جهاد التبيين (1)

آية الله الشيخ عباس الكعبي(*)

العمل الثقافيّ مهمّ للغاية؛ فهو يجعل الأمّة تستعيد بناء نسيج مجتمعها بشكلٍ كامل. وعملكم الثقافيّ هذا هو في خدمة الإسلام ككلّ؛ لا يُغطّي جمهور حزب الله داخل لبنان فحسب، بل يشمل كلّ أبناء المقاومة في المنطقة بأسرها. إنّكم في مرحلة الجهاد الثقافيّ، الذي قد يكون في هذه الظروف أكثر أهميةً من الجهاد القتالي والعسكريّ؛ فالجهاد أشمل من أن يكون ثقافيّاً، أو اقتصاديّاً، أو اجتماعيّاً، أو صحيّاً، أو أمنيّاً، أو عسكريّاً.

 

الجهاد الثقافيّ وعناصره

الجهاد أعمّ من القتال، ومن المعلوم أنّ الجهاد المكّيّ كان قبل الجهاد المدنيّ؛ وثمّة سبع آيات تحدّثنا عن ذلك؛ إذ كان جهاداً ثقافيّاً، وجهاد الدعوة إلى الله، والهداية، والمقاومة.

 

الجهاد الكبير هو جهاد ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ (فصلت: 30)؛ أي جهاد تقوية العزم والإرادة، ومعرفة الله، وتهذيب النفس، والحضور الفاعل في ساحات الجهاد الثقافيّ، كنموذج الآية: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ (الفرقان: 52). وسورة الفرقان سورةٌ مكّيّة، والضمير في الآية السّابقة (به) يرجع إلى القرآن؛ أي جاهد بالقرآن جهاداً كبيراً، أو يرجع إلى جملة ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾؛ فيكون مفاد الآية: جاهد بوسيلة عدم الاستسلام لجبهة مشركي قريش الطغاة جهاداً كبيراً.

 

وكذلك ما ورد في بداية سورة العنكبوت ونهايتها: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (العنكبوت: 6)، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾(العنكبوت: 69).

 

متى يكون الجهاد الثقافيّ جهاداً؟

حين تتوفّر فيه أربعة عناصر، وهي:

 

- العنصر الأوّل: إنتاج القوّة: حتّى يكون أيّ عملٍ جهاداً، سواء كان ثقافيّاً، أو اجتماعيّاً، أو سياسيّاً، أو اقتصاديّاً، أو أمنيّاً، أو عسكريّاً، ينبغي أن تكون المبادرة تحويلَ الضعف إلى قوّة. في الجهاد الثقافيّ مثلاً، نحاول أن نواجه الحرب الناعمة من خلال صناعة القوّة الناعمة. فالحرب الناعمة هي حربُ احتلال العقول والقلوب، والتسقيط والتجنيد، والسيطرة على الأفكار، وتحويل جنود الإسلام إلى أعداء له، والبيئة الحاضنة والمحافظة على المقاومة، إلى بيئة معادية لها. لذلك، نحتاج إلى تحويل الثغرة والضعف إلى قوّة ممانعة حصينة.

 

- العنصر الثاني: أن تكون هذه القوّة في سبيل الله: بمعنى أن تكون لله حصراً، لا لأنفسنا. وسبيل الله يعني المصلحة العامّة، ومصلحة الإسلام والمسلمين، وسدّ الثغور في مواجهة أعداء الدين.

 

للإمام الخمينيّ قدس سره كلمة معروفة عندما التقى أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلاميّة في العراق. كان آية الله الشهيد السيّد محمد باقر الحكيم قدس سره حاضراً آنذاك، وكذلك آية الله المرحوم السيّد محمود الهاشميّ الشاهروديّ ورفقاؤه، فقال لهم الإمام قدس سره: "حاولوا أن تعملوا لله من خلال جهادكم، ليس للوصول إلى السلطة. عندما جاء النداء الإلهيّ للنبيّ موسى عليه السلام لمقارعة فرعون، كان الهدف من ذلك إنقاذ بني إسرائيل، لا أن يكون موسى عليه السلام في الحكم بعد فرعون. وأنتم حاولوا أن تجاهدوا أنفسكم وتعملوا لله".

 

فكما أنّ العنصر الثاني من الجهاد الميدانيّ يجب أن يكون في سبيل الله لا في سبيل النفس، كذلك في الجهاد الثقافيّ؛ نحاول من خلال صناعة القوة أن يكون المجتمع مطيعاً لله وليس لنا، غير تابعٍ لنا ولبيئتنا، ولا نستفيد منه استفادةً شخصيّةً، بل يجب أن تكون الاستفادة إلهيّة، وأن يكون المجتمع مؤمناً وتقيّاً. فصناعة الإيمان، والتقوى، والبصيرة الدينيّة والأخلاقيّة والسياسيّة يجب أن تكون من أجل طاعة الله وتحكيم سيادته.

 

- العنصر الثالث: أن يكون في مواجهة العدو: ينبغي أن نعرف من هو العدوّ الأوّل للإسلام؟ من العدوّ الذي نواجهه؟ وما هي خططه وبرنامجه؟ الجهاد الثقافيّ ينبغي أن يكون في مواجهة خطط العدوّ ومكره، وإبطال هذه الخطط، وإلّا لا يُعدّ جهاداً.

 

- العنصر الرابع: أن يكون تحت ظلّ قيادةٍ كفوءةٍ شرعيّةٍ، سواءٌ كانت هذه القيادة قيادة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف أو نائب الإمام. وبحمد الله، نتمتّع اليوم بقيادة كفوءةٍ، وشرعيّةٍ، وصالحةٍ، ومتماسكةٍ بقيادة الإمام الخامنئيّ دام ظله.

 

من أهداف الجهاد

إذا لاحظنا هذه العناصر، يكون عملنا عملاً جهاديّاً، حتّى لو كان هذا العمل عملاً سياسيّاً كما في الانتخابات؛ فالهدف من الانتخابات ليس فوز الكتلة الفلانيّة أو النائب الفلانيّ، بل الهدف أن ينتصر الإسلام، ويندحر العدوّ؛ أي أمريكا، وتعلو كلمة المقاومة، هكذا يصبح الجهاد سياسيّاً.

 

كما أنّ الهدف من الجهاد الاقتصاديّ هو الإنتاج الصناعيّ-الزراعيّ، وتحقيق الاكتفاء الذاتيّ حتّى لا يكون جمهور المقاومة أسيراً في يد الأعداء وذليلاً لهم.

 

كذلك يجب في الجهاد الثقافيّ تأصيل الإيمان والتقوى في النفوس، حتّى يستطيع جمهور المقاومة أن يواجه العدوّ ولا يكون أسيراً لفكره. وبهذا يتحقّق الجهاد الثقافيّ، وأنتم في مرحلة جهادٍ ثقافيٍّ حقيقيّة.

 

ما هو العمل الثقافيّ؟

العمل الثقافيّ عبارة عن "حركةٍ شاملةٍ، في محاولة التأثير على العقول، والضمائر، والعواطف، والأحاسيس، والأعراف، والعادات الفرديّة والاجتماعيّة، بهدف تصحيحها وتغييرها"، من خلال:

 

1- عرض نظامٍ معرفيٍّ وقيميٍّ وسلوكيٍّ جامعٍ ومتكاملٍ. فحين نقول "عمل ثقافيّ"، ينبغي أن نملك نظاماً معرفيّاً، وقيميّاً، وسلوكيّاً جامعاً ومتكاملاً.

 

2- معرفة ماذا نبلّغ، ثمّ نروّج له ونقوم بتبليغه ضمن منظومةٍ متكاملةٍ.

 

3- خلق بيئةٍ ملائمةٍ لهذا النظام المعرفيّ، والقيميّ، والسلوكيّ الجامع والمتكامل الذي نبلّغه ونروّج له، بعناصر تبليغ مختلفة، سواء كانت محاضرة، أو عرض فيلم، أو درس، أو ورشة عمل، أو دورة تبليغية أو ما شابه ذلك، لخلق بيئة ملائمة له، وتحويله إلى واقع تطبيقيّ سائد بين الأفراد والمجتمع.

 

أمّا تفسير هذا التعريف؛ أي العمل الثقافيّ، فسنتعرّف إليه في العدد المقبل بإذن الله.

 

 

(*) عضو مجلس الخبراء في الجمهوريّة الإسلاميّة.

 

المصدر: مجلة بقية الله