. بقلم: الشيخ عدنان الحساني

من البديهي أن الحديث عن القيادة الناجحة يستلزم التفتيش عن مواصفات القائد وميزاته النفسية من حيث قدرته على الإحاطة المعرفية بفلسفة الأسباب والمسببات والعلل المؤثرة في مجريات الأحداث والقدرة على الربط بين حلقات التاريخ والاستفادة من التجارب خصوصا في إطارها المجتمعي لان حركة التاريخ ترتبط بالأنماط الاجتماعية والأممية أكثر من ارتباطها بالأنماط الفردية هذا بالإضافة إلى قدراته النفسية في ضبط معاييره الغريزية وإخضاعها لمدركات العقل العملي في إطار التفتيش عما ينبغي وما لا ينبغي ... ومن ثم توظيف هذين الجانبين في ترتيب الأولويات وفق القواعد والأصول الأيديولوجية التي يؤمن بها هذا القائد أو ذاك.. وجميع هذه المواصفات والمعايير والقواعد تتوفر في شخصية السيد القائد ولي أمر المسلمين علي الخامنئي (دام ظله). فليس خافيا مدى التأثير الاستراتيجي لقرارات وتوجيهات السيد الخامنئي على مدى العقدين السابقين في مجريات الصراع المحتدم بين الأقطاب العالمية خصوصا ذلك الصراع الأممي المتركز في منطقة الشرق الأوسط بمقتضى ما تتمتع به هذه المنطقة من مقدرات ومزايا حضارية خاصة جعلت منها مطمعا للقوى الكبرى وبالتالي موقعا لتنفيذ المخططات والمؤامرات ذات الأبعاد الاستكبارية والتسلطية الاستعمارية. إن القدرة الشيطانية للقوى الاستكبارية مكنتها من إعادة خلط الأوراق في أكثر من مرة وأضافت إلى قضايا المنطقة المزيد من التعقيدات السياسية والمجتمعية بمقتضى السعي الحثيث لتلك القوى في استثمار التباينات الايدلوجية والفكرية للمجتمعات المتعايشة في منطقة الشرق الأوسط. ويعود الاقتدار القيادي الذي يتمتع به السيد القائد الخامنئي إلى إمساكه بالمنظومة المعرفية في إطار ما يعرف بالإدارة الحضارية للصراع وفق الأدوات التي تناسب قنوات التحكم بفلسفة التاريخ وذلك من خلال مواجهة القواعد التاريخية للعدو والذي حاول أن يؤسس أدواته التاريخية وفق ما يؤمن به من فلسفات عدمية تشاؤمية من قبيل صراع الحضارات ونهاية التاريخ ... في المقابل من ذلك أرسيت قواعد فلسفية جديدة من قبل القيادة الإسلامية من قبيل حوار الحضارات والاقتدار الحضاري والتمهيد لدولة العدل الإلهي. ولعل ذلك الاقتدار لم يأتي عن فراغ وإنما عن ذهنية خلاقة وفاعلة ولا تركن إلى الدعة او الاتكال على المؤسسات التخطيطية فلقد ثابر السيد الخامنئي ايما مثابرة في سبيل ان يكون جديرا بإدارة المرحلة فراح يدرس نقاط القوة والضعف عند العدوة ويستثمر كل الفرص من اجل معرفة الأنماط التفكيرية عند العدو . "يؤكد العارفون القريبون من سماحة الإمام القائد أنه أمضى خلال عقد التسعينات فترة طويلة في دراسة تجربة الحرب الباردة وأسباب سقوط الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، وتوصل الى خلاصات حول فرص الغرب في تجربتها مع إيران" اذن فان حركة التاريخ ومنعطفاته واحدة من اهم القنوات المعرفية التي حاول القائد الخامنئي ان يرتب قناعاته في قراءة الاحداث واستشراف المستقبل من خلالها "فإن من يقرأ خطاب سماحة القائد في جمع من الدبلوماسيين الإيرانيين العاملين في السلك الخارجي سنة 2001 منذ أكثر من عشر سنوات وحديثه عن تجربة سقوط الإتحاد السوفياتي وذكره بالتفصيل كيفية حصول هذا الانقلاب يكتشف حجم المعرفة والمتابعة العميقة لسماحته بالإستراتيجيات الأميركية والغربية فقد صفقوا لغورباتشوف لسنوات على أساس انه رجل الإصلاح والشفافية وكالوا له المدائح وشجعوه واعتبروه رجل العام، ونحن لم يثبت لدينا انه كان عميلا للغرب كما يزعم البعض، بل نعتقد انه شخص إنطلت عليه الخديعة وهذا ما اعترف به لاحقاً في كتابه "البيريسترويكا الثورة الثانية " ومن ثم اخترعوا الى جانبه شخصية موالية لهم هي بوريس يالتسين الذي كان يتناغم في حركته ومواقفه السياسية مع مواقف أميركا والغرب مستغلاً ضعف شخصية وحنكة غورباتشوف، وأصبح يتصرف كأنه الزعيم الفعلي وصاحب المشروع الاصلاحي، هذا طبعاً الى جانب ضخ الأموال ودعايات وسائل وأجهزة الإعلام التي شاركت في هذا الانقلاب، حيث كان هذا هو مشروع أميركا الناجح في الإتحاد السوفياتي، أي انهم استطاعوا عن طريق خطة ذكية تماماً، وبإنفاق بعض الأموال، وتجنيد بعض العناصر، وبإستخدام وسائل الإعلام أن يسقطوا قوة كبرى ويقضوا عليها نهائياً في خلال ثلاث او اربع سنوات تكللت بالثمار المرجوة خلال ستة او سبعة أشهر" .

اضف الى ذلك فان رؤية القائد الخامنئي وتفسيره التاريخي للأحداث العالمية غير خاضعة للكيفيات السياسية بمعنى انه لا يفسر احداث المنطقة والعالم انطلاقا من الواقع الحكومي المرتبط بالاتفاقات والتنازلات التي تجري وفق الحسابات المرحلية التي تفرض على المسار الحكومي للجمهورية الاسلامية وانما وفق المعايير المعرفية ذات الطابع المجرد والتعميمي بالركون الى قواعد العلل والاسباب والاستفادة من تجارب الاخرين ونقاط القوة والضعف في افكارهم وسياساتهم وهذا ما اشار اليه بعض الكتاب والباحثين حيث قال: )يلاحظ من خلال قراءة خطابات سماحة القائد وتحليل بنيتها ومضمونها وجود عملية تواصل وترابط تاريخي ومنهجي وفق خط زمني مستقيم ومتطابق مع خط الرؤية، بحيث أننا لو درسنا خطاباً لسماحته مؤرخا بعد انتصار الثورة سنة 1979 وخطابا مؤرخاً بعد سنة 1991 بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، وخطاباً مؤرخاً بعد العام 2001 أي بعد أحداث 11 أيلول، وخطاباً مؤرخاً بعد سنة 2003 أي بعد غزو العراق وافغانستان، وخطاباً مؤرخاً بعد حرب تموز 2006، وخطاباً مؤرخاً بعد العدوان على غزة عام 2009، وخطاباً مؤرخاً في العام الحالي 2011 أي بعد انطلاق ما يسمى بالثورات العربية، سنجد على طول هذا الشريط الوثائقي ثباتاً وتماسكاً نوعياً لافتاً في الرؤية والموقف والتحليل والنظرة واستشراف المستقبل لدى سماحته، لم تهزه ولم تثني من عزيمته وعنفوانه غبار الحروب والأحداث والمفاصل التاريخية، وهذا يدل على وجود خط رؤية واحد يتميز بالثبات والتماسك الكامل، وهو ما يكشف عن منهج ورؤية ويكشف بالضرورة عن قائد ثوري وتاريخي إستثنائي وليس عن قائد أو زعيم مرحلي يتحدث وفق أنماط الخطابة السياسية المألوفة في عالم القادة والزعماء، وقد دفع هذا الواقع أحد الباحثين في معهد كارنيغي للأبحاث والدراسات للإعتراف بأن السيد الخامنئي أعزه المولى "قائد حازم له نظرة الى العالم تتسم بالثبات والتماسك، ونصح الادارة الاميركية باليأس من تغيير وتبديل سياسات وشعارات النظام الإسلامي في ايران في ظل وجود هذا القائد لانه ليس من النوع الذي يقبل بأي تنازل او مساومة على الأصول والثوابت). هذا من حيث القراءة والفهم اما من حيث التأثير فان شخصية القائد الخامنئي بما تمتلكه من كاريزما شخصية وبعد اخلاقي منضبط بالقيم العالية للوجود الانساني فان ذلك كان كفيلا بان يجعل منه مثلا اعلى للامة ومن المعلوم ان فلسفة المثل الاعلى ترتبط بقضايا واحكام كونية تتعلق بالصيغ السليمة للسنن التاريخية وبالتالي فنحن امام تجسيد حقيقي لصيغة ايجابية تعبر عن المثل الاعلى للائمة وفي نفس الوقت اننا امام مثل اعلى يتميز بالاستخدام الأمثل لمزاياه وصفاته الشخصية والانسانية وقدرته على صياغة منظومة معرفية مبنية على معايير تحاكي الاحاطة بالسنن التاريخية وتحيط بفلسفة التاريخ في اكثر مراحل الحضارة الانسانية تعقيدا وفي اكثر مراحل الصراع صعوبة .