كانت قضية الزعامة الدينية سيما ولاية الفقيه في العقدين الأخيرين مدعاة للبحث والنقاش. فهناك بعض الأفراد الذين لهم تحفظ على بعض مبانيها وبناها التحتية النظرية والفكرية، وقد أصيبوا بالذهول من جراء بعض القراءات والتفاسير المطروحة بشأن هذه النظرية. أما الآخرون فقد سلموا لتلك الأطروحة ورأوها منسجمة مع خلفياتهم الذهنية واستنتاجاتهم الدينية، إلا أنهم تحفظوا على بعض تفاصيل هذه النظرية. ولعل بعض ردود الأفعال الجدلية العقيمة ذات النزعة السياسية_الاجتماعية والمشوبة بالمواقف الحزبية كانت أهم الدوافع التي تقف وراء إثارة الأبحاث بشأن هذا الموضوع. فقد انطلقت أغلبها من رؤى سياسية وتقييم للسيرة الاجتماعية لبعض الأفراد والفئات أكثر منها آراء علمية مبتنية على العلم والبحث والتحقيق.

الأمر الذي جعلها تفتقر للموضوعية والمرونة والأصالة. وان هذه الحقيقة ((حبك للشيء يعمي ويصم))[1] لتشاهد بوضوح في حديث ودفاع بعض الأفراد. من جهة أخرى فان أغلب الرؤى إنما تفرزها حالات الانفعال والحقد أو الانعكاسات الانتقامية الطائشة على الصعيد السياسي والإداري للمجتمع.

ولا شك سوف لن يتم التوصل إلى الحقائق وسبر غور الأفكار ما لم تنق وتطهر أجواء البحث والتحقيق، ويفتح الباب على مصراعيه أمام الحوار والنقاش وفق المعايير والضوابط الفكرية المتعارفة. وعليه فلابد من السعي الجاد لإبعاد هذا الحوار عن القرصنة الفكرية التي تستبطن العداء والبغضاء، لتجد الحقائق تربتها الخصبة فتبنت فيها من جديد.

لقد أنعش الإمام الراحل نظرية ولاية الفقيه عملياً بعدما أغنى جوانبها الفكرية منذ ثلاثة عقود.

حيث تم إحياء هذه النظرية على المستوى الفكري، من خلال إلقائه الدروس والمحاضرات في حوزة النجف الاشرف والتي استغرقت ثلاث عشرة جلسة[2].

وكانت حصيلة تلك الدروس والمحاضرات كتاب ((ولاية الفقيه))، ثم أردفه بكتابه الآخر ((البيع)) [3]، الذي تعرض فيه لتلك المطالب مع بعض الإضافات، وكان قد ألفه على غرار ذلك النهج والأسلوب[4].

لقد شهد تاريخ الغيبة والانتظار لأول مرة وبفضل انتصار الثورة الإسلامية المباركة التجسيد الواقعي الحي لهذه النظرية التي تبلورت عملياً وشقت طريقها قدماً لتقدم ثمرتها بهذا النظام والحكومة التي نهضت بمسؤولياتها في هذا المجتمع. وباقتحام هذه النظرية لميدان التمحيص والتطبيق، أدلى الإمام ببعض الآراء التكميلية وأجرى بعض التعديلات[5]، ثم سلط عليها الأضواء أكثر فأكثر ليتم الامتزاج الفاعل بين المرحلة الذهنية الفكرية والمرحلة العينية الواقعية.

تسعى هذه المباحث بعد أن سلطت الأضواء على ما حققته أفكار الإمام الخميني (قدس سره) من مكتسبات، إلى بحث المباني المعرفية الدينية بالنسبة لنظرية ولاية الفقيه من خلال تلك النظرة.

 

المباني والتصورات لمعرفة الدين

هناك تناسب وانسجام لنظرية ولاية الفقيه مع المباني والتصورات الخاصة لمعرفة الدين، حيث لا يمكن التوصل لهكذا نظرية في معرفة الدين دون التعمق فيها وسبر أغوارها الفقهية. وهذا ما دفع بالإمام ليعتقد بأن معرفة الوسائل العقائدية والفقهية للإسلام تشكل المنابع والمصادر التصورية لبلوغ نظرية ولاية الفقيه وتصديقها:

((إن كل من وقف على العقائد والأحكام الإسلامية ولو إجمالاً، سوف لن يتردد في تصديق ولاية الفقيه إذا ما طالعها وتصورها، ثم ينتهي به المطاف لان يقول بضرورتها وبداهتها))[6].

ويرى الإمام بأن المباني والأسس العقائدية وكذا الصبغة الجماعية والاجتماعية لأغلب الأحكام الإسلامية إذا ما فهمت وهضمت بصورة صحيحة، فسوف لن تكون هناك ثمة حاجة لإقامة الدليل والبرهان على نظرية ولاية الفقيه التي تفرزها طبيعة تلك الأسس والمباني.

ونتناول هنا، الشق الأول، أي المباني والأسس العقائدية

والكلامية، وأسلوب الإمام في تفسيرها والذي تبلور بهذه النظرية.

يقول الإمام: ((إن كل من يقول بعدم ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية، إنما ينكر ضرورة إجراء الأحكام الإسلامية وشمولية الأحكام وخُلود الدين الإسلامي الحنيف))[7].

و قد وردت نسبة ((الخلود)) و((الشمولية)) الدين وللزعامة الدينية لمبنيين وفرضين كلاميين مسبقين. وهنا نخوض في رؤية الإمام الفكرية لهذين المبدأين فيما يتعلق بالنظرية المذكورة.

 

1_ خلود الإسلام:

ليس هناك من نقاش بين كافة المسلمين بشأن خلود الشريعة الإسلامية. وهنالك بعض الآيات والروايات التي دلت على ذلك بصراحة، بينما اقتصر البعض الآخر منها على التلميح والإشارة:

{ .. وانه لكتاب عزيز*لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}[8].

وقد ذهب العلامة الطباطبائي إلى دلالة[9] هذه الآية المذكورة مع الآية {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[10] على خلود الإسلام.

قال علي (عليه السلام): ((ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه، إن فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة))[11].

وقال: ((إن هذا الإسلام .. لا انهدام لأساسه، ولا زوال لدعائمه ولا انقلاع لشجرته، ولا انقطاع لمدته، ولا عفاء لشرائعه، ولا جذ لفروعه))[12].

وناهيك عن الآيات والراويات فان البرهان العقلى_من قبيل: ((الإسلام دين الفطرة)) و((ختم الأديان بالإسلام))_هو الآخر يخبر عن خلود الإسلام[13].

أضف إلى ذلك فان التعاليم والطقوس الإسلامية ليست مقتصرة ومحددة بالزمان والمكان، بل تتمتع بعموم وشمول زماني

و مكاني هاديا الإنسان نحو الخير والفلاح الدنيوي والأخروي. ومن جهة أخرى فان التعاليم والفرائض الإسلامية على نوعين: بعضها له طابع فردي، حيث لكل فرد أن يقوم بها بمفرده من قبيل: الصلاة، الصوم و....

أما بعضها الآخر فانه يتميز بطابعه الاجتماعي_السياسي فلا يتيسر العمل بها دون وجود نظام سياسي اجتماعي يمتلك سلطات تنفيذية مقتدرة، مثل: القوانين الجزائية، المالية، الدفاع القومي و... إضافة إلى أن لبعض التعاليم الدينية صبغة اجتماعية كبسط العدل والقسط في المجتمع و...

إن الإمام لا يرى خلود الدين في بقاء اسمه وديمومة الأبحاث والدراسات العلمية والمؤلفات الدينية بشأنه، بل يرى أن خلوده إنما يعتمد على تحقق أهدافه ومطاليبه وتعليماته على مستوى الفكر والعمل في كل عصر ولكل مصر:

((إن أحكام الإسلام لا تعرف الزمان والمكان فهي خالدة ونافذة المفعول لأبد الآبدين، إنها لم تكن مختصة بزمان الرسول الأكرم (ص) ثم تترك بعد ذلك، فلا حدود ولا قصاص، أي تعطيل قوانين الجزاء والعقوبات. أو عدم جباية الضرائب، أو وقف الدفاع عن الأمة وبيضة الإسلام. إن القول بتعطيل القوانين الإسلامية أو حصرها ببعض الأمكنة والأزمنة ليخالف الضروريات العقائدية للإسلام))[14].

إن هذا الكلام ليدل على عدم صواب التمييز بين الأحكام على أساس خلود البعض وتعطيل البعض الآخر. فان أحكام الإسلام واحدة لا تتجزأ فهي خالدة برمتها، فكما أن الأحكام الإسلامية الفردية باقية وخالدة يجب على المؤمنين الالتزام والعمل بها، فإن الأحكام الاجتماعية هي الأخرى خالدة ولا بد من العمل بها أيضاً.

يعتقد الإمام أن التفسير الواقعي والحقيقي لخلود الدين إنما يكمن في حضوره في وسط المجتمع ثم تجسيده في حيز التطبيق: ((لقد اقتضت حكمة الباري أن يعيش الناس بصورة عادلة وان يتحركوا في إطار الأحكام الشرعية. وان هذه الحكمة لمن السنن الإلهية الخالدة، ولن تجد لسنة الله تحويلاً))[15].

وحسب اعتقاد الإمام، فإن الله أمرنا باثنين:

1_ أن نقيم حياتنا الاجتماعية على أساس العدل والقسط.

2_ أن نمارس القوانين والأحكام الشرعية في الحياة.

هاتان هما الخصوصيتان الأصليتان للدين، واللتان قد أبى الشارع تركهما في أي زمان.

و هنا يبرز السؤال وهو: هل أن كل زعامة يمكنها أن تنهض بمسؤولية تبني هذين الهدفين وتبقى وفيه للالتزام بهما؟ هل كل حاكمية يمكنها صيانة الهاجس الديني والأخلاقي والمعنوي للأمة بحيث تضمن بسط العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقضائية وإشاعة سائر المثل والقيم الفردية والاجتماعية التي أكدتها التعاليم الدينية؟

أفيمكن تحقيق ذلك في ظل الحكومات العلمانية؟

لا شك انه ليس هنالك من احد يرد بالإيجاب على ذلك السؤال، لأنه ليس إلا جفاءً وابتعاداً عن العقل والمنطق.

((و بناءً على هذا تبرز ضرورة وجود ((ولي الأمر)) أي الحاكم القيم الحافظ للنظم والقوانين، الحاكم الذي يحول دون الظلم والجور وانتهاك حقوق الآخرين، أمين خلق الله ومؤتمنهم. هادي الأمة لتعاليم ونظم وعقائد الإسلام وإحكامه والسد الحصين أمام بدع أعداء الله وجاحدي الدين))[16] وهذا الرأي ترجمان حديث الإمام الرضا (عليه السلام) الذي يشرح حاجة المؤمنين ((ولي الأمر))

و ((الحاكم الصالح)) بأسلوب عقلي، ومن ذلك انه قال: ((... ومنها انه لو لم يجعل لهم إماما، قيماً، أميناً، حافظاً، مستودعاً، لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين، إذ قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت حالاتهم، فلو لم يجعل قيماً حافظاً لما جاء به الرسول الأول لفسدوا على نحو ما بيناه وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين))[17].

كان الإمام الراحل يرى أن العلل التي وردت في هذه الرواية على وجوب وجود القائد والحكومة الدينية في المجتمع الإيماني باقية خالدة على الدوام، وان المؤمنين في كل عصر ومصر ليحتاجون إلى الحاكم وولي الأمر، كما حصل في صدر الإسلام، وذلك لان تلك العلل التي أدت إلى تزعم رسول الله (ص) للأمة لم تقتصر على عصره وزمانه (ص). فلا يمكن القول بان المجتمع احتاج للحاكم الإسلامي آنذاك، ولم تعد هناك مثل هذه الحاجة اليوم، بل إن هذه الحاجة ستسود كل مجتمع يتأسى بذلك المجتمع إذا ما سار على دربه وحمل تلك الأهداف ونادى بتلك القيم والمثل:

((لقد وردت العلل والأدلة المتعددة التي ترى ضرورة إقامة حكومة ((ولي الأمر)). وان تلك العلل لم تكن مؤقتة ومحدودة بزمان، وبالنتيجة فان تشكيل الحكومة ضرورة خالدة))[18].

ويتبين مما سبق الترابط الجدلي في الخلود بين الحكومة الإسلامية والدين، لتعذر بقاء الأمة وفية لمبادئها ومعتقداتها الدينية وتهذيبها لسلوكها الاجتماعي وصيانتها لمثلها وقيمها، ما لم تكن هناك حكومة دينية تقوم بممارسة وظائفها ومسؤولياتها الملقاة على عاتقها، ومن هنا تبرز حاجة المجتمع الديني لولي الأمر وهذا ما يفسر أطروحة ولاية الفقيه في كل عصر.

 

رد على اعتقاد

يرى بعض الأفراد بان الحكومة ظاهرة متغيرة باستمرار، ومنسجمة والتغيير الحضاري والعلمي للمجتمعات البشرية، وما تشهده من تحولات في مجال التجارب الاجتماعية، فهي غالباً ما تتقولب بقوالب جديدة وعليه فهي تتنافى والقضية الدينية التي يسودها الديمومة والاستقرار.

يبدو أن هذا الاعتقاد والظن قد غلب على هؤلاء، إما لأنهم لم يتمكنوا من الجمع بين استقرار وديمومة الأحكام والطقوس الدينية وتغيير حاجات الإنسان ومتطلبات الزمان، أو أنهم_و لتبرير خطأهم الآخر ((بعدم وجود نظرية للحكومة في الإسلام))_قد ارتكبوا خطأ آخر ألا وهو التفسير الخاطئ لخلود الدين.

وكما مر معنا، فقد أشار الإمام إلى أن خلود الإسلام يعد أحد مباني إقامة الحكومة في الإسلام، وذلك لأننا حين اعتقدنا بان القوانين والتعاليم والأهداف الإسلامية الاجتماعية دائمة خالدة كأحكامه الفردية، وأنه لا يمكن الالتزام بما تقدم دون إقامة الحكومة وممارستها عملياً فانه يتضح بجلاء وجوب إقامتها من خلال المبدأ القائل بخلود الشريعة وديمومتها.

وإن كان قصد هؤلاء من عدم انسجام الحكومة مع خلود الدين هو افتقار الإسلام للأساليب الحكومية والأطر العملية في إدارة دفة الحكم وضمان مستقبل الأمة التي لها حاجاتها ومتطلباتها حسب مقتضيات العصر، والتي لا يمكن تأمينها إلا من خلال بعض البرامج والخطط الناجعة التي تناسبها، وهذا ما يتعذر العثور عليه في الدين الذي يعجز عن طرح مثل هذه الأساليب على الدوام ولكافة الأزمنة القادمة، وعليه وحيث لا يمكن للحكومة أن تكون خالدة تنشأ حالة عدم التناسب والانسجام بينها وبين الدين والوحي الذي له برامجه وأحكامه الخالدة.

فتقول في الرد عليهم بن الحكومة في الإسلام لا تعني أن الإسلام تكهن وتكفل ببيان الطرق والأساليب المرحلية الحكومية وكيفية إدارة شؤون الأمة لكافة الأزمنة وأنه كلف الحاكم الإسلامي بإجرائها. بل تعني أن الإسلام إنما يستفيد من الحكومة كوسيلة بغية إجراء وتطبيق أهدافه ومشاريعه، وحيث لا يمكن لكل حكومة أن تنهض بتلك الوظائف فإن الإسلام حدد الهيكلية والمبادئ الأساسية والهوية الدينية لشكل الحكومة، أما الكيفية والأساليب العملية الناجعة في إدارة شؤون المجتمع وكيفية انتخاب السبل والوسائل المتاحة لبسط القسط وإرساء شؤون المجتمع وكيفية انتخاب السبل والوسائل المتاحة لبسط القسط وإرساء العدالة الاجتماعية، فهي قضية تتطلب قدراً من الكفاءة العلمية والخبرة التخصصية، وهي قضية خارجية بالنسبة للدين.

وبناء على ما تقدم فليس هناك أي تضاد وعدم انسجام بين متطلبات الإدارة وأساليبها وأطرها المتغيرة وبين خلود الدين وأهدافه وأحكامه.

 

2_ سعة الشريعة وشموليتها:

 

المبدأ الآخر لولاية الفقيه والذي يشكل البنية التحتية لهذه النظرية هو سعة الشريعة الإسلامية وشموليتها. وناهيك عن الأدلة العقلية فقد دلت الآيات والروايات على شمولية الشريعة الإسلامية: {و نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء}[19].

{اليوم أكملت لكم دينكم}[20].

{ما فرطنا في الكتاب من شيء}[21]. وقد استضافت الروايات بهذا الشأن نكتفي بذكر واحدة منها: قال الإمام الصادق (عليه السلام): ((إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا انزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه))[22]. إن الأمة أجمعت على سعة وشمولية الشريعة الإسلامية. إلا أنها اختلفت في مفهوم تلك السعة والشمولية. فبادئ ذي بدء ينبغي معرفة المراد من ((الدين)) ومعنى سعته وشموليته؟ وسنتناول آراء الإمام بشأن هذين المحورين.

 

 

المراد من الدين

ما المقصود بالدين حين يقال: بأنه جامع؟ وبعبارة أخرى ما متعلق هذه الشمولية؟ يرى الإمام أن متعلقها يكمن في شيئين: ((لقد انطوى (القرآن الكريم) و(السنة) على كافة الأحكام التي تحتاجها البشرية لما يضمن سعادتها وكمالها))[23].

فالمراد بشمولية الدين هي الأمور التي يصطلح عليها بأنها تمثل متن الدين، أي القرآن والسنة. فللقرآن مضمونه الإيحائي الذي يشكل متن الدين وجوهره وأما السنة فتعتبر ديناً على أساس أن النبي (ص) هو مفسر القران ومبينه للمسلمين:

{و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}[24].

{ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}[25].

ويستفاد من هذه الآيات أن على المسلمين أن يتعاملوا مع كل ما يسمعوه ويروه في سلوك النبي (ص) على أنه دين وشريعة وحقائق ومعارف دينية.

ويعتقد الشيعة بأن مفسر القرآن ومبينه من بعده هم الأئمة (ص) {لا يمسه إلا المطهرون}[26]، وهم أهل البيت (عليهم السلام) الذين وقفوا على أسرار القرآن ومعارفه، حيث لهم فهم كامل لا يتخلله الخطأ أو الزلل[27]: {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا}[28] فهم أتقى الخلق بعد رسول الله ولذلك قال فيهم (ص): ((كتاب الله وعترتي))[29].

 

وعليه، إضافة إلى القرآن فان السنة النبوية وسيرة الأئمة وأحاديثهم بصفتها مفسرة ومبينة للوحي هي الأخرى تعتبر من متن الدين وروحه.

نخلص مما سبق إلى أن المراد بالدين هو جميع الحقائق الواردة في القرآن والسنة.

 

معنى الشمولية

إن الحديث عن شمولية الدين يستلزم معرفة الهدف من بعثة الأنبياء ونزول الوحي، وما هي الحاجات البشرية التي يمكن للدين أن يلبيها؟ هل على البشرية أن تلتمس قضاء جميع  متطلباتها في الدين، أم أن الدين تكفل ببعضها ولا يمكن توقع المزيد منه؟

يمكن تقسيم الحاجات البشرية إلى قسمين:

1_ حاجات دنيوية.

2_ حاجات أخروية.

وتنقسم الحاجات الدنيوية بدورها إلى:

أ_ الحاجة للقوانين والأساليب التي تؤدي للكمال.

ب_ الحاجة للقوانين والأساليب اللازمة للحياة.

ليس هنالك من نقاش في حاجة البشرية إلى الدين والوحي لضمان سعادتها وإيصالها إلى الكمال المعنوي المنشود. وقد اتفقت كلمة المفكرين المتدينين على أن الدين قنطرة السعادة الأخروية أي أنه يلبي كل متطلباتها.

كما أنهم يُجمعون على أن الدين يلبي جميع الحاجات الروحية والمعنوية للبشرية. وبالطبع فان الدين يبين في هذا القسم بعض المسائل التي أرشد إليها العقل أي في ذلك الحقل من القيم التي تعود إلى الحسن والقبح العقليين.

الحقل الآخر من الحاجات البشرية التي تتطلب التعاليم التي تنظم شؤون الحياة، وهي تلك التعاليم التي تتكفل بضمان صلاح وسلامة الحياة الفردية والجماعية.

ويشتمل هذا الحقل على تلك الشؤون الحياتية الواقعة في دائرة الحلال والحرام من الأحكام من قبيل: حلية وحرمة الطعام، حلية وحرمة التجارة والعائدات الاقتصادية و... أي تلك الأمور التي عالجها الفقه. وقد اتفقت كافة الآراء على الدائرة الدنيوية للدين التي تنتهي ل ( الأحكام الفقهية الفردية).

وهل للإسلام برامجه وقوانينه التي يمكنها أن تلبي الطموحات الاجتماعية للبشرية والتي تتجسد في ظل الحكومة والحاكمية السياسية؟

هنا تتشعب الأفكار ويشوبها الجدال بشأن تفسير سعة وشمولية الدين وبالتالي يظهر الاختلاف.

وهناك رأيان في هذا الخصوص:

1_ الرأي الذي يلخص هدف الدين في تلبية الحاجات المعنوية والسعادة البشرية الأخروية، وان ليس للدين على صعيد الحياة سوى بيان الحلال والحرام، وعلى المتدنيين أن يحتذوا بمفكري العالم فيستفرغوا ما بوسعهم ويفكروا في كيفية إدارة الأمور الدنيوية وتنظيم شؤونها. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بان رسالة الدين وهدفه الأصلي، طرح البرامج التي تؤدي للسعادة الأخروية. وهذا هو تفسير سعة وشمولية الدين لا أكثر:

((إن الدين بالنسبة لهدفه لا بالنسبة لكل شيء كامل. هو جامع شامل بالنسبة لماء جاء من اجله، لا من اجل كل شيء. هذه هي سعة وشمولية الدين))[30].

إن تفسير شمولية الدين بهدفه كتفسير الماء بعد جهد بالماء، فليس هناك من فسر أو يفسر شمولية الدين بأمور خارجة عن أهدافه، بل ينظرون إلى سعة الدين وشموليته ويتحدثوا عنها على أساس رؤيتهم لهدفه. وان اتساع وانحسار هدف الدين في الآراء أدى إلى أن تتأرجح شمولية الدين ضيقاً وسعة. شمولية الدين التي تعني سياسته واجتماعيته وامتلاكه للبرامج الهادفة لإقامة الحكومة الدينية إنما تنبع من تلك الاتجاهات التي ترى الحكومة والمجتمع كامنة في الدين وان تشكيل حكومة العدل في المجتمع الديني من أهدافه الجوهرية.

وإن إزالة هذه الأمور عن الدين تعني إقصاء أحد أهدافه. وعليه فالخطوة الأولى للتوصل إلى تفسير صائب بشأن شمولية الدين هو الوقوف على أهداف الدين وإصدار الحكم بشأنها، وهناك سبيلان يمكن من خلالهما الوقوف والتعرف على هدف الدين أو أهدافه وهما:

 

الأول_دراسة النصوص الدينية.

الثاني_البحث العقلي.

وسنخوض في الأهداف الخلافية دون التعرض لتلك المتفق عليها، بغية عدم إطالة البحث. ويفهم من التصنيف السابق أن هناك هدفين لا نقاش فيهما وهما: بيان الأمور المعنوية من قبيل: العبادة، التقرب، الكمال الروحي و... والآخر ضمان السعادة الأخروية. وهذا ما اتفق عليه الجميع، بل اتفقوا حتى على ذلك القسم من الشؤون الدنيوية التي تعد ضمن السعادة الأخروية وتمهد السبيل أمام الكمال البشري.

ويتبين مما سبق أن محور الأبحاث الخلافية في تعيين أهداف الدين إنما يعود لمسألة الحكومة أيضا، والتي يطرح بشأنها هذا السؤال: هل هي من أهداف الدين أم لا؟

الرأي المطروح على طاولة البحث هو الذي لا يقر الحكومة الدينية كهدف للدين، على أساس أن الدين لم يستهدف الأمور المرتبطة بالدنيا. وأن إدارة شؤون المجتمع وإقامة الحكومة لهي من القضايا الدنيوية التي فوضت للبشرية، وذلك لان الدين إنما يختص بالشؤون التي يعجز الإنسان عن فهمها وإدراكها، وليس له من سبيل للتعرف عليها إلا من خلال الوحي والإرشاد الإلهي. أما سياسة المجتمع وإدارة شؤونه فهي ليست خارجة عن علم البشر وإدراكه، وبمقدور البشرية أن تنظم شؤونها السياسية وحياتها الاجتماعية دون الحاجة لتعاليم الوحي والهداية الربانية، بل يكفيها ما أودع فيها من عقل وحصلت عليه من تجارب وخبرات في هذا المجال، ولا ينبغي أن ننتظر من الدين قانوناً أو أحكاما تعالج هذه القضية، وان ورد شيء من ذلك في النصوص الدينية فانه لم يرد كحكم أو قانون، إنما كانت قضايا ثانوية هامشية تفتقر إلى الاستقلالية.

ذهب أصحاب الرأي المذكور إلى أن الحكومة التي أقامها رسول الله كانت من قبيل الصدفة والأمور الطبيعية، حيث لم يكن هنالك من علاقة بين حكومته (ص) وبين شريعته ورسالته.

ويعتبر على عبد الرزاق في طليعة أولئك الذين قالوا بخروج الحكومة عن دائرة الدين مستدلاً على أن القرآن الذي يعتبر أوثق وأدق مصدراً دينياً لم يتناول موضوع السياسة والحكومة، بل لم يشتمل على شبه دليل يوجب إقامة الحكومة وممارسة المسؤولية السياسية وإدارة شؤون المجتمع.

إن عدم تناول النصوص الدينية لقضية السياسة والحكومة، وإنها فوضت للإنسان وقدراته العقلية، ليس إلا زعماً واهياً، وذلك لان أغلب البرامج والأهداف والتعاليم الاجتماعية الدينية تحمل بصورة واضحة رسالة سياسية_اجتماعية تكفلت ببيان بعض الأسس والمبادئ الدينية بشأن الحكومة والسياسة من قبيل: بسط العدالة، إشاعة قيم الخير والتسامح والمحبة في المجتمع، الحيلولة والوقوف بوجه الفساد والفحشاء والانحراف، ممارسة الأحكام القضائية والمالية وتحرير الشعوب من سيطرة القوى الأجنبية والاستعمارية. أضف إلى أن ((الإمامة)) الواردة في الثقافة الشيعية تجسيد حي للفلسفة السياسية في الإسلام. فهي تمثل الزعامة والحاكمية التي انبثقت من روح الإسلام. فقد مارس النبي (ص) إمامة الأمة وحاكميتها في عصره، ثم طرح برامجه ومشاريعه السياسية من خلال تعاليم الوحي، ثم نهض أئمة الشيعة (عليهم السلام) بهذا الدور بعد النبي (ص)، وسنخوض في هذا الموضوع لاحقاً.

الزعم الآخر لذلك الاتجاه هو أن تنظيم المجتمع وإدارة شؤونه قد انيطت بالعقل والتجربة والخبرة البشرية، وليس هنالك من نصوص دينية تطرقت لحكومة المجتمع والأساليب السياسية في إدارة شؤونه، وذلك لأن الدين تكفل ببيان الأمور التي ليس للعلم والعقل البشري سبيل إليها، أما الحكومة فليست بخارجة عن فهم البشر وإدراكه. هذا الكلام هو الآخر ليس بمقبول، وذلك لان العلم البشري مقتصر على إدراك الإنسان لنفسه وما حوله من العالم، وهذا بطبيعته إدراك يشوبه النقص وعد الكمال. فليس له أن يقف على نفعه وضرره الحقيقي كما ينبغي فأنى له أن يقود المسيرة الاجتماعية للمجتمع ويأخذ بزمام إدارة شؤونه السياسية؟ إن البشرية رغم اجتيازها لمراحل التطور العلمي وتعرفها على بعض القيم والمثل الاجتماعية إلا أن ذلك لا يكفي في أن تكون مؤهلة لقيادة المسيرة السياسية للمجتمع وإيصاله إلى شاطئ الأمان، بل إن التقدم العلمي ليس له مثل تلك الإمكانية قط. وذلك لان طرح الأهداف التي ترسم طريق الحياة الاجتماعية، يتطلب معرفة تامة وشاملة بالاستعدادات والخصائص البشرية الذاتية القائمة على أساس المعرفة وعمق النظرة الشمولية لعالم الوجود والإمكان. وان هكذا اطلاع ومعرفة لا يطولها العقل البشري الضيق الأفق، ولذلك نشاهد تلك المذاهب والنظريات في كل عصر ومصر وقد انتهت بمعتنقيها إلى الضياع والفناء. إن اضمحلال المدارس الفكرية وانهيار الأنظمة السياسية القائمة على أساس التصورات والرؤى البشرية لخير دليل على عجز البشرية عن التوصل إلى المنهج القويم الخالد الذي لا يتجسد إلا في الدين.

والحق أن البشرية إذا أرادت أن تسلك نهجاً لا انعطاف فيه ولا رجوع، لا بد لها أن تلتزم السبيل الذي أرشد إليه الوحي والدين، أي تجعل مسيرتها الاجتماعية وإدارتها لشؤون المجتمع قائمة على أساس الأهداف والمثل المستوحاة من التعاليم الدينية وان توظف كشوفاتها العلمية ورقيها الحضاري في تحقيق تلك الأهداف.

2_ في مقابل الرأي الأول الذي أوكل كافة الأمور الدنيوية ومنها إقامة الحكومة وتدبير شؤون المجتمع إلى علم الإنسان وفكره، وأخرجها من دائرة الرسالة الدينية، فان هناك اتجاهاً آخر يرى أن هدف الدين يتجاوز الأمور المعنوية والأخروية، ليشمل انتظام واتساق الحياة الدنيوية وبناء المجتمع الصالح العادل. وقد حظى هذا الاتجاه بمكانته المرموقة في المعارف الدينية وبلغ أوجه اثر اقتحام الإمام الخميني (قدس سره) للميدان وطرحه لنظرية ((ولاية الفقيه)) و((الحكومة الإسلامية)). يرى الإمام أن الوحي لا يقتصر على العبادة وبيان الثواب والعقاب، وأن شمولية الإسلام تعني معالجته لكافة متطلبات البشرية المادية والمعنوية، أي أنه تكفل ببيان كل ما يؤدي بالإنسان لسعادته الدنيوية والأخروية: ((الإسلام، للإنسان بكل أبعاده، فللإسلام أطروحته وبرامجه التي تعني بالطبيعة وما ورائها، مروراً بعالم الناسوت وانتهاءً بعالم اللاهوت. إن الإسلام يهدف لبناء الإنسان المتكامل في كل مراحله، يمنحه التكامل حسب طبيعته، التكامل الطبيعي، البرزخي، العقلاني، و... يريد أن يهبه التكامل في ما يعتريه من نقص وافتقار، فكل هذه الكمالات مودعة في الإنسان وليس لها من يحييها سوى الأديان))[31].

 

الدين والدنيا

يعتقد الإمام الخميني (قدس سره) بأن للدين الإسلامي رؤية واضحة بشأن الحياة وكيفية معيشة الإنسان في الدنيا، وذلك لان التدين والعبادة الواردة في هذه الشريعة لم تختص بزمان ومكان وأنها لن تتوقف ولو للحظة في حياة الإنسان، والأرض التي يحيا عليها الإنسان برمتها مقدسة، قال رسول الله (ص): ((جعلت لي الأرض مسجداً))[32].

وطبق هذه الرؤية فان الرابطة الدينية بالدنيا هي رابطة تامة متكافئة، فلا انفصال للسماء عن الأرض ولا الماديات عن المعنويات، بل الأرض ترتدي حلل السماء وتمتزج المادة بالروح (عليهم السلام) والدنيا بالآخرة، والدين بالحياة.

إن إقامة الحكومة وإصلاح شؤون الحياة وتنظيمها، على درجة من القدسية والطهارة لا تقل أجراً وثواباً عن سائر العبادات التي أوجبها الشارع المقدس:

((إن الإسلام ليهذب الماديات ويكسبها صبغة إلهية. انه لينظر للماديات بعين إلهية وبالعكس))[33].

والحق أن الاتجاه الأول وباقتصاره لهدف الدين على تهذيب الأخلاق وبلوغ السعادة الأخروية قد اعتقد بان الدين منزه عن الخوض في الشؤون الدنيوية ونيل سعادتها.

النقطة المهمة والأساسية التي تكمن في هذا الاتجاه، هي أنه هل كل شكل ونوع للحياة مرتبط بالطبع البشري، جدير بالتهذيب؟

على سبيل المثال فإن الإعجاب بالنفس والأنانية و... تعد من طبائع البشر، والتي تتبلور في قالبها الاجتماعي لتتمثل بالظلم والاضطهاد الذي يمارسه الأفراد أو الفئات والأحزاب. لا شك أن هذا النوع من الحياة ليصد الإنسان عن أغلب الكمالات المعنوية والمثل الأخلاقية، وبالنتيجة سيعتذر تحقق هدف الدين في ظل هذه الأجواء والشرائط. ولذلك فان الدين سوف لن يكتب له النجاح في تمهيد السبيل أمام السعادة المعنوية والأخلاقية، إذا ما أقصى إصلاح الحياة الدنيوية وتنظيم شؤون الأمة الاجتماعية عن أهدافه وآماله. ولذلك نلمس إصلاح الأمور الاجتماعية من خلال المرافقة للرسالة المعنوية التي حمل مشعلها الأنبياء.

 

 

الهدف الأصلي للدين

يعتقد الإمام الخميني (قدس سره) بأن الهدف الأصلي للأنبياء هو هداية البشرية، وحيث لا يمكن تحقيق هذا الهدف دون الخوض في الأمور الدنيوية والحياتية لهم، فان إقامة الحكومة وبسط العدل والقسط تعد من وظائف الرسالات وأهدافها، إلا أنها وظيفة تمثل وسيله ومقدمة، ذلك لان إصلاح الدنيا يعد شرطاً ضرورياً في إصلاح الآخرة، وان إصلاح الدين هو الآخر ضمن إطار وظائف الأنبياء، ويشكل مقدمة لأهداف بعثتهم. ((يتضمن هذا الكتاب الشريف (القرآن) مسائل شتى تأتي في طليعتها المسائل المعنوية، ولم يبعث الرسول الأكرم وسائر الأنبياء ليقيموا الحكومة هنا، فهذا ليس الهدف الأصلي، لم يبعثوا ليبسطوا العدل والقسط، فهذا ليس الهدف الأصلي أيضاً، كل ذلك كان مقدمة. مقدمة لموضوع آخر، هو معرفة الذات القدسية للحق تبارك وتعالى))[34].

رأي الإمام ينسجم ظاهرياً والرأي الأول في أن الهدف الأصلي للدين هو تعليم البشرية وتربيتها وهدايتها. (قلنا ظاهرياً، لان هناك بوناً شاسعاً في تقييم الإمام للأمور المعنوية للدين مع ما ذهب إليه الرأي الأول بهذا الشأن). وهنا يكمن الحد الفاصل بين الرأيين في الظاهر والباطن، حيث يمثل الرأي الأول العلمنة التي ترى انفصال الدين عن دنيا الناس وحياتهم على أساس قولها بالمعنويات كهدف أصلي. والحال أنه لا انفصال في نظر الإمام، بل يكون الأول أصلاً والثاني فرعاً وان الفرع خادم للأصل أي تكون الحياة المادية خادمة للحياة المعنوية والدنيا خادمة للآخرة. ومن جهة أخرى فإن الدين إن لم يقتحم حياة الناس ودنياهم، ليتسنى له تنمية معارفهم وكمالاتهم بشأن الحياة ومتطلباتها، ويرشدهم لتهذيب حياتهم المادية ويكبح جماحهم الشهوية، فإنهم بلا شك سيغرقون في سراب الماديات الدنيوية، وينأون بأنفسهم بعيداً عن المعنويات والكمالات. وبناء على ذلك فان للدين أيضاً دوره الفاعل في حياة الناس من خلال تعليمه وتربيته وقيادته للعملية الإصلاحية في المجتمع وإعداده للأفراد الصالحين المصلحين، أضف إلى ذلك فانه يبلور شخصية المجتمع ببيانه للأهداف والقيم والأحكام التي تشغل هاجس المؤمنين في حياتهم الجماعية أي انه يصبغ دنيا الناس بصبغته ظاهرياً وباطنياً.

 

الحكومة والدين

كيف يمكن الاعتقاد بأن الإسلام ليس له رأي بشأن الحاكمية والاقتدار السياسي للمجتمع؟ بينما وردت النصوص الدينية لتؤكد على الدور البالغ الأهمية الذي تلعبه الحكومة في تبلور الأفكار والعقائد. لقد أشارت تعاليم القرآن والسنة إلى دور المجتمع والحكومة في تدين الناس أو كفرهم والذي يفوق دور الأسرة.

قال علي (عليه السلام): ((الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم))[35].

لقد أشار القرآن إلى ابتعاد بعض الناس عن الدين وعدم تمكنهم من الالتزام به من جراء الحكومة المناهضة للدين قائلاً: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}[36].

وقال بشأن أولئك الذين لم يعتنقوا الدين وضلوا بسبب الحكام: {و قالوا ربنا إنا اطلعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا}[37].

الدين الذي يرشدنا لهذا الحد بالنسبة لدور الحاكمية والاقتدار الاجتماعي، ويصرح بهذا العمق من الارتباط المباشر بين الحكومة والتدين كيف يمكن الادعاء بأنه لم يتطرق لهذه القضية الحيوية المصيرية، ليس له من مشاريع وخطط بهذا الشأن؟

وبالطبع فان امتلاك المشاريع والبرامج لا يعني بأن الدين قد تكهن وللأبد بكافة الأساليب العملية التفصيلية والأطر المعينة والمشاريع التنفيذية في إدارة شؤون المجتمعات البشرية، وذلك لأن مثل هذه الأمور يمكن أن ينهض بها العقل والتجارب والخبرات البشرية. فهي أمور عقلائية علمية وذات صلة بكافة الأنظمة العقلائية والتخصصية العالمية، فهي ليست أمور دينية.

رسالة الدين في مجال الحكومة هي: طرح الأسس والمبادئ والأهداف والتعاليم التي لها تأثير ومساس في دخول الأوامر والمتطلبات الدينية حيز التطبيق والتنفيذ.

للدين رسالة واضحة بشأن الحكومة وهي بسط العدل والقسط {ليقوم الناس بالقسط}[38].، حيث إن القوانين والأحكام الإسلامية عادلة، بفضل تشريعها من قبل الله العادل الذي لا يصدر منه ما يخالف ذلك، أضف إلى أن تطبيق القوانين الإلهية العادلة سوف يقود لإرساء العدالة وبسطها في صفوف المجتمع، وعليه فالحكومة هي المنفذة لهذه القوانين، أي أن تدبير شؤون الأمة سيتحرك في إطار العدالة وبسطها، ولذلك اشترط الإمام العدالة والعلم بالقانون في الحاكم الإسلامي:

((إن الشرائط التي يجب توفرها في الحاكم والناشئة من طبيعة الحكومة الإسلامية_بعد جمعه لتلك الشرائط العامة كالعقل والتدبير_لهي: 1_العلم بالقانون 2_العدالة))[39].

والعلم بالقانون والعدالة بمثابة الأسلوب والهدف في الحكومة الإسلامية، فهما يتطلبان علم الحاكم بالقانون وعدالته. إن القوانين الإسلامية إنما تفهم من خلال التعمق والتفقه في الدين، وكذلك على صعيد التحولات الثقافية يكون دور الفقه كمفسر لتلك القوانين، فيلبي متطلبات الأحكام المتغيرة، ولذلك صرح الإمام قائلاً: ((إن الفقه يمثل أطروحة واقعية وكاملة لإدارة شؤون الفرد والمجتمع من المهد إلى اللحد))[40].

وهذا تعبير آخر عن سعة الدين وشموليته. فرأي الإمام يدل على أن الحكومة تمثل الأداة والوسيلة التي تطبق القوانين والنظريات الاجتماعية_الإنسانية الإسلامية. وهذا بدوره يشير بصراحة إلى أن المراد بالفقه في كلام الإمام ليس القوانين الفقهية المسطورة في الكتب إنما المقصود هو الفهم القائم على التفقه والتعقل ووجود المؤسسة الاجتهادية والاستنباطية في البنية والهيكلية الدينية. حيث يمكن التوصل إلى القوانين الدينية المتغيرة والقوانين الثابتة بمعونة تلك المؤسسة بغية إشاعة حالة التوازن التي تتطلبها الحياة والمجتمع، وبالتالي الاستفادة التامة من آليات الحكومة وأجهزتها فيما يخدم الأهداف الدينية الإنسانية.

فلن تعد الحكومة في ظل هذا الرأي ضرورة زمانية لمقتضيات عصر أو جيل معين، بل ستكون حقيقة شاملة منبثقة من روح الدين وجوهره.

فإذا ما أرادت البشرية أن تمارس حياتها في ظل نظام يشيع في ربوعها العدل والأمن والمثل التي تبلغ بها درجات الكمال والرقي فان عليها أن تستقي مبادئ وأسس حكومتها من منبع ونظام يتمتع بتفسير ورؤية صائبة كاملة عن الحياة ومعتركاتها، ومثل هذا النظام إنما يكمن في الدين الإسلامي الذي يتميز بسعته وشموليته وديمومته.

 

3_ الإمامة والزعامة سمة للنبي:

الفرض المسبق والشرط الآخر المهم في فهم نظرية ولاية الفقيه وقبولها هو التصديق والاعتقاد بمنصب الحكومة للنبي (ص). فالنبي وطبق رسالته كان مكلفاً بإقامة الحكومة وزعامة الأمة. وان النبوة تعني إبلاغ الوحي وهداية الأمة. والنبي هو الهادي المرشد للسبيل. وان البشرية لتحتاج القيادة والزعامة إلى جانب الوعظ والإرشاد، وإنها لتلتمس ذلك في فرد أو فئة وأجهزة تنظم حياتها الاجتماعية وتفجر الطاقات والإمكانات لتوظفها في سبيل تكاملهم وتهذيبهم. ويطلق على هذه القيادة التي تتكفل بإيصال الإنسان إلى مراتب السمو والكمال البشري والإلهي ب ((الإمامة)) وقد كانت هاتان السمتان النبوة والإمامة لأنبياء الله العظام. وان النبي كان مبلغاً للوحي وزعيماً من جانب الله للمجتمع الديني.

وقد اتفق عامة المسلمين على زعامته وقيادته (ص). أي أن الله جعله إماماً حاكماً))[41].

ومنذ زوال الخلافة العثمانية سيما منتصف القرن الأخير إبان تسلل الأفكار العلمانية، فقد ذهب بعض المفكرين في المجتمعات الإسلامية إلى انه لم يكن ثمة ارتباط في صدر الإسلام بين حكومة النبي (ص) وزعامته، وبين رسالته ودعوته الدينية. فقد تصدى من خلال دافعه البشري وكونه نبياً منتخب الأمة لقضية القيادة والزعامة، لأعلى أساس كونه نبياً ويقوم بوظيفته الدينية. فالحكومة لم تكن صفة إلهية له (ص) بل فوض المسلمون له ذلك المنصب. وعليه فحكومته (ص) في المدينة لم تكن قضية دينية ولا تشعر المتدينين لان ينهضوا بتلك الوظيفة.

إن العلمانية هي الأساس الذي انبثق منه ذلك الكلام، الذي استدل أصحابه عليه ببعض الآيات القرآنية مثل:

{إنما أنت منذرٌ ولكلِ قومٍ هاد}[42].

{فإنما عليك البلاغُ وعلينا الحساب}[43]. {فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمصيطر}[44].

لقد زعم أولئك الأفراد وبالاستشهاد بهذه الآيات بأن ويفة النبي كانت مقتصرة على التبليغ ولم تكن له أية وظيفة من جانب الله سبحانه بشأن التصدي للسلطة التنفيذية في المجتمع[45].

ولا يخفى على أصحاب الفكر والفن تلك الآيات القرآنية أيضاً التي صرحت بالوظيفة الدينية للنبي (ص) في تنظيم شؤون الأمة وإدارتها على أساس الوحي والتعاليم القرآنية، الآيات التي تضمنت بعض التعليمات التنفيذية والعملية التي يؤدي تعطيلها وعدم ممارستها إلى زوال الشريعة وإفراغها من محتواها من قبيل آيات: الجهاد[46]، الدفاع[47]، الصلح[48] ، دفع الجزية[49]، القصاص[50]، الديات[51]، الحدود[52]، التسليم لحكم النبي بشأن الصراعات والنزاعات[53].

ومن جانب آخر الآيات التي تأمر المسلمين بطاعة الله والرسول فيما يتعلق بشؤون حياتهم[54]، و... أفلا تُشعر هذه الآيات بالوظائف الحكومية والتنفيذية للنبي (ص) إلى جانب رسالته التبليغية؟ فالوحي القرآني بالإضافة لاشتماله على المسائل المعنوية والأحكام العبادية، له أهدافه وأحكامه الاقتصادية والحقوقية والجزائية والعسكرية التي تفيد تصدي النبي لبيانها ثم تطبيقها بصورة عملية.

يعتقد الإمام بأن الحكومة والزعامة شأن من شؤون النبي (ص) اختصه الله به. على غرار شأن النبوة الذي منحه الله له، فقد كان له منصب الإمامة والزعامة النابعة من روح الوحي والدين: ((لقد أمر الله بتشكيل الحكومة إلى جانب طرحه القوانين والأحكام الشرعية، وكان رسول الله يمثل قمة الهرم في الأجهزة التنفيذية التي تتولى إدارة شؤون المجتمع الإسلامي، فقد سعى جاهداً إلى إجراء الأحكام وإقامة النظام حتى تمكن من تأسيس الدولة الإسلامية، إلى جانب إبلاغه الوحي والعقائد والأحكام وما إلى ذلك))[55].

وبالاستناد لكلمات الإمام يمكن التوصل إلى: وجوب اتباع المؤمنين للنبي (ص) والإمام (عليه السلام)، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[56]، يستنتج الإمام من هذه الآية الشريفة، أنها أمرت بطاعة الله ورسوله، طاعة الله تعني العمل بالأحكام الشرعية التي نزلت على النبي (ص). إذاً فالعبادة والأحكام الواردة عن طريق الوحي، تعني طاعة الله. أما طاعة النبي (ص) فهي نوع آخر، حيث لا يقال للعمل بأحكام الله طاعة لأوامر النبي (ص)، بل يقال له طاعة الله. طاعة النبي (ص) إنما تعني عمل المؤمنين بأوامر رسول الله التي تصدر منه بصفته زعيماً وقائداً للمجتمع الإسلامي، كأن يأمر رسول الله المسلمين بتجهيز جيش أسامة، فعلى المؤمنين أن يطيعوا أمر رسول الله (ص) وليس لهم الحق في معصيته، وذلك لان الله منحه (ص) الحاكمية والقيادة، وهو بدوره يجهز الجيش والتعبئة وفقاً للمصالح وما يقوم به من تشخيص للواقع.

إن المؤمنين وإضافة لوجوب عملهم بأوامر الوحي، فإنهم ملؤمون بان يذعنوا ويطيعوا النبي والإمام في هذه الأمور[57]. وبناء على ما تقدم يحرز المنصب الحكومي والزعامة الإلهية للنبي من الآية القرآنية.

 

الهيكلية الطبيعية للدين

 

يعتقد الإمام، بأن الإسلام ليس دين وعظ وإرشاد وعبادة فحسب ليقال ليس للنبي (ص) من وظيفة وشأن سوى بيان الأحكام وإسداد النصائح والوعظ والإرشاد، بل إن لميدان الاجتماعي والسبل العملية التنفيذية الناجعة والشاملة لتشكل الحقل الأصيل لهذا الدين القويم.

فللإسلام تعاليمه وأحكامه بشأن الحياة اليومية للإنسان وما يرتبط بسلوكه الفردي والاجتماعي من قبيل: البيع والشراء والمقايضة[58]، الزواج[59]، الطلاق[60]، الإرث والثروة[61]، والفقر[62]، المأكل والملبس[63]، العلاقات بين الأفراد[64]، و... ويدعو المسلمين لبناء مجتمعهم[65] الإسلامي على أساس الوحدة ورص الصفوف[66]، ويجتنبوا التشتت والفرقة[67]، ويأمر بملاحقة الأفراد الذين يحاولون الإخلال بالنظام وإشاعة الفوضى[68] والاضطراب.

والخلاصة مما تقدم:

((فان ماهية وطبيعة هذه القوانين والأحكام تفيد أنها شرعت بهدف إقامة الدولة وإدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والثقافية للأمة))[69] فكيف يمكن ألا يكون لمثل هذا الدين بهذه الهيكلية والأجهزة التنفيذية والبرامج الاجتماعية تعاليم تحث على تشكيل الدولة لإدخال القوانين والأحكام في حيز التطبيق. ويرى الإمام أن بعض الأحكام التنفيذية على درجة من الخطورة والحساسية ولها بالغ الأثر في الحياة الدينية، بحيث إن إتمام الرسالة وبلوغها كمالها كان بعد تعيين الحاكم الذي يخلف النبي (ص) ((لو لم يستخلف رسول الله لما كان قد بلغ رسالته[70] ولما كان قد أكملها. ولقد كانت ضرورة إجراء الأحكام ولزوم السلطة التنفيذية بمالها من أهمية قصوى في تحقق الرسالة وبسط العدل والقسط الذي هو منشأ لسعادة البشرية، وراء كون قضية تعيين الحاكم مرادفة لإتمام الرسالة وإكمالها))[71] وعليه فان ماهية وآلية القوانين الإسلامية تقتضي أن يتزعم رسول الله (ص) ويأخذ بزمام أمور الحكومة، ليتسنى له من خلالها تطبيق تعاليم الوحي وأحكامه.

 

 

 

نصب الخليفة (الاستخلاف)

 

لو كانت مهمة النبي (ص) مقتصرة على تلقي تعاليم الوحي وإبلاغها، فما الحاجة لنصب الخليفة؟

أفلم ينتهي الوحي وينقطع برحيل النبي (ص)؟

من جهة أخرى فان أئمة الشيعة والخلفاء الحقيقيين للنبي (ص)، لم يكونوا خلفاءه في تلقي الوحي وإبلاغه. فما كان قصد النبي (ص) من نصبه للخليفة (حسب اعتقاد الشيعة؟) وما هو الأمر الذي من أجله كان يسمى الخلفاء أنفسهم ب((خليفة النبي)) (حسب اعتقاد أبناء السنة)؟

لا شك كانت خلافته (ص) بخصوص الحكومة وإجراء الأحكام وتطبيق التعاليم الإسلامية في أوساط الأمة حيث ليس هنالك شيء آخر غير ما ذكرنا يمكن تصوره بهذا الشأن:

(حين يعين الله حاكماً للأمة بعد النبي (ص) فان هذا يعني بأن الحكومة بعده ضرورة أيضاً))[72].

((وذلك لان المسلمين يحتاجون لمن ينفذ القوانين بعد الرسول الأكرم (ص)، ويشيع المفاهيم والتعاليم الإسلامية وسط الأمة لتضمن سعادتها الدنيوية والأخروية))[73].

((إن العقل يحكم بوجوب تعيين الخليفة، ليتزعم الأمة، إننا نريد الخليفة ليقوم بتطبيق القوانين))[74].

 

حاجة التشريع الإسلامي للسلطة التنفيذية

إن الدين الذي ينظم حياة الإنسان ويهتم بممارساته لا بد أن يصوغ الحياة بنهجه وأسلوبه، وإذا ما اقتصر تأثيره على عقل الإنسان وقلبه فقط فلن يكون نصيبه إلا الظلم والإجحاف.

لا يمكن للشريعة بفضل ممارساتها الاجتماعية، أن تقف مكتوفة الأيدي غير مكترثة للأجهزة التنفيذية التي تدير شؤون المجتمع. فالقوانين المالية والمدنية وتعبئة الطاقات البشرية  لا تعالج قضايا القلب والعقل، إنما شرعت لتنظيم شؤون الأمة وإصلاح أمرها،وأن تطبيقها يتطلب حكومة وسلطة تنفيذية، وذلك لأنها تفقد فاعليتها دون هذه السلطة. ((إذا ما شرع قانون فانه يتطلب سلطة تنفيذية، فالتشريع أو الحكومة التي ليس لها سلطة تنفيذية تعاني من نقص كبير. ولذلك فان الإسلام أقر السلطة التنفيذية إلى جانب سنه للقوانين. (فولي الأمر) هو المتصدي أيضاً لتنفيذ القوانين ... كان رسول الله منفذاً للقانون)). وهنا نقول لو اقتصرت الماركسية والليبرالية على التصورات الفكرية ولم ينهض أتباعها بتشكيل الحكومات الماركسية والليبرالية، وكذلك لو لم تكن الرأسمالية والاشتراكية هي الأطروحة الاقتصادية التي تقام عليها الدولة والحكومة، أفكان بوسع هذه المدارس والاتجاهات أن تهيمن على الأنظمة السياسية وتخضع العالم لسياستها ونظرياتها الاقتصادية كما نشاهد ذلك اليوم في عالمنا المعاصر؟ إن مقارنة المدرسة الإسلامية بسائر المدارس لا يشعر فقط بان المدرسة الإسلامية بسائر المدارس لا يشعر فقط بان المدرسة الإسلامية لا تعاني من أي فقر ونقص بالنسبة لتلك المدارس، بل إنها غنية ثرية في كل جوانبها وأبعادها ولا يخفى ذلك على أي باحث ومحقق منصف. وهنا يطرح هذا السؤال:

لم غيبت الأطروحات والنظريات الإسلامية ولم تشهد حضوراً قانونياً وتشريعياً حتى في حكومات المجتمعات الإسلامية؟

لا شك أن السبب في ذلك يعزى إلى قصور المسلمين وغفلتهم عن الإسلام. إن عدم اعتماد النظريات الإسلامية، سيما على نطاق السياسة والاقتصاد، ثم غفلة حكومات الدول الإسلامية عن ممارستها، متوهمة أن ليس للإسلام فلسفة سياسية ونظرية اقتصادية مختصة به، يعتبر أعمق الأسباب لعزل الإسلام وإقصائه عن مسرح التنفيذ والتطبيق. وان حاولت بعض المجتمعات الإسلامية وبهدف إظهار التزامها بالإسلام أن تطبق عملياً بعض الأحكام المدنية وتنفذ بعض القوانين الجزائية من قبيل: القصاص والديات والحدود، إلا أنها إنما تمارس ذلك بشكل ساذج يفتقر إلى النظام. ولا شك أن ذلك ليس كافياً لإعادة الإسلام إلى مسرح الحياة وعكس جلاله وإشراقه.

وبالطبع فان المسلمين لن ينسوا للاستعمار الغربي دوره المقيت في الإحباط والفشل التنفيذي لهذا الدين، وهذا ما كان الإمام الراحل يؤكد عليه قائلاً: ((لقد أوحى إلينا الاستعمار بان ليس للإسلام حكومة، ولا يمتلك أجهزة ومؤسسات تدير الدولة. وإذا افترض اشتماله على بعض الأحكام، فان ليس هناك من يقوم بتنفيذها. وخلاصة القول فالإسلام تشريع فقط لا غير. وواضح تماماً أن هذه الدعايات، لا تمثل إلا جزء من مخطط الاستعمار والامبريالية، بغية إبعاد المسلمين عن السياسة وتشكيل الحكومة. إن هذا الكلام ليتعارض وعقائدنا الأساسية))[75].

يرى الإمام أن حاجة التشريع الإسلامي لمنفذ إنما تتأتى من روح تلك الشريعة، وإلا ظلت حقائق الوحي بتراء في ضمانها للسعادة البشرية في كافة النواحي.

والنتيجة التي نخلص إليها أن الاعتقاد بالهيكلية التنفيذية الإسلامية وطرح ((الإمامة)) وعدم انفصال الإسلام عن الحكومة، هو الذي يفسر لنا رأي الإمام بشأن إلهية ودينية المنصب الحكومي للنبي وزعامته وإمامته.

وقد اتفق متكلموا الشيعة على أن الإمامة منصب الهي ومنهم:

* السيد مرتضى، الذي يرى الإمامة في دائرة أفعال الله:

((والذي من فعله تعالى هو إيجاد الإمام وتمكينه بالقدرة والآلات والعلوم من القيام بما فوض إليه، والنص على عينه وإلزامه القيام بأمر الإمامة))[76].

* نصير الدين الطوسي، الذي يعتقد بأن الإمامة من مقتضيات لطفه سبحانه بعباده بهدف هدايتهم:

((الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى))[77].

*وذهب العلامة الحلي إلى أن الإمامة زعامة الأمة في الشؤون الدينية والدنيوية وهي من اللطف الإلهي:

((الإمامة ريساة عامة في أمور الدنيا والدين لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي وهي واجبة عقلاً لان الإمامة لطف))[78].

وإن صرحت الأبحاث الكلامية لبعض المتكلمين بعدم حتمية وضرورة تلازم النبوة والإمامة[79]. أما بشأن نبي الإسلام (ص) فقد أجمع متكلمو الفريقين من السنة والشيعة على إمامته. ولعل أولئك الذين قالوا بعدم الترابط والتلازم بين النبوة والإمامة، إنما تأثروا بما شاهدوه خارجاً من انفصال وتجزئة، أي أن بعض الأنبياء لم يتمكنوا من تزعم الأمة ورئاستها[80]. كما هو الحال عند بعض أئمة العصمة (عليهم السلام) حين لم تتهيأ الشرائط الاجتماعية لان يتزعموا ويأخذوا بزمام أمور الأمة، إلا أن ذلك المنصب كان ثابتاً لهم.

 

4_ ديمومة الإمامة وخلودها:

 

إن الاعتقاد بديمومة وخلود زعامة وإمامة النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) يمثل أوضح المباني والعقائد الكلامية التي تلعب دور البنية التحتية في فهم وتقبل نظرية ولاية الفقيه. وقد اتضح من الأبحاث السابقة أن الإسلام وبسبب شموليته وسعته في معالجة كافة نواحي الحياة بما فيها القضايا الاجتماعية، وكذا اشتماله على التعاليم والأحكام التي تتطلب الحاكمية لإجرائها وتنفيذها، فان الله أعطى الحاكمية والزعامة للنبي (ص) ومن بعده للائمة (عليهم السلام)، ليتسنى لهم من خلالها التطبيق التام العملي لمضامين الشريعة وأهدافها.

وهنا يأتي دور الكلام في أنه هل تستمر هذه القضية في عصر الغيبة_أي انه لا بد من تحقق كافة التعاليم الدينية_أم أن هذا العصر يقتصر على تحقيق المسائل العبادية والمعنوية، دون القضايا الاجتماعية وتطبيق الدين.

قال الإمام الخميني (قدس سره): ((لقد مرت أكثر من ألف سنة على الغيبة الصغرى إلى يومنا هذا، وقد تمر آلاف السنين حيث لا تقتضي المصلحة ظهوره (عليه السلام)، افتهمل أحكام الإسلام في هذه الفترة وتترك دون تطبيق؟ أفكانت الأحكام الإسلامية التي جهد النبي الأكرم في بيانها ونشرها وتطبيقها مدة ثلاث وعشرين سنة_كانت_مقتصرة على مدة معينة؟ وهل حدد الله تنفيذ أحكامه بمئتي سنة فقط؟ وهل تخلى الإسلام عن أهدافه بأجمعها بعد الغيبة الصغرى[81]؟

إنه لمن الواضح أن تعاقب الزمان لا يحد من نطاق الدين ودائرة نفوذه، ولا بد لحقائق الشريعة ومضامينها أن تبقى حية خالدة على الدوام.

و بناء على ما تقدم فان الحاكمية والزعامة التي مارسها النبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) ستستمر حتى في عصر الغيبة أيضاً.

إلى هنا كان الحديث بشأن الوجوب الديني للحكومة، سعة الدين وشموليته، إلهية منصب الحاكمية والزعامة للنبي (ص) والأئمة (عليهم السلام)، ووجوب ديمومة الزعامة إبان الغيبة مما يثبت الرؤية الإسلامية للحكومة، وان عبارة ((الحكومة الإسلامية)) ليست مفهوماً مفروضاً من هذا أو ذاك على الثقافة الإسلامية، بل هي فهم عقلي وتفسير عميق وأصيل لعناصر المعرفة الدينية وحقائقها الناصعة النابعة من هذه الشريعة.

والآن وبعد مرحلة إثبات ((الحكومة الإسلامية)) بمعنى وجوب تشكيلها على أساس الإسلام، تأتي مرحلة تزعم الفقيه لهذه الحكومة.

فان قيل بوجوب الحكومة الإسلامية التي ينبغي أن تسعى لتحقيق أحكام الدين وأهدافه، أفيمكن لأي فرد ولكل حاكمية أن تتولى مسؤولية إسلامية الحكومة حدوثاً وبقاء؟ أم هناك زعامة وحاكمية خاصة لهذا الأمر، كالذي مارسته الشريعة التي لم تغفل عن نصب الحاكم؟ وهنا نطرح سؤالاً بهذا الخصوص، ثم نلتمس الجواب في كلمات الإمام وآرائه.

لمن تكون وظيفة تشكيل الحكومة في عصر الغيبة؟

يرى الإمام أن وظيفة تشكيل الحكومة في زمان الغيبة للفقهاء، وهذه هي نظرية ((ولاية الفقيه)). وقد استند الإمام بدليلين علة ما ذهب إليه:

1_ المنهج العقلي والنظرة الخارجية للدين والحكومة.

2_ المنهج النقلي والاستدلال في إطار الدين.

 

 

المنهج العقلي

يستدل الإمام على إثباته ((لولاية الفقيه)) ووجوب تزعم الفقيه للحكومة من خلال جعله للنتيجة المتحصلة من المباحث السابقة بمثابة الصغرى، أي أن الحكومة في خدمة الدين وهي وسيلة لتحقق القوانين والأحكام الإسلامية:

((إن الحكومة الإسلامية لما كانت حكومة قانونية بل حكومة القانون الإلهي فقط_ وإنما جعلت لأجل إجراء القانون وبسط العدالة الإلهية بين الناس_لا بد في الوالي من صفتين هما أساس الحكومة القانونية، ولا يعقل تحققها إلا بهما: إحداهما العلم بالقانون، والأخرى العدالة، ومسألة الكفائة داخلة في العلم بنطاقه الأوسع، ولا شبهة في لزومها في الحاكم أيضا، وان شئت قلت: هذا شرط ثالث من أسس الشروط))[82].

فقد اتضح بان أساس استدلاله هو إسلامية الحكومة، فهو يعتقد بان المجتمع الإسلامي بحاجة للحكومة التي تضمن له الدنيا التي تقوم على أساس العدل والعقل والمعنويات، إضافة: لسعادته الأخروية من خلال تطبيقه لقوانين وأحكام الشريعة. لا شك أن هذه الحكومة إنما تتشكل من ذلك الفرد المتخصص بالدين والمتعمق والملم بثقافته ومعارفه وأهدافه ومثله، والذي له الأهلية والكفاءة اللازمة لزعامة الأمة وإدارة شؤونها. وهذه قضية عقلية واضحة وبخلافها سوف لن يكون جديراً بالحاكمية، عاجزاً عن تطبيق برامجها ومشاريعها:

((إذا لم يكن الحاكم عارفاً بالقانون، فهو لا يليق للحكومة، وذلك انه إن قلد أساء لاقتدار الحكومة، وان لم يقلد، عجز عن إجراء القوانين وتنفيذها))[83].

 

المنهج النقلي

الدليل الأساسي الذي اعتمده الإمام لإثبات ((ولاية الفقيه)) ومن ثم وجوب تشكيل الحكومة الإسلامية، هو المنهج العقلي، ولذلك كان الدليل الثانوي الذي استدل به الإمام على ولاية الفقيه هو الروايات والأدلة النقلية. حيث كتب بعد فراغه من بيان الدليل العقلي واعتقاده بكفايته فيما ذهب إليه:

((و مع ذلك دلت عليها بهذا المعنى الوسيع روايات نذكر بعضها ...)).

و خلاصة القول فان الإمام يتناول تلك الروايات بالنقد والتحليل ثم يخلص لهذه النتيجة:

((إن الولاية التي كانت للنبي (ص) والأئمة (عليهم السلام) هي ثابتة للفقيه أيضاً. وليس هناك من شبهة في هذا الموضوع، إلا دليلاً واحداً

يخالف ما ذهبنا إليه، وبالطبع فإننا أسقطنا ذلك الدليل))[84].

وفي الختام نستنتج بان نظرية ولاية الفقيه تتمتع باعتبارها الاستدلالي بالاستناد لدليل العقل، حتى لو انبرى فقيه ليستدل ببعض الأدلة والروايات التي لا يراها كافية سواء من حيث السند أو الدلالة لإثبات الولاية.

 

المصدر: كتاب دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني

 بحار الانوار، العلامة المجلسي 74: 165، مؤسسة الوفاء بيروت.[1]

 ولاية الفقيه، الامام الخميني قدس سره: 7 المقدمة، نشر آثار الامام.[2]

 كتاب البيع، الإمام الخميني قدس سره 2: 459 – 501، اسماعيليان.[3]

 ولاية الفقيه: 7، المقدمة.[4]

 ولاية الفقيه، الإمام الخميني قدس سره: 7، المقدمة، نشر آثار الإمام.[5]

 المصدر السابق: 3.[6]

 المصدر السابق: 20.[7]

 سورة فصلت: 41_42[8]

 الميزان في تفسير القرآن، العلامة الطباطبائي 17: 398، بيروت.[9]

 سورة الحجر: 9.[10]

 أصول الكافي، الكليني 1: 61، بيروت. نهج البلاغة، الخطبة 158: 223، تحقيق صبحي الصالح.[11]

 نهج البلاغة، الخطبة 198: 314، تحقيق صبحي الصالح.[12]

 ((مؤتمر دراسة المباني الفقهية للإمام الخميني قدس سره المجلد 10.[13]

 ولاية الفقيه: 18 – 19.[14]

 المصدر السابق: 31.[15]

 المصدر السابق.[16]

 علل الشرايع، الشيخ الصدوق 1: 251، الباب 182، ط – بيروت.[17]

 ولايت الفقيه: 31.[18]

 سورة النمل: 89.[19]

 سورة المائدة: 3.[20]

 سورة الأنعام: 38.[21]

 أصول الكافي، الكليني 1: 59، ط – بيروت.[22]

 ولاية الفقيه: 21.[23]

 سورة النحل: 44.[24]

 سورة الحشر: 7.[25]

 سورة الواقعة: 7.[26]

 أصول الكافي 1: 213 – 214 و260 – 261.[27]

 سورة الأنفال: 29.[28]

 وسائل الشيعة 18: 19، ح 9.[29]

 ((المداراة والإدارة)) عبد الكريم سروش: 274.[30]

 صحيفة النور، المجلد 2: 155.[31]

 بحار الانوار، المجلد 16: 324.[32]

 المصدر السابق.[33]

 المصدر السابق المجلد 20: 156.[34]

 بحار الأنوار 75: 46.[35]

 سورة النساء: 97.[36]

 سورة الأحزاب: 67.[37]

 سورة الحديد: 25.[38]

 ولاية الفقيه: 37.[39]

 صحيفة النور 21: 98.[40]

 مجموعة مؤلفات الشهيد المطهري 3: 281 و318 دار النشر صدرا.[41]

 سورة الرعد: 7.[42]

 سورة الرعد: 40.[43]

 سورة الغاشية: 21 – 22.[44]

 الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرزاق: 53 نقلا عن: ((الخلافة والإمامة)) عبد الكريم الخطيب: 219، بيروت.[45]

 سورة الحج: 40.[46]

 سورة الأنفال: 60.[47]

 سورة النساء: 90.[48]

 سورة التوبة: 105. سورة الحج: 41. سورة النور: 27.[49]

 سورة البقرة: 179.[50]

 سورة البقرة: 179.[51]

 سورة النساء: 92.[52]

 سورة النور: 2، 4.[53]

 سورة النساء: 59.[54]

 ولاية الفقيه: 17.[55]

 سورة النساء: 59.[56]

 ولاية الفقيه: 60.[57]

 سورة البقرة: 275.[58]

 سورة النساء: 3، 4.[59]

 سورة البقرة: 231، 232.[60]

 سورة الحشر: 7.[61]

 سورة التوبة: 60. سورة الماعون: 1 – 3.[62]

 سورة المائدة: 4 – 5.[63]

 سورة الفتح: 29.[64]

 سورة آل عمران: 104، 110.[65]

 سورة آل عمران: 103.[66]

 سورة الانفال: 46.[67]

 سورة الحجرات: 9.[68]

 ولاية الفقيه: 20.[69]

 اقتباس من الآية 67 من سورة المائدة.[70]

 ولاية الفقيه: 15.[71]

 المصدر السابق: 18.[72]

 المصدر السابق: 17.[73]

 المصدر السابق: 14.[74]

 المصدر السابق: 14.[75]

 الذخيرة، السيد المرتضى: 419، الانتشارات الاسلامية، التابعة لجماعة المدرسين.[76]

 تجريد الاعتقاد، الخواجه نصير الدين الطوسي: 221، تحقيق حسين الجلالي.[77]

 الباب الحادي عشر، العلامة الحلي: 39، تحقيق الدكتور مهدي محقق.[78]

 الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: 111 – 114، الانتشارات الاسلامية.[79]

 ولاية الفقيه هي البنية التحتية للحكومة الاسلامية، آية الله جوادي آملي: 108.[80]

 ولاية الفقيه: 19.[81]

 كتاب البيع، الامام الخميني قدس سره: 2: 464 – 465.[82]

 ولاية الفقيه: 38.[83]

 [84]