المخاطب: السيد أحمد الخميني‏

بني:

أحياناً أرى أنك تظهر الانزعاج والقلق من التهم المؤلمة وترويج الشائعات الكاذبة..

أولاً: يجب أن أقول لك.. ما دمت حياً وتتحرك ويراك الآخرون منشأ تأثير فإن الانتقاد والتهمة واختلاق الشائعات ضدك أمور لا يمكن اجتنابها..

العُقد كثيرة.. والتوقعات المتزايدة وألوان الحسد كثيرة.. من كان له دور فاعل حتى إذا كان لله مائة بالمئة فلن يمكنه أن يكون بعيداً عن تجريح أصحاب الأهواء السيئة.

أنا شخصياً أعرف عالماً جليلا تقيا، لم يكن يقال عنه طيلة الفترة التي سبقت وصوله إلى رئاسة جزئية إلا الخير ـ نوعاً ما ـ وتقريباً كان مقبولاً عند أهل العلم وغيرهم. بمجرد أن توجهت النفوس إليه وحصل على مكانة دنيوية، ولو أنها لا تكاد تذكر بالنسبة إلى مقامه (المعنوي)، أصبح مورداً للتهمة والأذى وأنواع الحسد وغلت (مراجل) العقد ضده، وظل حاله كذلك طيلة الفترة التي أمضاها على قيد الحياة..

وثانياً: يجب أن تعلم أن الإيمان بوحدة الإله ووحدة المعبود ووحدة المؤثر لم يصل-كما ينبغي - إلى قلبك.. إبذل الجهد لتصل كلمة التوحيد - التي هي أعظم كلمة وأسمى جملة - من عقلك إلى قلبك.. فإن حظ العقل هو ذلك الاعتقاد البرهاني الجازم.. وإذا لم يصل حاصل هذا البرهان بالمجاهدة والتلقين إلى القلب فإن فائدته وأثره لا يكادان يذكران..

كثيراً ما يكون بعض هؤلاء، أصحاب البرهان العقلي والاستدلال الفلسفي أكثر من غيرهم في شَرَك إبليس والنفس الخبيثة "أرجُل الاستدلاليين خشبية" (7 ـ *ترجمة صدر بيت لمثنوي وترجمة عجزه: والأرجل الخشبية لا يقر لها قرار.). ولا تتبدل هذه الخطوة البرهانية والعقلية بخطوة روحانية وإيمانية إلا عندما تصل من أفق العقل إلى مقام القلب ويقبل القلب ما أثبته الاستدلال العقلي..

بني:

عليك بالمجاهدة لتودع القلب عند الله، ولا ترى مؤثراً غيره.. أوليس عامة المسلمين المتعبدين يصلون في اليوم والليلة عدة مرات ـ والصلاة زاخرة بالتوحيد والمعارف الإلهية ويقولون عدة مرات في اليوم والليلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}(الفاتحة/5). ويتلفظون أن العبادة والإعانة مختصتان بالله..

إلاّ أنهم يتذللون ويتزلفون لكل عالم وقوي وثري، إلاّ المؤمنون بحق وخواص الحق سبحانه.

وأحياناً يأتون بأكثر مما يأتون به للمعبود.. ويستمدون العون من كل شخص ويتمسكون بكل قشة من أجل آمالهم الشيطانية وهم غافلون عن قدرة الحق..

بناءً على هذا الاحتمال: يكون مورد الخطاب في (﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) متوجهاً إلى الأشخاص الذين وصل الإيمان إلى قلوبهم...................

هذه التقوى ليست التقوى عن الأعمال غير اللائقة. إنها التقوى عن التوجه إلى غيره.. تقوى عن الاستمداد من غير الحق والعبودية لغيره..

تقوى عن فسح المجال لغيره جلّ وعلا إلى القلب، تقوى عن الاتكال والاعتماد على غيره..

هذا الذي ترى أننا ـ نحن وأمثالنا ـ مبتلون به، ويؤدي إلى خوفي وخوفك من الشائعات ونشر الأكاذيب والخوف من الموت والتحرر من الطبيعة و.... هو من هذا القبيل الذي يجب الاتقاء منه..

وفي هذه الصورة فإن المراد من {..وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ..}(الحشر/18) الأفعال القلبية التي لها في الملكوت صورة، وفوق ذلك أيضا صورة.. والله خبير بخطرات قلوب الجميع..

وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الفعالية ويهمل تربية نفسه، ويجتنب كل شخص وكل شيء ويختار العزلة.. على خلاف السنة الإلهية والسيرة العملية لحضرات الأنبياء العظام والأولياء الكرام..

هم عليهم صلوات الله وسلامه.. بذلوا في سبيل الأهداف الإلهية والإنسانية كل الجهود اللازمة.. ولكن لا على شاكلتنا نحن عميَ القلوب الذين ننظر إلى الأسباب على نحو الاستقلال..

بل كانوا يعتبرون كل شيء في هذا المجال- وهو من مقاماتهم العادية - منه جل وعلا..

وكانوا يرون الاستعانة بكل شيء استعانة بالمبدأ.. وأحد الفوارق بينهم وبين الآخرين هو هذا.. أنا وأنت وأمثالنا ننظر إلى الخلق والاستعانة بهم غافلين عن الحق تعالى..

وهم كانوا يرون الاستعانة به في الواقع، حتى إذا كانت في صورة الاستعانة بالأدوات والأسباب وكانوا يرون الحوادث منه رغم أن الأمر في الظاهر عند أمثالنا غير ذلك..

ومن هنا فإن الحوادث مهما كانت منغصة فإنها كانت عندهم هنيئة..

بني:

هناك أمر يثلج أفئدتنا نحن المتخلفين عن "قافلة الأبرار" وهو ـ في ما أرى ـ قد يكون دخيلاً في بناء من يكون بصدد بناء نفسه..

يجب أن ننتبه إلى أن منشأ فرحنا بالمدح والثناء واستيائنا من الإنتقادات والشائعات هو حب النفس الذي هو أخطر شراك إبليس اللعين..

نحن نميل أن يكون الآخرون مداحين لنا.. حتى ولو صوَّروا أفعالنا العادية، وحسناتنا المتخيلة أكبر من حجمها بمئات المرات..

ونحب أن تكون أبواب انتقادنا ـ ولو بحق ـ موصدة أو يتحول انتقادنا إلى مديح.

ننزعج من الحديث عن معايبنا لا لأنها ليست حقا، ونفرح بالمدح والثناء لا لأنه حق بل لأنه "عيبي أنا" و"مدحي أنا".

إذا صدر منك أمر ما، وصدر عين ذلك الأمر أو أفضل منه وأسمى من شخص آخر، خصوصاً أولئك الذين هم زملاؤك، وانبري المداحون لمدحه سيكون ذلك مزعجا لك..

وأدهى من ذلك إذا حولوا عيوبه مدائح. في مثل هذه الصورة، تيقَّن أن يد الشيطان والنفس الأسوأ منه هي السبب.

بني:

ما أحسن أن تلقِّن نفسك وتقنعها حقيقة واحدة وهي أن مدح المداحين وإطراء المطرين غالباً ما يهلك الإنسان ويجعله بعيداً عن التهذيب وأشدَّ بعداً..

التأثير السيئ للثناء الجميل في نفوسنا الملوثة أساس تعاساتنا والإلقاء بنا نحن ضعفاء النفوس بعيدا عن المحضر المقدس للحق جل وعلا..

ولعل الباحثين عن عيوبنا والمروجين للشائعات ضدنا مفيدون لعلاج معايبنا النفسية ـ وهو كذلك ـ كالعملية الجراحية المؤلمة المفيدة للمريض..

أولئك الذين يبعدوننا بمدائحهم عن جوار الحق أصدقاء يعبّرون عن عداوتهم بصورة صداقة..

وأولئك الذين يظنون أنهم يعبّرون عن عداوتهم لنا بالذم والفحش واختلاق الإشاعات هم أعداء يصلحوننا ـ إذا كنا أهلاً لذلك ـ إنهم يعبّرون عن صداقتهم لنا بصورة عداوة..

أنا وأنت إذا اقتنعنا بهذه الحقيقة وتركنا الحيل الشيطانية والنفسية نرى الواقعيات كما هي.. عندها سنضطرب من مدح المداحين وثناء أهل الثناء كما نضطرب اليوم من ذم الأعداء وشائعات المغرضين..

وسنتفاعل مع الذم ونتلقاه كما نتفاعل اليوم مع المدائح والإطراءات ونتلقاها..

إذا وصل إلى قلبك مما ذكر، لن تتألم من المنغصات واختلاق الأكاذيب وستحصل على اطمئنان القلب.. فإن أكثر المنغصات من الأنانية..

رحمنا الله جميعا بالنجاة منها..

17 شوال 1404

روح الله الموسوي الخميني