موضع الولاية ومبناها وموضع ركنها هو أهل البيت عليهم السلام وأن نقلها إلى غير موضعها رجوع إلى الأعقاب وضلال عن سبيل الإسلام، فهو تام الدلالة على المطلوب فتدبر جيداً.

14. ومنها قوله عليه السلام في هذه الخطبة أيضاً: أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها في دينها التي خُدعت فانخدعت وعرفت خديعة من خدعها فأصرت على ما عَرَفت، واتبعت أهواءها وخبطت في عشواء غوايتها، وقد استبان لها الحق فصدعت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته.

أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو كنتم قدّمتم من قدّم الله وأخّرتم من أخّر الله وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله واقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء بعذوبته وادخرتم الخير من موضعه وأخذتم الطريق من واضحه وسلكتم الحق من نهجه لنهجت بكم السبل وبدت لكم الأعلام وأضاء لكم الإسلام فأكلتم رغداً وما عال فيكم عائل ولا ظُلم منكم مسلم ولا معاهد.

ولكنكم سلكتم سبل الضلال فاظلمّت عليكم دنياكم برحبها وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم واتبعتم الغواة فأغووكم وتركتم الأئمة فتركوكم فأصبحتم تحكمون بأهوائكم، إذا ذُكر الأمر سألتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم: هو العلم بعينه فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟!

فذوقوا وبال أمركم وما فرّطتم فيما قدمت أيديكم وما الله بظلام للعبيد. رويداً عما قليل تحصدون جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما أجرمتم وما اجتلبتم.

فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم، وأني عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ووصي نبيكم صلى الله عليه وآله وخيرة ربكم ولسان نوركم والعالم بما يُصلحكم.

فعن قليل رويداً ينزل بكم ما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم وسيسأل الله عز وجل عن أئمتكم، فمعهم تُحشرون وإلى الله عز وجل تصيرون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[14].

فهذا المقال المبارك كما ترى يدل بوضوح أولاً وآخر على أنه عليه السلام هو ولي أمر المسلمين من الله تعالى الذي قدمه الله وجعل له الولاية والذي به أمر وكان خيرة الرب ووصي النبي، وعلى أن غيره هو من أخرّه الله وأن الأمة مع علمها بحقه وولايته لم يقدموه ولم يتبعوه بل اتبعوا الغواة فأغووهم، وسيعلمون أي منقلب ينقلبون.

بل لا يبعد دعوى دلالته على أنه قد جعل للأمة أئمة وهم تركوا الأئمة فتركوهم وأنهم سيسألهم الله عن أئمتهم وأنهم يُحشرون مع أئمتهم، فيدل الحديث المبارك على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام صريحاً وعلى أن للأمة أئمة حق آخرين من دون بيان لأشخاصهم كما لا يخفى.

15. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطب بها بعد وقعة النهروان: وأنا الصدّيق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر، وصلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله قبل أن يصلي معه أحد من الناس، أنا صفي رسول الله وصاحبه، وأنا وصيه وخليفته من بعده... إلى أن قال:

ورثت نبي الرحمة ونكحت سيدة نساء أهل الجنة وأنا سيد الوصيين ووصي سيد النبيين، أنا إمام المسلمين وقائد المتقين وولي المتقين... أنا يعسوب المؤمنين وأول السابقين وآية الناطقين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين ووارث النبيين وخليفة رب العالمين[15].

وجه دلالته أنه بعدما كان من المسلّم ثبوت هذه الولاية العظيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله كما يدل عليه مثل قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ فكونه عليه السلام خليفته ووصيه بإطلاقه القوي ويقتضي أنه عليه السلام أيضاً ولي أمر المسلمين بمقتضى هذه الخلافة والوصاية لاسيما وهو عليه السلام قايس بين إيمان نفسه وإيمان أبي بكر الذي تصدى لمنصب هذه الولاية غصباً.

وبالجملة: فدلالة هذا المقال على المطلوب تامة بلا ريب.

16. ومنها ما أفاده عليه السلام في هذه الخطبة أيضاً في جواب سؤال ابن الكواء: أخبرني عن بصير بالليل وبصير بالنهار، وعن أعمى بالليل أعمى بالنهار، وعن أعمى بالليل بصير بالنهار، وعن بصير بالليل أعمى بالنهار.

فقال عليه السلام: ويلك!! أما بصير بالليل وبصير بالنهار فهو رجل آمن بالرسل والأوصياء الذين مضوا وبالكتب والنبيين وآمن بالله ونبيه محمد صلى الله عليه وآله وأقر لي بالولاية فأبصر في ليله ونهاره.

وأما أعمى بالليل وأعمى بالنهار فرجل جحد الأنبياء والأوصياء والكتب التي مضت وأدرك النبي ولم يؤمن به ولم يقر بولايتي فجحد الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وآله فعمى بالليل وعمى بالنهار.

وأما بصير بالليل وأعمى بالنهار فرجل آمن بالأنبياء والكتب وجحد النبي صلى الله عليه وآله وأنكرني حقي فأبصر بالليل وعمى بالنهار.

وأما أعمى بالليل وبصير بالنهار فرجل جحد الأنبياء الذين مضوا والأوصياء والكتب وأدرك محمداً صلى الله عليه وآله فآمن بالله وبرسوله ومحمد صلى الله عليه وآله وآمن بإمامتي وقبِل ولايتي فعمى بالليل وأبصر بالنهار.

ويلك يا ابن الكواء!! فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه[16].

فقد جعل الإقرار بولايته والإيمان بإمامته إبصاراً بالنهار الذي هو عهد ظهور الإسلام كما أن عدم الإقرار بها عديل لعدم الإيمان بالنبي صلى الله عليه وآله ويكون أعمى بالنهار، وقد قرر وصرح في ذيل كلامه بأن هذا مما جعله الله تعالى له حيث فتح بهم الإسلام وختمه، فيدل دلالة تامة على أن الله تعالى جعله ولي أمر الأمة.

ثم إن الفقرة الأخيرة ـ أعني قوله عليه السلام: (فنحن بنو أبي طالب بنا فتح الله الإسلام وبنا يختمه) ـ تدل بوضوح على أن هذه الولاية والدخالة إنما جعلهما الله تعالى له لا بما أنه شخص بل بما أنه من بني أبي طالب فقد جعل الله هذا المقام لبني أبي طالب ففيه دلالة واضحة على ولاية سائر الأئمة الذين هم أيضاً من أولاد أبي طالب عليه وعليهم السلام.

17. ومنها قوله عليه السلام في خطبته المعروفة بالشِقشِقية التي خطب بها لما ذكرت الخلافة عنده وتقدم من تقدم عليه فتنفس عليه السلام الصعداء ثم قال:

أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وأنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت دونها ثوباً وطويت عنها كشحاً، وطفقت (برهة) أرتئي بين أن أصول بيد جَذّاء أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى الله ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذىً وفي الحلق شجاً، أرى تُراثي نهباً.

حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى فلان (أخى عدي) بعده، ثم تمثل عليه السلام بقول الأعشى:

شتان ما يومي على كورها                                   ويوم حيان أخي جابر

فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطّرا ضرعيها. فصيرها والله في حوزة خشناء يغلظ كلمُها ويخشُنُ مسُّها ويكثر العثارُ فيها ويقلّ الاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لها خَرَم، وإن أسلس لها تقحم، فمُني الناس فيها لعمرُ الله بخبطٍ وشماسٍ وتلوّنٍ واعتراضٍ، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة. حتى إذا مضى لسبيله جعلها شورى في جماعة زعم أني أحدهم.

فيا لله لهم وللشورى متى اعترض الريبُ فيَّ مع الأوَّل منهم حتى صرت الآن أُقرَن إلى هذه النظائر؟! لكني أسففت مع القوم إذا أسفوا وطِرتُ معهم إذ طاروا.

فصغا رجل منهم لضغنه ومال الآخر لصغره مع هَنٍ وهَنٍ[17] إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يَخضَمون ما الله تعالى خضمة الإبل نِبتة الربيع إلى أن انتكث عليه فَتْلُه وأجهز عليه عملُه وكبَت به بِطنته.

فما راعني إلا والناس إرسالاً إليَّ كعرف الضبُع إليَّ ينثالون عليَّ من كل وجه (و) جانب (يسألوني البيعة).

حتى لقد وُطئ الحَسَنان وشُقّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم.

فلما نهضتُ بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وفسقت شرذمة وقسط آخرون؛ كأنهم لم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾.

بلى والله لقد سمعوها ووعوها ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زِبرِجُها (وأعجبهم رونقها).

أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله تعالى على العلماء أن لا يقاروا على كِظّة ظالم ولا سَغَب مظلوم لألقيتُ حبلها على غاربها ولسقيتُ آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.

فلما وصل عليه السلام إلى هذا الموضع من مقاله قام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتاباً فقطع عليه السلام كلامه وأقبل ينظر فيه، فلما فرغ من قراءته قال له ابن عباس رحمه الله: يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك (خُطبتك) من حيث أفضيت.

فقال عليه السلام: هيهات يا ابن عباس تلك شِقشِقةٌ هدرت ثم قرّت[18].

فهذه الخطبة المباركة تدل بوضوح على أن حق ولاية الأمر على المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وآله كان له عليه السلام وثبوت الحق له كان واضحاً حتى أنه يعلم أبو بكر ابن أبي قحافة أن محله عليه السلام من الولاية محل القطب من الرحى يكون قوام أمره به عليه السلام وإذا غصبوا هذا الحق منه طفق يرتئي بين القيام في وجههم والجهاد معهم لأن يأخذه منهم، لكنه رأى آخر الأمر أن يصبر على هذه الطخية العمياء التي يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير، وذلك أن يده كانت جذّاء لا يمكنه الوصول إلى أخذ حقه بلا لزوم محذور، فصبر غير راض بولايتهم هؤلاء الطواغيت الظلمة، فصبر وفي العين قذى وفي الحلق شجا، يرى تراثه الباقي له من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله نهباً.

وبعد مضي الأول وعقده للثاني بعد وفاته صارت حوزتها خشناء فصبر زمانه أيضاً على طول المدة وشدة المحنة، ولما مضى الثاني أيضاً جعلها شورى بين جماعة وجعله عليه السلام قريناً مع هذه النظائر والجماعة لخصوصيات أخلاقية وقرابة شخصية بينهم جعلوها لثالث القوم الذي قام مع بني أبيه يخضمون مال الله تعالى نبتة الربيع إلى أن قامت الأمة في وجهه وقتلوه ثم انثالوا من كل وجه عليه (عليه السلام) وبايعوه على الولاية، وبعد قيامه بالأمر ظهرت الفئات الثلاث الناكثة والمارقة والقاسطة مع علمهم بأن الحق له عليه السلام وأنه يجب عليهم الإطاعة له عليه السلام.

فهذه الخطبة الشريفة تدل على المطلوب وأن حق الولاية على الأمة كان له عليه السلام بأوضح وأشد الدلالة.

18. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطبها بعدما بويع عليه السلام بالمدينة: ألا وقد كان لي حق حازه مَن لم آمنه عليه ولم أهبه له ولم أشركه فيه، فهو منه على شفا جرف هار من نار جهنم لا يستنقذه منها إلا نبي مرسل يتوب على يديه، ألا ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله[19].

فهذا المقال يدل على انحصار حق الولاية له عليه السلام وعلى أن كل من حازه فقد ارتكب عصياناً كبيراً وصار بها على شفا جرف هارٍ من نار جهنم لا خلاص له منها. فدلالته على المطلوب تامة واضحة.

19. ومنها قوله عليه السلام في نفس هذه الخطبة أيضاً: وقد كانت أمور مضت ملتم فيها عني ميلةً كنتم عندي فيها غير محمودين (ولا مصيبين) أما وإني لو أشاء أن أقول لقلت ولكن عفا الله عما سلف، سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب همه بطنه وفرجه يا ويله لو قصّ جناحاه وقطع رأسه لكان خيراً له[20].

فقد ذكر مضي أمور مالَ المسلمون فيها عنه عليه السلام ودعا الله بالعفو فيها عنهم ثم أوضح هذه الأمور الماضية أنها هي تصدي الطواغيت الثلاثة بأمر الولاية على الأمة والناس كانوا معهم وهم في ذلك غير محمودين.

فهذا المقال أيضاً يدل بوضوح على أن حق الولاية إنما هو له عليه السلام قد غصبه أولئك الثلاثة وتبعتهم الناس ومالوا عنه عليه السلام، فدلالته على المطلوب تامة واضحة.

20. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطب بها عند خروجه لقتال أهل البصرة: (مالي ولقريش... والله ما تنقم منا قريش إلا أنا أهل بيت شيّد الله فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا عليهم فنقموا على الله أن اختارنا عليهم، وسخطوا ما رضي الله وأحبوا ما كره الله، فلما اختارنا الله شركناهم في حريمنا... .

ألست آية نبوة محمد صلى الله عليه وآله ودليل رسالته وعلامة رضاه وسخطه؟ ولي كان يبري جماجم البهم وهام الأبطال إذا فزعت تيمٌ إلى الفرار وعديّ إلى الانتكاص... .

يا معشر المهاجرين والأنصار، أين كانت سبقة تيم وعديّ إلى سقيفة بني ساعدة خوف الفتنة؟! ألا كانت يوم الأبواء إذ تكاثفت الصفوف وتكاثرت الحتوف وتقارعت السيوف؟ أم هلاّ خشيا فتنة الإسلام يوم ابن عبد ودّ وقد نفخ بسيفه وشمخ بأنفه وطمح بطرفه؟... ثم سأل عن عدم خشيتهما سبعة مواضع أخر، ثم قال: أنا صاحب هذه المشاهد وأبو هذه المواقف وابن هذه الأفعال الحميدة[21].

وبيان دلالته أنه عليه السلام وبّخ قريشاً على نقمتهم منهم أهل البيت عليهم السلام وفرض عليهم أنهم كانوا يتبعون أبا بكر وعمر فذكر عليه السلام أنهما وقبيلتيهما لم يكونا عمادين للنبوة ولا دليلين للرسالة بل هو عليه السلام كان آية النبوة وعماداً وسيفاً قاطعاً في خدمة الرسالة، ونبه أيضاً على أن سبقتهما إلى مسألة تعيين الولاية يوم السقيفة لم تكن لأجل عدم وقوع فتنة على الإسلام وإلا فقد حدثت قبل مواضع عديدة فتنة شديدة على الإسلام ولم يكن من واحد منهما سبقة إلى دفعها بل هو عليه السلام كان الوحيد السابق لدفعها بحيث ليس فيه أية ريبة وخفاء.

فهذه المقالة فيها دلالة واضحة على أنه هو صاحب المفاخر والكرامات الخاصة التي بها يستحق الخلافة والولاية وغيره من تيم وعديّ ليس لهما سابقة فضل في الإسلام وأن سبقتهما إلى أمر الولاية كانت للوصول إلى موضع القدرة لا غير وإن عنونوها بأنها كانت لدفع الفتنة المحتملة.

والحق الواضح أنه كيف يدفع الفتنة ولا يتصور فتنة والنبي الأعظم صلى الله عليه وآله أوضح أمر الأمة وبين وظيفتهم وعين بأمر الله تعالى ولي أمر المسلمين بعده مراراً كان آخرها يوم الغدير سبعين يوماً قبل ارتحاله إلى لقاء الله، والله المنتقم وهو الواحد القهار.

21. ومنها قوله عليه السلام في خطبة خطبها حين قتل طلحة والزبير وانفض أهل البصرة: اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان وأفصح الخرساء ذات البرهان لأني فتحت الإسلام ونصرت الدين وعززت الرسول وثبت أركان الإسلام وبينت أعلامه وأعليت مناره وأعلنت أسراره وأظهرت آثاره وصفيت الدولة ووطّأت للماشي والراكب فإنه شارطني رسول الله صلى الله عليه وآله في كل مواطن الحروب وصافقني على أن أُحارب لله وأحامي لله وأنصر رسول الله صلى الله عليه وآله جهدي وطاقتي وكدحي وكدّي وأحامي عن حريم الإسلام وأرفع عن أطناب الدين وأعز الإسلام وأهله، ثم سبقني إليه التيمي والعدوي كسابق الفرس احتيالاً واغتيالاً وخدعةً وغلبةً عزب رأي امرئ تخلف عني ما شككت في الحق مذ أويته... .

إلى أن قال: إنه لم يوجس موسى عليه السلام خيفةً على نفسه ارتياباً ولا شكّاً في ما آتاه من عند الله بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال وغلبة الباطل على الحق، و (أنا) لم أشك فيما آتاني من حقّ الله ولا ارتبت في إمامتي وخلافة ابن عمي ووصية الرسول، اليوم أكشف السريرة عن حقي وأجلي القذى عن ظلامتي حتى يظهر لأهل اللب والمعرفة أني مذلّل مضطهَد مظلوم مغصوب مقهور محقور وأنهم أبتزوا حقي واستأثروا بميراثي... هذا موقف صدق ومقام أنطق فيه بحقي وأكشف الستر والغمة عن ظلامتي، ومن وثق بماء لم يظمأ[22].

فهذا المقال المبارك أيضاً بيّن عليه السلام فيه بعض مآثره الموجبة لاستحقاقه بوحدته الولاية وبيّن أيضاً أن سبقة تيم وعديّ وغيرهما إلى تصدي ولاية المسلمين كانت احتيالاً واغتيالاً وخدعة، وإلا فهو عليه السلام بوحده المستحق للولاية ولم يشك أصلاً في إمامته وخلافته لابن عمه، وإن هذا الحق ثبت له عليه السلام من الله فهو حق له من الله، وقد رأى مصلحة بيان الظلم الوارد عليه ليظهر لأهل اللبّ والمعرفة أنه مضطهَد مظلوم ابتزّوا حقه ووثقوا بما كدر لم يظمأ، فهذا موقف الصدق ومقام نطق فيه بحقه وكشف الغمة عن ظلمته صلوات الله وسلامه عليه.

وبالجملة: فدلالة هذا القول أيضاً على ثبوت الولاية على الأمة له من الله واضحة لا ريب فيها.

22. ومنها قوله عليه السلام لأهل الكوفة بعد دخوله إياها آتياً من البصرة: أنتم الأنصار على الحق والإخوان في الدين والجُنَن يوم البأس والبطانة دون الناس، بكم أضرب المدبِر وأرجو تمام طاعة المقبل، فأعينوني بمناصحة خليّةٍ من الغش سلميةٍ من الريب، فوالله إني لأولى الناس بالناس[23].

فكما ترى قد صرح عليه السلام فيه بأنه أولى الناس بالناس، وقد مر أن هذه الأولوية عبارة أخرى عن ولايته على أمور الناس، فدلالته على ولايته عليهم واضحة إلا أنه لا ينفي احتمال دخل بيعة الناس في حصول هذه الولاية ولا يثبت أن هذه الولاية ثابتة له من الله تعالى بايعه الناس أم لا، فحيث كان هذا المقال بعد مبايعة الناس معه على الولاية فلا محالة يحتمل دخلها في ثبوت الولاية، ومن هذه الجهة تكون دلالته ناقصة.

ومنها قوله عليه السلام في كلام له لكميل بن زياد رحمه الله: قواعد الإٍسلام سبعة: فأولها العقل وعليه بُني الصبر، والثانية صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته، والرابعة الحب في الله والبغض في الله، والخامسة حق آل محمد صلى الله عليه وآله ومعرفة ولايتهم، والسادسة حق الإخوان والمحاماة عنهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى[24].

فإن القاعدة الخامسة من الإسلام هي حق أهل البيت ومعرفة ولايتهم وإضافة المعرفة إلى ولايتهم قرينة على أن المراد بها هو تصدي أمور المسلمين، وإلا فالولاية بمعنى المحبة ـ لم سلّم أنها أيضاً من معانيها ـ لا تناسب تعلّق المعرفة بها بل هي أمر يلتزم بها بخلاف ولايتهم على أمور الأمة، فإنها يعرف هذا الحق لهم ويجعلون ولاة أمورهم.

24. ومنها قوله عليه السلام في كلام له يوم الشورى قبل البيعة لعثمان في عداد مزاياه قال عليه السلام: نشدتكم بالله هل فيكم أحد غيري قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (أول طالع عليكم من هذا الباب يا أنس أمير المؤمنين وسيد المسلمين وأولى الناس بالناس) فقال أنس: اللهم اجعله من الأنصار، فكنت أنا الطالع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأنس: (ما أنا بأول رجل أحب قومه)؟ فقالوا: اللهم لا[25].

فقد حكى عليه السلام أخبار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فيه أنه أولى الناس بالناس وقد مر بيان دلالته على أن من يقال فيه فهو ولي أمر الناس فدلالته على المطلوب تامة.

25. ومنها قوله عليه السلام في نفس الكلام المذكور: هل فيكم أحد أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله يوم غدير خم وقال: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فليبلغ الحاضر الغائب)؟ قالوا: اللهم لا[26].

وهذا نص خبر غدير خم الذي مرت دلالته على المطلوب، فتأمل.

26. ومنها قوله عليه السلام في نفس هذا الكلام: فهل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي غَزاة تبوك: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)؟ قالوا: اللهم نعم[27].

ودلالته بملاحظة أن مفاد كلامه صلى الله عليه وآله إطلاق المنزلة وحيث إن من المسلّم أنه صلى الله عليه وآله ولي أمر الأمة وأولى بالمؤمنين من أنفسهم فلا محالة يكون لعلي عليه السلام هذه الرتبة وهو المطلوب.

27. ومنها قوله عليه السلام في نفس هذا الكلام: نشدتكم بالله هل فيكم أحد غيري أدى الزكاة وهو راكع فنزلت فيه: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾؟ قالوا: اللهم لا[28].

وقد مضى بيان دلالة الآية المباركة على ولايته بالمعنى المطلوب، فتذكر.

28. ومنها قوله عليه السلام في أواخر نفس هذا الكلام مخاطباً أهل الشورى: أما إذا أقررتم على أنفسكم واستبان لكم ذلك من قول نبيكم فعليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وأنهاكم عن سخطه، وردوا الحق إلى أهله واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وآله فإنكم إن خالفتم خالفتم الله فادفعوها إلى من هو أهلها وهي له[29].

فهذه القسمة من الكلام استنتاج عما سبقها من الأدلة المبيّنة عن أن الولاية على الأمة حقٌّ إلهي له بحكم الله والرسول، ولذا فقد أمرهم بدفعهم لها إلى أهلها وأن مخالفتهم حينئذ مخالفة الله والرسول وأن دفعها إليه اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وكيف كان فدلالتها أيضاً على المطلوب تامة واضحة.

29. ومنها قوله عليه السلام في كلام لابنه الحسن: إن النبي صلى الله عليه وآله قبض وما أرى أحداً أحقّ بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر فبايعت كما بايعوا. ثم إن أبا بكر هلك وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر بن الخطاب فبايعت كما بايعوا. ثم إن عمر هلك وما أرى أحداً أحق بهذا ألأمر مني فجعلني سهماً من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعت كما بايعوا. ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه ثم أتوني فبايعوني طائعين غير مكرهين، فوالله يا بني ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليَّ منذ قبض الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله حتى يوم الناس هذا ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾[30].

ودلالته على أن الولاية على الناس وأمورهم بعد الرسول صلى الله عليه وآله حق له دفعوها عنه منذ قبض النبي وظلموه عليه السلام فيه تامة واضحة.

30. ومنها كلام له عليه السلام في الرحبة بالكوفة لما ناشد رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله أمام الناس منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس بن مالك وهم حول المنبر فقال عليه السلام لهم: (أنشدكم الله رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع يوم غدير خم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه كيفما دار، اللهم من أحبه من الناس فكن له حبيباً ومن أبغضه فكن له مبغضاً) إلا قام فشهد، فقام إليه رجال فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله يقول ذلك ولم يقم أنس بن مالك ولم يقل شيئاً، فقال عليه السلام له: يا أنس لقد حضرتها فما منعك أن تقوم وتشهد بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: يا أمير المؤمنين كبر سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال عليه السلام: إن كنت كاذباً فضربك الله بها بيضاء لامعة لا تواريها العمامة، فأصاب أنساً هذا الداء فيما بعد في وجهه فكان لا يرى إلا مبرقعاً حتى مات[31].

فقد ناشدهم بكلام قاله له رسول الله صلى الله عليه وآله يوم الغدير وهو كلام دلالته على ولايته عليه السلام واضحة وقد أصيب بالداء من كذب ولم يشهد به.

31. ومنها قوله عليه السلام في كلام له لبعض أصحابه وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به وأنتم أعلم الناس بالكتاب والسنة والأعلون نسباً فقال عليه السلام: يا أخا بني أسد... وقد استعلمت فاعلم، أما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسباً والأشدون برسول الله صلى الله عليه وآله نوطاً فإنها كانت إثرة (إمرة ـ خ ل) شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونِعم الحكم الله العدل والمعوّد إليه يوم القيامة وفي الساعة ما يؤفكون و﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾.

ودع عنك نهباً صيح في حَجَراته                   ولكن حديثاً ما حديثُ الرواحلِ[32].

فإن الظاهر منه أن موضوع السؤال والمراد بهذا المقام في السؤال والجواب هو مقام ولاية أمر الأمة، فقد فرض السائل أن علياً عليه السلام وأهل البيت أحق به فصدقه عليه السلام بأن علة دفعهم عنها إنما هو شح أنفس عليها تصدّتها غصباً وسخاءاً أنفس ذوات الحق عنها والله تعالى هو الحَكم العدل في هذا الظلم الكبير وهو المعوّد إليه يوم القيامة وهذا نهبٌ صيح عليه في مواقع وقوعه وكل نبأ مستقر سوف يعلمون. وعليه فدلالته على أن حق الولاية إنما هو له عليه السلام نهبوه منه والحكم فيه إلى الله تعالى واضحة تامة.

32. ومنها ما كتبه عليه السلام في كتاب له إلى معاوية ومن معه من الناس: ثم إن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديماً وحديثاً أقربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم بكتاب الله عز وجل وأفقههم في دين الله وأولهم إسلاماً وأفضلهم جهاداً وأشدهم بما تحمّله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعاً[33].

ومن الواضح أن الموصوف المنحصر بهذه الصفات هو نفسه عليه السلام فلا محالة هو أولى الناس بأمر هذه الأمة والولاية عليها.

33. ومنها ما كتبه عليه السلام في كتاب آخر له إلى معاوية من قوله عليه السلام: وأما الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم فإني لست أعتذر منه إليك ولا إلى الناس، وذلك لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه محمداً صلى الله عليه وآله اختلف الناس، فقالت قريش: منا الأمير، وقالت الأنصار: منا الأمير، فقالت قريش: منا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله فنحن أحق بالأمر منكم، فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لقريش الولاية والسلطان، فإذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه وآله دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد صلى الله عليه وآله أحق بها منهم وإلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيباً، فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا أو الأنصار ظلموا؟ بل عرفت أن حقي هو المأخوذ وقد تركته لهم تجاوز الله عنهم، فيا عجباً للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسمع بقدمي ولم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها)[34].

فمورد كلامه عليه السلام هو مسألة الولاية على أمور المسلمين، وقد أجاب عليه السلام عن مزعمة معاوية بما أفاد وأثبت أن الحق كان له قد أخذه ظلماً ولا محالة تركه لهم. فدلالته على المطلوب تامة واضحة. وجملته الأخيرة المتضمنة لإعجابه إنما جاء عليه السلام بها استعجاباً لأمر الدهر وعد بعض الأراذل الجهال من الناس لمعاوية الذي لا سابقة له حسنة في مقابله عليه السلام وجعلهم له عدلاً له.

34. ومنها ما كتبه عليه السلام في كتاب آخر له إلى معاوية: ومتى كنتم يا معاوية ساسة الرعية وولاة أمر الأمة بغير قدم حسن سابق ولا شرف على قومكم باسق، فنعوذ بالله من لزوم سوابق الشقاء، وأحذرك أن تكون متمادياً في غرة الأمنية مختلف العلانية والسريرة، واعلم أن هذا الأمر لو كان إلى الناس أو بأيديهم لحسدوناه ولا تثنّوا به علينا، ولكنه قضاء ممن منحناه واختصّنا به على لسان نبيه الصادق المصدق، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة[35].

فمصبّ كلامه عليه السلام كما ترى ولاية الأمة الإسلامية وقد نفى صلاحية تصديها عن مثل معاوية وأثبتها لنفسه لا بإعطاء من الناس ولا دخل لهم فيه بل جعلها أمراً إلهياً منحه الله إياه واختصه به على لسان نبيه الصادق المصدق، فهذا المقال من أتم الأدلة على إثبات مطلوبنا، والحمد لله تعالى.

35. ومنها ما كتبه عليه السلام جواباً لمعاوية: وقلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في دينه ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها[36].

ومن الواضح أن موضوع مزعمة معاوية هو أن علياً عليه السلام أقيد جبراً عليه إلى أن يبايع معاوية على أن يكون ولي أمر المسلمين فزعم هذا ذماً وفضاحةً عليه (عليه السلام)، وحينئذ فجوابه عليه السلام عنه بأن هذا ليس ذماً بل هو سند قوي لمظلوميته إذ أخذوا حقه جهراً وأقادوه جبراً لأن يبايع غاصب هذا الحق. فدلالته على أن حق ولاية أمر الأمة إنما يكون له وقد ظلموه في أخذها منه عليه السلام تامة واضحة.

كما يدل على أن هذا الحق كان بنفسه له من دون أن يكون أمره إلى المسلمين ولا أن يكون لهم دخل فيه، بل هو حق إلهي أعطاه الله تعالى على لسان نبيه الصادق الأمين.

36. ومنها ما كتبه عليه السلام إلى أخيه عقيل جواباً لكتابه، ففيه: ودع عنك قريشاً وخلّهم وتَركاضَهُم في الضلال وتَجوالهم في الشقاق وجِماحهم في التَيه، فإنهم قد أجمعوا على حربي اليوم كإجماعهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وآله قبلي، فأصبحوا قد جهلوا حقه وجحدوا فضله وبادروه العداوة ونصبوا له الحرب وجهدوا عليه كل الجهد وجرّوا عليه جيش الأحزاب وجدوا في إطفاء نور الله، فجزت قريشاً عني الجوازي بفعالها، فقد قطعوا رحمي وتظاهروا عليَّ ودفعوني عن حقي وسلبوني سلطان ابن أمي وسلموا ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول وحقي في الإسلام وسابقتي التي لا يدّعي مثلها مدّع إلا أن يدّعى ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، فالحمد لله على كل حال[37].

فإن القسم الأخير من هذا المقال الذي هو حكاية عن قريش في ظلمها له عليه السلام قد تضمن ذكر أنهم تظاهروا عليه ودفعوه عن حقه وسلبوه سلطاناً وولاية كانت لابن عمه رسول الله وسلموها إلى من لا يستحقها، وليس فيه الصفات اللازمة لمتوليها الموجودة فيه عليه السلام دونه، فهذا القسم دالٌّ على أن حق الولاية على الأمة إنما كانت له دون غيره وقد ظلموه قريش فيه، والحمد كله لله.

37. ومنها ما كتبه عليه السلام في كتابٍ أمر أن يُقرأ على الناس كل جمعة وذلك لمّا سألوه عن أبي بكر وعمر وعثمان، فغضب عليه السلام وقال: أوَقد تفرّغتم للسؤال عما لا يعنيكم وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي بها قد قتلت وقَتَل معاوية بن حديج محمد بن أبي بكر، فيا لها من مصيبة، ما أعظم مصيبتي بمحمد، فوالله ما كان إلا كبعض بنيّ، سبحان الله بينا نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم إذ غلبونا على ما في أيدينا!!!.

وأنا مخرج لكم كتاباً فيه تصريح ما سألتم وأسألكم أن تحفظوا حقي ما ضيعتم فاقرأوه على شيعتي وكونوا على الحق أعواناً.

ثم أخرج عليه السلام الكتاب لهم، وهو كتاب طويل نذكر قسماً منه بطوله لاشتماله على مطالب عالية، وفيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى شيعته من المؤمنين والمسلمين... .

فما مضى صلى الله عليه وآله لسبيله وقد بلغ ما أرسل به وترك كتاب الله وأهل بيته إمامين لا يختلفان وأخوين لا يتخاذلان ومجتمعَين لا يتفرّقان تنازع المسلمون الأمر من بعده ولقد قبض الله نبيه محمداً صلى الله عليه وآله ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا، فوالله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي ولا عرض في رأيي أن وجه الناس إلى غيري وأن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله عن أهل بيته ولا أنهم منحوه عني من بعده، فلما أبطأوا عني بالولاية لهممهم وتثبّط الأنصار وهم أنصار الله وكتيبة الإسلام، هم والله ربوا الإسلام كما يربّى الفِلو مع عَنائهم، بأيديهم السِباط وألسنتهم السِِلاط، وقالوا: أما إذا لم تسلموها لعلي فصاحبنا أحق بها من غيره.

فوالله ما أدري إلى من أشكو؟ فأما أن يكون الأنصار ظُلمت حقها وأما أن يكونوا ظلموني حقي بل حقي المأخوذ وأنا المظلوم.

فقال قائل قريش: إن نبي الله قال: (الأئمة من قريش) فدفعوا الأنصار عن دعوتها ومنعوني حقي منها.

واعجباً أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالقرابة والصحابة؟!!

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم                        فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم                      فغيرك أولى بالنبي وأقرب

ولقد أتاني رهط يعرضون النصر عليَّ؛ منهم أبناء سعيد والمقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والزبير بن العوّام والبراء بن عازب، فقلت لهم: إن عندي من نبي الله صلى الله عليه وآله عهداً وله إليَّ وصية ولست أخالف ما أمرني به، فوالله لو خزموني بأنفي لأقررت لله تعالى سمعاً وطاعةً.

فما راعني إلا انثيال الناس على فلان (أبي بكر ـ خ ل) وإجفالهم إليه يبايعونه، فأمسكت يدي ورأيت أني أولى وأحق بمقام محمد رسول الله صلى الله عليه وآله في الناس ممن تولى الأمر من بعده.

وقد كان نبي الله أمّر أسامة بن زيد على جيش وجعلهما في جيشه، وما ظننت أنه تخلف عن جيش أسامة إذ كان النبي صلى الله عليه وآله قد أمّره عليه وعلى صاحبه، وما زال النبي صلى الله عليه وآله إلى أن فاضت نفسه يقول: أنفذوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة.

فلبثت بذلك ما شاء الله حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله ومحو ملّة محمد صلى الله عليه وآله وإبراهيم عليه السلام فخشيت إن أنا قعدت ولم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل ثم يزول منها ما كان كما يزول السراب أو ينقشع كما ينقشع السحاب، ورأيت الناس قد امتنعوا بقعودي عن الخروج إليهم، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت مع القوم في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون، ولولا أني فعلت ذلك لباد الإسلام.

ولقد كان سعد لمّا رأى الناس يبايعون أبا بكر نادى: أيها الناس إني والله ما أردتها حتى رأيتكم تصرفونها عن علي، ولا أبايعكم حتى يبايعكم علي، ولعلي لا أفعل وإن بايع، ثم ركب دابته وأتى حوران وأقام في خان في عنان حتى هلك ولم يبايع.

وقام فروة بن عمرو الأنصاري ـ وكان يقود مع رسول الله صلى الله عليه وآله فرسين ويصرم ألف وسق من تمر فيتصدق به على المساكين ـ فنادى: يا معشر قريش أخبروني هل فيكم رجل تحل له الخلافة وفيه ما في علي؟ فقال قيس بن محزمة الزهري: ليس فينا من فيه ما في علي. فقال: صدقت، فهل في علي ما ليس في أحد منكم؟ قال: نعم. قال: فما صدّكم عنه؟ قال: اجتماع الناس على أبي بكر. قال: أما والله لأن أصبتم سنّتكم فقد أخطأتم سنة نبيكم، ولو جعلتموها في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم.

فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر وسدد وقارب واقتصد حسب استطاعته على ضعف وحد كانا فيه، فصحبته مناصحاً وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً. وما طمعت أن لو حدث به حادث وأنا حي أن يرد إليَّ الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن ولا يئست منه يأس من لا يرجوه.

ولولا خاصة بينه وبين عمر وأمر كانا رضياه بينهما لظننت أنه لا يعدله عني.

وقد سمع قول النبي صلى الله عليه وآله بريدة الأسلمي حين بعثني وخالد بن الوليد إلى اليمن: (إذا افترقتما فكل واحد منكما على حياله وإذا اجتمعتما فعليُّ عليكم جميعاً).

فغزونا وأصبنا سبياً فيهم بنت جعفر جار الصفا، وإنما سمّيت الصفا لحسنها، فأخذت الحنفيّة خولة، واغتنمها خالد مني وبعث بريدة إلى رسول الله محرّشاً عليَّ، فأخبره بما كان من أخذي خولة فقال (رسول الله صلى الله عليه وآله): يا بريدة حظّه في الخمس أكثر مما أخذ، إنه وليكم بعدي.

سمعها أبو بكر وعمر، وهذا بريدة حي لم يمت، فهل بعد هذا مقالٌ لقائل؟

فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه دون المشورة.

وتولى عمر الأمر فأقام واستقام، فسمعنا وأطعنا وبايعنا وناصحنا على عسف وعجرفية كانا فيه حتى ضرب الدين بجرانه، فكان مرضيّ السيرة بين الناس ميمون النقيبة عندهم.

حتى إذا احتضر قلت في نفسي: ليس يعدل بهذا الأمر عني للذي قد رأى مني في المواطن وبعد ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمع.

فجعلها عمر شورى وجعلني سادس ستة، وأمر صهيباً أن يصلي بالناس، ودعا أبا طلحة بن زيد بن سعد الأنصاري فقال له: كن في خمسين رجلاً من قومك فاقتل من أبى أن يرضى من هؤلاء الستة.

ثم اختلفوا[38] عثمان ثالثاً (وهو) لم يكن يملك من أمر نفسه شيئاً، غلب عليه أهله فقادوه إلى أهوائهم كما تقود الوليدة البعير المخطوم، فلم يزل الأمر بينه وبين الناس يبعد تارةً ويقرب أخرى حتى نزوا عليه فقتلوه.

فالعجب من اختلاق القوم إذ زعموا أن أبا بكر استخلفه صلى الله عليه وآله!! فلو كان هذا حقاً لم يخفَ على الأنصار، فبايعه الناس على شورى ثم جعلها أبو بكر لعمر برأيه خاصة ثم جعلها عمر برأيه شورى بين ستة، فهذا العجب من اختلاقهم!!

والدليل على ما لا أحب أن أذكر قوله: (هؤلاء الرهط الذين قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وهو عنهم راض) فكيف يأمر بقتل قوم رضي الله عنهم ورسوله؟! إن هذا الأمر عجيب!!

ولم يكونوا لولاية أحد أشد كراهية منهم لولايتي عليهم، لأنهم كانوا يسمعونني عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أحاج أبا بكر وأقول: (يا معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ما كان منكم من يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين بدين الله الحق، أنا والله أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي.

وإنما حجتي أني ولي هذا الأمر دون قريش أن نبي الله صلى الله عليه وآله قال: (الولاء لمن أعتق) فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله بعتق الرقاب من النار وبعتقها من السيف، وهذان لما اجتمعا كانا أفضل من عتق الرقاب من الرق فكان النبي صلى الله عليه وآله ولاء بهذه الأمة وكان لي بعده ما كان له.

أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم على العرب بالقرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وتأخذونه منا أهل البيت غصباً وظلماً.

ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لمكانكم من رسول الله صلى الله عليه وآله لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار والعرب.

أنا أولى برسول الله صلى الله عليه وآله منكم حياً وميتاً وأنا وصيه ووزيره ومستودع علمه وسره وأنا الصدّيق الأكبر، أول من آمن به وصدّقه وأحسنكم بلاءاً في جهاد المشركين وأعرفكم بالكتاب والسنة وأفقهكم في الدين وأعلمكم بعواقب الأمور وأذربكم لساناً وأثبتكم جَناناً.

فما جاز لقريش من فضلها على العرب بالنبي صلى الله عليه وآله جاز لبني هاشم على قريش وما (جاز) لبني هاشم على قريش برسول الله صلى الله عليه وآله جاز لي على بني هاشم، لقول النبي صلى الله عليه وآله يوم غدير خم: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) إلا أن تدّعي قريش فضلها على العرب بغير النبي صلى الله عليه وآله فإن شاؤوا فليقولوا ذلك.

فعلامَ تنازعونا هذا الأمر؟ أنصفونا من أنفسكم إن كنتم تخافون الله (تؤمنون بالله ـ خ ل) وأعرفوا الناس الأمر ما عرفته الأنصار لكم وإلا فبوأوا بالظلم وأنتم تعلمون.

فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري. فخشي القوم إن أنا وُلّيت عليهم أن آخذ بأنفاسهم وأعترض في حلوقهم ولا يكون لهم في الأمر نصيب ما بقوا، فأجمعوا عليَّ إجماع رجل واحد حتى صرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني من الإمرة عليهم رجاء أن ينالوها ويتداولوها فيما بينهم إذ يئسوا أن ينالوها من قبلي.

فبينا هو كذلك إذ نادى مناد لا يدرى من هو وأظنه جنّيّاً فأسمع أهل المدينة ليلة بايعوا عثمان فقال:

يا ناعي الإسلام قم فانعه                              قد مات عرفٌ وبدا منكر

ما لقريش لا علا كعبها                               من قدّموا اليوم ومن أخّروا

إن علياً هو أولى به                                   منه فولوه ولا تنكروا

فكان لهم في ذلك عبرة ولولا أن العامة قد علمت ذلك لم أذكره.

ثم دعوني إلى بيعة عثمان فقالوا: هلم بايع وإلا جاهدناك، فبايعت مستكرهاً وصبرت محتسباً وعلّمت أهل القنوت أن يقولوا: (اللهم لك أخلصت القلوب وإليك شخصت الأبصار وأنت دعيت بالألسن وإليك تحوكم في الأعمال، فافتح بيننا وبين قومنا بالحق، اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا وكثرة عدونا وقلة عددنا وهواننا على الناس وشدة الزمان ووقوع الفتن، اللهم ففرج ذلك بعدل تظهره وسلطان حقٍّ تعرفه).

وقال لي قائل منهم: إنك على الأمر يا ابن أبي طالب لحريص، فقلت: لست عليه حريصاً بل أنتم والله لأحرص عليه مني وأبعد وأنا أخص وأقرب؛ أيّنا أحرص؟ أنا الذي إنما طلبت ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وحقاً لي جعلني الله ورسوله أولى به وإن ولاء أمته لي من بعده أم أنتم؟ إذ تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه بالسيف.

فلما قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين، هب كأنه بهت لا يدري ما يجيبني به ﴿وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾.

اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، اللهم فخُذ بحقي منهم ولا تدع مظلمتي لهم إنك الحَكم العدل فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا أنائي وأضاعوا أيامي ودفعوا حقي وصغّروا قدري وفضلي وعظيم منزلتي واستحلوا المحارم مني وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري فسلبونيه، ثم قالوا: (إنك لحريص متهم إلا أن في الحق أن نأخذه وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً كمداً ومت متأسفاً حنقاً).

وأيم الله لو استطاعوا أن يدفعوا قرابتي كما قطعوا سببي فعلوا ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وإنما حقي على هذه الأمة كرجل له حق على قوم إلى أجل معلوم فإن أحسنوا وعجّلوا له حقه قَبِله حامداً وإن أخّروه إلى أجله أخذه غير حامد، ولا يعاب المرء بتأخير حقه إنما يعاب من أخذ ما ليس له.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إليَّ عهداً فقال: (يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي من بعدي، فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه فإن الله سيجعل لك مخرجاً).

فنظرت فإذا ليس لي معين ولا رافد ولا ذاب ولا معي ناصر ولا مساعد إلا أهل بيتي فظننت بهم عن الموت (و) المنية، ولو كان لي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله عمي حمزة وأخي جعفر لم أبايع كرهاً ولكني بُليت برجلين حديثي عهد بالإسلام العباس وعقيل.

فأغضيت عيني على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من طعم العلقم وآلم للقلب من وخز الشفا وأخذ الكظم.

وأما أمر عثمان فكأنه علم من القرون الأولى ﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ خذله أهل بدر وقتله أهل مصر، والله ما أمرت به ولا نهيت عنه، ولو أنني أمرت به لكنت قاتلاً أو أني نهيت عنه لكنت ناصراً وكان الأمر لا ينفع فيه العيان ولا يشفى منه الخبر، غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول: خذله من أنا خير منه، ومن خذله لا يستطيع أن يقول: نصره من هو خير مني.

وأنا جامع لكم أمره، استأثر عثمان فأساء الإثرة وجزعتم فأسأتم الجزع والله عز وجل حكم واقع للمستأثر والجازع، والله ما يلزمني في دم عثمان تهمة، ما كنت إلا جلاً من المسلمين المهاجرين في بيتي فلما نقمتم عليه آتيتموه فقتلتموه ثم جئتموني راغبين إليَّ في أمركم حتى استخرجتموني من منزلي لتبايعوني؛ فأبيت عليكم وأبيتم عليَّ وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني وبسطتم يدي فكففتها ومددتموها فقبضتها فالتويت عليكم لأبلو ما عندكم فراددتموني القول مراراً وراددتكم.

ثم تداككتم عليَّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردوها وقد أرسلها راعيها وخُلعت مثانيها حرصاً على بيعتي حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف وازدحمتم عليَّ حتى ظننت أنكم قاتلي أو أن بعضكم قاتل بعض لديَّ فقلتم: (بايعنا فإنا لا نجد غيرك ولا نرضى إلا بك، بايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا).

فلما رأيت ذلك منكم روّيت في أمري وأمركم وقلت: إن أنا لم أجبهم إلى القيام بأمرهم لم يصيبوا أحداً يقوم فيهم مقامي ويعدل فيهم عدلي، وقلت: والله لألينّهم وهم يعرفون حقي وفضلي أحبّ إليَّ من أن يلوني وهم لا يعرفون حقي وفضلي.

فبايعتموني يا معشر المسلمين على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وفيكم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج به الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب[39].

فهذا القسم من هذا الكتاب الطويل ـ الذي نقلنا منه قريب من نصفه ـ قد تضمّن بالصراحة والظهور مراراً أن الولاية على أمة الإسلام حقٌّ شرعيٌّ إلهيٌّ لأمير المؤمنين عليه السلام وقد تضمّن الاستدلال عليه بكلمات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وقد اختص بالاستدلال له بمسألة حق الولاء، وهو طريق خاص بهذا الكتاب على ما ببالي، كما أنه تضمّن إثبات ولايته استدلالاً جدلياً اعترف القوم به، بل بحسب هذا الكتاب كان هو المستند الأصيل لتقدم قريش على سائر العرب ولاسيما على الأنصار وهو الاستدلال من طريق القرب النسبي من رسول الله صلى الله عليه وآله، فأفاد عليه السلام أن القرابة إذا كانت ملاكاً لتصدي الأمر فكما أن قريشاً تتقدم على غيرها فهكذا أهل البيت مقدّمون على سائر قبائل قريش، فعلي عليه السلام هو الأقرب وولي أمر المسلمين.

ومن مزايا هذا الكتاب كما أشرنا أنه جعل كثيراً ما موضوع حق الولاية على المسلمين عنوان أهل البيت، وهو عنوان منطبق على غيره عليه السلام من سائر الأئمة المعصومين عليهم السلام.

كما أنه صريح في أن مبايعته لكل من الطواغيت الثلاثة كانت عن كره ولما رأى أنه يبتلى الإسلام بمصيبة أشد مع أنه لم يكن له ناصر ولا مساعد ولا ذاب إلا أخص أهل البيت ممن يظن بهم عن الموت.

وبالجملة: فدلالة هذا الكتاب واضحة تامة ولم أجد إلى الآن أتم وأوفى ببيان أمر غصب الولاية من هذا الكتاب، ولعل سره أنه كتب لأجل بيان الأمر للشيعة، ولذلك فقد أمر بقراءته عليهم في كل يوم جمعة كما مر في صدر الكتاب.

فهذه موارد كثيرة قريبة من أربعين مورداً وفقني الله تعالى للعثور عليها عند مطالعة الكتاب المبارك (تمام نهج البلاغة). ولعل المتتبع المتأمل يجد فيه موارد أخر على بُعدٍ فيه.

فقد تحصّل من الآيات المباركات الماضية والطوائف الكثيرة من الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام كما أنهم أمناء الله في خلقه لبيان ما أحل الله وما حرم وسائر الأحكام والمعارف الإسلامية فهكذا كل منهم ولي أمر الأمة قد فوّض إليه أمر إدارة أمور الأمة الإسلامية وبلادها من الله تعالى ولا محالة إليهم تصدّي أمور المسلمين، وإليهم وعليهم أخذ التصميم المناسب في كل ما هو مرتبط بالأمة الإسلامية.

إلا أنه لما كان بعض الآيات أو الأخبار وارداً في خصوص بعضهم كالنبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما وإن كان لا دلالة فيه على نفي هذه المرتبة من الولاية عن غيرهم وإلا أنه تكون سائر العمومات أو الإطلاقات الماضية شاهداً على التعميم.

لكنه مع ذلك كله فلا بأس بنا أن نذكر بعض الأخبار الكثيرة التي تدل على استواء جميعهم في هذا المقام وغيره كما وعدنا ذلك أيضاً. ونذكر هذه الأخبار في ضمن طائفة خاصة فنقول:

 

 

[1] نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة144 ص201، تمام نهج البلاغة: الخطبة21 ص261.

[2] تمام نهج البلاغة: الخطبة38 ص396 ـ 397.

[3] تمام نهج البلاغة: الخطبة43 ص422.

[4] تمام نهج البلاغة: الكتاب33 ص812 و 813.

[5] تمام نهج البلاغة: العهد2 ص906 السطر11 ـ 15.

[6] تمام نهج البلاغة: الخطبة3 ص85.

[7] نفس المصدر.

[8] تمام نهج البلاغة: الخطبة3 ص88 ـ 91، وقد روى نحوه الكليني بسند صحيح في روضة الكافي: ص59 ـ 63.

[9] تمام نهج البلاغة: الخطبة10 ص133.

[10] تمام نهج البلاغة: الخطبة11 ص145، نهج البلاغة: أواخر الخطبة192.

[11] تمام نهج البلاغة: الخطبة12 ص171 ـ 173.

[12] تمام نهج البلاغة: الخطبة12 ص174.

[13] تمام نهج البلاغة: الخطبة20 ص254، نهج البلاغة (صبحي الصالح): ص209 ذيل الخطبة150.

[14] تمام نهج البلاغة: الخطبة 20 و 21 ص255 ـ 256 و 263 ـ 265.

[15] نفس المصدر.

[16] تمام نهج البلاغة: الخطبة21 ص283 ـ 284.

[17] أي أغراض أخرى أكره ذكرها.

[18] تمام نهج البلاغة: الخطبة23 ص306 ـ 309، نهج البلاغة: الخطبة3.

[19] تمام نهج البلاغة: الخطبة39 ص400.

[20] تمام نهج البلاغة: الخطبة39 ص401.

[21] تمام نهج البلاغة: الخطبة44 ص430 و 431.

[22] تمام نهج البلاغة: الخطبة46 ص443 و 444.

[23] تمام نهج البلاغة: الخطبة48 ص457، نهج البلاغة: الخطبة118.

[24] تمام نهج البلاغة: الكلام7 ص538 ـ 539.

[25] تمام نهج البلاغة: الكلام92 ص619.

[26] تمام نهج البلاغة: الكلام92 ص620.

[27] المصدر السابق: ص622.

[28] المصدر السابق: ص622.

[29] المصدر السابق: الكلام92 ص625.

[30] تمام نهج البلاغة: الكلام112 ص641 ـ 642.

[31] تمام نهج البلاغة: الكلام138 ص664 ـ 665.

[32] تمام نهج البلاغة: الكلام139 ص665 ـ 666، والبيت المذكور لامرئ القيس كما في ديوانه: ص146.

[33] تمام نهج البلاغة: الكتاب48 و 49 ص827 و 831.

[34] نفس المصدر.

[35] تمام نهج البلاغة: الكتاب50 ص834.

[36] تمام نهج البلاغة:: الكتاب59 ص849 ـ 850.

[37] تمام نهج البلاغة: الكتاب74 ص766 ـ 767.

[38] اختلقوا.

[39] تمام نهج البلاغة: الكتاب75 ص868 ـ 883.