كانت الأيام 444 من الاحتجاز لجواسيس السفارة الأمريكية بالنسبة للشعوب المستضعفة وكأنها موسم مسترسل للشماتة في أمريكا ورئيسها المذلول كارتر.. اليوم تحلّ الذكرى الواحدة والثلاثون ومع قراءة في الحدث.

 

كان مشهد احتلال السفارة الأمريكية في طهران من قبل الطلبة الإيرانيين والتي غدا اسمها على وفق اللغة الثورية (وكر الجواسيس) مشهدا من مشاهد الثورة الإسلامية المجيدة التي قلبت كل المعادلات والموازين.

 

وليس مبالغة في التقدير ذلك الرأي الذي ذهب إلى أنّ واقعة احتلال السفارة الأمريكية شكل احتفالية ثانية لانتصار الثورة، وكأنّه لم يكن كافيا أن تُسقط الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) نظام الشاه المتمحض في العمالة لأمريكا، حتّى احتاجت الثورة إلى خطوة إضافية تستكمل بها انتصارها بلّه ولادتها الثانية، وهكذا كانت الخطوة التي أقدم عليها الطلبة الإيرانيون السائرون على خط الإمام في 4 من تشرين الثاني عام 1979م.

 

وبمعزل عن السبب/ الذريعة التي حركت جموع الطلاب الثوريين لاقتحام الوكر الأمريكي، والذي تمثل في استقبال الشاه الفار والهائم على وجهه في القارات ضيفا على أمريكا، فإنّ منطق الثورة والذاكرة الجريحة كانت تفرض هذا التصعيد وتدفع بالتناقض بين الثورة و أمريكا رأس حربة الاستكبار العالمي إلى ذروته..بل إن الاحتراز الثوري كان يقتضي شل الوكر التجسسي الأمريكي عن أي تحرك أو دور تخريبي قد يقوم به في سياق وضع ثوري كان أشبه بالمخاض على صعيد حسم خيارات الثورة وتوجهاتها الإستراتجية.

 

ولم تكن مباركة الإمام الخميني (رضوان الله عليه) لخطوة الطلبة الثوريين منحصرة في الاعتبارات المبدئية فقط، بل لأنّه رأى فيها ترسيما لقطيعة جذرية مع أمريكا وتحريرا لمجال الصراع معها، وكأن الثورة لا تكون ثورة إلا في إدامة هذا التناقض مع أمريكا على وفق هويتها الاستكبارية ونـزعتها في الهيمنة.

 

فلم يكن ممكنا البتة أن تنشأ علاقة دبلوماسية عادية بعد الثورة بين إيران الإسلام والولايات المتحدة الأمريكية، لأن منطق الثورة التطهيري والتطّهري كان يدفع نحو حتمية القطيعة بل الصراع بين ثورة إسلامية منفتحة على أفق المحرومين والمستضعفين وبين قوة تسلطية استكبارية تتعاطى في سياسياتها تجاه الشعوب بمنطـق القوة والاستلحاق. ولذلك لا يمكن النظر إلى حادثة اقتحام السفارة إلا باعتبارها تجلّ لهذا الصراع الحتمي بين منطق استكباري تعاملت به أمريكا مع الشعوب المستضعفة وبين منطق تحرّري خَلاصي وثوري انبثق كمعادلة جديدة في الصراع الدولي مع انتصار الثورة الإسلامية وبزوغ عهد المستضعفين.

 

ذهل العالم وهو يرى السفارة الأمريكية في قبضة الطلبة الثوريين، ولم تستوعب دوائر القرار الغربي كما إعلامه الحدث، ولم تذق أمريكا طعم إذلال كما أذاقها إياه الطلبة الثوريون وعلى مدى 444، دبلوماسيون يقدَّمون معصوبي الأعين أمام الكاميرات بصفتهم جواسيس ضالعين في جرائم التآمر على الشعب الإيراني، وسفارتهم تجوبها الكاميرات وتتوقف العدسات أمام الكم الهائل من الوثائق المفرومة التي تخلص منها الدبلوماسيون في لحظة الهجوم على وكرهم..لم تعرف أمريكا يوميات إذلال طويلة وقاسية تمس بكبريائها الزائف وغطرستها كما حصل على طول أشهر السيطرة على السفارة / الوكر.

 

لحق العار بأمريكا وقدّم الطلبة الثوريون مستمسكات قوية لإدانة أمريكا وفضحها في العالم، فالوسائل التجسسية التي اكتشفت في وكر التجسس، والوثائق التي وقعت في يد الطلبة، بما فيها تلك التي تم تمريرها في آلة الفرم (حيث تم تركيبها)..كل ذلك أظهر للعالم الدور التخريبي للبعثات الأمريكية، خاصة في دوّل ما كان يعرف بالعالم الثالث، حيث الوظيفة التآمرية هي الوظيفة الأساس لهذه البعثات والقائمة على معاكسة وإجهاض كل محاولة في التحرر من الأنظمة الديكتاتورية العميلة، والتخطيط للانقلاب على إرادة الشعوب كما حصل في إيران نفسها من خلال الإطاحة بحكومة مصدّق المنتخبة، وقد كان نصيب أمريكا من إزاحة هذا الأخير الحصول على 40 في المائة من أسهم شركة النفط الإيرانية القومية، أو كما حصل في التشيلي من خلال تدبير انقلاب عسكري دموي على حكومة منتخبة ديمقراطياً برئاسة سلفادور اللندي في العام 1973م تمخض عنه حكومة ديكتاتورية بزعامة بينوشي مدعومة أمريكيا، اقترفت الكثير من الجرائم من بينها اختفاء 130 ألف مواطن وتعليق المسار الديمقراطي حتى عام 1990م، إلى غير ذلك من نماذج التآمر على الشعوب وإجهاض مشاريعها التحررية.

 

بعد انتصار الثورة، جاءت ضربة السفارة، وإذلال أمريكا ليبرز معها الوجه التحرري للإسلام، وهو ما أسهم في تغيير الصورة النمطية عن الدين عموما وموقعه في الصراع لدى الكثير من الحركات والتنظيمات اليسارية في العالم العربي والإسلامي، وتهيأت معه عوامل كل هذه الصحوة الإسلامية التي غيرت الخارطة التنظيمية والفكرية في العالم الإسلامي.

 

انحسر اليسار وتقدمت الحركة الإسلامية في أكثر من ساحة، ولم يكن هذا التموقع المتقدم عائد بالضرورة إلى عناصر قوة في مشروع هذه الحركات، لكن الأكيد أن قوة الدفع التي أحدثها انتصار الثورة، وما أعقبها من إذلال الطلبة الثوريين لأمريكا في واقعة السفارة؛ وهو الإذلال الذي لن ينمحي من الذاكرة الأمريكية التاريخية؛ كل ذلك كان حاسما في إطلاق دينامية الإسلام السياسي عبر العالم، حتى ونحن نقر بأن الاعتبارات المذهبية والحرب المفروضة على الجمهورية الإسلامية الناشئة لم يسمحا لكثير من هذه الحركات بأن تنفتح بالشكل المطلوب مع مشروع الثورة الإسلامية، ولا بأن تتفاعل بقوّة مع الجهاز المفاهيمي الذي بلورته الثورة في سياق معركتها ضد الظلم العالمي.

 

لم تشهد أمريكا في تاريخها حالة من المواجهة الثقافية وعبر جهاز مفاهيمي ينهل من الرؤية الدينية ويعتمد اللغة القرآنية، كما حصل مع الثورة الإسلامية بحيث صارت تجسيدا للشيطان الأكبر، ورأس الاستكبار العالمي وعدوة المستضعفين في الأرض.

 

نعم وُوجهت أمريكا إيديولوجيا كنظام اقتصادي رأسمالي من خلال الأدبيات الماركسية، وفي برامج الأحزاب الشيوعية، واعتبرتها حركات التحرر في العالم ظاهرة امبريالية، ونابذتها الشعوب بالعداء والكراهية، لكن مأزقها تعمّق مع الرؤية الإسلامية الثورية التي أضفت عليها تطابقا مع الشيطان الأكبر في كيده وتآمره وتربّصه وفي عداوته للناس.

 

ولعلّ هذا يضعنا أمام حقيقة وهي أنّ أمريكا لا تصلح أن تكون صديقة للشعوب لأنّ معضلتها بنيوية تتصل بركائزها الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية، وتمتد إلى تاريخ تشكلها وإلى أخلاقياتها بكل المدلول السلبي للأخلاقية الأمريكية الناهلة من قيّم القوة والعلوّ في الأرض والغارقة في نـزعاتها العنصرية.

 

إنّ صورة الشيطان آبية عن التهذيب، ولن يغيّر رئيس من صورة أمريكا، وها هي سنتان من عمر الزمن الأمريكي في صيغته الأوبامية تؤكد أنّ أمريكا لن تتغير، إلاّ أن يُفرض عليها التغيّر؛ وذلك بيقظة الشعوب وبنضالها، وبافتكاكها لحقوقها السياسية والاقتصادية، وبفرض سيادتها على قرارها وعلى مجالها الحيوي، وبتدبير أمنها ضمن تكتلات إقليمية، بما يقطع دابر الوجود الأمريكي في أكثر من ساحة، وبما يفرض عليها القبول بوضع جديد تكون فيه دولة لكن من دون نـزعات استكبارية.

 

ولعل فشل المشروع الأمريكي في المنطقة، وانهيار صورتها الأخلاقية في العالم، وانهيار حلمها في (شرق أوسط جديد)، يجعل المسافة قريبة إلى مسرح اندحارها كلية عن منطقتنا، وما هو إلا شوط تاريخي حتى تقرّ أعين الأحرار بذلك بمثل ما قرّت به الأعين ذات يوم من شهر (آبان) يوم سقطت السفارة بيد الثوّار.