الشيخ علي متيرك

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "في التوراة مكتوب: إنّ بيوتي في الأرض المساجد، فطوبى لعبدٍ تطهَّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، ألا إنّ على المزور كرامة الزائر، ألا بشّر المشّائين في الظلمات إلى المساجد بالنور الساطع يوم القيامة"(1).

هي بيوتُ ملكٍ عظيم، لا يطأ بساطه إلّا المطهّرون، أحبُّ البقاع إلى الله، مهابطُ رحمته، فيها يُذكر اسمه، ويقف العبدُ بين يديه، المقيمون فيها أوتادها، ملعونٌ من لا يوقّرها، تلك التي أُسِّست على التقوى... إنّها مساجد الله في أرضه.

أهميّة المسجد وأثره وموقعيّته في الإسلام، دينيّاً ومعنويّاً واجتماعيّاً وفكريّاً ومعرفيّاً، كما يراها الإمام القائد الخامنئيّ دام ظله، تظهر في هذا المقال.

 

•المسجد أعمق إبداعات الإسلام

إنّ من أبرز الأعمال التي قام بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عند دخوله المدينة المنوّرة، كان بناء مسجد المدينة، والذي يُعتبر خطوة أولى، وحجرَ أساس، في بناء المجتمع الإسلاميّ المحصّن؛ فلقد كان المسجد محور الحركة الإسلاميّة، وقطب رحاها؛ كان مركزاً للعبادة، وللعلم، وللتخطيط والمواجهة... ومركزاً لبناء الإنسان المسلم.

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "إنّ إطلاق ظاهرة المسجد في قِبا أوّلاً، ثمّ في المدينة، كان من أجمل وأعمق إبداعات الإسلام في بداية تأسيس المجتمع الإسلاميّ؛ بيت الله وبيت الناس، خلوة الأنس مع الله، وتجلّي الحشر مع الناس، قطب الذكر والمعراج المعنويّ، وميدان العلم، والجهاد، والتدبير الدنيويّ، مكان العبادة ومقرّ السياسة، ثنائيّات مترابطة تظهر صورة المسجد الإسلاميّ واختلافه عن أماكن العبادة الشائعة في الأديان الأخرى"(2). وعليه، فلا ينبغي أن تُقلَّص هذه الدائرة الواسعة والشاملة، والصورة الواقعيّة التي أرادها الإسلام في المساجد، فالمساجد لا تُقصرُ على المسائل العباديّة فحسب، بل لطالما كانت مركزاً للقضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والعلميّة، وقد ورد في الرواية: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج، فإذا في المسجد مجلسان، مجلس يتفقّهون، ومجلس يدعون الله ويسألونه، فقال: "كِلا المجلسين إلى خير؛ فأمّا هؤلاء فيدعون الله، وأمّا هؤلاء فيتعلّمون ويفقِّهون الجاهل، هؤلاء أفضل، بالتعليم أُرسِلت"، ثمّ قعد معهم(3). يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "يجب أن تكون المساجد قاعاتٍ للتفسير والحديث، ومنابر للمعارف الاجتماعيّة والسياسيّة، ومراكز للموعظة وتربية الأخلاق"(4).

 

•المسجد مظهر امتزاج الدنيا والآخرة

إنّ الهدف الأساس من الشريعة الإسلاميّة هو صلاح الفرد والمجتمع، واهتداؤهما إلى الصراط المستقيم، صراط النجاة، صراط النعيم الأبديّ. ولهذا الصراط قواعده في الحياة الدنيا، ومناراته، التي بها يهتدي الإنسان سواء السبيل. وإنّ أبرز قاعدة لانطلاقة الإنسان في سلّم التكامل هو المسجد، كيف لا، وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: "من أدمن إلى المسجد، أصاب إحدى الخصال الثمانية: آيةً محكمةً، أو فريضةً مستعملةً، أو سنّةً قائمةً، أو علماً مستطرفاً، أو أخاً مستفاداً، أو كلمةً تدلّه على هدى أو تردّه عن ردى، وترك الذنب خشيةً أو حياءً"(5).

فالمسجد قاعدةٌ في الدنيا ومنارة للآخرة، وفي هذا المجال يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "يمكن للمسجد أن يكون قاعدة الأعمال الصالحة والحسنة كلّها؛ قاعدة لبناء النفس، وصناعة الإنسان، وإصلاح القلب، وإصلاح الدنيا، ومواجهة العدوّ، والأرضيّة اللازمة لبناء الحضارة الإسلاميّة، وتقوية مصيرها، وهلمّ جرّاً. المسجد هو قاعدة كهذه"(6).

"في المسجد الإسلاميّ يمتزج وَجدُ العبادة الخالصة وبهجتها مع توثّب الحياة الطاهرة والعقلانيّة والسليمة، ويقترب الفرد والمجتمع من الطراز الإسلاميّ لهذه الحياة"(7).

 

•المسجد نواة المقاومة

لطالما كان الإسلام والمسلمون مستهدفين عبر التاريخ، وبشتّى الأساليب والوسائل. والإنسان بشكلٍ عامّ، والمسلم بشكلٍ خاصّ، هدفٌ وغرضٌ للعدوّ: العدوّ الذي بين جنبيه، وهو نفسه الأمّارة بالسوء، والعدوّ الخارجيّ الذي يتربّص به شرّاً، وهو الشياطين التي تحيط به، من الجنّ والإنس. لذا، فإنّ الإنسان المسلم في جهادٍ دائم: جهاد أكبر وجهاد أصغر؛ جهاد النفس وجهاد العدوّ. ولا يقتصر الجهاد على صعيد واحد، فإنّ أسلحة العدوّ كثيرة ومتنوّعة، وعلى المسلم أن يكون محصَّناً ومقاوِماً لها؛ ثقافيّاً، وسياسيّاً، وأمنيّاً، وعسكريّاً. ولطالما كان المسجد نواةً لأنواع المقاومة تلك، فروّاد المسجد يرتشفون من كأس معنويّات الصلاة والدعاء، ويتزوّدون من حلقاته علماً نافعاً يشحذ هممهم، ويملأ أذهانهم ثقافةً ووعياً.

 

يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله: "المسجد نواة المقاومة، غاية الأمر أنّه مركز المقاومة بأنواعها المختلفة؛ المقاومة الثقافيّة، والمقاومة السياسيّة، وكذلك –في الوقت المناسب- المقاومة الأمنيّة والعسكريّة، لقد كانت المساجد هكذا دوماً"(8).

 

•المساجد بيوت الشباب

كثيراً ما يؤكّد الإمام الخامنئيّ دام ظله على دور الشباب في حفظ الإسلام وبناء المجتمع الصالح. لذا، يحرص الإمام دام ظله على أن يكون روّاد المسجد من الشباب، لكي ينهلوا من معينه، فهم روّاد الحركات الاجتماعيّة الذين يجتهدون ويعملون، ولا بدّ من بناء هؤلاء الروّاد بشكلٍ سليم، وصحيح، وآمن. "يجب إيجاد مكانةٍ خاصّةٍ وموقعيّةٍ مميّزةٍ للشباب في المساجد.. وهذا لا يعني أنّنا نخالف حضور الكهول وكبار السنّ في المساجد، كلّا، على المؤمنين جميعاً ارتياد المساجد، وإعمارها، والتزوّد منها، ولكن يجب جذب الشباب إلى المسجد، وأن يعتبر الشابّ أنّ المسجد هو بيته ومركزه، وأن يشعر بالأنس فيه، ويتردّد إليه بشكل دائم؛ فإنّ لهذا الأمر بركات وفيرة"(9).

 

•إحياء المساجد وإعمارها

المسجد أحد الثلاثة الذين يشكون إلى الله تعالى الذين لا يحضرونها، ولا يصلّون فيها. وقد أكّدت الروايات على مدى خطورة هجران المساجد وعدم ارتيادها، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ثلاثة يشكون إلى الله عزّ وجلّ: مسجد خراب لا يصلّي فيه أهله، وعالِم بين جهّال، ومصحف معلَّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه"(10).

فأمام هذه المحوريّة الكبرى للمسجد في الإسلام، وأمام هذا الدور والأهميّة له في مختلف الأصعدة الحياتيّة، لا شكّ ولا ريب أنّ في هجرانه والابتعاد عنه خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين، وعلى حصانتهم وأمانهم من الغزو الفكريّ، والثقافيّ، والسياسيّ.. لذا، ينبّه الإمام الخامنئي دام ظله ويحذّر من الغفلة عن الخطر الذي يتهدّدنا بسبب قلّة ارتياد المساجد.

"يجب أن لا يغفل أيّ منّا، بل لا يستطيع أن يغفل عن الخطر الذي يهدِّد المجتمع، والعوائل، والأجيال القادمة، بسبب قلّة ارتياد المساجد أو ضعفها، أو أن نحرم أنفسنا من البركات العظيمة التي يهديها المسجد بطرازه الإسلاميّ لبلادنا، ونظامنا، وشعبنا"(11).

كما يؤكِّد دام ظله على الاهتمام بالمساجد، حتّى من الناحية الشكليّة، والزينة الظاهريّة، فهي رمز وعنوان. وهذا الأمر يقع على عاتق الجميع دون استثناء. "عمران المساجد والاهتمام بزينتها، المعنويّة والظاهريّة، من واجب الجميع، وعلى كلّ شخص المساهمة في ذلك بمقدار قدرته وهمّته. على الناس والبلديّات، والأجهزة الحكوميّة أن تمارس دورها في هذا الجانب، وبوسع عالم الدين العالِم المتحمِّل لمسؤوليّاته والورِع، بل يجب عليه، أن يكون محوراً لهذه المنظومة من المساعي المقدَّسة"(12).

 

•المسجد فرصةٌ ثمينةٌ

في الختام، كان المسجد، ولا يزال، مصدر العطاء، ومحرّك النهضات والثورات، ونقطة اتّصال بين الأرض والسماء، فعلينا أن نغتنم هذه النعمة، وننظر إليها نظرةً شموليّة واعية، باعتبارها معقلاً للمعرفة، والتثقيف، والتوعية، والمقاومة، كما يرى الإمام الخامنئيّ دام ظله.

ــــــــــــــ

1.بحار الأنوار، المجلسي، ج80، ص373.

2.الإمام الخامنئي دام ظله، خطاب الوليّ 2010م، ص378، ملتقى الصلاة العام التاسع عشر، 12/10/2010م.

3.بحار الأنوار، (م.س)، ج1، ص206.

4.خطاب الوليّ 2010م، (م.س)، ص379.

5.بحار الأنوار، (م.س)، ج81، ص3.

6.من كلمة له في لقاء جمعٍ من أئمّة الجماعة في مساجد محافظة طهران، بمناسبة يوم المسجد العالميّ، بتاريخ 21/8/2016م.

7.خطاب الوليّ 2010م، (م.س)، ص378..

8.يوم المسجد العالمي، (م.س)، 21/8/2016م.

9.(م.ن)، 21/8/2016م.

10.الكافي، الكليني، ج2، ص613.

11.خطاب الوليّ 2010م، (م.س)، ص378.

12.(م.ن)، ص379.

 

المصدر: مجلة بقية الله