الشيخ باقر محمّد حسين

من أهمّ أهداف الشريعة الإسلاميّة، الدعوة إلى تهذيب النفس وتطهيرها، بل إنّ تزكية النفس هي المقصد الأعلى والهدف الأسمى الذي يحقّق للإنسان السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10)، وإنّ هدف الرسالة النبويّة هو التزكية والتعليم، كما ذكر الله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2). وسنطلّ في هذا المقال على خطوات تهذيب النفس عند الإمام الراحل الخمينيّ قدس سره.

 

•إصلاح النفس في عمر الشباب

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "انتهزوا فرص الخير فإنّها تمرّ مرّ السحاب"(1). يحتاج الإنسان إلى التربية والتزكية في مراحل العمر كلّها، ولكنّ المرحلة الأساس المؤثّرة هي مرحلة الشباب؛ لهذا يوصي الإمام الخمينيّ قدس سره ابنه السيّد أحمداً بضرورة إصلاح النفس، وخصوصاً في أيّام الشباب، وعدم الاغترار بمكائد الشيطان: "بُنيّ، اسعَ في إصلاح نفسك ما دمتَ تحظى بنعمة الشباب، فإنّك ستخسر كلّ شيء في الشيخوخة، فمن مكائد الشيطان-ولعلّها أخطر مكائده- هي الاستدراج؛ ففي أوائل الشباب يسعى شيطان الباطن-وهو أشدّ أعداء الشباب- في ثنيه عن إصلاح نفسه، ويُمنيّه بسَعَة الوقت، وأنّ الآن هو أوان التمتّع بالشباب، ويستمرّ في خداعِه بالوعود الفارغة ليصدّه عن فكرة الإصلاح تماماً. وساعةً بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، يتصرّم الشباب ويرى الإنسان نفسه فجأةً في مواجهة الهَرِم الذي كان يؤمِّل فيه إصلاح نفسه"(2).

 

•شهر رمضان فرصة لتهذيب النفس

إنّ لشهر رمضان المبارك خصوصيّة إضافيّة وفرصة استثنائيّة لنيل المنح والهدايا الإلهيّة، فهو شهر دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وهو شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور(3).

 

وقد جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان المبارك: "أيّها الناس، من حسّن منكم في هذا الشهر خُلُقَه، كان له جوازٌ على الصراط يوم تزلّ فيه الأقدام..."(4).

يوصي الإمام الخمينيّ قدس سره بالاهتمام بهذه الفرصة الإلهيّة لتهذيب النفس في شهر رمضان المبارك حيث يقول قدس سره: "في شهر رمضان، شهر الله، ينبغي أن تعلموا أنّ أبواب رحمة الله لعباده مفتوحة، وأنّ أيدي الشياطين والمردة مغلولة، فإذا لم تستطيعوا في هذا الشهر إصلاح نفوسكم وتهذيبها ومراقبتها،... فإنّ من الصعب جدّاً أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر الصيام. إذاً، فاغتنموا الفرصة..."(5).

 

•كيف نهذّب أنفسنا؟

تهذيب النفس معناه تطهير القلب وتنظيفه؛ لكي يصبح طاهراً وخالياً من القذارات، فهو يشبه المرآة التي تعكس الصور عند إزالة الموانع عنها حال نقائها وعدم اتّساخها. وكذلك القلب، إذا لم يكن نظيفاً وطاهراً وخالياً من الخُلُق السيّئ، كالرياء والعُجب والكِبر والحسد وغيرها، فلا يمكن أن يتذوّق طعم محبّة الله سبحانه، ولذّة عبادته ومناجاته للحقّ عزّ وجلّ.

وقد أورد الإمام الخمينيّ قدس سره كيفيّة مجاهدة النفس وتهذيبها، واعتبر أنّ الخسران الكبير يكمن في هزيمة الإنسان في هذا الجهاد؛ لأنّ مملكة النفس سوف تصبح مسرحاً للشياطين(6).

 

•خطوات تهذيب النفس

ولكي نتمكّن من البدء بشكلٍ صحيح، نعرض بشكل إجماليّ أهمّ الأمور التي يحتاج إليها الإنسان في طريق تهذيب النفس ومجاهدتها، وفق ما أورده الإمام الخمينيّ قدس سره.

أوّلاً: التفكّر: بمعنى أن يتفكّر الإنسان في نِعَمِ الله سبحانه التي تحيط به منذ ولادته إلى آخر حياته: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم: 34)، وأنّ الهدف من النِّعَم هو شيء آخر وراء الحياة الماديّة.

قال قدس سره: "إنّ الإنسان إذا فكّر لحظةً واحدةً، عرف أنّ الهدف من هذه النِّعَم هو شيء آخر، وأنّ الغاية من هذا الخُلق أسمى وأعظم"(7).

ثانياً: العزم: وهو أن يُوطّن الإنسان نفسه على ترك المعاصي والتزام الواجبات، ويتّخذ قراراً بذلك.

ينقل الإمام قدس سره عن بعض مشايخه قوله: "إنّ العزم هو جوهر الإنسانيّة ومعيار ميزة الإنسان، وأنّ اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه"(8).

ثالثاً: المشارطة والمراقبة والمحاسبة: من الأمور الضروريّة للمجاهد: المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالمشارط، من يشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب فيه أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.

بعدها، عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وهي أن تنتبه طوال مدّة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت.

وإذا حدّثتك نفسك-لا سمح الله- بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أنّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وقل للشيطان: "إنّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم بأيّ عملٍ يخالف أوامر الله تعالى".

والمراقبة لا تتعارض مع أيّ من أعمالك، كالعمل والسفر والدراسة. فكن على هذه الحال إلى الليل، ريثما يأتي موعد المحاسبة.

"وأمّا المحاسبة فهي أن تحاسب نفسك لترى ما إذا أدّيت ما اشترطتَ على نفسك مع الله أم لا، وأنّك لم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئيّة؛ إذا كنتَ قد وفّيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله يُيسِّر لك التقدّم في أمور دنياك وآخرتك. وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى مَلَكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحُسّ عندها باللذة والأُنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه"(9).

رابعاً: التذكُّر نتيجةً للمراقبة: التذكُّر يحصل نتيجةً للمراقبة الدقيقة للنفس، وهو المعين للإنسان بصورةٍ كاملة في مجاهدته للنفس والشيطان، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201)، وقال أيضاً: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ (الأحزاب: 35).

ويقول الإمام قدس سره: "يا أيّها العزيز؛ كن ذاكراً لعظمة ربّك، وتذكّر نعمه وألطافه، وتذكّر أنّك في حضرته وهو شاهد عليك، فدَعِ التمرّد عليه، وفي هذه المعركة الكبرى تغلّب على جنود الشيطان، واجعل مملكتك مملكة رحمانيّة وحقّانيّة، واحلل فيها عسكر الحقّ تعالى محلّ جنود الشيطان،... فاطلب من الحقّ نفسه، بتضرّعٍ وخشوع، كي يعينك في هذه المجاهدة لعلّك تنتصر، إنّه وليّ التوفيق"(10).

 

•ثمرات الانتصار في هذا الجهاد

إنّ المراقبة والتذكّر والمجاهدة لها ثمرات كثيرة، منها أنّها تنقل الإنسان إلى مرحلة متقدّمة من العلاقة بالله سبحانه، فيرى الإنسان نفسه دائماً في محضر الله ذاكراً له، وعندها يكون من المرضيّين، عاملاً برضى ربّه سبحانه، فيفيض الله عليه من النِّعَم والخير الكثير، وإليكم هذه الهدية الإلهيّة:

عن أمير المؤمنين عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عمّا أجابه ربّه سبحانه ليلة المعراج: "... يا أحمد، هل تدري أيّ عيش أهنى وأيّ حياة أبقى؟ قال: اللّهمّ لا، قال: أمّا العيش الهنيء، فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري، ولا ينسى نعمتي، ولا يجهل حقّي، يطلب رضاي ليله ونهاره، وأمّا الحياة الباقية فهي للذي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدنيا وتصغر في عينيه، وتعظم الآخرة عنده، ويؤثر هواي على هواه، ويبتغي مرضاتي، ويعظّم حقّ عظمتي، ويذكر علمي به، ويراقبني بالليل والنهار عند كلّ سيّئة ومعصية، وينفي قلبه عن كلّ ما أكره، ويبغض الشيطان ووساوسه، ولا يجعل لإبليس على قلبه سلطاناً وسبيلاً، فإذا فعل ذلك أسكنتُ في قلبه حبّاً حتّى أجعل قلبه لي، وفراغه واشتغاله وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمتُ بها على أهل محبّتي من خلقي، وأفتح عين قلبه وسمعه، حتّى يسمع بقلبه، وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي، وأضيِّق عليه الدنيا، وأبغِّض إليه ما فيها من اللذات، وأحذِّره من الدنيا وما فيها، كما يحذِّر الراعي غنمه من مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا، يفرّ من الناس فراراً، وينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن دار الشيطان إلى دار الرحمن..."(11). اللّهمّ ارزقنا بمحمّد وآله الطاهرين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.جامع أحاديث الشيعة، البروجرديّ، ج14، ص317.

2.نفحات ملكوتية، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص148.

3.الصحيفة السجاديّة، الإمام زين العابدين عليه السلام، الدعاء 44 (وهو دعاؤه إذا دخل شهر رمضان).

4.الأمالي، الصدوق، ص154.

5.الجهاد الأكبر، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص49.

6.الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ قدس سره، ص40.

7.(م.ن)، ص33.

8.الجهاد الأكبر، (م.س)، ص34.

9.الأربعون حديثاً، (م.س)، ص34.

10.(م.ن)، ص39.

11.إرشاد القلوب، الديلميّ، ج1، ص199.

 

المصدر: مجلة بقية الله