لطالما ارتبط اسم «حزب الله» بالصاروخ والمدفع والعمليات الحربية، أي ما يعرف بـ «القوة الصلبة»، التي أملتها عليه ظروف انخراطه في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ثم حمله فيما بعد لواء هذه المقاومة وبالتالي تحرير الجنوب في العام 2000، فضلا عن خوضه حروب دفاعية عدة بمواجهة العدوان الإسرائيلي، في الأعوام 1993، 1996، و2006. غير أن عناصر القوة التي يمتلكها «الحزب» لا تركز فقط على القوة «الخشنة» كما يظن كثيرون، بل إنه يمتلك عنصر قوة شديد الأهمية، يوزاي بفاعليته ونتائجه السياسية والاجتماعية القوة العسكرية، ألا وهو عنصر «القوة الناعمة». منذ البدايات، وضع «الحزب» نصب عينيه تجربة المقاومة الفلسطينية بعدما تحولت إلى عبء على بيئات لبنانية ودفعت البعض إلى الترحيب بالاحتلال كخشبة خلاص من الممارسات التي ارتكبتها بعض فصائل المقاومة برغم أحقية قضيتها. سريعا أدرك «الحزب» الحاجة إلى اكتساب مشروعية شعبية وسياسية تمنحه الغطاء الجماهيري والقانوني لتثبيت دعائم وجوده وتسويق نفسه وبرنامجه السياسي والمقاوم، في المجتمع الشيعي بشكل خاص واللبناني بشكل عام. مع نهاية الحرب الأهلية، خضعت طريقة تفاعل «حزب الله» مع اللبنانيين عموماً إلى تحول عميق. إذ أن الحزب استطاع أن يسوَّق لنفسه ولمهمته السياسية لدى جمهور أوسع وأكبر من أي وقت مضى. ففي المجتمع الشيعي، تحديداً، تمتع بدعم من دون منازع تقريباً، أمر حصل عليه من خلال تركيبة من التسويق الديني والمجتمعي والسياسي، إضافة إلى تقديم الخدمات الاجتماعية. مع الوقت برهن «حزب الله» عن سلوك مؤسساتي مسؤول يتلاءم والمعايير الدولية، خصوصا لناحية تقديمه خدمات اجتماعية للمواطنين، والإذعان لقوانين الحرب، والتصرف غالبا بشفافية، في ما يتعلق بنشاطه وأهدافه الداخلية.

هكذا، لم تكن القوة العسكرية «الصلبة» هي العامل الوحيد في وصول «حزب الله» إلى ما عليه الآن كقوة إقليمية عابرة للحدود، فهو إلى جانب ذلك امتلك العديد من مصادر القوة الاجتماعية والسياسية والثقافية والإعلامية والجماهيرية والتي تعرف بـ «القوة الناعمة». والقوة الناعمة هو مصطلح صاغه في التسعينيات من القرن الماضي عميد مدرسة كيندي للدراسات الحكومية بجامعة هارفرد، ورئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع جوزيف س. ناي، حيث يعرّفها على أنها القدرة على الحصول على ما يُراد عن طريق الجاذبية، بدلاً من الإرغام أو دفع الأموال. فالقوة الناعمة تستخدم نوعاً مختلفاً من العمل، وهي ليست قوة القسر ولا المال لتوليد التعاون، بل هي الانجذاب إلى القيم المشتركة، والعدالة، ووجود الإسهام في تحقيق تلك القيم. نجح «حزب الله» مع الوقت في مراكمة الكثير من أوراق القوة الناعمة، وقد ظهر في العديد من المجالات. ترتكز القوة الناعمة لـ «الحزب» على موارد أساسية، وهي تنقسم إلى عناوين رئيسة وأخرى فرعية. فالموارد الأساسية تتمثل بالآتي: ثقافته في الأماكن التي تكون فيها جذابة للآخرين، وقيمه السياسية عندما يطبقها بإخلاص في الداخل والخارج، وسياساته الخارجية عندما يراها الآخرون مشروعة وذات سلطة معنوية. أما الموارد الفرعية فيكمن حصرها بالتالي: الانجازات، القياس على التجارب السابقة، الثقافة، القيمة السياسية، السياسية الخارجية، صراحة وشفافية أمينه العام، والجهاد الاجتماعي. كما تعد التظاهرات الشعبية والمسيرات السلمية وفقا لناي من وسائل القوة الناعمة المؤثرة والمهمة. أما عن الطريقة التي تؤثر بها الحشود على القرارات في الدول المتقدمة، فهو يقول إن «الاحتجاجات لا تمثل الأسرة الدولية، ولكنها كثيرا ما تؤثر فعلا على مواقف كتاب الافتتاحيات، والبرلمانيين، وغيرهم من ذوي النفوذ المؤثر في بلدان مهمة تتلخص آراؤها في تلك العبارات الغامضة». وفي ورقة بحثية أعدها البروفسور المساعد في دائرة العلوم السياسية في جامعة كلارك في وورسيستر، ماساشوستس، أورا سزيكلي، نشرتها فصلية Middle East Policy، يتوقف عند قضية التحول الذي طرأ على سلوك وأدبيات وخطاب «حزب الله»، معتبرا ان «تطوره يطرح تساؤلاً أكبر في أدبيات الفاعلين غير الحكوميين، في الشرق الأوسط وأماكن أخرى أيضاً ومفاده: «لماذا تنجو المجموعات العسكرية غير الحكومية من محاولات استئصالها من أجزاء محددة من المناطق في حين لا تنجو مجموعات أخرى؟ وما هي الدروس التي تتعلمها المنظمات من مواجهات سابقة بحيث تمكنها من البقاء بشكل أفضل في مواجهات أخرى لاحقاً؟». كانت حرب تموز 2006 هي النموذج المقارن الذي استخدمه الكاتب للدلالة على التحول الحذر الذي خضع له «حزب الله»، ما بين نهاية الحرب الأهلية وحرب تموز. في الثمانينيات من القرن الماضي، كان الحزب وفقا له يُعدّ بنظر بعض اللبنانيين والدول مجموعة راديكالية مسلحة ميالة للتكتيكات اللافتة، فضلا عن انه كان يفتقد إلى ثقة الكثيرين من الشيعة. يعزو البعض هذا التحول أحياناً إلى زيادة في أصوله المالية أو معداته وأجهزته العسكرية. غير أن هذا التفسير غير مقنع برأي سزيكلي الذي يشير إلى الاستراتيجيات التي استخدمها «حزب الله» للحصول على الموارد في المقام الأول، وليس تلك الموارد نفسها، هي التي تغيرت ما بين العامين 1990 و2006. بعد الحرب الأهلية، عمل الحزب على تطوير استراتيجية مبنية على مقاربة تسويق أوسع نطاقاً، كما طوَّر شبكة من الخدمات الاجتماعية التي توسعت فيما بعد بشكل هائل، وقلل في المقابل إلى حد كبير، من استخدام الخطاب المنفّر ولجأ الى اعتماد سياسية الاعتدال والانفتاح. وكأي منظمة عسكرية سياسية، احتاج الحزب لأجل البقاء إلى مجموعة من الموارد، المادية كالتمويل والمقاتلين والسلاح، وغير المادية مثل الاستخبارات والشرعية والتدريب. تحصل معظم الحركات والمنظمات العسكرية، بما في ذلك «حزب الله»، على معظم هذه الأشياء من الخارج. هذا يعني الحصول على الموارد من سكان مدنيين محليين أو من دولة راعية ما. من هنا فإن لدى الفاعلين غير

الحكوميين ثلاثة خيارات استراتيجية واسعة: القسر والإكراه، وتقديم الخدمات، والتسويق. وفي حين أن معظم الحركات تستخدم هذه الأمور الثلاثة معاً، فإن أحد هذه الخيارات يكون مهيمناً في العادة. وقد يكون الإكراه أسهل وسيلة للحصول على الموارد من المدنيين. أجاد «حزب الله» التعامل مع المدنيين الذين يكونون عادة هدفاً لسياسة الإكراه، كنهب الشركات، والآليات، والأشياء الثمينة، والاستيلاء على المنازل والأراضي، وفرض «ضرائب» و»خُوَّات» على نقاط التفتيش والشركات والأعمال التجارية، وهو نموذج الحركات التكفيرية في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وجد «الحزب» أن التسويق الدؤوب لمهامه وأهدافه وبرامجه ومثله العليا هو الذي ينتج العلاقات الأكثر صلابة مع المدنيين والدول الراعية. لذا كان هذا الخيار هو السبيل الأكثر موثوقية للوصول إلى موارد مادية وغير مادية. تعتبر لغة الحوار والعيش المشترك التي يتعمدها «حزب الله» واحدة من مصادر القوة الناعمة. وهي مطمئنة بالنسبة للبعض، وموضع سجال عند البعض الآخر الذي يعتبر انه يفعل خلاف ما يقول. النموذج الأبرز للقوة الناعمة في أوج قوة مقاومته، كان تعامله مع ملف العملاء الإسرائيليين عقب تحرير الجنوب في العام 2000. حينها لم يكن هناك انتقامات برغم تورط بعض العملاء بـ «الدم»، عن طريق قتل عدد كبير من المدنيين أو عناصر المقاومة. وإضافة إلى الشبكة الاجتماعية التي بناها «حزب الله» والتحالفات الداخلية والخارجية كالعلاقة مع إيران وتبنّيه للقضية الفلسطينية التي أعطت للحزب قوة مضاعفة، ثمة عامل آخر إضافي استمد منه الحزب جرعة كبيرة من القوة الناعمة، وهي شخصية الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله الذي يملك قدرة كبيرة على التأثير بالناس، كونها مؤمنة بالقضية انطلاقا من الولاء للشخص. بحلول العام 2006، لم يكن الدعم لـ»حزب الله» أو على الأقل الاحترام له على مضض، محدوداً بالمجتمع الشيعي بل تعداه إلى طوائف لبنانية وشعوب عربية وأجنبية. وهذا يعود إلى محاولات «حزب الله» المتعمدة والمدروسة تسويق نفسه لدى اللبنانيين من غير الشيعة كمنظمة مقاومة «لبنانية». في أواخر التسعينيات، غيرَّ حزب الله شعار علمه حتى، من «الثورة الإسلامية في لبنان»، إلى «المقاومة الإسلامية في لبنان». وكأي حزب سياسي لبناني، وربما أكثر حذاقة من معظمها، تعلم «حزب الله» تفصيل رسالته لتناسب جمهوره. هذا يعتبر خروجاً ملحوظاً عن إيديولوجيته الجامدة الصارمة التي صبغت تفاعلاته مع المدنيين في الثمانينيات. إذاً، في جميع الأحوال، لا يمكن ردّ نجاح «حزب الله» في حرب تموز إلى قوة السلاح وحدها. يقول سزيكلي في العام 2006، أن الأمر المدهش هو التباين بين حرب تموز وأداء حزب الله في أواخر الثمانينيات. فقد كان «حزب الله» مسلحاً وممولاً بشكل جيد من قبل إيران في أواخر الثمانينيات، لكن هذا لم يكن كافياً لضمان أن تحقق قدرته أهدافه ضد إسرائيل، فضلا عن اخفاقة في استمالة الجمهور الشيعي. إن قدرة «حزب الله» على النجاة والبقاء في حرب تموز كانت بالأحرى نتاج العلاقات التي بناها على الصعيدين المحلي والإقليمي. هذا الأمر لم يمنحه فقط القدرة على مقاومة الهجوم الإسرائيلي عسكرياً، وإنما منحه أيضاً المرونة للنفاذ من الحرب والحفاظ على مركزه السياسي في لبنان.