القيادة في الإسلام

 الشهيد آية الله مرتضى مطهري

 قال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمِين}[1].

 

الرشد في المصطلح الإسلامي

لأجل التعرّف على الإدارة والقيادة في الإسلام يلزم علينا في البداية أن نتعرف على مفهومين من المصطلحات الإسلامية:

الأوّل: الرشد، وهو اصطلاح تذكره الكتب الفقهية بالخصوص، وقد استُمِدَّ من القرآن الكريم.

والثاني: وهو الأهمّ مفهوم (الإمامة).

(الرشد) كلمة اقتُبِست من القرآن الكريم، واستعملها في الأطفال الذين يمتلكون ثروة، ولكن لا وليَّ لهم.

فذكر بأنّه لابدّ من جعل القيّم عليهم إلى سنّ البلوغ، لإدارة شؤونهم وثروتهم، فلا تبقى هذه الثروة تحت تصرفهم، فالبلوغ شرط، ولكنه لا يكفي لوحده؛ بل لابدّ من الرشد أيضاً.

يقول القرآن الكريم: {حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم}[2]; أي أنّ البلوغ الجنسي لا يكفي لوحده؛ بل لابدّ من الوصول لرشدهم، كشرط لايداع الثروة في أيديهم.

ومن المسلّمات الفقهية: أنه لا يكفي في الزواج البلوغ والعقل فحسب، بالنسبة للولد والبنت كليهما; بل لابد، بالإضافة إليهما، أن يتّصف الولد أو البنت بميزة (الرشد).

والعقل غير الرشد; فالإنسان إما أن يكون عاقلاً أو مجنوناً؛ والعاقل إمّا أن يكون رشيداً أو غير رشيداً؛ فالعاقل البالغ قد يكون رشيداً وقد لا يكون رشيداً.

والملاحظ أن الذي يُفهم اليوم من مفهوم الرشيد، في أذهان البعض، هو الرشاقة، فإذا كان الإنسان رشيقاً، حسن المظهر يقال له (رشيد)، وهذا المفهوم غريب عن المصطلح الإسلامي الأصيل، دخل في الأذهان نتيجة الفهم السيّء للمفاهيم الإسلامية.

 

تعريف الرشد

إن أردنا تعريف الرشد تعريفاً شاملاً لجميع أنواعه، وفي مختلف المجالات، فلابدّ أن نقول بأنّه: عبارة عن نوع من الكمال الروحي والمعنوي، بمعنى أن تكون للإنسان قدرة الإدارة والمحافظة على إمكاناته وطاقاته الماديّة والمعنوية، وحسن الانتفاع بها.

فالإنسان الذي يمتلك وظيفةً ما، في أي مجال من مجالات الحياة، وله القدرة على المحافظة عليها، والاستفادة الصحيحة منها؛ فيقال لهذا الشخص أنّه (رشيد).

ولا ينحصر ذلك في المجال المالي؛ بل يشمل مختلف المجالات، كإدارة الزوجة والأولاد، فإنها من المجالات التي يلزم عليه إدارتها والمحافظة عليها.

 

الرشد الاجتماعي والشعبي

لا ينحصر الرشد بالفرد، ففي المجتمعات والشعوب توجد إمكانات وطاقات، طبيعية وإنسانية وعلمية وأمثالها، قد أُودعت بأيدي الشعوب.

وهذا الرشد يعني: قدرة الشعب والمجتمع على الإدارة، وحسن الانتفاع من هذه القُدرات المادية والإنسانية؛ ويُقال لمثل هذا الشعب: أنه (رشيد).

والإدارة والقيادة التي نبحث عنها، تُلازم نوعاً من الرشد؛ إذ القيادة عبارة عن تعبئة القوى الإنسانية والاستفادة الصحيحة منها.

ولأجل توضيح هذه الفكرة أكثر، أضربُ مثالين للرشد الشخصي  الفردي، على ضوء ما ذكرناه من تعريف الرشد؛ وأنه عبارة عن القدرة على الإدارة، والقدرة على الانتفاع الصحيح من الطاقات.

 

الرشد الفردي والأخلاقي

النوع الأوّل من أنواع الرشد، الرشد الفردي والأخلاقي.

وهنا يبرز سؤال: هل يتمكن أكثر الأفراد أن يُديروا طاقاتهم وامكاناتهم وأن ينتفعوا بها ؟ كلا؛ فالقليل، هم الذين يتمكّنون من الاستفادة الصحيحة من المواهب والإمكانات الكامنة في الإنسان.

 

إدارة الذاكرة

المثال الأول: يدور حول القوى الادراكية للإنسان; فإنّ الأفراد يختلفون فيما بينهم، من حيث الفهم والادراك، وقوة الحفظ والذاكرة.

والإنسان الرشيد، هو الذي يمكنه الاستفادة الصحيحة من ذاكرته.

وأمّا غير الرشيد، فيمكن أن تكون له ذاكرة قويّة جداً، ولكن لا يمكنه الانتفاع منها، واستثمارها، بل يتصور أنّ الذاكرة مستودع يجب ملؤه بكل شيء، وبكل ما يعثر عليه، كمستودع البيت الممتلىء بكل شيء، حتى بالأشياء البيتية الزائدة وبصورة غير منظّمة.

وأما الإنسان الرشيد، فيفكّر حول الأمور التي يملأ بها ذاكرته، ولا ينتفي منها إلاّ الجيد المفيد؛ إنّ ذاكرته مقدّسة، ولا يجدر به أنْ يملأها بأيّ شيء، فيلاحظ أولاً أي شي يفيده، وأيّ شي لا يفيده، وهناك من الأمور ما يفيد، وما مقدار فائدته، ويصنع قائمة لكل هذه الأمور؛ ثم بعد ذلك ينتخب ما هو أكثر فائدته، ويعتبرها كالأمانة التي يلزمه المحافظة عليها، فيجب أنْ يتعرف ذهنه على المسائل العلميّة أوّلاً، وبصورة دقيقة وواضحة، ثم بعد ذلك ينقلها لذاكرته.

ومثاله الواضح في قراءة الكتاب، فإنّ الإنسان تارة يطالعه مرة واحدة، قراءة عابرة لأجل الالتذاذ به، ولكن بهذه القراءة الخفيفة، لا يتمكّن من تقييم محتويات الكتاب، فيجب أنْ يقرأه مرة ثانية.

وكل ذاكرة، مهما كانت قوية، تفتقر إلى قراءة الكتاب الجدير بالقراءة، مرتين على الأقل، وبصورة متوالية؛ وبعد ذلك يحاول التحقيق حول كل فكرة من ذلك الكتاب، وتمحيصها وتحليلها، وملاحظة المطالب التي سيحتفظ بها في ذاكرته.

ثم بعد ذلك يحاول أن يقرأ كتاباً آخر في نفس الموضوع، الذي يدور حوله الكتاب السابق، حتى لا يمتلئ ذهنه بموضوعات متعدّدة، متباينة وبصورة غير منظمة.

وهنا يحاول قدر الإمكان، أن يملأ ذهنه، بماله علاقة بالموضوع نفسه، ليكون أكثر تعرّفاً عليه، وأكثر ترسيخاً في ذهنه.

فمن الخطأ أن يقرأ كتاباً، وقبل التعرّف على محتوياته ومضامينه، والتحقيق حولها، وهضمها، ينتقل لكتاب آخر يختلف عنه في موضوعه؛ فيقرأ في هذا اليوم كتاباً في التأريخ، وغداً كتاباً في الفلسفة، وبعد غد كتاباً في العلوم الدينية؛ وهكذا، ينتقل في كل يوم من كتاب إلى آخر، يختلف عنه في الموضوع، حيث تختلط الأفكار في ذهنه.

الإنسان الرشيد يبحث في الكتب المفيدة له، ويجمعها، ويكرر قراءتها ثم يلخصها، وهذه الخلاصة يودعها في ذاكرته، ثم بعد ذلك ينتقل لموضوع آخر.

الإنسان الرشيد يبحث في الكتب المفيدة له، ويجمعها، ويكرر قراءتها ثم يلخصها، وهذه الخلاصة يودعها في ذاكرته، ثم بعد ذلك ينتقل لموضوع آخر.

ومثل هذا الفرد، حتى لو كانت ذاكرته ضعيفة، لكنه رغم ذلك، أكثر استفادة وانتفاعاً من الشخص المتخبط في قراءته، وإنْ كان قوي الذاكرة.

ويكون مثله كالشخص الذي يمتلك مكتبة منظمة في موضوعاتها، وتوزيع كتبها؛ حيث يتمكّن وبلحظة واحدة، أنْ يتعرف على موضوع أي كتاب؛ ولكن هناك من يمتلك مكتبة كبيرة، واسعة وكتباً كثيرة ولكنها متراكمة غير منظمة، لا يستطيع العثور على كتاب واحد إلاّ بعد ساعتين.

هذا، هو المثال الأول للإدارة الصحيحة وغير الصحيحة في الاستفادة من إحدى القوى العقلية للإنسان.

 

الرشد في العبادة

والمثال الثاني: يدور حول (العبادة)؛ ولابد أن نعترف بأنّنا نجهل الطريق إلى العبادة، أي أنّنا لا نستطيع أن ندير أنفسنا عبادّياً بصورة صحيحة.

إنّ العبادة الصحيحة هي التي تجذب الروح، وتغذّيها التغذية الصحيحة، وليست الكثرة هي المقياس للعبادة؛ كما هو الأمر في الطعام، حيث لا يكون الغذاء الأكثر هو الأفضل؛ وكذلك العبادة فإنها لابدّ أن تتلاءم مع نشاط الروح وأشواقها.

ولا أعني بذالك: أنْ يكون للإنسان شوق مسبق، حتى يقدم على العبادة، فإنّ الكثير من الأفراد، لا يمتلكون مسبقاً شوقاً للعبادة؛ ولكن حين ممارسة العبادة، سوف ينبثق بالتدريج في أعماقهم الشوق والنشاط، والأنس بذكر الله.

إذن، فوعاء الإنسان للعبادة محدود، ولنفرض أنّه كان يمتلك شوقاً للعبادة، وأقدم على ممارستها بنشاط، ولكن بعد مدة من ممارستها، سيشعر بالتعب، ويتضاءل شوقه ونشاطه وتكتسب العبادة صفة التحميل والتكليف ويكون كالطعام الذي لا يلائم مزاج الإنسان، حيث يكون رد الفعل من البدن تجاهه، هو التقيؤ والاستفراغ، أو دفعه بأيّ وسيلة أخرى، على العكس من الغذاء الملائم، الذي يكون ردّ الفعل تجاهه، هو جذبه والتشوّق إليه، وهضمه.

ويخاطب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ جابر بن عبدالله الأنصاري: "يا جابر، إنّ هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله"؛ أي أنّ دين الإسلام دين مستحكم منطقي، يبتني على أسس نفسيّة واجتماعية عميقة، فلابد أنّ لا تدع نفسك، تتنفّر من العبادة، وتحقد عليها، فمارس العبادة بصورة تميل معها النفس للعبادة، وتنجذب وتندفع بشوق إليها.

ويضيف ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد ذلك: "فإن المنبتّ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى"; إنّ الراكب الذي لا يعتني بمدى قدرة الجمل؛ بل انّه يضربه بالسوط دائماً، ويدفعه إلى طي المنازل والمسافات بسرعة، وبمسيرة واحدة، دون ملاحظة المراحل، ويعتقد بأنّه بهذه الطريقة الخشنة، سوف يصل إلى هدفه أسرع؛ ولكن الأمر ليس كذلك، فإنّه خلال الطريق ستخور قواه من شدّة التعب وأوجاع السوط، ويسقط.

والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث آخر يقول: "طوبى لمن عشق العبادة وعانقها"، يريد أن يقول: بأنّ الشخص الوحيد الذي يتمكّن من اقتطاف الثمرات العالية للعبادة، هو الذي يؤدّي عبادته بصورة يندفع معها القلب بكل شوق ورغبة.

فالممارسة الصحيحة للعبادة، والاستفادة من نعمها الثرّة، لها علاقة وثيقة بحسن الإدارة والقيادة، وهذه المهمة يؤدّيها من تمكن من قيادة نفسه ومشاعره وعواطفه وغرائزه؛ وبالتالي قلبه، قيادة حكيمة رشيدة; فإنّ القلب والعاطفة والمشاعر تحتاج إلى القيادة الحكيمة أكثر من أي شي آخر؛ والآن نرجع إلى القيادة الاجتماعية في المجالات الاجتماعية.

 

الإمامة والقيادة

قلنا إنّ الرشد يعني: القدرة على الإدارة والقيادة، وحين يريد الإنسان إدارة الآخرين وقيادتهم؛ أي حين يكون موضوع الرشد هو قيادة الآخرين؛ فيطلق على هذا النوع من الرشد: (الهداية)؛ وبتعبير أوضح: (الإمامة).

واللفظ الذي يعبر عن لفظة الإمامة بصورة دقيقة هو (القيادة); والفرق بين النبوة والإمامة أن النبوة تعني الدلالة وإرائة الطريق؛ بينما الإمامة تعني القيادة؛ والنبوة إبلاغ وإخبار، وإتمام الحجة وإرائة الطريق وكشفه فحسب، ولا تتعدى مهمّة النبي ذلك، ولكن البشر يحتاجون إلى القيادة بالإضافة لكشف الطريق والدلالة عليه.

أي: أنّ البشرية تحتاج إلى بعض الأفراد، أو إلى فئة معيّنة، تقوم بمهمة تعبئة القوى الإنسانية ودفعها للعمل والحركة وتنظيمها؛ النبوة كشف الطريق وهو منصب خاص، بينما الإمامة منصب آخر، والأنبياء الكبار أمثال إبراهيم وموسى وعيسى ونبينا ـ صلى الله عليه وآله ـ، قد جمعوا كلتا الميزتين، وكانوا أنبياء وأئمة؛ وأما الأنبياء الصغار، فكانوا أنبياء فحسب، ولم يكونوا أئمة. والقرآن الكريم يؤكّد على هذه الفكرة كثيراً وكذلك الأحاديث الشيعية.

ولابدّ أن نلاحظ بأنّ القيادة التي يبحث عنها القرآن الكريم أسمى من القيادة والزعامة التي يفهمها البشر؛ إنّ القيادة يفهمها البشر لا تتجاوز الزعامة المعنوية، المتّجهة نحو الله، بالإضافة إلى القيادة الاجتماعية، والقيادة المعنوية، وهذه أعمق بكثير من القيادات الاجتماعية كلها، وليس هنا موضع بحثها.

 

إبراهيم القائد والإمام

للقرآن الكريم حول إبراهيم كلمات تثير الدهشة: {وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إماماً ...}[3].

فإنّ الله امتحن إبراهيم بالكثير من التجارب والابتلاءات، ولكن إبراهيم خرج منها ظافراً.

إن إبراهيم ـ عليه السلام ـ من الأنبياء الذين مرّوا بتجارب ومحن عديدة، وعاش حياة صعبة، ولكنه رغم كل هذه المشاقّ والمتاعب كان ناجحاً في رسالته.

لقد بعث في بابل؛ وواجه وحده، ذالك الحشد الهائل من العقائد، والخرافات الغبيّة الجاهلية، والشرك السائد؛ وحاربه، وقد حطم كل الأصنام إلا الكبير منها، ثم علّق المعول برقبة الصنم الكبير، لأجل أن يتخيّل الناس أنه قد نشب عراك وصدام بينها، وانتصر الكبير عليها.

وقد استهدف إبراهيم من هذا العمل، أن يوقظ القوى العقلية الفطرية، التي يحاول الناس خنقها والضغط عليها.

فإنّ الإنسان يدرك بفطرته، أنّ الجمادات لا يمكن أن تتنازع وتتصادم فيما بينها، ومن هنا يرجعون إلى أنفسهم، ولماذا يخضع الإنسان العاقل المدرك لمثل هذه الموجودات التي لا تشعر ولا تدرك؟.

وقد أشعل إبراهيم بعمله هذا حقد نمرود وغضبه عليه؛ ووصل الأمر إلى أن يأمر القائد بإلقائه في تلك الهوة; بل ذلك البحر الكبير الواسع من النار؛ ولكن، لم يهدأ إبراهيم، ولم يسكت عن دعوة الناس إلى رسالته.

لقد كان إبراهيم يعيش حياة قاسية، فهو من جانب في صراع حاد مع العقائد الخرافية المنحطة؛ ومن جانب آخر في صراع مرير مع نمرود، حيث وصل الأمر إلى القائد بإلقائه في النار.

وفي غمرة هذا الصراع وشدّته، واجهته تجربة إلهية مريرة؛ فقد جاءه النداء من الله، أن يذبح ولده العزيز بيده، هذا الأمر الإلهي الذي لا يمكن إلاّ الاستسلام والخضوع له، وقد خضع بالفعل لهذا الأمر، وصمّم على تنفيذه، ولكن في اللحظة الأخيرة، صدر إليه الأمر أن لا يذبحه، بعد أن قدّم الدليل الحي على مدى استسلامه وخضوعه للأمر الإلهي.

وبعد أن طوى إبراهيم هذه المراحل والابتلاءات، بظفر ونجاح، أخبره الله تعالى بأنّه قد استحق منصب الإمامة، فارتقى من النبوّة والرسالة إلى الإمامة.

وهناك حديث حول ذلك: "... إنّ الله اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتّخذه نبيّاً، واتخذه نبيّاً قبل أن يتخذه رسولاً واتخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً، واتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً..."[4].

وبذلك يتضح معنى الآية: {وإذ ابتلى إبراهيم ربُه بكلمات فأتمّهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً...}; أي بعد أن أتم إبراهيم تلك المراحل، وخرج من جميع الابتلاءات والمحن ظافراً، حينئذ جعله الله إماماً.

إن الإمامة وقيادة البشرية وزعامتها، سواء في بعدها المعنوي الإلهي، أو في بعدها الاجتماعي; هي أرفع المناصب التي يمنحها الله للإنسان، وهكذا كان إبراهيم فكان نبياً وكان إماماً وزعيماً لقومه.

وكما ذكرنا أن الأنبياء الكبار يمتلكون كلا المنصبين، النبوّة والإمامة، وأما الأنبياء الصغار، فإنّهم أنبياء فحسب، ولم يكونوا أئمة.

وأما أئمتنا الأطهار، فكانوا يمتلكون منصب الإمامة، ولم يكونوا أنبياء إذ إن طريقهم نفس الطريق الذي رسمه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ؛ إنهم يدعون إلى نفس الرسالة، ويعبئون القوى، ويأخذون بأيدي البشر في نفس الطريق، الذي دعا إليه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.

وعالمنا اليوم ينظر لمسألة الإمامة، من خلال بعدها الاجتماعي فحسب، فلا يعرف إلاّ هذا الجانب منها، ولكنه يهتّم اهتماماً كبيراً بها، وله الحق في ذلك، فإنّ الإنسان يحتاج للقيادة في طبيعته؛ وقيمة القيادة والزعامة وأهميتها تبتني على ثلاثة أصول وأسس:

 

1ـ أهمية الإنسان والقوى المودعة فيه

هذه القوى والكنوز الكامنة في الإنسان، والتي لم يتنبّه إليها الإنسان عادة، والإسلام قد اهتم كثيراً بمسألة توجيه الإنسان ووعيه بنفسه، ومنزلته الكبيرة، وبأهميّة القوى الكبيرة الكامنة فيه.

والقرآن الكريم يصرّح في الكثير من آياته، بأنّ الله تعالى حين خلق آدم، أمر الملائكة أن تسجد له؛ وإنّ الإنسان أعرف بالأسماء من الملائكة أنفسهم، وإنّ كل ما في الأرض قد خُلق لأجل الإنسان ولمصلحته.

قال تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ...}[5]، و{سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض}[6]؛ ففي الرؤية القرآنية يُعتبر الإنسان أرفع الموجودات جميعاً، وليس هو قبضة من ماء وتراب فحسب.

 

2ـ التعاون بين الإنسان والحيوان في القيادة

إنّ الإنسان وإن كان من جنس الحيوان إلا أنه يختلف عنه من حيث الغرائز وطبيعتها، فهو أضعف من الحيوان في هذا المجال، فإنّ الحيوانات مجهّزة بمجموعة من الغرائز، ولا تحتاج لقيادة خارجيّة تديرها وتوجّهها، فإنّ غريزتها تقود نفسها بنفسها؛ فالنملة مجهزة بمجموعة من الغرائز، تتمكّن بواسطتها أن تدير دفة حياتها بصورة غريزية، والإمام علي ـ عليه السلام ـ في إحدى خطبه في نهج البلاغة، يصف النملة وأجهزتها، وغرائزها الحياتية والحشرات الأخرى كذلك.

والإنسان، وإن كان أكثر تجهيزاً بالقوى والقدرات من سائر الموجودات، إلا أنّه إذا كان مقدّراً له أن تكون مهمة قيادته وإدارته على عاتق غرائزه، لكانت الغرائز التي يلزم توافرها فيه أكثر بكثير من غرائز الحيوان.

ولكنه رغم ذلك، هو أكثر فقراً وعجزاً من جميع الموجودات، لافتقاره للغرائز الداخلية التي تقوده وتوجهه بنفسها في طريق الحياة؛ ولذلك احتاج للقيادة والتوجيه من الخارج.

وهذه هي الفلسفة لبعثة الأنبياء، والهدف منها، إنّهم بعثوا من أجل تربية هذه الغرائز، والقوى البشرية، وتوجيهها الطريق المستقيم؛ فإنّ فلسفة البعثة تعتمد في أساسها على حاجة البشر للقيادة والتوجيه.

فإن البشر وإن كان مجهزاً بالكثير من القدرات والقوى، ولكنه في نفس الوقت جاهل بقدرته وبذخائره الثرّة، فلا يعرف ما يمتلكه، ولا يعرف كيف يستخدم ممتلكاته، ويستفيد منها الاستفادة الصحيحة، ويقودها القيادة الحكيمة؛ لذلك احتاج للقائد والموجّه الذي يرسم له الطريق، وينظّم طاقاته وقدراته، ويحرّره من أغلاله ويحثّه على الحركة والعمل.

 

3ـ القوانين الخاصة في الحياة البشرية

هناك مجموعة من القوانين والأصول حاكمة بسلوك البشر وأعماله، وإذا أراد أحد، أن ينصب من نفسه قائداً وزعيماً للبشر، فلا يتيسّر له ذلك إلا إذا تعرّف على هذه القوانين المتحكمة في حياة البشر.

إنّ الإنسان موجود مجهّز بمجموعة من القوى، ولكنه مفتقر في طبيعته لقائد وموجّه، يرسم له طريق العمل بهذه القوى، ويحثه على العمل وفقها.

هو موجود خاضع في قيادته، وتوجيه دفّة حياته، وإثارة قواه، وتحفيزها على العمل والانتفاع منها، إلى مجموعة من القوانين الدقيقة جدّاً، ومعرفة تلك القوانين هي مفتاح السيطرة والنفوذ إلى قلوب البشر.

وللقرآن الكريم تعبير يثير الدهشة حول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ; حيث يقول: {الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمّيّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ...}[7].

ولكن ما هي هذه الأثقال والأغلال؟ هل هي أثقال من صخر وأغلال من حديد، أو من خشب؟ كلاّ.

إن هذا الأثقال هي الخرافات والتقاليد، والأغلال هي من نوع الأغلال الروحية التي كبَّل بها الإنسان قواه واستعداداته وطاقاته المعنوية الزاخرة، وهي التي أدّت إلى كل هذا الجمود والشقاء واليأس في البشرية.

والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يطلق سراح هذه القوى المقيّدة الأسيرة؛ والقيادة والإدارة والاجتماعية تعني ذلك.

إنّها تحرير تلك القوى وإطلاق سراحها وبثّ الحركة والنشاط فيها، وفي نفس الوقت الأخذ بيدها، لتسير في مسارها الصحيح المستقيم، بخطوات متزنة مطمئنة.

إنّ القيادة الحكيمة، والإدارة الصحيحة المثمرة، تجعل من أضعف الشعوب أمّة قوية تفوق في قوتها سائر الأمم والشعوب؛ والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قد قام بذلك، الذي هو معجزة في نفسه.

 

مصادر لدراسة القيادة في الإسلام

والحديث في هذا المجال طويل عريض، وإذا أردنا أن نتعرف على مدى علاقة الإسلام بالقيادة والإدارة، فإنّ ذلك يتمّ من خلال مصدرين:

 

1ـ القراءة العميقة لسير الأنبياء والأولياء

يلزم علينا: أن نقرأ سير أولياء الدين وقادته، قراءة عميقة، وبالخصوص سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ؛ فإنّه لو تعرّف الإنسان على أساليبهم في هذا المجال، يدرك مدى تطابقها وتوافقها مع الأصول الدقيقة للقيادة والإدارة الحكيمة، والمنجزات العظيمة التي توصّلوا إليها من خلال هذه القيادة الحكيمة؛ تلك التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ العالم كلّه، لقد حققوا هذا النجاح المدهش، لأنّهم كانوا يمتلكون مفتاح السرّ، إنّهم قد بعثوا من قبل الله، والله خالق الإنسان، وبيده مفتاح سرّه.

يلزم علينا أن نقرأ بدقة وعمق، سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في مختلف المجالات؛ في قيادة الجيش، وفي إدارة دفة السياسة ونشر الإسلام، وسيرته مع أعداء الدين، مع المشركين، مع أهل الكتاب؛ وسلوكه في بيته مع أسرته، وغيرها؛ ففي كلّ واحدة منها عبر ودروس لنا.

إنّ السيرة العملية للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في الإدارة والقيادة، ترشدنا إلى الكثير من التعاليم الحيّة، في هذا المجال؛ إنّها بلغت القمة في دراسة النفس الإنسانية، وفي معرفة الطبيعة البشريّة.

لقد أرسل ـ صلى الله عليه وآله ـ معاذ بن جبل إلى اليمن، لأجل دعوة الناس، وإرشادهم إلى الدّين وتولّي شؤون اليمن؛ وألقى على سمعه هذه التعاليم التي تعتبر منهاج عمل لكل واحد منها؛ مع أنّ أكثرنا يعمل على خلافها.

يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ: "يسر ولا تعسر، بشر ولا تنفر، وصل بهم صلاة أضعفهم"; فلا يمكن إدارة المجتمع وقيادته بالشدّة والعنف، ولابد أن نبشر الناس بالمزايا، والثمرات الدنيوية والأخروية للإسلام، وترغيبهم وكسب قلوبهم، حتى تخفق في قلوبهم الرغبة لهذا الدين، وعدم مواجهتهم بأسلوب التخويف والترهيب، لأنّه يؤدي لنفرة الناس، وابتعادهم عن الدين؛ ولابد من مراعاة أضعفهم حين الصلاة جماعة، ففي المؤمنين المصلين عليل ومريض، وفيهم من كان جديد عهد بالصلاة.

وهناك وظائف خاصة للزعيم والقائد، فإنّ القائد له مركزه الاجتماعي الخطير، فعليه استمالة القلوب، وقيادتها وتعبئة قواها، فهناك بعض الوظائف والمهمّات الملقاة على عاتقه، والمختصة به لا يطالب بها غيره، ولا يطالب بها هو لو لم يشغل هذا المنصب.

ونحن قد سمعنا عن زهد الإمام أمير المؤمنين ـ صلى الله عليه وآله ـ وعن عباداته، التي ليس لها مثيل؛ ولكن، هذا الزاهد المتبتل، حين زار ـ في أيام خلافته ـ أحد أصحابه وهو علاء بن زيادة؛ شكى له أخاه عاصم بن زيادة، وأنّه قد أغرق نفسه بالعبادة والزهد، وهجر امرأته ولبس ثياباً خشنة؛ فأمر ـ عليه السلام ـ بإحضاره، وحين حضر، واجه ذلك الوجه الذي أرهقته العبادة، وأنهكه الزهد؛ خاطبه بحدة: "يا عدوّ نفسه...".

ولما اعترض عاصم على الإمام ـ عليه السلام ـ بأنّه هو بنفسه يعيش مثل هذه الحياة الشاقة، ويضرب به المثل في الزهد؛ أجابه ـ صلى الله عليه وآله ـ: إنه خليفة وزعيم للأمة الإسلامية، ويلزم عليه أن يلاحظ أضعف أتباعه، وأشدّ المحرومين من شعبه، لأنه قائد امة.

فإنّ زعماء الأمم وقادتهم لهم تكاليف ووظائف مختصة بهم، وفي الحديث: "إن الله فرض على أئمة المسلمين أن يقّدروا أنفسهم بضعفة الناس، كي لا يتبيَّغ بالفقير فقره".

يريد أن يقول: بأنني زعيم وقائد أمة ولستَ أنت كذلك، ولابد أن يمتدّ نظري إلى أفراد الأمة جميعهم، وأؤكد أكثر على أكثر الفئات حرماناً، وبالطبع إنني أرغب في رفع مستواهم الحياتي والمعيشي؛ ولكن مادام في البلاد محروم، فلا يسوغ لي أن ألبس ثياباً أخرى، غير هذه الثياب التي تستر بدني، مادام في البلاد من يأكل خبز الشعير، ويلبس الثياب الخشنة، فلأنني خليفة ومسؤول عن هداية الناس وقيادتهم، فلابدّ لي من الاحساس بأوجاعهم والتجاوب معهم.

لابدّ أن أعيش الحياة التي يعيشها أكثر الأفراد حرماناً وفقراً؛ وإلاّ فللفقير الحقّ في أن يثور، وينتفض بوجه هذه الحكومة؛ ويتعالى صراخه: بأننا نكذب في وعودنا وادّعاءاتنا بأننا نفكر فيهم، ونهتم بشؤونهم؛ ولكن الآن، سوف يطمئنّ بأننا صادقون؛ إذن فالقيادة والزعامة بنفسها تفرض هذه الحياة التي أعيشها.

وبهذه الفكرة، وهي أن للقائد بعض الوظائف الخاصّة به، يظهر السرّ في اختلاف الأئمة الطاهرين عليهم السلام، من حيث السلوك الخارجي؛ فالإمام الصادق ـ عليه السلام ـ مثلاً كان يلبس نوعاً من الثياب، يختلف عن النوع الذي كان الإمام علي ـ عليه السلام ـ يلبسه، وهذا الاختلاف يثير السؤال عن السرّ في ذلك ؟.

والجواب ما ذكرناه، لاختلاف طبيعة القيادة وظروفها، فإنّ لكل إمام مكانة اجتماعية، ربّما تختلف عن مكانة غيره، بالإضافة إلى اختلاف الظروف التي عاشها الأئمة عليهم السلام؛ وقد أشار لهذه الفكرة الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ في حديث له في هذا المجال، يشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه.

 

2ـ التعاليم الإسلامية في القيادة

هذا هو المصدر الثاني، الذي يمكن التعرف من خلاله، على شروط القيادة وأصولها في الإسلام؛ وهو الرجوع للنصوص الرئيسية، المتضمنة للتعاليم الإسلامية في هذا المجال.

أمثال ما ذكره القرآن الكريم، مخاطباً الأنبياء عموماً، والنبي محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ بالخصوص، حول أساليب تعاملهم مع مجتمعاتهم؛ وكذلك التعاليم الصادرة، حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الجاهل، والوعظ والنصيحة؛ وكل ما ورد من النصوص حول شروط التبليغ، والمبلّغ؛ ونحن لو أردنا ذكرها بالتفصيل، لكان كتاباً كبيراً، ولذلك نكتفي بهذه الإشارة إليها.

إن قضايا القيادة ومسائلها، لها علاقة وثيقة بالنفس البشرية؛ فإن استمالة النفوس وجذبها، لتكون مستعدة للالتفاف حول القائد، والتضحية في سبيل رسالته، ودفعها باتجاه الأهداف المقدسة العالية؛ كل ذلك، يحتاج إلى كفاءة كبيرة وقدرات فذّة، لا توجد عند كل أحد.

واليوم، وبعد التقدم الكبير في علم النفس، وعلم الاجتماع، والعلوم الإنسانية على العموم؛ قد اتضحت هذه الحقيقة بصورة جلية ، فإننا حين ندرس سيرة أولياء الله، وقيادتهم، نرى بأنها تتوافق مع أعمق الأسس والقواعد النفسية، والأصول العلمية الدقيقة، وقد تمكنوا بواسطة هذه القيادة الحكيمة، من النفوذ بقوة لأعماق الجماهير، وضحّى الناس في سبيل رسالتهم بكل ما يملكون.

ولكن، ما هي شروط القيادة ؟ وهذا حديث طويل، ونأسف لعدم توفر الفرصة لدراستها.

 

شواهد من تاريخ الإسلام

وفي ختام حديثي، أود أن اذكر بعض الشواهد والأمثلة، من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ والإمام الحسين ـ عليه السلام ـ كنماذج حيّة على الآراء التي تعرضت لها هذه الدراسة، وكيف أمكن لهذا اليتيم، الذي حاربه حتى أقرباؤه في بداية بعثته، أن يبلغ الذروة التي وصل إليها من حيث التأثير والنفوذ؛ حتى إن أبا سفيان، الرجل المتمدّن، أو المطلّع على مدنيات عصره، حين أبصر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ عن كثب وحوله أصحابه: قال: (ما رأيت أحداً يُحبّه أحدٌ كما يحب هؤلاء الناس صاحبهم).

وفي حرب تبوك، حيث حدثت في ظروف عصيبة كان يمر بها المسلمون، تلك التي يقول حولها التاريخ: (إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أمر أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم، وذلك في زمان من عسرة الناس وشدة الحر وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم).

وفي هذه الظروف القاسية، هدّد الروم كيان الإسلام من الحدود الشمالية، ورأى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يرسل الجيش الإسلامي إلى الحدود الرومية، وأعلن عن التعبئة العامة، وحاول المنافقون كثيراً أن يقفوا بوجه الزحف الإسلامي، وكلنهم باؤوا بالفشل.

وأمكن للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يجهز جيشاً يتألف من ثلاثين ألفاً، وقد لُقّب هذا الجيش (بجيش العسرة)، لأجل المتاعب والظروف المرة التي يعيشها، ولم تكن للمسلمين خيول كافية، فكل أربعة منهم كانوا يشتركون بواحد منها؛ وكذلك لم يمتلكوا الغذاء الكافي، وربما اقتنع الواحد منهم بتمرة واحدة؛ بل ربما اشترك أكثر من واحد بتمرة واحدة، ولكن رغم كل هذه الظروف الصعبة، اندفعوا للحرب خضوعاً لأوامر القائد.

وكان أبو ذر راكباً جملاً هزيلاً، لذلك تأخر عن الركب، وقد تخلّف عن هذه الحرب ثلاثة أفراد: فكانوا يقولون للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ: يا رسول الله تخلف فلان؛ فيقول: "دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".

حتى قيل: يا رسول الله قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره: فقال: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك أراحكم الله منه".

وأبو ذر في الواقع لم يتخلف عن الزحف، ولكن لم تكن لجمله القدرة على المشي؛ لذلك (تخلف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ثلاثة أيام؛ وذلك أنّ جمله كان أعجف، فلحق به بعد ثلاثة أيّام؛ وقف عليه جمله في بعض الطريق، فتركه وحمل ثيابه على ظهره، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل؛ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "كان أبا ذر؟" فقالوا: هو أبو ذر).

وحين وصل أبو ذرّ، كانت ملامحه متغيرة من تأثير الحرّ والجوع والتعب، كان وجهه مغيرّاً، وشفته جافة كالخشبة.

وحين نظر الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى سحنته وملامحه المرهقة، رأى بأنّه سيقضى عليه من الظمأ; فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "أدركوه بالماء فإنه عطشان"، فأدركوه بالماء; وأوفى أبو ذرّ رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ، ومعه أدوات فيها ماء؛ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ:

"يا أبا ذرّ، معك ماء وعطشت؟"، فقال: نعم يا رسول الله، بأبي أنت وأميّ، انتهيت إلى صخرة، وعليها ماء السماء فذقته، فإذا هو عذب بارد؛ فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله...

وعودة الثلاثة المتخلّفين أيضاً، لها حكاية مليئة بالعبر، فإنّ المسلمين قد عادوا من تبوك، دون أن يخوضوا حرباً؛ وكان الناس منتظرين، ما هو القرار الذي سيتّخذه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حقّ هؤلاء الثلاثة؟ وحين سألوه عن موقفهم من هؤلاء الثلاثة ؟أمرهم ـ صلى الله عليه وآله ـ بمقاطعة المتخلّفين، وعدم معاشرتهم، والالتقاء بهم، والتحدّث معهم.

وحين دخل المسلمون المدينة، تقدّم هؤلاء الثلاثة، وسلّموا عليهم; ولكن، أعرض عنهم المسلمون; وكلما أرادوا الحديث مع واحد منهم، أعرض عنهم، ورجعوا إلى بيوتهم متألّمين.

وحين علمت أزواجهم وأولادهم، بقرار النبيّ ـ صلى الله عليه وآله ـ استجابوا لندائه، واتخذوا مع هؤلاء نفس الموقف الذي اتخذه سائر المسلمين.

وحين حاول المتخلّفين الحديث مع زوجاتهم، لم يسمعوا منهم جواباً، وتحدّثوا مع أولادهم، وأيضاً كان جوابهم الصمت.

وبقي هؤلاء الثلاثة، وحدهم في المدينة غرباء، ذاهلين، لا يتكلّم معهم أحد، وكانت زوجاتهم يطبخن الطعام ثم يضعنه أمامهم، دون أن ينسبن ببنت شفة.

وضاقت الدنيا في عيونهم، وشعروا باليأس والتمزّق، وأدّت بهم هذه الحالة التعيسة، إلى أن يرجعوا إلى أنفسهم، وأن يشعروا بأنّهم قد ارتكبوا خطيئة وذنباً كبيراً، ويلزم عليهم أن يتوبوا توبة مخلصة ليقبلها الله تعالى؛ ويخبر نبيّه بذلك، ثم يعلنها الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ على الجميع؛ وبعد ذلك، سوف تعود لهؤلاء مكانتهم التي فقدوها بسبب التخلّف عن الزحف المقدّس.

إذن فيجب عليهم أولاً، أن يكتسبوا رضا الله، ومن هنا ظلّوا أياماً عديدة يطلبون التوبة، حتى قبل توبتهم.

ولقد ظهرت في كربلاء أروع الدروس والعبر في قيادة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ الحكيمة، وفي تأثير شخصيته ونفوذها في القلوب، إنّ حكاية هذه القافلة الرائدة نموذج لا مثيل له في تأريخ العالم.

ورغم أن القائد، قد أعلن منذ اليوم الأول، بأنّهم سيُقتلون في سبيل الهدف؛ ولكنهم صمدوا رغم كل التحدّيات؛ لقد تمكن هذا القائد، أن يعدّ هذه النفوس للالتفاف حول الهدف، والتضحية والفداء في سبيله؛ لقد تمنّى كل واحد منهم أن تكون له أكثر من روح واحدة ً ليقدّمها في سبيل الله، وقد أثبتوا صدقهم بمواقفهم البطولية التي شهدتها تربة كربلاء الدامية.

_______________________

[1] البقرة: 124.

[2] النساء: 6.

[3] البقرة: 124.

[4] الكافي، 1: 175، كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمة(ع)، ح: 4.

[5] البقرة: 29.

[6] لقمان: 20.

[7] الأعراف: 157.