لقاء مع سماحة الشيخ مالك وهبي

حوار: السيّد ربيع أبو الحسن

 

قامت الثورة الإسلاميّة بتوفيق من الله، وبجهود شخصيّات مهمّة وعظيمة رفعت لواء جهاد التبيين، وقدّمت في سبيله تضحيات جمّة، وصل بعضها إلى حدّ الشهادة. كان على رأس تلك الشخصيّات العلماء، أمثال: السيد بهشتي، والشيخ مطهّري، والسيد دستغيب، والسيّد نوّاب صفوي، الذي تأثّر به سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله خلال فترة شبابه.

 

حول مظاهر جهاد التبيين ومصاديقه، خاصّة في بدايات الثورة الإسلاميّة المباركة، صور ومشاهد وذكريات يحدّثنا عنها سماحة الشيخ مالك وهبي في هذا اللقاء.

 

ترحّب مجلّة بقيّة الله بإطلالتكم على صفحاتها، في استحضار جهود عدد من العلماء المضحّين في سبيل جهاد التبيين إبّان الثورة، التي عايشتم مرحلةً من أيّامها بحكم دراستكم الحوزويّة في الجمهوريّة. بداية، ما ميزة جهاد التبيين في تلك المرحلة؟

 

جهاد التبيين لا يعني مطلق الانشغال ببيان الحقائق، والأفكار، والمفاهيم، والأخلاقيّات، والأحكام الشرعيّة، والضوابط والحدود؛ نعم، هذا تبيين، لكنّه لا يُسمّى جهاد تبيين. فالجهاد لا يُطلق عليه جهاداً إلا إذا كان ببذل قصارى الجهد في سبيل تحقيق هذا الغرض، ألا وهو التبيين. وعادةً، كلمة جهاد تُستعمل في ساحة حرب، أو في ما يشبه ساحة حرب، ولذلك، فإنّ من يمارس هذا النوع من العمل يكون مجاهداً.

 

ثمّة مجموعة من الميزات التي توفّرت في جهاد تبيين الثورة الإسلاميّة، نذكر منها:

1. قول الحقّ: إنّ التاريخ الإسلاميّ ككلّ، كان يضجّ بجهاد التبيين، ولنضرب لذلك مثلاً دعوة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، التي كانت تسير في طريق جهاد التبيين، حيث نتج عن ذلك أن ضُيَّق عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وحوصر، وهُجّر، وحورب لأنّه كان يقول كلمة الحقّ. ومع ذلك، دافع صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن كلمته؛ فهذا جهاد تبيين. وعلماء الثورة ساروا على النهج نفسه، إذ دأبوا على تبيان الحقائق للناس.

 

2. التبيان رغم الخطر: حين يكون الإنسان في معرض الخطر، ويقوم بالتبيين غير عابئ بما يحيط به، فهذا يُسمّى جهاد تبيين، ويكون المرء إزاء ذلك من المجاهدين. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حقّ عند سلطان جائر"(1). والتبيين يكون جهاداً باختلاف الحالات والظروف، ففي بعض الحالات مثلاً، لا يمنعك النظام أو المستكبر أو الحاكم الظالم من بيان الأحكام الشرعيّة، فهذا تبيين وليس جهاداً. ولكن حينما تبدأ بتبيين الحقوق ومسؤوليّات الحاكم ودور الأمّة في مواجهة الظلم، سوف يعترض طريقك ذلك النظام الظالم ويمنعك، وعندها، يسلك تبيين هذه الأمور مسار الجهاد.

 

مثلاً: كانت فترة الشهيد بهشتي فترة حرجة جدّاً، حينها كان نفاق "بني صدر" بدأ يظهر، فقد كان يميل إلى صفوف مجاهدي خلق. وبما أنّه كان رئيساً للجمهوريّة، ولديه تفويض سابق بتولّي منصب قيادة القوّات المسلّحة، فما كان منه إلّا أن ضيَّق على الجيش وعلى الحرس وحدّ من إمدادهم بالسلاح، ممّا أتاح لصدّام حسين التصرّف بما يحلو له أثناء الحرب المفروضة، عندها كان الجزء المهمّ من النشاط الإعلاميّ لبيان الحقائق واقعاً على عاتق السيّد بهشتي، فكان يتولّى الإضاءة على انحرافات "بني صدر"، ولقوّة تأثيره فقد قُتل ورحل شهيداً.

 

3. رفض التحدّث بما يريد الظالم: لقد أرادوا من الإمام الحسين عليه السلام أن يبايع ويقول "بايعتك" ليعطي شرعيّة للحاكم الظالم، ولكنّه رفض ذلك وقال كلمته، فكان من نتيجة ذلك أن حُورب. فجهاد التبيين له شقّان: الأول، أن ترفض قول ما يريده الظالم. والثاني، أن تصرّ على قول الحقّ وإن رفضه الظالم، أو منعك.

 

4. مواجهة البدع بالحقائق: حين بدأ الإمام الخمينيّ قدس سره حركته بتبيان الحقائق، كان يرفض أن يُروَّج لأيّ بدعة أو أيّ فكرة خاطئة باسم الدين، فكان يتصدّى لمواجهتها ودفع الشبهات عنها. وقد اشتهر لدينا أنّ مثل هذه المواجهة من الواجبات الشرعيّة، وأحياناً قد لا تكون المواجهة إلّا بالتبيين، من خلال بيان الحقائق والأكاذيب والبدع والافتراءات على الدين.

 

ما هي أسباب تعلّق الناس، خاصّة الشباب، بالإمام الخمينيّ قدس سره، وارتباطهم به، والثقة الكاملة به، رغم وجوده في المنفى وبُعد المسافات؟

 

أوّل خطوة خطاها الإمام الخمينيّ قدس سره في التبيين هي الردّ على كتاب "أسرار الألف عام"، الذي كان ينشر مفاهيم مغلوطة، فكتب الإمام، وهو صغير في السنّ، كتاب "كشف الأسرار"، الذي ردَّ فيه على تلك المغالطات. وقد أثّر هذا المؤلَّف في وعي الشباب، ونمّى لديهم المعرفة بالإمام وبفكره وقوّة حجّته وبصيرته، فضلاً عن متابعته قدس سره الدقيقة لمجريات الأمور والأحداث التي كانت تجري في إيران حينها، حيث كان المذياع لا يفارقه، شاهدناه وهو يتوضّأ ويحمل المذياع معه، وكان قدس سره دوماً يرسل التسجيلات والبيانات للشعب، ويطلعهم على مخطّطات الأعداء، ويعرّيها، كان صادقاً في كلّ ما يقوله، وفي كلّ مسار في تبيان الحقائق، سواء في المجال السياسيّ أم الحقوقيّ أم الاجتماعيّ وغير ذلك، كان الإمام قدس سره يحدّد مكامن الخلل والخطأ في مختلف المراسيم والقوانين المنافية للإسلام ولمصلحة البلد، التي تصدر عن حكومة الشاه. وقد استطاع قدس سره ببيانه ذاك أن يوجّه صفعةً للنظام من خلال تبيين الأخطاء والحقائق، فضلاً عن التأثير في الناس لمكانته العلميّة، لدرجة أنّ الشاه لم يحتمل ذلك، وأراد من المؤمنين عدم الانصياع للإمام قدس سره، ولكنّه لم يستطع منعهم، فخرجوا في مسيرة؛ تأييداً لكلام الإمام قدس سره. حينها أصدر الشاه أمراً بإطلاق النار على المتظاهرين وبسجن الآلاف منهم؛ لأنّهم أرادوا الدفاع عن كلمة الحقّ فقط. لقد كان الناس يحبّون الإمام وكانت محبّتهم إيّاه قائمة على الثقّة به.

 

حظيت الثورة بعدد من الشخصيّات الشامخة. بمَ تميّزت هذه الشخصيّات؟ وما هي ميزة الشهيد نوّاب صفوي تحديداً حتّى يقول سماحة القائد دام ظله أنّه قد تأثّر في شبابه بشخصيّته الثوريّة؟

 

كان عمل إيران الأساسيّ، بعلمائها وشعبها، هو بيان منافذ الشاه وظلمه وارتباطه بالنظام السوفياتيّ سابقاً ثمّ الأمريكيّ، وعلاقاته مع العدوّ الإسرائيليّ؛ أي تبيين كلّ هذه الحقائق، ولأجل هذا خاض العلماء جميعاً هذه المعركة. في بداية الثورة مثلاً، كان ثمّة نقاش حول تدوين مسألة ولاية الفقيه في الدستور. طبعاً، حُوربت هذه الفكرة من قِبل من كانوا يسمّون أنفسهم وطنيّين، بينما أصرّ أنصار الإمام الخمينيّ قدس سره -وهم الأغلبيّة- على أن تُدرج، مقابل بني صدر. في تلك المرحلة، لم يصدر الإمام الخميني قدس سره أمراً، ولم يقل كلمة تحدد موقفه؛ كي لا يُحسب هذا تدخلاً منه. فترك الأمور تسير بمسارها الطبيعي؛ وباختيار الناس، إلى أن قامت صحيفة "الجمهورية الإسلامية" بمقابلة السيّد الكلبيكاني قدس سره، وهو مرجع معروف ومن الداعمين للإمام الخمينيّ قدس سره، الذي أعلن من خلالها موقفه الرائع حيث قال: "إن لم تُدوّن مادة تتعلّق بولاية الفقيه في الدستور، فالحكم سيكون حكم طاغوت، وما سيجعله حكماً عادلاً هو ولاية الفقيه". فكان لكلامه تأثير كبيربين الناس.

 

أمّا الشهيد نوّاب صفوي، فهو من الشخصيّات التي تأثّر بها الإمام الخامنئيّ دام ظله مبكّراً، وقد كان يحضر دروسه الثقافيّة التي كان يقيمها في مشهد، ولتميّزه بجرأته في قول الحقّ فقد أُعجب به الإمام دام ظله، مثل هذه الشخصية الجهاديّة أثرت في رجال الثورة فيما بعد.

 

لقد استلزم جهاد التبيين في تلك الفترة تقديم تضحيات جسام. فما هي أبرز المخاطر التي تعرّض لها العلماء؟

 

لقد اغتال هذا النظام وجوهاً علميّة ومؤثّرة في التوجّه الثقافيّ العام وفي المسار السياسيّ؛ لقوّة بيانها وكلمتها، مثل الشهيد مطهّري، والشهيد بهشتي، الدكتور باهنر والشهيد رجائي، والدكتور مفتّح الذي كان مسؤولاً عن الجامعات، والشهيد دستغيب، وكذلك عالم الدين الشهيد حسن المدرّس، الذي استشهد بسبب مواقفه والكلام الذي كان يصدر عنه في مجلس النواب، أو مجلس الرقابة على الدستور. فقد استشهد هؤلاء وغيرهم بسبب بيانهم وقدرتهم على التأثير في البيان.

 

وقد تعرّض بعضٌ آخر من العلماء إلى الاعتقال والسجن في سجون الشاه نتيجة ذلك. أي خطيب جمعة مثلاً، كالشهيد دستغيب أو المرحوم الطالقاني أو السيّد القائد دام ظله، كان يتعرّض للاعتقال على يد جهاز المخابرات من على منبر المسجد بسبب مواقفه وكلامه. ولكنّ هذه الإجراءات ما كانت لتثنيهم أو تُضعفهم، إذ كانوا سرعان ما يعودون إلى إطلاق المواقف نفسها بمجرّد إطلاق سراحهم.

 

هل من كلمة أخيرة توجّهونها سماحتكم في نهاية المقابلة؟

 

نشهد اليوم تحدّيات تقتضي همّة في جهاد التبيين، منها: التشويش الذي يطال مسألة ولاية الفقيه، وحقوق المرأة أيضاً. فحقوق المرأة في إيران محميّة أكثر بكثير من الأنظمة الأخرى، خصوصاً في تلك التي تستغلّ أيّ حدث لتصوّب سهامها نحو الجمهوريّة. فالمرأة تعاني في الغرب وفي بعض البلدان بشكل كبير، لكن يُتغاضى عن ذلك، بينما إذا حدث شيء بسيط في إيران، يُضخّم إعلاميّاً؛ لأنّ أولئك ظلام، ولا يظهر ظلامٌ في ظلام، بينما إيران هي نور، فعندما تظهر أي نقطة سوداء يختلقونها، يقومون بالتصويب مباشرةً عليها.

 

لقد أولد جهاد التبيين الجمهوريّة الإسلاميّة؛ إذ إنّ كلّ الثورة كانت دفاعاً عن الحقّ. لذلك، تعدّ الجمهوريّة إنجازاً طال انتظاره عمّا يزيد عن ألف عام، إنجاز كان يحلم في تحقيقه كلّ إمام من أئمّتنا عليهم السلام، على الرغم من المكائد والحروب.

 

 

(1) الهندي، كنز العمّال، ج 3، ص 64.

 

المصدر: مجلّة بقيّة الله