جهـــاد التبيين (3)

آية الله الشيخ عباس الكعبي(*)

 

يتّسم العمل الثقافيّ بإحياء العقول، والضمائر من جهة، كذلك بتحريك العواطف والأحاسيس من جهة أخرى؛ إذ ينبغي أن يوازن بين العقل والعاطفة، فلا يتخلّى عن العواطف والأحاسيس لمجرّد الاستناد إلى بحوثٍ عقليّة، ولا يستغرق بالعواطف والأحاسيس فقط، فتحريك العاطفة يجب أن ينبثق من أسس معرفيّة عقليّةٍ صحيحة. هذا أحد تحدّيات العمل الثقافيّ، الذي يمثّل نجاحه جهاداً في التبيين.

 

اليوم، في ظلّ وجود موانع وتحدّيات عدّة أمام العمل الثّقافيّ، يتكفّل بعرضها هذا المقال، وكيفيّة مواجهتها، وهل يقتصر دور جهاد التبيين على معالجة مشاكل الإيمان فقط؟

 

•الحبّ: ضمان التأثير

في جهاد التبيين ينبغي توليد الشوق، والرغبة، والعزم، والإرادة، من خلال تصحيح دائرة الحبّ والبغض؛ لأنّ تركيز الإنسان على دائرة الحبّ والبغض يعدُّ أيضاً عملاً ثقافيّاً. هل الدين إلّا الحبّ؟ يمكن للمرء معرفة الله بالعلم، وكذلك التوحيد، والمعاد، والقيامة، ولكنّه في مقام العمل يرتكب المعاصي؛ لأنّ الشوق، والرغبة، والعزم والإرادة لديه بمستوى ضعيف، فهذه المشاعر لم تنجم عن الحبّ. فكما نعالج دائرة العقل، ينبغي أن نعالج دائرة الحبّ والبغض في النفوس أيضاً. يقول الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾ (البقرة: 165)؛ هذه الآية تركّز على الحبّ، كما في دعاء كميل: "فهبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك"؟ 

 

الحبّ الذي ينبع من العقل والعلم والمعرفة، ينبغي أن يتأصّل في العمل الثقافيّ. 

 

•قيمنا تنبثق عن المعرفة

كما أنّ القيم تنبثق عن المعرفة؛ مثلاً: ينبثق كلٌّ من العزّة والعزم وكرامة الإنسان عن التوحيد، أمّا منظومة الأخلاق فتنبثق عن العقيدة. ثمّة ترابط بين التوحيد والأخلاق والفقه؛ فالفقه والقانون قائمان على الأخلاق، ومنظومة الأخلاق قائمة على التوحيد. والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين عرّف العلم لم يقل: العلم ثلاثة: عقائد، وأخلاق، وفقه! إنّما قال صلى الله عليه وآله وسلم: "العلم ثلاثة: آيةٌ محكمةٌ (أي عقيدة تتحوّل إلى آية إلهيّة محكمة ترسّخ الإيمان في النفوس)، أو فريضةٌ عادلةٌ (أي فقهاً يساهم في التطوير، والبناء، وتحقيق العدالة)، أو سنّةٌ قائمةٌ"(1) (أي ثقافة سائدة تتناسب مع الوضع الاجتماعيّ). لذلك، نحتاج إلى منظومةٍ متكاملةٍ، وخلقِ بيئة ملائمة حتّى يكون العمل الثقافيّ عملاً متكاملاً؛ لأنّنا إن امتلكنا نظاماً معرفيّاً، وقيميّاً، وسلوكيّاً دون امتلاك بيئة ملائمة لهذا النظام، ففشله محتّم.

 

لذلك، يجب أن يُنسج ترابطٌ بين هذه الأمور، ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران: 31). علّموا أولادكم محبّة الله ورسوله محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام، فهذا يؤثّر في الخطاب الثقافيّ أيضاً. ولتكن تلك المحبّة منبثقةً عن المنظومة المعرفيّة.

 

•الحبّ في الله والبغض في الله

ورد في الشعر: "إنَّ المحبَّ لمن أحبّ مطيع". وفي الآيات الشريفة: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: 23) و ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾ (سبأ: 47) و﴿مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ (الفرقان: 57)؛ فالمودّة سبيل إلى الله، وصراط الله المستقيم؛ لذلك من المهمّ أن نربط بين هذه الأمور.

 

في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: "من كان لله مطيعاً، فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً، فهو لنا عدوّ، وما تنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع"(2). يجب غرس محبّة أهل البيت عليهم السلام في النفوس، وأن تكون محبّتهم باعثاً لطاعة الله واجتناب المعاصي، لا أن تكون مبرّراً للمعاصي –والعياذ بالله-؛ فهذا ليس عملاً ثقافيّاً صحيحاً. يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحبّوني لحبّ الله عزّ وجلّ، وأحبّوا أهل بيتي لحبّي"(3)، فالشاهد هنا مسألة الحبّ في الله والبغض في الله، وربط هذه المشاعر بدائرة العقل والمعرفة. هذا أيضاً يتعلّق بالعمل الثقافيّ. كما أنّ مَهمّة تغيير الأعراف والعادات كانت إحدى مهامّ الأنبياء عليهم السلام لجعلها منسجمةً مع التوحيد، والأخلاق الفاضلة، والشريعة، والصلاح. 

 

•من الموانع: الأعراف والتقاليد

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 170)؛ قد تكون الأعراف والتقاليد من موانع العمل الثقافيّ الجادّ، حيث لا إمكانيّة لمحاربتها بشكلٍ كامل، بل يجب تصحيحها بما ينسجم مع الأسس المعرفيّة والقيم الصالحة. جاء الإسلام للتصحيح: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199) في الوقت الذي حارب فيه الحكم الجاهليّ: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة: 50). كما أنّ حديث السحرة وفرعون وجماعته مع موسى وهارون عليهما السلام: ﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ﴾ (يونس: 78)، دليل على أنّ موسى وهارون عليهما السلام لم يريدا الكبرياء، بل هدفا إلى تحريك القوم نحو عبادة الله تبارك وتعالى.

 

•كيف يكون العمل ثقافيّاً؟

صحيح أنّ المؤلّفات في مكتباتنا كثيرة ومتنوّعة؛ من عقائد، وأخلاق، وفقه، وغيرها، ولكن الاقتصار على الاستشهاد بحديث ما من المكتبة لا يعدّ عملاً ثقافيّاً، وكذلك المتون؛ فهي وحدها لا تعدُّ عملاً ثقافيّاً. بل المطلوب تدريس تلك المتون، وصياغتها على نحو تصبح نظاماً معرفيّاً، وقيميّاً، وسلوكيّاً متكاملاً، عندها يكون العمل ثقافيّاً.

 

من هنا، ينبغي للدورات الثقافيّة أن تنبثق عن نظام معرفيّ وقيميّ وسلوكيّ متكامل، لا أن تقتصر العقائد على الدورات فقط. 

 

•خطاب ثقافيّ متنوّع

ما هو المنطق المعرفيّ والقيميّ والسلوكيّ الذي ينبثق منه هذا الخطاب؟

 

رسم الله تبارك وتعالى للإنسان خطاباً ثقافيّاً غنيّاً في مناسبات عدّة، مثل خطبتي صلاة الجمعة، وفيهما دعوة إلى التقوى أو شهر رمضان الفضيل، وهو "شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله"، أو حجّ بيت الله الحرام؛ وكذلك شهري محرّم وصفر، وزيارة الأربعين، وزيارة المراقد المطهّرة؛ فهذه كلّها تشكّل بيئة ثقافيّة تتناسب مع النظام المعرفيّ والقيميّ والسلوكيّ المتكامل، وينبغي أن نستفيد منها، ونربط بينها وبين الشعائر وتنمية العقول والقلوب من خلالها؛ لتحويل هذا الخطاب إلى واقعٍ تطبيقيٍّ سائد. 

 

•صناعة التغيير

إنّ العمل الثقافيّ الناجح هو الذي يصنع تغييراً؛ فلا فائدة من كثرة الدورات الثقافيّة مثلاً ما لم تصنع تغييراً حقيقيّاً. ينبغي أن نحوّل الواقع العمليّ السائد بين الأفراد والمجتمع، من واقع (ما هو موجود) إلى واقع (ما ينبغي أن يوجد). وهذا يحتاج إلى حركة رصد وتغيير ثقافيٍّ مستمرّ. فكما أنّنا في جهاد النفس نحتاج إلى المشارطة، والمراقبة، والمحاسبة، والمعاتبة، والتقييم، فإنّ العمل الثقافيّ (جهاد التبيين) يجب أن يكون قائماً على عناصر عدّة، لا يمكن إدارته دونها، منها: التنظيم، والتخطيط، والهيكليّة العامّة، والبرمجة، والرقابة، والإشراف والمحاسبة، ثمّ تطوير البرامج بما يتلاءم مع الأهداف. 

 

هذه الأمور كلّها تسمّى إدارة عامّة تبليغيّة، والإدارة التبليغيّة ليست إدارة المبلّغين فحسب، بل إدارة النظام المعرفيّ والقيميّ والسلوكيّ المتكامل. 

 

•الهندسة المعرفيّة

ينبغي أن يعرف كلّ واحد منّا موقعه في الهندسة العامّة المعرفيّة. وهذه الهندسة تستهدف أربعة عناصر: 

 

1- صناعة الإيمان في المجتمع؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وأئمّته عليهم السلام واليوم الآخر، والقيادة الصالحة الكفوءة. 

 

2- معالجة مسألة التقوى، والالتزام بالقيم والتكليف الشرعيّ.

 

3- معالجة مسألة الحقوق؛ حقوق الله وحقوق الناس.

 

4- صناعة الأمل في النفوس، ودعم حركة التقدّم، ومعالجة مشاكل الإنسان المعاصر. 

 

•التبيين: صناعة وعلاج

كثيرة هي المشاكل التي يعاني منها أيّ مجتمع من المجتمعات، مثل الابتعاد عن الله، والإلحاد، والنزعة الذاتيّة الشخصيّة، وهضم الحقوق، والاعتداء على الآخرين، وحالة الإحباط واليأس المسيطرة على الإنسان. وهنا يكمن دور العمل الثقافيّ في إيجاد حلّ لهذه المشاكل وغيرها.

 

 

(*) عضو مجلس الخبراء في الجمهوريّة الإسلاميّة.

1. الكافي، الكليني، ج 1، ص 32.

2. (م. ن.)، ج 2، ص 75.

3. الأمالي، الصدوق، ص 446.

 

المصدر: مجلة بقية الله