حسين منصور

سنوات مرّت، والنّصر يتبعه النّصر. سنوات مرّت، والأمّة تستفيق، وتتحرّك، وتنتفض. لم ينفع حشد الأساطيل، ولا التّهديد والوعيد. لم تنفع الحروب، ولم ينفع التّنكيل والاغتيال والقتل. لم يفهم الظّالمون الطّغاة، المعتدون المستكبرون أنّ دمَ الشّهداء يحاصرهم، وأنّ تموجات نجيعهم ما زالت تسيل، وتتوجَّه نحو الأقصى؛ لتصلّي فوق "الأرض التي باركنا" "ومن حولها"، والهدف: القدس.

 "هؤلاء الإخوة من قادتنا، منذ الصِّبا، كان لديهم وعي مبكر لقضيّة الصراع مع العدوّ الإسرائيلي لمسألة القدس وفلسطين... لم يعرفوا حياة اللهو، ولا حياة اللّعب، ولا حياة التّرف، ولا الحياة المشروعة لمن هو في مثل سنِّهم... هم رجال، منذ كانوا صغاراً، وبقوا رجالاً، وهم شباب، ومضوا رجالاً، وهم شهداء..."1.

هكذا نقرأ تلك الهامات الشامخة، في كلمات الأمين العام السيد حسن نصرالله (حفظه الله)، وهكذا يقدمهم للتاريخ في مقاطع من كلماته:

 

* الوصية

هؤلاء الشهداء القادة، انتصروا حين عاشوا، وانتصروا حين استشهدوا، وانتصروا لنا من هناك، من عالم الغيب. ولأنّ الشهادة هي الحياة، ما عادوا حدثاً أو خبراً، بل صاروا قدراً: "كل واحد من هؤلاء القادة، بات بفعل الجهاد والاستشهاد، بفعل التّضحية، وزمن الشهادة، رمزاً وعنواناً لمرحلة معيَّنة"2. كلّ واحد منهم أدّى الدور والرّسالة. تكاملوا واكتملوا بانتمائهم إلى هذا الإسلام العظيم. تحرّكوا بوجدان هذه الأمَّة، فشيّدوا عقليّة واعية ونقيّة، وسلوكاً ثابتاً نحو الحقّ، ومقاومة صلبة، وتركوا "وصية"، لذلك: "في مثل هذا اليوم من كلّ عام، نعود، ننحني أمام ضريحه (السيد عباس الموسوي (رض))، نستلهم روحه، نسترشد فكره، وهداه، ونجدّد العهد معه، ونؤكد له عاماً بعد عام، أننا ما زلنا نحفظ الوصية"3.

 

* صفات مشتركة إلى حدّ التّطابق

سيد الشهداء، شيخ الشّهداء، عماد الشهداء. ثلاثة عناوين في عنوان واحد: "الشهداء القادة". هم بحقّ قادة، لأنّهم حازوا خصائص وشروط الشهادة والقيادة: في الصبر، والتّوكل، واليقين، والإخلاص، والزّهد، والشّجاعة والصّدق. وهذه خصائص وشروط ثقيلة بأعبائها، ولا يمكن أن يضطلع بها إلّا من كان ذا كفاءة لائقة، روحيّاً وفكريّاً. أن يكون لديه إدراك عميق، وعلم مصحوب بركون القلب في أعلى درجات التّقوى، نتيجة وضوح الحقائق أمامه: "سوف نجد أنّ الصفات مشتركة إلى حدّ التّطابق فيما بينهم: الإيمان، التقوى، الورع، التّدين، الإخلاص، الصّدق، محبّة الناس، التّواضع للنّاس واللهفة على النّاس... نفهم كيف يكون الإنسان شديداً ورحيماً... كيف يقف في وجه أعداء وطنه؛ ليبطش بهم، وكيف يبكي كطفل صغير على أشلاء الشّهداء في مجازر قانا..."4.

 

* سلاحهم.. التوكل

الشهداء القادة، رجال تحلَّوا بهذه الصِّفات في جميع أعمالهم، لأنّهم تقدّموا خطوة إلى الأمام عن سواهم في معرفة ربّهم، اكتمل يقينهم، فقلَّ اعتمادهم على غيره، وازداد توكّلهم على الله وحده.

تدرّعوا بسلاح التّوكل على الله، في مقابل تهديدات قوى الظّلم والطغيان: "بين الشهداء القادة، كثير من الإيمان، من الصّدق، من الوفاء، من الإخلاص، من التواضع، من المحبّة، من الأحاسيس الإنسانيّة الراقية، من العمل الدؤوب و من الجهاد الدّامي... إلى الثبات الذي لا مثيل له ولا نظير له... والحاج عماد، ابن المدرسة التي تعطي لله، وتعمل لله، ولا تريد من أحد جزاءً ولا شُكوراً. كان القائد للتّحضير والجهوزيّة للدفاع عن لبنان. في عام 2000، ابتهج النّاس، وعاشوا حياتهم الطّبيعيّة... أمّا الحاج رضوان، فكان يصل الليل والنهار..."5.

 

* أهل الصّبر والعزم

الشهداء القادة، عنوان لا ينتهي، ولن ينتهي، فالأمر الّذي حملوه، لا يحمله إلّا أهل الصبر والبصر والعلم. أهل الهمَّة والعزم والإرادة، الإرادة القوية الّتي تحقّق الأهداف الكبرى، والبصيرة الّتي تسعى وراء الغايات المعنويّة الكبرى الّتي يريدها الله من الإنسان، والعلم الّذي يجعل إرادتهم وعزمهم كرماً، وقناعة، وحميّة، وشجاعة، وفعلاً جميلاً، ويتحرّكون في الحياة انطلاقاً من هذه الرؤية.

كان "من السّمات المشتركة بين الشيخ راغب، والسيد عباس، والحاج عماد، أنّهم في هذه المقاومة مؤسِّسون منذ اليوم الأول... كانوا أصحاب الحضور القيادي الدّائم والفاعل، المؤثر والمنتج والمبدع. هم نذروا كلّ شبابهم، وكلّ عمرهم لهذه المقاومة"6. بالصمود، والثّبات، والصّبر والمقاومة من أجل الله سبحانه وتعالى، وكسب رضاه.

إذاً، الحافز هنا ليس سياسيّاً دنيويّاً ماديّاً، بل هو حافز إلهي، ويصبّ في مسار هداية الإنسان نحو الحياة الحرّة الكريمة، والقائد منهم يمثّل نموذجاً للآخرين.

 

* عشاق الله

لقد كانوا المخلصين الصّادقين، عندما رفعوا شعار المقاومة، وحماية الأمّة، وهم الّذين لم يتّخذوا من هذا الموقع ذريعة لتحقيق مكاسب ماديّة، أو إحراز شهرة، أو استئثار بسلطة؛ لأنّهم كانوا يعلمون أنّ هذه العناصر هي من وساوس الشيطان، وهم يعلمون أيضاً، أنّه ليس بين الصادق وبين الله حجاب، فصحَّ يقينهم، وإخلاصهم وصدقهم، ولم يستبدلوا الفاني بالباقي، لقد كانوا من: "عشّاق الله الذين كانت غاية آمالهم أن يصلوا إليه، وأن يعيشوا في مقام قربه... عندما كان يدعو الله (بدعاء) يصوغه من تلقاء نفسه... أيُّ إنسان هذا الّذي بروحه يستطلع الغيب، ويستكشفه، بل كان يقرأ الغيب، وكأنّ أبا ياسر ينظر بعين الغيب إلى طريق تفاحتا، إلى السيارة المدمّرة، والجسد المقطوع الرأس، واليدين والرجلين، والأشلاء الممزّقة! إنّما بفعل هذه العلاقة المميزة والراقية مع الله عزَّ وجلَّ"7.

لم يترك داراً، ولا عقاراً، إلّا أثاثاً بسيطاً، استهلكته الأيّام، ولا تكفي لقضاء دينه، عشرون ألف دولار استدانها لقضاء حوائج الناس ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83). فالشهيد القائد هو الّذي يُعرِض عن الظّواهر الماديّة التي تُفضي الرّغبة إليها، في توقف الحركة التكاملية للإنسان، فإذا كان القائد غير زاهد، فلا قناعة عنده من الانحراف، فالدنيا تُمكر وتُشغل وتُغرق.

 

* نوره يسعى بين يديه

عدوٌّ عجيب، تلبّس بلمعان الدنيا وبريقها. من يأخذ طرف الدّنيا بيده، يهدم آخرته، ويبقها على الأرض، فينقطع ارتباطه بالله، ولا ينفع بعد ذلك معه التوسل، ولا الدعاء. لكنّ الشهداء القادة كانوا في مكان آخر، تأخذ الدنيا فيه قيمتها الحقيقية، لأنّهم كانوا في الموقع الذي يريده الله، وفي المكان الذي تكون فيه الدّنيا مزرعة للآخرة، حيث يتزوّد المرء للسّفر الطويل: "نحن نؤمن بأنّنا موجودون في هذه الدنيا لنؤدي وظيفتنا الإلهيّة الشرعيّة حتى إذا ما مات الواحد منّا أو قُتل، قَدِم إلى ربٍّ كريم، نوره يسعى بين يديه..."8 فإذا سقط المال بيد الله فإنّه يزكو وينمو، فكيف الحال إذا سقط الدّم بيد الله عزَّ وجلَّ؟!

 

* ثقافتهم صنعت أمّة

الشهداء القادة: سيد الشهداء، شيخ الشهداء، عماد الشهداء. رجال القضية، ورجال العبادة، ورجال الرسالة. يعني عندما نقول الشهداء القادة، فنحن نتحدّث عن مدرسة استنهضت النّاس بالحجارة والعصي، بالرصاصة، والعبوة والصاروخ، عن أصحاب مشروع يقول: لا يمكن أن تهدأ الأرض، إلّا إذا كان لنا في هدوئها وسلامها نصيب. وعن أصحاب منهج أخلاقيّ، تربويّ، جهاديّ، إنسانيّ. هذه هي الثقافة الّتي صنعت أمّةً مؤمنةً، ثائرةً، مجاهدةً، مقاومةً، حرَّةً، أبيّةً وشريفة. أمّةً يشتعل قلبها حباً وبغضاً، أسىً وحزناً، وبفضل هذه الثقافة، أصبح لها وجود حقيقيّ، واتجهوا بهذه الأمّة إلى حيث أراد لهم الله أن يسيروا، رافعين رايةً لن تسقط.

هذه المدرسة، كلّ واحد من معلّميها علَّم فصلاً هامّاً وعظيماً من فصولها؛ علّم بالقول وبالفعل، وختم علمه بالدّم: "فمن السيد عباس الموسوي (رض)، التّواضع للناس -وخصوصاً الفقراء- نتعلّم الحبّ والحنان والرحمة، نتعلّم كيف نواجه المصيبة بالابتسام، والمأساة بالصبر والهدوء والتّعقّل، نتعلّم الاحتساب والتّوكل، وأن نخرج من عقليتنا الضّيقة إلى عقل الرّسالة، وقيم الإسلام"9.

 

* ختموا كتاب عمرهم بعد أن مهروه بدمهم

تعلّمنا أن نكون طلاب حقّ... "وأيّة عصبيّة خارج الحقّ هي في النّار"10 "عندما كنت تجلس مع الشيخ راغب. الشيخ راغب حرب يعمل لكلّ شيء حساباً، إلّا لشيء واحد، هو راغب حرب"11.

 "رضوان للمرحلة السّريّة... لم يختبئ في كهف، كان دائم الحضور... في الجبهة، في الخطوط الأمامية... لم يكن الصهاينة يظنون... أن مجموعة الشّباب التي تقف على هذه التّلة، أو تلك التّلة... أنّ واحداً من هؤلاء الشّباب هو عماد مغنية... أن يصمد 25 عاماً، أن يبقى حيّاً 25 عاماً، كان هو الإنجاز الكبير لمدرسة حزب الله"12.

الشهداء القادة، سنبقى نتعلّم منهم؛ لأنّهم بلغوا الذّروة في التّعليم، والذّروة في الأمانة وأداء الرسالة. ختموا كتاب عمرهم، بعد أن مهروه بدمهم الذي أحرق جحافل المحتلّين والمستكبرين والظالمين: "إذا استلهمنا هذه الرّوح، هذه القدوة، هذه الأسوة، وهذا الطريق، نصبح مؤهلين لنكون أصحاب وأنصار حفيد الحسين الآتي في المستقبل ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً"13.

 

-----------------------------------

 

 

1-   من خطبة لسماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2010.

 2- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 22/2/2008.

 3- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2002.

 4- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2010.

 5- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 22/2/2008.

 6- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2011.

 7- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/1993.

 8- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/1998.

 9- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/1998.

 10- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2003.

 11- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 16/2/2006.

 12- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 22/2/2008.

 13- من خطبة لسماحة السيد حسن نصر الله بتاريخ 3/12/2011.

 

المصدر: مجلة بقية الله