آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري

الأعلميّة والقيادة

هل يشترط في إعمال الولاية لقيادة المجتمع الإسلامي وتسيير أمورهم أن يكون الوليّ أعلم في الفقه أو لا؟

توجد عدّة روايات يمكن أن يستفاد منها شرط الأعلمية في الفقه من قبيل:

1 ـ ما عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، عن الصادق (عليه السلام) بسند تامّ في قصّة دعوة الناس إلى محمد بن عبد الله بن الحسن، حيث جاء جماعة إلى الصادق (عليه السلام) لكي يدعوه إليه، فعرض الإمام (عليه السلام) على متكلمهم في ذلك المجلس وهو عمرو بن عبيد أحكاماً لابدّ له من العمل بها لو ولّي الأمر أو أراد أن يولّي أحداً من قبيل: هل يعيّن الوليّ بالشورى أو بأيّ طريق آخر؟ ومن قبيل ما هو الموقف من المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية؟ ومسائل أخرى، فأفحمه الإمام (عليه السلام) في أجوبته، ولم يعرف كيف يجيب. ثم قال له الإمام (عليه السلام): «اتّقِ الله، وأنتم أيّها الرهط فاتّقوا الله، فإنّ أبي حدّثني ـ وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف"(1).

2 ـ ما عن الفضيل بن يسار بسند غير تامّ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع، ومن ادّعى الإمامة وليس بإمام فهو كافر"(2).

وقد روى هذا الحديث النعماني في غيبته عن علي بن محمد، عن عبد الله بن موسى (ولم نعرف حالهما) عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن الفضيل بن يسار، وفيه كلمة: (أفضل) بدلاً من كلمة: (أعلم).

3 ـ صحيحة عيص بن القاسم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وانظروا لأنفسكم، فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلاً هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها..."(3).

4 ـ ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أفينبغي أن يكون الخليفة إلاّ أعلمهم بكتاب الله وسنّة نبيّه وقد قال الله: {أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يُهدى)(4) ، وقال: {وزاده بسطة في العلم والجسم}(5) وقال: {أو أثارة من علم}(6) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما ولّت أمّة قطّ أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا». يعني الولاية، فهي غير الإمارة على الأمّة(7).

5 ـ ما في نهج البلاغة من قوله (عليه السلام): «أيّها الناس، إنَّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه؛ فإن شغب شاغب استُعتب، فإن أبى قوتل. ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار...»(8).

6 ـ ما رواه البرقي في المحاسن عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من أمّ قوماً وفيهم أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة»(9).

7 ـ ما في أمالي الشيخ الطوسي عن خطبة الحسن (عليه السلام) بمحضر معاوية وفيها: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا»(10).

وفي نقل آخر كلمة (قطّ) محذوفة(11).

8 ـ ما في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام): «من دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ»(12).

9 ـ ما رواه المفيد في الاختصاص، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من تعلّم علماً ليماري به السفهاء، ويباهي به العلماء، ويصرف به الناس إلى نفسه يقول أنا رئيسكم، فليتبوّأ مقعده من النار. ثم قال: إنّ الرئاسة لا تصلح إلاّ لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه يوم القيامة»(13).

10 ـ ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان أحقّيته (عليه السلام) بالخلافة: «إنّهم قد سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول عوداً وبدءاً: ما ولّت أمّة رجلا قطّ أمرها وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا.. فولّوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن ولا يدّعي أنّ له علماً بكتاب الله ولا سنّة نبيّه، وقد علموا أنّي أعلمهم بكتاب الله وسنّة نبيّه، وأفقههم وأقرأهم لكتاب الله، وأقضاهم بحكم الله»(14).

11 ـ ما رواه ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم من كتاب لعليّ (عليه السلام) إلى معاوية وأصحابه وفيه: «... ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ويعدو طوره، ويُشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله؛ فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديماً وحديثاً أقربها من الرسول، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدين؛ أوّلها إسلاماً وأفضلها جهاداً، وأشدّها بما تحمله الأئمّة من أمر الأمّة اضطلاعاً، فاتّقوا الله الذي إليه ترجعون، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وأنتم. تعلمون...»(15).

12 ـ ما في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان صفات الإمام: «وأمّا اللواتي في صفات ذاته فإنّه يجب أن يكون أزهد الناس، وأعلم الناس، وأشجع الناس، وأكرم الناس... إلى أن قال: والثاني: أن يكون أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وضروب أحكامه، وأمره ونهيه، وجميع ما يحتاج إليه الناس؛ فيحتاج الناس إليه ويستغني عنهم... إلى أن قال: والخامس: العصمة من جميع الذنوب... وإلى أن قال: وأمّا وجوب كونه أعلم الناس فإنه لو لم يكن عالماً لم يؤمن أن يقلب الأحكام والحدود، ويختلف عليه القضايا المشكلة، فلا يجيب عنها بخلافها...»(16).

فيستدلّ بمثل هذه الروايات على أنّ ولاية الأمر، بمعنى قيادة الأمّة في الأحكام الولائية، مشروطة بالأعلمية في الفقه من جميع الفقهاء.

إلاّ أنّنا ابتداءً نقول: يمكن أن تطرح في مقابل هذه الاستفادة من الروايات أربعة احتمالات:

الأوّل: أن لا يكون المقصود بشرط الأعلمية هي الأعلمية من جميع الناس، بل الأعلمية من الواجدين لسائر شرائط ولاية الأمر، كالشجاعة، والكفاءة السياسية والاجتماعية، والاطّلاع على متطلّبات حياة اليوم ومشاكل المجتمع وحلولها، وما إلى ذلك.

والثاني: أن لا يكون المقصود بالأعلمية الأعلمية في الفقه، بل يكون المقصود بها الأعلمية بلحاظ مجموع ما يجب أن يكون الوليّ عالماً به من الفقه، والموضوعات التي هو بحاجة إليها في مقام تطبيق أحكام الله، والقضايا السياسية والاجتماعية، والمشاكل والحلول، وما إلى ذلك؛ فربما يكون فقيه آخر أعلم منه في خصوص الفقه ولكن يكون هذا الوليّ أعلم من ذلك في الجوانب السياسية ومعالجة الأمور الاجتماعية مثلاً، بحيث يكون الوليّ أعلم من ذاك في المجموع من حيث المجموع.

والثالث: أن يكون المقصود بالولاية المرجعية في الأحكام الإلهية والولائية في وقت واحد، فإنّ التفكيك بينهما فكرة متأخّرة، وهي وإن راجت عملاً في زمن العباسيين، فكانت الإمرة بيد الخلفاء، وكانت الفتوى بيد أمثال أبي حنيفة والشافعي وأحمد والمالكي، ولكنّ الشيعة كانوا لايزالون يرون المنصبين لشخص واحد، وكان العلويون يثورون لتسنّم كلا المنصبين، سواء منهم من كان يثور لإمارة نفسه أو كان يثور لتسليم الأمر بعد ذلك للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) فهذه الروايات تنصرف إلى الإمامة بهذا المعنى الرائج وقتئذ في الأذهان.

والرابع: أن يكون المقصود شرط الأعلمية في الإمامة بمعناها الخاصّ لدى الشيعة المشتمل ـ زائداً على منصب الولاية والمرجعية في فهم أحكام الله ـ على ركن ثالث، وهو ما قد يعبّر عنه بالسبب المتّصل بين الأرض والسماء، كما في دعاء الندبة، أو بتعبير: «لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها»(17)، أو بتعبير: «وإنّي لأمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء» كما في التوقيع الشريف(18)، أو بتعبير: «بكم فتح الله وبكم يختم، وبكم ينزّل الغيث، وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، وبكم ينفّس الهمّ...» كما في زيارة الجامعة الكبيرة. وهذه الإمامة هي الإمامة المشترط فيها العصمة، ويشترط فيها أن يكون الإمام أعلم من جميع الناس.

ويمكن المزج بين أكثر من واحد من هذه الاحتمالات كأن نقول: إنّ المقصود بالولاية ما يشمل المرجعية في الأحكام الولائية والأحكام الإلهية معاً، وإنّ المقصود بالأعلمية بلحاظ مجموع الأمور التي لابدّ للوليّ من العلم بها، لا في خصوص الفقه، أو الأعلمية من ضمن مجموع المؤهّلين للقيادة.

والتامّ سنداً من هذه الروايات هي الرواية الأولى والثالثة.

وتحقيق الكلام في مفاد هذه الروايات ينبغي أن يتم حول محاور ثلاثة كما يظهر من الالتفات إلى الاحتمالات التي شرحناها، فإنّ هذه الروايات لاشكّ في أنّها اشترطت الأفضلية في العلم، فيقع الكلام:

أوّلاً: في تشخيص المفضّل، هل هو الإمام بالمعنى المصطلح الشيعي الخاصّ، أو هو وليّ الأمر بمعنى المرجع في الأحكام الولائية والإلهية معاً، أو هو ولي الأمر بمعنى المرجع في الأحكام الولائية فحسب، وأمّا الأحكام الإلهية فيأخذها كلٌ ممّن يقلّد؟

وثانياً: في المفضّل عليه؛ فهل المفروض كون الوليّ أعلم من جميع الناس، أو كونه أعلم من خصوص المؤهّلين للقيادة؛ أي الواجدين لباقي شرائط القيادة؟

وثالثاً: في المفضّل فيه؛ فهل المقصود الأعلمية بلحاظ الفقه، أو بلحاظ مجموع ما يحتاج الوليّ إلى العلم به؟

أمّا المحور الأوّل: وهو المفضّل في هذه الروايات، فالظاهر أنّ نظر أكثر الروايات إلى القيادة بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية والإلهية في وقت واحد، لا الولائية فحسب، لما أشرنا إليه من أنّ المرتكز في وقت صدور النصوص لدى الشيعة والثائرين ـ وحتّى بعد الفصل الذي وقع عملاً بين المنصبين في زمن بني العباس ـ هو القيادة بهذا المعنى، لا بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية فحسب، بل بعض تلك الروايات ناظرة إلى تطبيق الكبرى التي تشير إليها على خصوص الإمام المصطلح عليه لدى الشيعة، والذي يجب عندنا أن يكون معصوماً ومنصوصاً عليه، كما هو الحال في صحيحة عيص الماضية على ما يظهر من ذيلها، فإنّه ورد في ذيلها الذي حذفناه في ما مضى ما يلي:

«... والله لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها، ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، ولكن له نفس واحدة إذا ذهبت فقد والله ذهبت التوبة، فأنتم أحقّ أن تختاروا لأنفسكم إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً، وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه، بل دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه. إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه، فالخارج منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم إنّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا إلاّ من اجتمعت بنو فاطمة معه، فوالله ما صاحبكم إلاّ من اجتمعوا عليه إذا كان رجب فأقبلوا على اسم الله، وإن أحببتم أن تتأخّروا إلى شعبان فلا ضير، وإن أحببتم أن تصوموا في أهاليكم فلعلّ ذلك يكون أقوى وكفاكم بالسفياني علامة»(19).

وهذا ـ كما ترى بوضوح ـ ينظر إلى الإمام بمصطلحه الشيعي الخاصّ.

إلاّ أنّ الكبرى العامّة المنظور إليها في الحديث إنّما هي الولاية بمعناها الشامل للمرجعية في الأحكام الإلهية والولائية، والتي هي أعمّ من الإمامة بمعناها الخاصّ الشيعي المشروط بالعصمة والنصّ، بدليل أنّ الذين كان الإمام (عليه السلام) بصدد ردعهم عن الخروج مع من افترضوه إماماً لم يكونوا يقصدون الإمامة بالمعنى الخاصّ، ولم يكونوا يدّعون بشأنه النصّ ولا العصمة، ولا كونه سبباً متّصلاً بين الأرض والسماء، أو نحو ذلك. فهذه الرواية كباقي الروايات واضحة في الإطلاق في اشتراط القيادة بمعنى المرجعية لكلا منصبي الفتوى والولاية بالأعلمية ولو لم يكن القائد بمرتبة العصمة أو السببية المتّصلة بين الأرض والسماء.

ونستثني ممّا قلناه الرواية الثانية عشرة، فإنّها واضحة في شروط لا تجتمع إلاّ في الإمام المعصوم، بل هي تصرّح بشرط العصمة أيضاً، فهذه الرواية بالذات أجنبيّة عمّا نحن فيه، إذ لا يمكن تعميمها لغير المعصوم.

وأمّا المحور الثاني: وهو المفضّل عليه في هذه الروايات، فهو واضح كل الوضوح في أ نّه المسلمون لا خصوص المؤهّلين للقيادة، وها هي صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي تقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «من ضرب الناس بسيفه، ودعاهم إلى نفسه، وفي المسلمين من هو أعلم منه، فهو ضالّ متكلّف». ورواية الفضيل بن يسار: «من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع». ورواية المجالس: «ما ولّت أمّة رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً...». وغيرها.

وأمّا المحور الثالث: وهو المفضّل فيه، فالظاهر من هذه الروايات كونه عبارة عن الأحكام الفقهية، فإنّ المنصرف إليه من كلمة العلم في لغة الروايات أو المتيقن منه فيها عموماً هي علوم الشريعة ما لم تقم قرينة على الخلاف، بل عدد من الروايات الماضية صريحة في ذلك، كما في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، كما يظهر من صدرها الذي حذفناه في ما سبق، واكتفينا بالإشارة إليه، وإليك نصّه:

«قال: كنت قاعداً عند أبي عبد الله (عليه السلام) بمكّة، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة فيهم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وحفص بن سالم مولى ابن هبيرة وناس من رؤسائهم، وذلك حِدْثان قتل الوليد واختلاف أهل الشام بينهم، فتكلّموا وأكثروا، وخطبوا فأطالوا، فقال لهم أبو عبد الله (عليه السلام): إنّكم قد أكثرتم عليّ فأسندوا أمركم إلى رجل منكم، وليتكلّم بحججكم ويوجز، فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد، فتكلّم فأبلغ وأطال، فكان في ما قال أن قال: قد قتل أهل الشام خليفتهم(20)، وضرب الله عزّ وجلّ بعضهم ببعض، وشتّت الله أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروّة، وموضع ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن، فأردنا أن نجتمع عليه، فنبايعه، ثم نظهر معه، فمن كان بايعنا فهو منّا وكنّا منه، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه، ونصبنا له على بغيه وردّه إلى الحقّ وأهله. وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فتدخل معنا، فإنّه لا غنىً بنا عن مثلك، لموضعك وكثرة شيعتك. فلمّا فرغ قال أبو عبد الله (عليه السلام): أكلّكم على مثل ما قال عمرو؟ قالوا: نعم. فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: إنّما نسخط إذا عُصي الله، فأمّا إذا أطيع رضينا. أخبرني يا عمرو لو أنّ الأمّة قلّدتك أمرها وولّتك بغير قتال ولا مؤونة، وقيل لك: ولّها من شئت، من كنت تولّيها؟ قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين قال: بين المسلمين. كلّهم؟ قال: نعم. قال: بين فقهائهم وخيارهم؟ قال: نعم. قال: قريش وغيرهم؟ قال: نعم. قال: والعرب والعجم؟ قال: نعم. قال: أخبرني يا عمرو أتتولّى أبا بكر وعمر أو تتبرّأ منهما؟ قال: أتولاّهما. فقال: فقد خالفتهما. ما تقولون أنتم، تتولّونهما أو تتبرّؤون منهما؟ قالوا: نتولاّهما.

قال: يا عمرو، إن كنت رجلاً تتبرّأ منهما فإنّه يجوز لك الخلاف عليهما، وإن كنت تتولاّهما فقد خالفتهما؛ فقد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور فيه أحداً، ثم ردّها أبو بكر عليه ولم يشاور فيه أحداً، ثم جعلها عمر شورى بين ستّة وأخرج منها جميع المهاجرين والأنصار غير أولئك الستّة من قريش، وأوصى فيهم شيئاً لا أراك ترضى به أنت ولا أصحابك، إذ جعلها شورى بين المسلمين. قال: وما صنع؟ قال: أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيّام، وأن يشاور أولئك الستّة ليس معهم أحد إلاّ ابن عمر يشاورونه وليس له من الأمر شيء، وأوصى من بحضرته من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيّام قبل أن يفرغوا أو يبايعوا رجلاً أن يضربوا أعناق أولئك الستّة جميعاً، فإن اجتمع أربعة قبل أن تمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضربوا أعناق الاثنين، أفترضون بهذا أنتم في ما تجعلون من الشورى في جماعة من المسلمين؟ قالوا: لا. ثم قال: يا عمرو دع ذا، أرأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ثم اجتمعت لكم الأمّة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضتم إلى المشركين الذين لا يسلمون ولا يؤدّون الجزية، أكان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ماذا؟ قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية. قال: وإن كانوا مجوساً ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء. قال: وإن كانوا مشركي العرب وعبدة الأوثان؟ قال: سواء. قال: أخبرني عن القرآن تقرؤه؟ قال: نعم. قال: اقرأ {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتُوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}(21)، فاستثناء الله عزّ وجلّ واشتراطه من الذين أوتوا الكتاب، فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم. قال: عمّن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون. قال: فدع هذا؛ فإنْ هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم، كيف تصنع بالغنيمة؟ قال: أخرج الخمس وأقسّم أربعة أخماس بين من قاتل عليه. قال: أخبرني عن الخمس من تعطيه؟ قال: حيثما سمّى الله. قال: فاقرأ: {واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}(22)، قال: الذي للرسول من تعطيه؟ ومن ذو القربى؟ قال: قد اختلف فيه الفقهاء؛ فقال بعضهم: قرابة النبي(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته، وقال بعضهم: الخليفة، وقال بعضهم: قرابة الذين قاتلوا عليه من المسلمين. قال: فأيّ ذلك تقول أنت؟ قال: لا أدري، قال: فأراك لا تدري فدع ذا. ثم قال: أرأيت الأربعة أخماس تقسّمها بين جميع من قاتل عليها؟ قال: نعم. قال: قد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في سيرته، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم فاسألهم، فإنّهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا على إن دهمه من عدوّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم، وليس لهم في الغنيمة نصيب، وأنت تقول: بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلّ ما قلت في سيرته في المشركين. ومع هذا ما تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه الآية: {إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها...} إلى آخر الآية(23) قال: نعم، فكيف تقسّمها؟ قال: أقسّمها على ثمانية أجزاء، فأعطي كل جزء من الثمانية جزءاً. قال: وإن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف منهم رجلاً واحداً أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف؟ قال: نعم. قال: وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء؟ قال: نعم. قال: فقد خالفت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ما قلت في سيرته؛ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر، ولا يقسّمه بينهم بالسويّة، وإنّما يقسّمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى، وليس عليه في ذلك شيء موقّت موظّف وإنما يصنع ذلك بما يرى على قدر من يحضره منهم. فإن كان في نفسك ممّا قلت شيء فالقَ فقهاء أهل المدينة فإنّهم لا يختلفون في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا كان يصنع. ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال له: اتّقِ الله...» إلى آخر ما مضى من مستهلّ البحث وفيه: "من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف".

وأنت ترى أنّ المتيقّن من عنوان الأعلم في هذا الذيل بعد ذاك الصدر المفصّل الناظر إلى الأحكام الفقهيّة هو الأعلم بلحاظ الأحكام الفقهية، وكذلك الحال في الرواية الرابعة، وفيها: "إلاّ أعلمهم بكتاب الله وسنّة نبيّه" والخامسة، وفيها: "أعلمهم بأمر الله" والحادية عشرة، وفيها: "وأعلمها بالكتاب وأفقهها في الدين".

ويمكن أن نستنتج إلى هنا من البحث: أنّ الأعلمية في الفقه شرط في القائد بمعنى من يقود المجتمع في الأحكام الإلهية والولائية معاً، لأ نّنا اخترنا في المحور الأول من البحث أنّ نظر الروايات إلى القيادة بمعنى المرجعية في الأحكام الولائية والإلهية في وقت واحد، واخترنا في المحور الثالث أنّ المقصود هو الأعلمية في الفقه.

أمّا إذا كان القائد يقود المجتمع في الأحكام الولائية فحسب، فهذه الروايات لا تدلّ على شرط الأعلمية في الفقه فيها. نعم، من يعتقد بأعلميته في الفقه يقلّده في الأحكام الإلهية أيضاً، ومن يعتقد بأعلميّة غيره يقلّد غيره في ذلك.

وهنا ينبغي إبراز نكتة أخرى، وهي: أنّ الأعلمية في الفقه وإن كانت في الفهم المتشرّعي اليوم تعني الأعلمية في الكبريات الفقهية، وأمّا تطبيق الصغريات فعلى المقلِّد نفسِه، ولكن لا ينبغي أن تحمل الروايات على هذا المعنى، وإنّما ينبغي أن تحمل بمناسبات الحكم والموضوع على الأعلمية في الأحكام التطبيقية واالتنفيذية والتي هي نتيجة الصغرى والكبرى معاً.

وتوضيح ذلك: أنّ القائد يقود المجتمع في الأحكام الاجتماعية بتنفيذ أحكام الله عليه وتطبيقها في الخارج وفرضها على المجتمع، فالمناسب هو فرض الأعلمية في النتائج التي يكون العلم فيها نتيجة العلم بالصغرى والكبرى، وهذا يساوق كونه أعلم في مجموع العلوم التي يحتاجها القائد من حيث المجموع، وأحدها: العلم بالكبريات، والثاني: العلم بموضوعات دخيلة في تشخيص الوظيفة الفعلية العملية. وكلها ترجع إلى العلم بالصغريات، فالنتيجة هي اشتراط الأعلمية في مجموع العلوم التي يحتاجها القائد في قيادته لا في خصوص ما يصطلح عليه اليوم بالفقه، وهو كبريات الأحكام.

وأمّا الأعلمية في الجميع فهي عادة تناسب المعصوم، ولا يعقل في العادة اشتراطها في غير المعصوم.

وممّا يشهد لما ذكرناه من أنّ المقصود بالأعلمية في الروايات المتقدّمة هو الأعلمية بلحاظ مجموع ما تتطلبه القيادة من العلوم المؤثّرة في إدارة المجتمع لا بلحاظ خصوص الكبريات الفقهية أنّ المثال الذي استشهد به الإمام (عليه السلام) في صحيحة عيص بن القاسم وهو أنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي... مثال إداري بحت لا علاقة له بالكبريات الفقهية.

 

مشكلة الاختلاف بين القائد والمرجع

ثم إنّ هذا البحث الذي بحثناه قد يحلّ لنا مشكلة أخرى أيضاً؛ وتوضيح ذلك: أنّه لدى انفكاك القيادة عن المرجعية في التقليد نواجه مشكلة الاختلاف أحياناً بين القائد ومرجع التقليد، فهل نتّبع في موارد الاختلاف هذا أو ذاك؟

وأوّل ما يتبادر إلى الذهن في حل هذا الإشكال هو أنّنا نتّبع مرجع التقليد في أخذ الأحكام الإلهية، ونتّبع القائد في أخذ الأحكام الولائية.

إلاّ أنّ هذا المقدار في الحل غير كاف، وذلك لأنّ الاختلاف بين القائد ومرجع التقليد يتصوّر بأحد أشكال ثلاثة:

الأوّل: الاختلاف بينهما في الأحكام الفردية، وهنا يكفي ذاك الحل المتبادر ابتداءً إلى الذهن، فيقال: إنّ كلّ فرد من الأفراد يتبع المرجع الذي يعتقد بأعلميته في الكبريات الفقهية، ولا علاقة لذلك بالقائد حينما لا يراه الفرد هو الأعلم.

والثاني: الاختلاف بينهما في الرؤى الاجتماعية أو السياسية مع فرض توافقهما على الجذور الفقهية لأمر مّا، فهما مثلاً متّفقان على الكبريات الفقهية للحرب والسلم، وإنّما اختلفا في الحرب أو الصلح نتيجة أنّ أحدهما يرى الحرب حرباً خاسرة، والآخر يرى الحرب حرباً رابحة ونافعة. وهنا أيضاً يأتي ذاك الحل المشار إليه، فيقال: إنّ هذه المنطقة هي منطقة الرجوع إلى القائد لا إلى المرجع، لأنّها منطقة الأحكام الولائية، فإلى هنا لم نصطدم بمشكلة عصيّة على الحل نتيجة اختلافهما؛ ففي الأول نتّبع المرجع وفي الثاني نتّبع القائد.

والثالث: هي المنطقة التي يستفحل الإشكال فيها، وهي ما إذا كانت المسألة راجعة إلى قضيّة ولائية واجتماعية، من قبيل الحرب أو السلم، ولكنّ الاختلاف الذي وقع بينهما كان نتيجة الاختلاف في الجذور الفقهية، فأحدهما لا يرى جواز حرب البغاة مثلاً، ويرى ذلك مخصوصاً بالمعصوم، والآخر يرى جواز حرب البغاة لغير المعصوم أيضاً، أو إنّ أحدهما لا يرى جواز الحرب الابتدائية، والآخر يرى جوازها، فهنا يستفحل الاشكال لأنّه مَجْمَعٌ لمنطقة الولاية ومنطقة التقليد في وقت واحد.

وقد التمسنا لذلك بعض الحلول في كتابنا (ولاية الأمر في عصر الغيبة).

ولكننا هنا نحاول الوصول إلى الحل عن طريق أقصر وأصوب، وهو ما ـ لعلّه ـ اتّضح من ثنايا بحثنا.

وتوضيح ذلك: أنّ قيادة هذا القائد في هذا القسم من الأمور أصبحت قيادة بمعنى المرجعية في الأحكام الإلهية والولائية، أو الرؤى الاجتماعية في وقت واحد، وقد عرفنا أنّ الشرط في ذلك هو الأعلمية في المجموع من حيث المجموع من العلوم الدخيلة في الأمر، لا الأعلمية في خصوص الكبريات الفقهية، وقد فرضنا أنّ الأعلمية في المجموع من حيث المجموع كانت للقائد لا للمرجع، فيجب اتّباع القائد في هذه المنطقة من الأمور دون المرجع.

 

اشتراط الأَعلمية الفقهية في التقليد

ثم إنّ هذه الروايات وإن كان مصبّها القيادة، ولكن تأكيدها على اشتراط الأعلمية الفقهية في القيادة رغم أنّ علم الفقه هو جزء ممّا تحتاجه القيادة من العلوم يدلّ بوضوح على اشتراط الأعلمية الفقهية في التقليد بلا إشكال، بداهة أنّ النكتة في شرط الأعلمية الفقهية في القيادة كانت كامنة فيما تشتمل عليه القيادة من الدخول في الأحكام الفقهية، وإلاّ فلا يوجد إنسان عاقل يشترط الأعلمية في الفقه في إدارة أمور لا تمتّ إلى الأحكام الفقهية بصلة، وهذه النكتة موجودة في باب التقليد بلا إشكال، مع فرق واحد وهو: أنّ القيادة كانت بحاجة إلى علوم أخرى كالسياسية والاجتماعية، لأنّ القيادة قيادة في الأحكام التطبيقية والتنفيذية لا في إعطاء الكبريات بحتاً، ولهذا اضطررنا إلى حمل الأعلمية الفقهية على الأعلمية في النتائج المساوقة للأعلمية في مجموع الأمور المحتاج إليها كبرى وصغرى من حيث المجموع، ولكن التقليد يكون في مجرّد الكبريات فلا معنىً لحمل الأعلمية الفقهيه فيه على هذا المعنى؛ فليست الأعلمية في التقليد إلاّ عبارة عن الأعلمية في الكبريات الفقهية، ومتى ما تواجدت في القائد اجتمعت المرجعية والقيادة في شخص واحد، ومتى ما تواجدت في فقيه آخر جامع لشرائط التقليد افترقتا.

وبهذا البيان بطل ما قد يقال من أنّه لا دليل على شرط الأعلمية في التقليد إلاّ البناء العقلائي في الرجوع الى الأعلم، وبما أ نّنا ننكر البناء العقلائي على ذلك، ونقول: إنّ البناء العقلائي إنّما هو قائم على رجوع الجاهل إلى العالم من دون شرط الأعلمية، فإذن نفتي على هذا الأساس بعدم وجوب تقليد الأعلم(24).

ويرد عليه: ما اتّضح لك من أنّ شرط الأعلمية لا ينحصر مدركه في البناء العقلائي أو السيرة العقلائية، بل الروايات الماضية تدلّ على ذلك، لأ نّها وإن كانت راجعة إلى القيادة، ولكنّها نصّت على الأعلمية الفقهية والتي من الواضح أنّ دخلها في القيادة يكون بقدر ما تتّصل القيادة بالفتيا، أي تندمج في روحها بالتقليد.

على أ نّنا لو تنازلنا عن ذلك وافترضنا انحصار دليل شرط الأعلمية في الفقه في مرجع التقليد بالبناء أو السيرة العقلائيين، فإنكار هذا البناء أو هذه السيرة لو تم فانما يتم في موارد العلم الإجمالي بالخلاف دون موارد العلم التفصيلي، فلا يوجد عاقل مريض يأخذ برأي طبيب مفضول في علاج نفسه مع علمه التفصيلي بأنّ الطبيب الآخر الأفضل منه يُخطّئ الطبيب الأول في علاجه، ويرى علاجه في أمر آخر، اللهم إلاّ إذا عجز عن الأخذ أو العمل برأي الطبيب الأفضل، أو كان حرجياً عليه، فوصلت النوبة إلى الأخذ برأي المفضول.

فإنكار البناء العقلائي على الإطلاق في التقيد بالرجوع إلى الأعلم إلاّ في الأمور الخطرة على حياة الإنسان ـ كما جاء في كتاب فقه الحياة(25) ـ غير صحيح.

وممّا يشير إلى هذا البناء أو السيرة العقلائيين ما مضى من صحيحة عيص بن القاسم: حيث ورد فيها: «فوالله إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي فإذا وجد رجلاً أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه ويجيء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها...».

ثم إنّه قد يضاف إلى الفتيا بعدم وجوب تقليد الأعلم فتيا بجواز تقليد الميت أيضاً مستدلاًّ تارةً بأنّ العقلاء لا يفرّقون في بنائهم وسيرتهم على رجوع الجاهل إلى العالم أو إلى أهل الخبرة بين الحيّ والميّت(26). وأخرى بإطلاق أمثال {فاسألوا أهل الذكر}(27) أو {ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون}(28).

وعليه فيجوز الرجوع ابتداءً إلى الميّت في التقليد وإن بعد العهد بيننا وبينه من حيث الزمن من أمثال الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد وأضرابهما من الأعلام رحمهم الله(29).

أقول: إنّ هذا الكلام فيه غفلة عن أنّ حركة العلم، وركود من مات يؤدّيان بالتدريج إلى حصول الفارق الكبير الهائل بين مستوى فهم الميت لحكم الله ومستوى فهم الحيّ الذي يفصله عن ذاك الميت زمن طويل، وهذا الفارق الكبير لا يستهان به عقلائياً، ولا يوجد بناء عقلائي أو سيرة عقلائية على التخيير في التقليد بين ذاك الميّت وهذا الحيّ، والإطلاقات أيضاً تنصرف ـ بمناسبات الحكم والموضوع ـ عن تقليد ذاك الميت الذي لو أحيي لانقلب في الحال الحاضر من كونه مرجعاً إلى كونه مقلّداً لهذا الحيّ إلى أن يبلغ مستواه أو يقاربه، فلا يرى حجّيّة رأيه الاجتهادي الظنّي حتى على نفسه مادام يخالفه الحيّ الذي هو أعلم منه بدرجات هائلة لا يستهان بها، وكيف يجوز تقليد من لو رجع حيّاً لرجع مقلِّداً؟!

على أن الإطلاق إنما يقتضي التخيير إذا كان بدلياً في الحكم التكليفي كالأمر بالوضوء بالماء لا في الحكم الطريقي كالأخذ بخبر الواحد أو بالفتيا، ولهذا قالوا: إن الأصل في الخبرين المتعارضين هو التساقط لا التخيير.

وإنّ فتح الباب لتقليد الميت ولتقليد غير الأعلم معاً على مصراعيه يفتح خطر تكرر تجربة أمثال الشيخية لدى الشيعة من زاوية التمسّك بفتاوى عالم ميّت قديم مهما عتقت آراؤه وكثرت لدى المتأخرين أخطاؤه حتى في ما لو كان عَلَماً من أعلامنا العظام في زمانه.

 

الولاية والقانون

هل الولاية فوق القانون أو القانون فوق الولاية؟

إن قلنا: إنّ المقياس الأوّلي للولاية هو أكثرية الأمّة لقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم}(30) وأنتجت الشورى القانون، وتضمّن القانون بنداً للولاية المقيّدة بالقانون وبنوده، كانت الولاية تحت القانون.

ولكن الواقع أ نّه لا يمكن حمل الشورى في الآية المباركة على شورى تتولّد منها الولاية، إذ لو كان الأمر كذلك للزم خروج وقت نزول الآية عن تحت الآية، لأنّ ذاك الوقت كان هو وقت حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله) و(النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(31)، فليست ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) مشروطة بالشورى، ولا بأس باختصاص آية مّا بما بعد زمان نزولها حينما يكون زمانها بلحاظ مفاد نفس الآية خاصّاً بزمن متأخّر كالآيات التي تتكلم عن يوم القيامة، ولكنّ الآيات التي ليست بلحاظ مفادها ناظرة إلى زمان متأخّر يعتبر وقتها الحاضر بمنزلة موردها، والمتيقّن منها، وتخصيص المورد غير معقول عرفاً، فالمفروض أن تحمل الشورى في هذه الآية المباركة على الشورى المعقولة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله) وهي الشورى المنظور إليها في الآية التي أمرت النبيّ (صلى الله عليه وآله) نفسه بالمشورة، وهي قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكّل على الله}(32). وهذه الآية واضحة في إسناد العزم إلى شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا إلى الناس أو الأكثرية أو الشورى؛ إذ لم يقل: وإذا عزمتم فتوكّل أو فتوكّلوا، وهذا يعني أنّ الشورى لم تكن لأخذ آراء الناس أو الأكثرية، وإنّما كانت لمجرّد الاستضاءة بآراء الآخرين، والنبيّ (صلى الله عليه وآله) وإن كان غنيّاً عن الاستضاءة بآراء الآخرين لأ نّه متّصل بمنبع الوحي، فلا حاجة له إلى آراء الناس، ولكن كان الهدف من ذلك تربية الناس على الاستضاءة بالآراء وتلاقح الأفكار والمشورة، فإذا كان هذا هو معنى: {وشاورهم في الأمر} بقرينة قوله: {فإذا عزمت فتوكّل على الله} كانت هذه الآية مفسّرة لقوله تعالى: {أمرهم شورى بينهم}؛ فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً.

ولم ترد آية ولا رواية تدلّ على ضرورة الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية كما هو المألوف اليوم، بل كلها كانت مندمجة تحت مبدأ الولاية، وكان المألوف في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ السلطات الثلاث بيد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكذلك في زمن عليّ (عليه السلام) وقد كان القاضي منصوباً من قبل عليّ (عليه السلام) يستمدّ شرعيته في القضاء منه (عليه السلام).

والدليل إنّما دلّ على مبدأ ولاية الفقيه على ما تكلّمنا حول ذلك مفصّلاً في كتابنا: (أساس الحكومة الإسلامية) وكتابنا: (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، ونتيجة ذلك كلّه أنّ هذا الفصل بين القوى الثلاث وكذلك سائر بنود القانون غير المقدار المأخوذ من نصّ الكتاب والسنّة مباشرة إنّما استمدت شرعيتها من ولاية الوليّ وبإمضائه، فإذن الولاية تكون فوق القانون، دون العكس(33).

 

شبهات مهدي الحائري:

ينكر مهدي الحائري كون الحكومة من حقّ النبيّ والإمام بتعيين من الله تعالى فضلاً عن أن تكون لفقيه أو لأيّ نائب خاصّ أو عامّ عن الإمام (عليه السلام)، وإنّما الحكومة للناس، وهذا لا ينافي ما نراه في التاريخ من ممارسة بعض الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) الحكم، لأنّه كان بتقليد الناس إيّاهم قلادة الحكم، ولم يكن بما هم أنبياء أو أئمة ومالكين لهذا المنصب من قبل الله تعالى، وذلك لأنّ الناس قد يصلون في مستوى الرشد والفهم إلى حدّ يدركون أنّ المعصومين (عليهم السلام) هم أدرى بمصالح الناس وأفهم من ناحية، وهم بعيدون عن تأثير الهوى والشهوات في تصرّفاتهم من ناحية أخرى، فحكومتهم أصلح من حكومة غيرهم بلا إشكال، ولهذا يقلّدونهم الحكم، وهذا غير كون الحكم لهم نصباً من قبل الله تعالى، بل الحكم للناس يقلّدونه من يشاؤون، وليس الحكم بمعنى سياسة البلاد والعباد من تشريع الدين أو من شأن الأنبياء والمرسلين والأئمة المعصومين (عليهم السلام)(34).

واستشهد لهذا المدّعى بوجوه:

 

الوجه الأول:

أنّ إدارة البلاد وسياسة العباد من القضايا الجزئية والصغروية التي تختلف في وضعها من يوم إلى يوم تبعاً لاختلاف الظروف والأوضاع، وليس لها حال ثبات، في حين أنّ الدين عبارة عن عدد من كبريات عامّة نزلت من الله تعالى بالوحي إلى الأنبياء والمرسلين، ويعلم بها الأئمة (عليهم السلام) ولا يتطرّق إليها شيء من التغيير والتبديل لمجرد مرور الزمان، وحلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فلا يعقل أن تكون السياسة أو الحكومة أو إدارة البلاد والعباد من شأن الدين، أو من شأن النبيّ والإمام بما هو نبيّ وإمام(35).

أقول: إن هذا الكلام قد أغفلت فيه حلقة مفقودة، وتوضيح ذلك: أ نّه فرضت في هذا الكلام حلقتان: الأولى: حلقة الكبريات والدساتير العامّة والتي قال عنها: إنّها من الله ومن الدين النازل من السماء بالوحي. والثانية: حلقة سياسة البلاد والعباد والتي يجب أن تكون في إطار الكبريات العامّة، وهي راجعة إلى تطبيق العباد على أنفسهم ما يناسب تلك الكبريات، وذلك يختلف في الأسلوب من يوم إلى يوم.

أمّا الحلقة التي تربط بين تلك الكبريات من ناحية وتلك التطبيقات من ناحية أخرى فهي محذوفة في هذا الدليل.

فقد يقال: لا حاجة لنا إلى حلقة وسطى من هذا النمط، لأنّ الكبريات ثبتت عن طريق الوحي وإبلاغ النبيّ والإمام، وهي وظائف وتكاليف نازلة على العباد، والتطبيقات هي شأن نفس العباد الذين وُظِّفوا بتلك الوظائف.

ولكن هذا الكلام ينشأ من توهّم كون المطبِّق والمطبَّق عليه شخصية واحدة في حين أنّهما شخصيّتان، فحتّى لو أخذنا بأوسع أساليب الديموقراطية حرّيّةً وفرضنا أنّ ذلك يعني حكم المجتمع أنفسهم بأنفسهم أو آمنّا بأيّ وجه من الوجوه بأنّ الحكم بيد المجتمع يقلّده من يشاء، فلا إشكال في أنّ المجتمع كمجتمع تركيبي شخصيّة تختلف عن الأفراد بما هم مستقلّون، وعلى هذا الأساس يقع التضارب كثيراً بين مصالح المجتمع ومصالح الأفراد؛ فإذا فرضنا في أوسع أنحاء الديموقراطية في العالم حريّةً أنّ الأفراد يجب أن يخضعوا لدستور صدر من المجتمع كمجتمع يجب أن نفتّش نحن المسلمون كمسلمين عن أنّ هذه الولاية للمجتمع أو لأصوات الأكثرية ـ ولو بهذا المقدار ـ من أين نشأت؟ ومَن الذي يجبر العاصين لرأي الأكثرية على الخضوع لرأيهم، وعلى الأقل بمقدار حفظ أمن البلاد؟ وعلى الخصوص قد توجد في بعض المجتمعات أقلية لا تؤمن حتّى بأصل كبرى لزوم الأخذ برأي الأكثرية، فمَن الذي يرغمهم على ذلك؟ أم هل لا يُرغمون على ذلك حتّى يتحقّق منهم الفوضى في البلاد، ويبطل النظم والاستقرار؟! وعليه فالحلقة المفقودة في هذا الاستدلال عبارة عن كبرى واحدة يجب أن تلحق بالكبريات التي قال عنها: إنّها دائمية، وتكون هي الواصلة بين تلك الكبريات وما أشار إليه من التطبيقات، وتلك هي كبرى من بيده ولاية هذا التطبيق، فهل هو النبي أو الإمام أو الفقيه أو الأكثرية كأكثرية؟ وأيّاً كان فهو غير الأفراد كأفراد مستقلين.

فالنتيجة: أن هذا الوجه حياديّ تجاه الإيمان بولاية النبيّ أو الإمام أو الفقيه وعدمه، لأنّ الإيمان بها وعدمه مرتبط بطبيعة تلك الحلقة المفقودة.

 

الوجه الثاني:

أننا لئن فرضنا التنفيذ بيد من نسمّيه وليّ المجتمع من نبيّ أو إمام أو نائب عن الإمام خاصّة مع فرض حقّ الإجبار له سقطت المسؤولية عن المكلّفين، وكذا الأوامر والنواهي والثواب والعقاب. وتوضيح ذلك: أنّ الإرادة التشريعية من قبل الله تعالى إنّما تعني تحريك المكلفين وترغيبهم إلى العمل عن شوق واختيار. ولو كان التنفيذ بيد غيرهم، بل الإجبار كذلك فقد سقط إحساسهم بالمسؤولية، ولغت الأوامر والنواهي النازلة إليهم، وبزوال الاختيار وحلول الإجبار تسقط الوظائف الأخلاقية والأحكام العقلائية والتكاليف الشرعية والثواب والعقاب، فإنّ كل هذه قد أخذ في موضوعها الاختيار وعدم الجبر.

ولا يخفى أن الاختيار والجبر بمعناهما الفلسفي يختلفان عن الاختيار والجبر بمعناهما الاجتماعي أو العسكري أو السياسي أو الحكومي، فالثاني هو الذي يزيد وينقص وفق اختلاف الحكومات والنظُم والقوانين، والأول هو الثابت وفق إدراك العقل وإثبات الفلسفة، إلاّ أنّ فرق أحدهما عن الآخر في الحقيقة عبارة عن أن الجبر والاختيار الفلسفيين هما الجوهر الكامن في حقيقة وجود الإنسان، وهما بطون لنفس المعنى السياسي، وأنّ الجبر والاختيار السياسيين هما ظهور لذاك البُطون وبروز ظاهري لذاك الجوهر المكنون(36).

أقول: إنّ هذا الكلام ينبغي نقاشه من زوايا ثلاث:

فأوّلاً: هل حق أنّ الجبر والاختيار الفلسفيين مع السياسيين أو الاجتماعيين بطون وظهور لشيء واحد، فالأول بطون لهذا الظهور وجوهر لهذه الظاهرة، والثاني ظهور لذاك البطون وظاهرة من مظاهر ذاك الجوهر، أو لا؟

وثانياً: هل هذا الإشكال مختصّ بفرض ولاية الأنبياء والأئمة والفقهاء، أو مشترك بين ذلك وبين أوسع النظم الديموقراطية التي يمكن افتراضها في العالم، وأيّ صورة من الصور التي تفترض للحكومة.

وثالثاً: ما هو جواب الإسلام عن هذا الإشكال؟

 

أمّا الأول: فالصحيح أنّه لا علاقة لأحد المعنيين بالآخر على الإطلاق؛ فالمعنى الفلسفي للجبر والاختيار لا يمتّ إلى المعنى السياسي أو الاجتماعي بصلة، وليس أحدهما بطوناً والآخر ظهوراً، وذلك لأنّ مصبّ أحدهما مباين لمصبّ الآخر، فكيف يمكن أن يتلاقيا؟!

فمصبّ الجبر الاجتماعي أو السياسي هو ما بعد الشوق؛ فالحكومة الجابرة تحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، وترغم الإنسان على صرف النظر عمّا اشتاق اليه. في حين أنّ الجبر الفلسفي لا يحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، بل يسير سيراً موازياً للشوق، فإنّ الجبر الفلسفي يعني أنّ الإنسان لا يحصل له الشوق إلاّ بالجبر، لأنّه يتصوّر الفوائد المترتّبة على الفعل تصوّراً قهرياً، فيحصل له الشوق قهراً وقسراً، فيتحرك نحو ما اشتاق إليه جبراً وإلزاماً، ولا يستطيع أن يفعل غير ذلك. فترى أنّ الجبر الحكومي حال بين الإنسان وما يشتاق إليه، في حين أنّ الجبر الفلسفي لا يحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، بل يفترض الجبر على نفس الشوق وعلى ما اشتاق إليه، فأين هذا من ذاك؟!

 

وأمّا الثاني: فهذا الإشكال لو تمّ لا يختصّ بمثل ولاية النبي أو الإمام أو الفقيه، بل يرد حتى على أوسع ما يمكن أن يفترض في العالم من ديموقراطية، وذلك لأنّ الديموقراطية ولو بأوسع معانيها تفترض أنّ هناك دائرتين اجتماعيتين بين الناس: إحداهما: دائرة الحريّة الشخصية لكل فرد، والأخرى: دائرة تعدّي بعضهم على حريّة البعض الآخر. والحكومة لئن كانت لا تمنع أحداً عن عمل في دائرة حرّيته الشخصية فهي تمنع وتحول دون التعدّي على حريّة الآخرين. وأيّ حكومة أخرى تُفتَرض لا يمكن أن تخلو من منع وإجبار.

فإن كان مقصود المستشكل في المقام أنّه لا حاجة إطلاقاً إلى الجبر من قبل الحكومة فهذا ما لا تقرّه كل المجتمعات حتى الديموقراطيات، إذ لا أقلّ من الجبر في الردع عن التعدّي على حريّات الآخرين، وإلاّ لاختلّ الأمن والنظام، ولا أظنّ عاقلا يدّعي هذا الادعاء ما عدا ما ينقل عن الشيوعيين من أنّه متى ما سادت الشيوعية في العالم استغنى الناس عن أيّة حكومة من الحكومات، وهذا ما فنّده المحقّقون.

وإن كان مقصوده: أنّ الحكومة الديموقراطية مثلاً بما أنّها نابعة من الناس وبالتصويت وبرأي الأكثرية فلا جابر ولا مجبور في البين، لأنّ الحاكم والمحكوم واحد، وهم الناس، وهذا بخلاف فرض ولاية النبي أو الإمام أو نائب إمام، فجوابه ما عرفت من أنّ المجتمع غير الأفراد المستقلين، ورأي الأكثرية غير رأي الفرد، خصوصاً أنّ بعض الأقلّيات لا تشترك في الاقتراع ولا تؤمن أصلاً بنفوذ رأي الأكثرية؛ وعليه فالجابر غير المجبور، ولابدّ للحاكم من الجبر برّاً [كان] أو فاجراً.

 

وأمّا الثالث: وهو جواب الإسلام على هذا الإشكال؛ فالإسلام أحرص نظام على تكامل العباد، وهدفه النهائي هو ذلك، وحتى العبادة التي فرضت في القرآن غاية لخلق الجن والإنس(37) إنما كانت لتكاملهم {ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين}(38)، وانفتاح باب التكامل على البشر متوقف بشكل كامل على الاختيار بمعناه الفلسفي؛ فإنّ المجبور لا ثواب له ولا عقاب عليه ولا مسؤولية على عهدته ولا يستحق مدحاً ولا ذمّاً، أما الاختيار أو الحريّة بالمعنى الاجتماعي أو السياسي فلانفتاح باب التكامل على الناس ارتباط وثيق به، ولكن ليس ارتباطاً كاملاً، والإسلام فَتَحَ باب حفظ أجواء الحرية والقدرة على التحرك أمام الناس إلى حدّ حرّم التجسّس في أمورهم الشخصيّة، فلا يجوز للحكومة ولا لغيرها التجسّس على الناس فيها لكي يبقوا على حرّيتهم في اختيار ما يختارون من سبيل الرشاد والخير، أو سبيل الضلال والشرّ ما دام الشرّ شرّاً على نفسه فحسب. قال الله تعالى: {ولا تجسّسوا}(39)، فليبق الشخص على حرّيته بل ومع حفظه ماء وجهه ما دام لا يعمل الحرام إلاّ سرّاً، فما دام كذلك يحرم التجسّس عليه، بل واغتيابه.

نعم ينتهج الحكم الإسلامي منهج الإجبار في موردين:

الأوّل: في ظلم الآخرين والاعتداء على حقوقهم. وهذا الإجبار ـ حتّى لو فرضناه مانعاً عن تكامل الشخص المجبَر ـ لابدّ منه حفاظاً على حقوق الآخرين، وهذا يوازي ما يقوله الديمقراطيون في مذاهبهم من ضرورة وضع الحدّ على تصرّف من يتعدّى على حرّية الآخرين.

والثاني: لو اتّفق صدفةً انكشاف أمر المجرم إجراماً شخصيّاً لدى الحاكم عزّره الحاكم أو أجرى عليه الحدّ، بل قد يتعرّض للقتل أيضاً، ورغم أن ذاك الإجرام لا يرى ظاهراً تعدّياً على حقوق الآخرين يكون لهذا النمط من الإجبار أحد ملاكين:

أ ـ إنّ الإجرام الشخصي إذا انكشف كان في معرض السراية إلى الآخرين، ومنع الآخرين عن التكامل، فلابدّ من الردع عنه ولو جبراً وتهديداً بالتعزير أو الحدّ أو بالقتل أحياناً، ولو فرض كون ذلك مانعاً عن تكامل المُجبَر على ترك الجرم، فمع ذلك لابدّ منه حفظاً لحقوق الآخرين الذين يحتاجون إلى الجوّ المساعد للتكامل والذي يختلّ بإجرام المجرمين رغم افتراض إجرامهم شخصيّاً بحسب الظاهر، وأخصّ بالذكر الشرك الذي يعتبره الإسلام ظلماً للبشرية بشكل عامّ، ولا يكتفي في مجازاته بأقلّ من القتل، ويرى الإسلام أنّه لا يوجد حقّ الحياة للمشرك أصلاً وإن كان يوجد حقّ الحياة للكتابي مع إعطاء الجزية عن يد وهو صاغر.

ب ـ إنّ الإجبار الاجتماعي على ترك الجرم الشخصي ليس بشكل عامّ مانعاً عن التكامل، فربّ إنسان طغت عليه نفسه وجرّته إلى مسيرة الإجرام والظلم على نفسه، ولا يمكن ردعه عن ذلك إلاّ بالإجبار الذي يبعده عن أجواء الزلّة والخطأ، وربّما يؤدّي ذلك بالتدريج إلى اتّخاذه طريق الرشاد بالرغبة والشوق.

 

الوجه الثالث:

أنّ القرآن قد حصر وظيفة الرُّسُل في الإبلاغ ونفى عنهم ـ كرُسُل ـ أيّ وظيفة أخرى كوظيفة الحكم والسياسة. قال الله تعالى: {ما على الرسول إلاّ البلاغ}(40) وقال أيضاً: {فذكّر إنّما أنت مذكّر * لست عليهم بمصيطر}(41) وقال كذلك: {وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد}(42).

أقول: إنّ فهم الآيات ـ حتّى لو افترضنا قطع النظر عن سنّة العترة الطاهرة ـ يتوقّف في أقلّ تقدير على ضمّ الآيات بعضها إلى بعض، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضاً، فلا معنىً لتفسير هذه الآيات المباركات بمعزل عن آيات أخرى كقوله عزّ وجلّ: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم}(43) فهذه الآية لوحدها صريحة في أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) وليّ على المؤمنين بمعنىً لا يبقي مجالاً لنفوذ رأي الأكثرية عليه في الأمور لأنّه أولى من أنفسهم بهم. ولو كان المفروض أن يستمدّ شرعية حكمهم وإدارتهم منهم لكانوا أولى بأنفسهم منه (صلى الله عليه وآله) ولم يكن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وقد أجاب مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية المباركة بوجهين:

الأوّل: أنّ كلمة: (الأولى) تعتبر صيغة التفضيل، فالمفروض أن تحمل على مورد ثبوت الولاية للمؤمنين على بعض النفوس كي يكون الرسول أقوى ولاية منهم، وذلك في المحجورين كالصبيان والمجانين الذين لهم أولياء من نفس المؤمنين، فالأولوية هنا إن كانت بمعنى الولاية دلّت الآية على انه متى ما وقع التزاحم في الولاية بين النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأولياء المجانين والصغار كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) أولى في ذلك، وهذا مسلّم عندنا، إلاّ أنّه أجنبيّ عما نحن فيه.

والثاني: أنّ كلمة: (أولى) لو كانت هنا بمعنى الولاية لزم أن تتعدّى بعلى لا بمِن، كما يقال: الأب وليّ على الابن، ولا يقال: الأب وليّ من الابن، في حين أنّ الآية تقول: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ولم تقل: على أنفسهم(44).

أقول: إنّ جوابه الأول كأنّه مبتنٍ على تخيّل أنّ الاستدلال بهذه الآية متوقّف على تفسير كلمة (أولى) بمعنى الأفضلية في الولاية وأقوائية الولاية، وهذا يتوقّف على افتراض وليّ ومولّىً عليه قبل الحكم بولاية النبي (صلى الله عليه وآله) كي تكون ولاية النبيّ أفضل وأقوى من تلك الولاية، وكأ نّه افترض أنّ هذا متوقف على افتراض انفكاك الوليّ عن المولّى عليه في ما فرضناه قبل الحكم بولاية النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنّ الولي والمولّى عليه لا يمكن أن يتّحدا، ولا نجد ذلك إلاّ في ولاية العقلاء على مثل المجانين والقُصّر، فيكون معنى الآية لو حملناها على الولاية: أنّ ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) على مثل المجانين والقصّر أقوى من ولاية العقلاء عليهم.

وجوابه الثاني أيضاً مبتنٍ على تخيّل أنّ طريق الاستدلال بهذه الآية عبارة عن تفسير الأولوية بمعنى الأفضلية في الولاية، وعندئذ من الواضح أنّ الولاية تتعدّى بعلى كما يقال: الأب وليّ على الطفل، في حين أنّها في الآية المباركة لم تتعدَّ بعلى.

وقد أخطأ في افتراض كلمة: (على) مكان كلمة: (مِن)، وذلك لأنّ كلمة: (من) واقعة في محلّها، باعتبار أن صيغة التفضيل تُعدّى بمِن فيقال مثلاً: زيد أفضل من عمرو، ولا يقال: زيد أفضل على عمرو، وبكلمة أخرى: أنّ حرف الجر هنا متعلّق بهيئة التفضيل لا بمادّة الولاية، وكان الأولى به أن يجعل كلمة: (على) مكان حرف الباء، ويقول: لو كانت الأولوية بمعنى الولاية للزم أن تكون الآية هكذا: النبيّ أولى على المؤمنين من أنفسهم، في حين أنه قال: أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

والواقع: أنّنا لا نفترض أصلاً كون كلمة (أولى) بمعنى التفضيل في الولاية بمعناها المقصود لنا؛ فإن كلمة: أولى لم تستعمل أصلاً في لغة العرب بهذا المعنى، وإنّما الكلمة تعطي معنى أجدر وألصق وأحقّ ونحو ذلك ممّا يُتعدّى بالباء لا بعلى، قال الله تعالى: {ثمّ لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّاً}(45). وطبعاً ليس معنى الآية: أنّهم أولياء جهنم، وإنّما معناها أنّهم أجدر بجهنم من غيرهم. وقال الله تعالى: {إنّ أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعُوه}(46) يعني: أنّهم أجدر الناس به ولا يعني أنّهم أولياؤه بالمعنى المقصود في المقام.

وفهمنا لمعنى الولاية بالمعنى المصطلح لدينا من قوله تعالى: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} ليس من كلمة: أولى، بل من مجموع الجملة؛ إذ لا يعقل أن يكون شخص أجدر بشخص آخر من نفسه إلا إذا كان وليّاً له، وإلاّ فكل شخص أجدر من غيره بنفسه كما هو واضح.

وبعد هذا البيان لم تبق أيّ نكتة لتخصيص الآية بمثل موارد الأطفال والمجانين.

وأيضاً يدلّ على المدّعى قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهِم}(47)، فهذه الآية المباركة واردة في الأوامر الولائية أو قل الحكومية لا في الأوامر الإلهية فحسب بدليل عطف الرسول على الله حيث قال: {إذا قضى الله ورسوله} ونحن نعلم أنّ الأحكام الإلهية كثيراً ما تكون مشرّعة من قبل الله مباشرة، فحكم الله لا يُنسب إلى الرسول، في حين أن حكم الرسول ينسب إلى الله، لأنّ الرسول منصوب من قبل الله، فإشراك الرسول مع الله في القضاء دليل على أنّ النظر ليس إلى الأحكام الإلهية فحسب، بل إلى الأحكام السلطانية؛ فالآية واضحة في أنّ أحكام الرسول السلطانية واجبة الاتّباع من قبل المؤمنين.

يبقى احتمال أن يكون صدور الأحكام السلطانية من الرسول (صلى الله عليه وآله) مشروطاً بأخذه هو برأي الأكثرية.

وهذا يدفعه قوله تعالى: {وإذا عزمت فتوكّل على الله} حيث نسب العزم إلى الرسول وحده، ممّا دلّ على أنّ الشورى لم تكن لحجّيّة رأي الأكثرية عليه.

على أنّ إسناد سلب الخيرة عن المؤمنين إلى الرسول يدلّ على أنّ الرسول بعنوان الرسول موضوع لهذا الحكم لا بعنوان آخر كعنوان كونه مختاراً للشعب.

وقد اعترض مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية المباركة بأنّ هذه الآية مخصوصة بباب قضاء التحكيم في المرافعات بقرينة قوله: {قضى} فلا علاقة لها بالأحكام الحكومية(48).

وأجاب عنه سماحة الشيخ جوادي الآملي حفظه الله: بأنّ عطف الرسول على الله من دون تكرار كلمة: "قضى" يدلّ على أنّ القضاء هنا بالنسبة لله وللرسول بمعنىً واحد، وعليه فحمله على قضاء التحكيم غير صحيح، لأنّ قضاء التحكيم لا يسند إلى الله تعالى، على أنّ المفسّرين ذكروا في شأن نزول الآية: أنّها نزلت في قصة زواج زينب الأسدية بنت جحش أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط من زيد بن حارثة، حيث أبت تلك المرأة وأُسرتها عن العمل بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهذا الزواج لعدم التكافؤ بين الزوجين في رأيهم، فنزلت هذه الآية المباركة فرضوا بهذا الزواج، وليست الآية مختصّة بهذه القصة لأنّ المورد لا يكون مخصّصاً أو مقيّداً(49).

أقول: الحكم القضائي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في المرافعات كالحكم الولائي له (صلى الله عليه وآله) في الحكومة، إن صحّت نسبة الثاني إلى الله تعالى لكونه هو الناصب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المنصب صحّت نسبة الأوّل أيضاً إليه تعالى، وإلاّ لم تصح النسبة في كليهما.

والأولى في الجواب عن إشكال مهدي الحائري أن يقال: إنّ القضاء مطلق لغةً، وله عدّة مصاديق كالقضاء التكويني مثل قوله تعالى: {فقضاهنّ سبع سماوات}(50)، والقضاء التشريعي كقوله تعالى: {وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه وبالوالدين إحساناً}(51)، والقضاء التحكيمي كقوله عزّ وجلّ: {فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً}(52) ويفهم المقصود في كل هذه الموارد بقرينة المتعلّق، وبما أنّ المتعلّق في قوله تعالى: {إذا قضى الله ورسوله أمراً} مطلق الأمر، فتخصيصها بالقضاء التحكيمي في موارد المرافعة بلا موجب، بل يشمل مطلق الأوامر الولائية بما فيها الأوامر القضائية والحكومية.

وأيضاً قوله سبحانه وتعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}(53) يدلّ على وجوب طاعة أوامر الرسول الحكومية والسلطانية، لأنّ عطف أولي الأمر على الرسول قرينة على كون النظر إلى أحكام وليّ الأمر لا الأحكام الإلهية، أي: أطيعوا الله في أحكامه الإلهية وأطيعوا الرسول وأولي الأمر في الأحكام الولائية، ولذا فصّل بين الله والرسول بتكرار كلمة: أطيعوا، ولم يفصّل بين الرسول وأولي الأمر بتكرار تلك الكلمة، بل عطف أولي الأمر على الرسول تحت أمر واحد بالإطاعة ممّا دلّ على أنّ إطاعتهما من سنخ واحد.

ويبقى هنا أيضاً احتمال أن يكون قد أخذ في موضوع الأوامر السلطانية للرسول عدم مخالفة رأي الأكثرية.

وهذا أيضاً تبطله آية: {وإذا عزمت فتوكّل على الله} الدالّة على أنّ العزم خاصّ بالرسول بالبيان الماضي، مع أنّ نسبة وجوب الطاعة إلى الرسول ظاهرة أيضاً في كون الموضوع هو الرسول بما هو رسول لا بما هو منتخب الناس.

وقد اعترض مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية بأن معنى أولي الأمر في المقام ليس هو أولياء الأمور، بل هو العالمون بالشريعة، وعطفه على الرسول من باب عطف العامّ على الخاصّ، والأمر بإطاعة الله والرسول والعالمين بالشريعة وهم المعصومون أمر إرشادي لوجوب الامتثال عقلا، إذ لو كان الأمر بالامتثال مولوياً لتسلسل(54).

وأجاب عنه سماحة الشيخ جوادي الآملي في ما أجاب بأنّ تكرار كلمة: "أطيعوا" شاهد على أنّ محور إطاعة الله ومحور إطاعة الرسول وأولي الأمر محوران، وليسا محوراً واحداً، فمحور الأولى الأحكام الكلية الإلهية، ومحور الثانية الأحكام الولائية والحكومية، وكذلك الأحكام الفقهية التي يصادف أن النبي (صلى الله عليه وآله) يُصدرها عن طريق الإلهام والحديث القدسي لا عن طريق الوحي القرآني، وحمل كلمة: {أولي الأمر} على العالمين بالشريعة خلاف الظاهر، فأولئك يسمّون بمثل عنوان {أهل الذكر} كما في قوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر}(55)، وأولياء الأمور يسمّون بأولي الأمر(56).

وعلى أيّة حال فهذه الآيات المباركات تدل على أنّ الحصر في مثل قوله: {ما على الرسول إلاّ البلاغ} أو {لست عليهم بمصيطر} أو {ما أنت عليهم بجبّار} ليس في مقابل ولاية الأمر أو حقّ الجبر الحكوميّ الذي لا يمتدّ إلاّ إلى ظاهر من يُجبَر، ويجبره على ترك الظلم أو ترك الإجرام، بل هو في مقابل الجبر الباطني والجوهري الذي يمتدّ إلى القلب، أي: أنّ عليك البلاغ ولست جبّاراً له على الإيمان الذي هو أمر قلبي لا تناله يد القدرات الظاهرية، بل هو بمحض اختيار الفاعل.

ونظير ذلك في القرآن قوله سبحانه وتعالى: {لا إكراه في الدين}(57)؛ فهذه الآية لو كانت وحدها كان يحتمل حملها على الإكراه الظاهري، ولكن هذا الحمل مخالف لآيات إجبار المشركين على الإسلام أو القتل، قال الله تعالى: {براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه فإن تبتم فهو خير لكم وإن تولّيتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم * إلاّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ الله يحبّ المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم}(58)؛ فهذه الآيات صريحة في أنّ المشرك إن كان ممن دخل العهد مع المسلمين فيما قبل نزول هذه الآيات ولم ينقض العهد بشكل وآخر وجب إتمام عهده الى مدّته ولكن بعد نهاية المدّة لا يجدّد معه العهد، بل يقتل لو لم يستعدّ للإسلام.

وأيضاً قال الله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}(59)؛ فهذه الآية أيضاً صريحة في أنّ المشركين مهدورو الدم، إذ لو كانوا مصونين لسألنا: هل صيانة أنفسهم مشروطة بالجزية أو لا؟ فإن قيل: نعم، فلماذا قيّدت الآية الكريمة الجزية بكونها من الذين اوتوا الكتاب؟ وإن قيل: لا، لزم كون المشرك أحسن حالاً من الكتابي.

وكلّ هذا يجعلنا نحمل قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} على الإكراه الباطني، أي أنّ من يسلم إسلاماً حقيقياً فإنما يُسلم باختياره، ولا سبيل للسيطرة على القلوب، وإنّما المهمّ تبين الرشد من الغيّ.

وآيات كون وظيفة الرسول (صلى الله عليه وآله) هي الإبلاغ لا السيطرة أو الجبر كلها تكون بهذا المعنى.

ووزان هذه كلها وزان قوله تعالى: {أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}(60)، وقوله تعالى: {أفأنت تُسمع الصمّ ولو كانوا لا يعقلون}(61)، وقوله عزّ وجلّ: {إنّك لا تُسمع الموتى ولا تُسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين}(62)، وقوله عزّ من قائل: {أفأنت تُسمع الصمّ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين}(63).

وكلّ هذا لا يعني أنّ الله سبحانه يريد أن يخبر نبيّه بعجزه عن جبر الجنان والقلوب على الإيمان حتى يقال إنّ هذا إخبار عن أمر بديهي وواضح، بل يعني أنّه سبحانه وتعالى بصدد تسلية الرسول (صلى الله عليه وآله) وبيان أنّك أدّيت ما عليك من البلاغ، أمّا عدم أيمانهم فليس به بأس عليك، لأنّك لست مسيطراً على القلوب. فوزان هذه الآيات جميعاً وزان قوله تعالى: {فإن الله يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}(64)، وقوله تعالى: {إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}(65)، وقوله تعالى: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء}(66).

وما حملنا عليه الآيات المباركات (من أنه ليس على النبي (صلى الله عليه وآله) هداهم والسيطرة على القلوب لعطفها إلى الإيمان دون نفي ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) والحصر في التبليغ إضافي لا حقيقي) إن لم يكن هو المنصرف إليه الآيات ابتداءً بالمناسبات العرفية فلا أقلّ من أن آيات الولاية التي أشرنا إليها قرينة على ذلك.

 

الوجه الرابع:

أنّ الدليل على أصل النبوّة العامة والإمامة والتشريع لدى علماء الكلام قاعدة اللطف، وقد قالوا: إنّ الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، أي أنّ العقل يحكم بضرورة الأخذ بكلّ حسن وبكل ما فيه المصالح، والتجنّب عن كل قبيح وكل ما يشتمل على المفاسد، ولكن عقولنا قاصرة عن إدراك الجزئيات من ناحية، وتتستّر أحياناً تحت غبار الشهوات والميول من ناحية أخرى، فاحتجنا إلى لطف الله تعالى بإنزال الأحكام الشرعية التي ترشد العقل إلى التفاصيل وتنفض عنه غبار الشهوات، حتى نختار نحن بأنفسنا وباختيارنا تطبيق ما هو صالح ورفض ما لا يصلح.

وهذه القاعدة كما ترى لا مساس لها بالتنفيذ الذي هو من شأن الناس وشأن الحكومات، وإنّما هي راجعة إلى التشريعات العامّة، فوظيفة النبيّ والإمام ـ بما هو نبيّ أو إمام ـ إنّما هي إيصال تلك التشريعات، وأمّا الحكومة والسلطة فهي خارجة عن وظائفهما.

وقال في ما قال: إنّ كون الأحكام الشرعية ألطافاً في الواجبات العقلية إنّما يتم في غير العبادات ممّا يكون للعقل فيها حكم إجمالي، ولكنه لا يعرف التفاصيل، فالأحكام الشرعية ليست في واقعها أموراً تأسيسية، بل هي إرشاد إلى نفس الأحكام العقلية، ولا يتم في العبادات، فإنّ حكم الشرع فيها تأسيس بحت لأ نّها مشروطة بالقربة ولا موضوع للقربة قبل الأمر، فقبل الأمر لا حكم للعقل في المقام(67).

أقول: إن كان مقصوده بذلك خروج قسم العبادات من بين التشريعات عن قاعدة اللطف كان هذا نقضاً عليه في استدلاله لعدم اشتمال التشريع على الحكومة والسلطة بخروجها عن قاعدة اللطف، فإنّ التشريع مشتمل على العبادات رغم خروجها في فرضه عن قاعدة اللطف. وإن لم يكن مقصوده ذلك لم يرد عليه هذا النقض.

وعلى أيّ حال، فمجرد عدم دلالة قاعدة اللطف التي هي دليل النبوة العامّة على لزوم تشريع الحكومة أو السلطة لا يدلّ على عدم تشريع ذلك، فإنّ عدم الدلالة ليست دلالة على العدم، بل يجب علينا بعد أن ثبت لدينا أصل النبوّة والتشريع بقاعدة اللطف أو غيرها أن نرجع الى نفس التشريع لكي نرى هل يشتمل على تشريع حكومةٍ ما أو لا، وهل شرّع ولاية النبيّ أو الإمام أو الفقيه أو لا؟ فإن اقتنعنا بالعدم نتيجة باقي أدلّة مهدي الحائري أو نتيجة أيّ دليل آخر فهذا لا يمتّ إلى بحثه لقاعدة اللطف بصلة، وإن اقتنعنا بتشريع ذلك بطل مدّعاه.

كما أن دليل النبوّة الخاصّة وهو الإعجاز بثبت لنا أيضاً أصل التشريع، ولكن لا يثبت لدينا مقدار حدوده وسعته، فنرجع إلى نفس التشريع كي نعرف حدوده ومقدار سعته، ولو زاد على المقدار الذي لابدّ منه بلحاظ أصل الإعجاز ودعوى النبوة.

 

الوجه الخامس:

قوله تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...}(68).

فهذه الآية واضحة في أنّ شأن الأنبياء إنّما هو تعليم الكتاب والعدل وإراءة البيّنات، وأمّا القيام بالقسط ـ وهو عبارة أخرى عن إقامة الحكومة العادلة ـ فهو عمل الناس أنفسهم وليس عمل الأنبياء بما هم أنبياء(69).

أقول: لو فسّرنا القيام بالقسط بمعنى التلبّس بالعدل بمعناه الواسع، والذي يكون أحد أفراده إقامة الحكم العادل، كما يكون أحد أفراده أداء آحاد المكلفين للأمانة وترك الخيانة، وأحد أفراده العمل بباقي الوظائف الشرعية والتي تختلف من الرجل الى المرأة، ومن فئة إلى فئة، ومن فرد الى فرد لاختلاف الوظائف الشرعية ومصاديق العدل بين الناس، فمن الواضح أنّ الآية تكون انحلالية بعدد أفراد الناس، ويكون معنى الآية: أنّ الهدف من بعث الأنبياء بالبيّنات والكتاب والميزان هو أن يقوم كل أحد بما عليه من القسط، أمّا ما هو مصداق القسط لكل واحد واحد؟ فليست الآية بصدده. ومن جملة مصاديق القسط هو الحكم بالعدل، ولكن لم تكن الآية بصدد بيان أنّ هذا المصداق وظيفة من؟ فهل هو وظيفة الناس بمجموعهم عن طريق انتخاب حاكم عادل مثلا، أو وظيفة النبيّ أو الإمام أو الفقيه أو غير ذلك؟ وكل ذلك خارج عن مفاد هذه الآية المباركة، ويكون وزان هذه الآية وزان قوله تعالى: {إنّي جاعل في الأرض خليفة}(70) بناءً على كون المقصود بذلك خلافة البشرية لا خلافة شخص آدم (عليه السلام) ولو بقرينة تخوّف الملائكة من فساده في الأرض وسفكه للدماء، فإنّ هذا التخوّف لم يكن من شخص آدم (عليه السلام)، بل كان من الإنسانية؛ فقد يقال على هذا التفسير: إنّ أوضح مصاديق الخلافة هي النبوّة، ومن الواضح أنّها ليست للإنسانية بل لشخص آدم وباقي الأنبياء (عليهم السلام). والجواب عن ذلك هو أن بالإمكان أن تكون الخلافة وصفاً للإنسانية، ويكون المقصود أن الإنسانية بمجموعها يجب أن تقوم بوظيفة الخلافة كلٌّ بحسب ما يناسبه؛ فمنهم من يحرث الأرض، ومنهم من يستخرج خيرات الأرض وبركاتها، ومنهم من يساعد المحتاجين، ومنهم من يتكفّل عبء النبوّة، ومنهم من يعمّر الأرض، ومنهم من يفعل غير ذلك. وأمّا من يعمل ما يخالف مقتضى الخلافة فهذا عصيان منه للعهد، وخيانة منه للأمانة، وهذا لا يعني أّه لم يكن جزءاً مما هو بمجموعه خليفة لله وهي الإنسانية، وإنّما يعني عصيان الخليفة لأمر المستخلف وعدم قيامه بوظائف الاستخلاف. فلتكن الآية في المقام أيضاً من هذا القبيل؛ أي أنّ القيام بالقسط يكون من شأن الإنسانية ككل، وكل يعمل وفق حصّته من القسط، ولا يعرف من ذلك أنّ الحكم العادل حصّة مَن؟

وأمّا إذا قلنا: إن المقصود بقوله تعالى: {ليقوم الناس بالقسط} هو إقامة الحكم العادل ولو بقرينة قوله بعد ذلك: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد} فالآية دلّت على أنّه يجب على الناس بمجموعهم إقامة الحكم العادل، ولكن هذا لا يدلّ على ما يريده المستدل من أنّ الحكم حقّ للناس يقلّدونه من يشاؤون، وذلك لأنّ الآية إنّما هي بصدد بيان أن تنفيذ الحكم العادل [يكون]على الناس، وهذا واضح الصحة، لأنّ الله تعالى لا يأتي هو للتنفيذ مباشرة، بل التنفيذ الخارجي على الناس وحتى لو قلنا بولاية النبيّ أو الإمام فالذين ينفّذون هذه الولاية خارجاً هم الناس، ولهذا حينما عصوا ولم ينفّذوا ولاية عليّ (عليه السلام) أصبح جليس البيت.

والخلاصة: أنّ تنفيذ الناس للحكم لا يدلّ على أنّ حقّ الحكم كان بيدهم، فلعل حقّ الحكم قد أعطاه الله للنبيّ، ولكن التنفيذ على أيّ حال يكون بيد الناس، وعلى أكتافهم، فلو أجمعوا على مخالفة الأوامر الولائية للنبيّ أو الإمام لَعجزَ النبيّ أو الإمام عن الحكم، ولو نصروه ودعموه وأيّدوه جلس على منصّة الحكم وعمل بالوظيفة.

ويكفي في إبطال الاستدلال بهذه الآية مجرّد احتمال صحة التفسير الذي ذكرناه، إذ لا دليل على أنّ الآية بصدد بيان قضيّة حقوقية، أي من له حقّ الحكم لا بصدد بيان التنفيذ الخارجي فحسب.

 

الوجه السادس:

أنّ السياسة والحكومة ـ كما قلنا ـ عبارة عن تنفيذ الأحكام الجزئية التي تختلف من زمان إلى زمان ويستحيل دلالة الأحكام الكلية والتشريعات على ذاك التطبيق والتنفيذ، لأنّ التطبيق والتنفيذ أو عدمه يكون من مرحلة العصيان والامتثال، وهما متأخران عن مرحلة التشريع، فكيف تتعلق بذلك مرحلة التشريع؟! إلاّ أن يفترض تعلّق تشريع آخر بالامتثال والتنفيذ، وعندئذ فلابد من امتثال ذاك التشريع الآخر وتنفيذه، ونحتاج أيضاً إلى تعلّق التشريع بهذا الامتثال والتنفيذ الجديدين، وهكذا إلى أن يتسلسل الأمر(71).

ومن هنا تتضح وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضاً، فهي ليست إلاّ مجرّد أمر ونهي دون الإجبار والتنفيذ، وأمر الشريعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن هو إلاّ إرشاداً إلى حكم العقل بذلك، إذ لو كان أمراً مولوياً وخالقاً لمعروف جديد ومنكر جديد لاحتاج أيضاً إلى أمر الشريعة بالأمر به أو النهي عنه، وهكذا إلى أن يتسلسل(72).

أقول: إنّ الذي يكون الأمر به مستلزماً للتسلسل إنّما هو امثتال الشخص للأمر الأول، وهو آخر حلقات تطبيق المعروف؛ فلو احتاج آخر الحلقات وهو الامتثال إلى تجديد أمر ولم يكفِ الأمر الأوّل للإيصال إلى حلقة الامتثال بواسطة حكم العقل فكان لابدّ من أمر آخر بالامتثال لزم التسلسل، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإجبار الحكومي فهذه كلها حلقات وسطية للانتهاء إلى الحلقة النهائية وهي عمل المأمور والمنهي أو المحكوم بالمعروف وتركه للمنكر. والأمر بهذه الحلقات الوسطية يكون للانتهاء إلى تلك الحلقة الأخيرة، فإن لم تحتج تلك الحلقة الأخيرة إلى أمر انقطع التسلسل. نعم، نفس الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو الإجبار الحكومي حلقات أخيرة وتعتبر امتثالاً بالقياس الى أمر الشريعة بهذا الأمر أو النهي أو الإجبار، ولم يقل أحد إنّ امتثال الأمر بهذه الأمور بحاجة إلى أمر آخر.

 

الوجه السابع:

قوله سبحانه وتعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}(73)؛ فالبيعة التي هي بمنزلة الانتخاب لرئيس الحكومة وقعت من الناس لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والله تعالى بارك لهم ذلك، فمنصب الحكم إذن من الناس ولا ينشأ من ذات النبوّة والرسالة(74).

والتاريخ أيضاً يشهد على وقوع البيعة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ولعليّ (عليه السلام) فأوجب ذلك جلوسهما على منصّة الحكم، في حين أن النبوّة أو الإمامة كانت ثابتة لهما من قَبل(75).

أقول: إنّ البيعة لها تفسيران:

الأوّل: ما قصده المستدل من أنّ البيعة هي التي منحت الولاية والحكم، فلم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) أو للإمام (عليه السلام) هذا المنصب قبل البيعة من قبل الله.

والثاني: أن البيعة تعهّدٌ للطاعة يوجد للمبايَع (بالفتح) نوع وثوق بأنّهم سيوفون به، فيكون عاملاً من عوامل عدم الفشل في الأمر، فيقدم النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام على مزاولة الأمور عملا، إذ لا معنى للقيام بالأمر من دون أنصار، ولا دليل على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام) قَبِلَ البيعةَ بلحاظ المعنى الأوّل، بل الدليل في بيعة الغدير وقع على العكس، لأننا بعد أن عرفنا في ما سبق أنّ آية: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} تدل على الولاية نقول: إنّ قوله (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه»(76) دلّ على ثبوت ولاية الحكم لعليّ (عليه السلام) قبل البيعة، لأنّ البيعة وقعت بعد هذا الكلام لا قبله.

 

الوجه الثامن:

قوله تعالى: {أمرهم شورى بينهم}(77)، فقد دلّت الآية المباركة على أنّ أمر الحكم والسياسة تعيّنه الأمّة نفسها عن طريق التشاور في ما بينهم، وليس أمراً خاصاً بالنبي أو الإمام باعتباره نبيّاً أو إماماً(78).

والجواب: أنّ الشورى في الآية المباركة يمكن أن تقصد بها حجية رأي الأكثرية على الأقلية، وهذا ما قد نسمّيه شورى الولاية، ويمكن أن تقصد بها شورى الاستضاءة، أي أنّ المؤمنين يديرون أمورهم عن طريق استضاءة البعض بآراء البعض وتضارب الآراء التي تنتج الاسترشاد إلى الرأي الأصوب من دون افتراض حجية لرأي الأكثرية، أو افتراض كون رأي الأكثرية هو الأصوب دائماً.

وعلى الثاني تكون الآية اجنبيّة عمّا نحن فيه، ولم نرَ في الآية المباركة ما يعيّن المعنى الأوّل، بل يوجد في القرآن ما يبطل المعنى الأول بلحاظ زمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله) من قبيل آية الشورى الأخرى، وهي قوله: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}(79)، ومن قبيل الآيات الثلاث التي أشرنا إلى دلالتها على ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) وتقدّم رأيه على رأي المؤمنين ووجوب طاعته عليهم، فإذا بطل هذا المعنى بلحاظ زمن النبي (صلى الله عليه وآله) قلنا: إنّ إخراج ذاك الزمان من آية {أمرهم شورى بينهم} يكون من سنخ إخراج المورد عن تحت العام، وهذا لا يجوز، فينحصر الأمر في تفسير الآية بالمعنى الثاني من المعنيين اللذين ذكرناهما للشورى(80).

 

الوجه التاسع:

قوله (عليه السلام) في نهج البلاغة: «لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر؛ يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيها الأجل، ويُجمَع به الفيء، ويقاتَل به العدوّ، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القويّ، حتى يستريح برّ، ويستراح من فاجر»(81).

فهذا الكلام واضح في أن العامل الذي لابدّ منه في تعيين الأمير أو السلطة التنفيذية هو أن تكون له الرؤية والقدرة الكاملتان في تدبير الأمور، وحفظ البلاد، وحراستها بحدودها عن الأعداء، ولا يشترط في أصل الإمرة أن لا يكون فاسقاً فاجراً ما لم يضرّ فسقه بتدبيره لأمور البلاد والإمرة، فإنّ الهدف من قوّة الحكومة أن يتمكن المؤمن من القيام بوظائفه الإيمانية، والكافر أيضاً من أخذ متعته من نظم البلاد مع التزامه هو بالنظام والمقررات. وهذا تماماً كحال الطبيب الذي يكون الشرط في طبابته مراعاة الأمانة والدقّة في العلاج كي لا يخاطر بحياة المريض وسلامته وإن كان غير متقيّد بموازين الأخلاق والمذهب ما دام لم يضرّ ذلك بأمانته بشأن المريض.

فهذا خير دليل شرعي على انفصال الحكومة عن الدين(82).

أقول: إنّ هذا النصّ المبارك إنّما أشار إلى حاجة الناس إلى أمير من هذا القبيل. أمّا أنّ هذا الأمير هل تقمّص قميص الإمارة بحقّ أو لا، فلا توجد في هذا النص من قريب أو بعيد الإشارة إليه، ولهذا نرى أن هذا النصّ إنّما اقتصر على ذكر إدارة الأمور والأمن واستراحة البرّ واستمتاع الكافر وتقوية الضعيف، ولم يذكر مجيء الأمير عن طريق انتخاب الناس، فربّما يأتي أمير عن طريق القهر والغلبة، ولكنه حينما يسيطر بالقهر والغلبة يحقّق البنود المذكورة في هذا النصّ، أفيصبح هذا الأمير عندئذ مُحقّاً في أمارته؟ أو ليست حقّانيّته منافية لما يؤمن به هذا المستدل من أن حقّ الحكم للناس يقلّدونه من يشاؤون؟! وهل كان حكم معاوية والذي هو مورد هذا النص من هذا القبيل؟! أم هل عمل الحكَمان حقّاً بالانتخاب بالنيابة عن الناس حتى ورد هذا الكلام من قبله (عليه السلام) ردّاً على الخوارج الذين رفضوا نفوذ حكم الحَكَمين؟! أو ليس التأريخ حدّثنا بشكل قطعي عن خيانة الحَكَمين أو تزوير عمرو بن العاص على أبي موسى الأشعري؟!

ثم إننا إلى هنا كان هدفنا إبطال شبهات مهدي الحائري في ولاية النبي والإمام، ولم نكن بصدد إثبات ولاية النبي والإمام والتي تعتبر لدى الشيعة من الواضحات، إلاّ أننا أشرنا بالمناسبة إلى بعض الآيات التي تدلّ على ولاية النبي، وبتبع علمنا بقيام الإمام مقامه دلّت على ولاية الإمام أيضاً وهي قوله تعالى: {النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم} وقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} ـ وطبعاً المتيقن من أولي الأمر بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) هم الأئمة (عليهم السلام) ـ وقوله تعالى: {ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}.

ونحن نتعدّى من النبيّ والإمام في الولاية إلى الفقيه في عصر الغيبة بالتوقيع المرويّ عن الحجّة عجّل الله تعالى فرجه: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»(83).

وقد تكلّمنا عن تفصيل الاستدلال بهذا الحديث على ولاية الفقيه في كتابنا (أساس الحكومة الإسلامية) وكتابنا (ولاية الأمر في عصر الغيبة)، ولسنا هنا بصدد تكرار ما مضى في الكتب السابقة.

وقد أورد مهدي الحائري على الاستدلال بهذا التوقيع لولاية الفقيه بأنّنا يجب أن نفهم أوّلاً ما معنى الحجّة في هذه الرواية، وهل كلمة: (الحجّة) أو (الحجيّة) تشتمل على معنى إدارة البلاد؟

فنقول: قد ذكروا للحجّة عدّة معانيَ:

1 ـ الحجّة بمعنى الدليل، فإنْ قصد بالدليل البرهان المنطقي كان معنى ذلك القياس البرهاني المشتمل على الصغرى والكبرى والنتيجة مع فرض الصغرى والكبرى من اليقينيّات.

2 ـ الدليل العيني، وهو غير الدليل اللفظي بمعنى القياس الذي ذكرناه في المعنى الأوّل، وذلك من قبيل العلّة التي هي دليل لمّي على المعلول، أو المعلول الذي هو دليل إنّي على العلّة.

3 ـ الحجّة بالمعنى الذي يكون موضوع علم أصول الفقه، أو قل هو العرض المحمول في علم الأصول على ذات الحجج، فيقال: الشهرة حجّة في الفقه، والاستصحاب كذلك، والكتاب والسنّة والإجماع كذلك، وما إلى ذلك.

4 ـ أفاد الشيخ الأنصاري (رحمه الله): أنّ الحجّة بمعناها الأصولي تعني الحدّ الأوسط المثبت للأكبر على الأصغر.

5 ـ أفاد أستاذنا الأعظم(84): أنّ الحجّة التي يبحث عنها الفقيه في علم أصول الفقه هي ما يحتجّ به العبد على المولى والمولى على العبد في الطاعة والعصيان، وكلّ من يعتبر مسؤولاً مع من يعتبر أعلى منه ووليّاً عليه دينياً أو أخلاقياً أو اجتماعياً؛ فمثلاً من يعتقد بحجيّة الاستصحاب اجتهاداً أو تقليداً وأثبت الاستصحاب حكماً إلزامياً عليه وخالف كان لله تعالى أن يحتجّ عليه بالاستصحاب، ولو نفى الاستصحاب الإلزام عنه فترك وكان الإلزام ثابتاً في علم الله تعالى كان للعبد أن يحتج بهذا الاستصحاب كعذر لتركه، ونحو ذلك سائر الحجج لعلم الفقه التي ثبّتوا حجّيتها في علم الأصول، بل وحتّى القطع فإنّه حجّة يحتجّ به الله على عباده وبالعكس، فحجيّة القطع تعتبر من مسائل علم الأصول خلافاً للمحقّق الخراساني (رحمه الله).

والحجة في التوقيع الماضي تكون بهذا المعنى الأخير؛ فكما أنّ كلام الإمام في الأحكام الكلية الشرعية حجة يحتج به المولى على العبد وبالعكس، كذلك الحال في فتوى الفقيه، وبما أنّنا أوضحنا أنّ المسائل الجزئية السياسية والحكومية المتغيّرة من زمان إلى زمان ليست داخلة في الفقه الذي يكون كلام الإمام فيه حجة بين العبد والمولى ففتوى الفقيه أيضاً كذلك. فعلى كل حال نقول: إنّ الأحكام الفقهية إن هي إلاّ أحكاماً كليّة ثابتة، أمّا الجزئيات المتغيّرة فلا يمكن أن ترتبط بالفقه والفقيه.

وأساساً مسألة ربط الحادث بالقديم التي تعتبر من المسائل صعبة العلاج في فلسفة ما وراء الطبيعة عبارة عن ربط المتغيّرات بالثوابت. والارتباط الوحيد الذي يمكن أن يفترض بين الفقاهة والسياسة إنما هو ارتباط المفهوم بالمصداق أو الكليّ بالجزئي، ومقام الفقاهة إنّما هو مقام تشخيص الكبريات، أمّا تشخيص المصاديق والموضوعات الجزئية ومتغيّرات الطبيعة فلا امتياز للفقيه على غير الفقيه في ذلك(85).

أقول: أمّا ما جاء في ذيل كلامه من ربط المقام بمسألة ربط الحادث بالقديم أو المتغيّر بالثوابت فمن أطرف الأمور، فإنّ المقصود بما في بحث فلسفة ما وراء الطبيعة هو ربط الحادث بالقديم أو المتغير بالثابت في العلّية التكوينية لا في التشريعات، إلاّ أنْ يقول: إنّ مسألة ربط الحادث بالقديم هو البطون، ومسألة ربط الجزئيات المتغيرة بالكبريات الثابتة في الفقه هو الظهور(86). كما قال في ما سبق: إنّ الجبر الفلسفي هو البطون، والجبر الاجتماعي والسياسي هو الظهور.

وأما أصل إشكاله على الاستدلال بالتوقيع فقد رجع في الحقيقة إلى نفس مطالبه السابقة حول عدم إمكان شمول التشريع السماوي للسياسة المتغيرة، وقد عرفت الجواب عن ذلك مفصّلاً.

وخلاصة الكلام: أنّ الأحكام الفقهية وإن كانت أحكاماً كلّية وثابتة في حين أنّ القضايا السياسية خارجية وجزئية ومتغيّرة، والفقيه حينما يُبدي فتاواه الفقهيّة لا علاقة له في تلك الفتاوى بالجزئيات الخارجية والمتغيّرات، وشأنه فيها شأن أيّ إنسان آخر، لكن من جملة المسائل الكلية التي لابدّ من البحث عنها في الفقه أنّه هل للفقيه ولاية في تلك القضايا الجزئية أو لا؟ فإن ثبت بالبحث أنّ له الولاية فيها أصبحت هذه الكبرى هي الرابط بين سائر الكبريات الفقهية في القضايا الاجتماعية وتلك السياسات الجزئية المتغيّرة، وقد عرفت حجّية كلام النبيّ والإمام في هذه الجزئيات والأحكام الحكومية والولائية بحكم الآيات الثلاث المباركات التي شرحناها، وقد دلّ التوقيع الشريف على قيام الفقيه مقام الإمام في كل ما كان الإمام حجّة فيه، فتثبت بذلك ولاية الفقيه في تلك الأحكام الحكومية كما تثبت بذلك حجّيّة رأي الفقيه، أي فتاواه في الأحكام الكلية الإلهية، والاحتجاج بكلام النبيّ والإمام بين العبد والمولى ثابت في الأحكام الإلهية والولائية معاً.

وصحيح أن الصغريات السياسية والمتغيرة لا تعطى من قبل الكتاب أو السنّة، ولا من قبل فتاوى الفقهاء، ولكن أصل أنّه من هو الذي يجب أن يميّز تلك الصغريات ويدير أمور البلاد وفق ذاك التمييز أمر كلّيّ له حكم إلهيّ يجب أن يعطى من قبل الفقه والشريعة. وهذه الكبرى هي حلقة الوصل بين باقي كبريات الفقه والسياسة في ما تطبَّق على السياسة تطبيق الكبرى على المصاديق، ولا أقصد بذلك أن الفقيه لابدّ وأن يفتي بمبدأ ولاية الفقيه، وإنّما أقصد بذلك أنّ الفقيه لابدّ وأن يفتي بمبدأ للولاية، سواء ينتهي أمر اجتهاده إلى مبدأ ولاية الفقيه أو ينتهي إلى مبدأ حكم المجتمع وولايته على الأفراد أو إلى أيّ مبدأ آخر، وذلك لما مضى منّا من أنّ المجتمع كمجتمع غير الأفراد كأفراد مستقلين؛ فعلى كل تقدير لا يتم الاتحاد بين الولي والمولّى عليه، فنكون على كل حال بحاجة إلى ولاية شرعية، وبما أنّنا عبيد لله تعالى فلابدّ أن نعرف حكم الله في تشخيص تلك الولاية بدليل عقليّ أو نقلي؛ فإنّه ما من واقعة إلاّ ولها حكم، وأصل الحكم والحكومة ممّا لابدّ منه لدى جميع العقلاء (عدا رأي شاذّ نقل عن الشيوعيين بلحاظ ما بعد زمان فرض وصول المجتمع إلى الشيوعية المحض) فلابدّ أن نعرف أن الحكم والحكومة لمن؟ وعليه فإنكار ولاية الفقيه لا يحلّ مشكلة ما هو الارتباط بين الكبريات الفقهية والسياسة؟ لأنّ من ينكرها لا يمكنه أن ينكر أصل الضرورة إلى الحكومة، ومن فرض أن الحكومة هي المجتمع لا يمكنه افتراض أنّ المجتمع عين الأفراد المستقلين، فانتهى بالنتيجة إلى ولايةٍ ما ولو للمجتمع كمجتمع على الأفراد في تصرفاتهم الاجتماعية، أو قل ولاية الأكثرية على المجتمع، وذلك عن طريق الانتخاب الذي هو أيضاً واقعة من الوقائع يجب على العبد المؤمن أن يعرف رأي الشرع فيه.

 

الجمهورية الإسلامية تحت ولاية الفقيه

وفي ختام البحث لابدّ لنا من بيان أن لمهدي الحائري تقريبين لإثبات وجود التناقض في أصل جملة (الجمهورية الإسلامية تحت ولاية الفقيه).

 

التناقض الأوّل: هو التناقض بين كلمة (الجمهورية) وكلمة (ولاية الفقيه)، وذلك لأنّ ولاية الفقيه خاصّةً الولاية المطلقة تعني أنّ الناس جميعاً كالصغار والمجانين لا رأي لهم، ولا تحقّ لهم المداخلة في الأمور أو التصرف في الأموال والنفوس، ولا يحقّ لهم من أفراد أو هيئات وحتّى مجلس الشورى أن يخالفوا رأي ولي الأمر وأوامره، في حين أنّ الجمهورية تعني في مفهومها السياسي واللغوي والعرفي حاكمية الناس أنفسهم لا غير، وتعني نفي حكامية أيّ شخص من الأشخاص أو مقام من المقامات غيرهم. وعليه فالمفهومان متناقضان، فلا اعتبار عقلائي وشرعي وحقوقي لعنوان: (الجمهورية الإسلامية تحت ولاية الفقيه)، وإذا بطل ذلك عقلاً بالتناقض بطل شرعاً، لأنّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

وإن شئت أن تتكلّم بلغة الفقه فقل إنّ اشتراط الجمهورية بولاية الفقيه اشتراط لعقد أو معاملة بشرط على خلاف مضمون ذلك العقد أو المعاملة، من قبيل أن يقول البائع: بعتك المتاع الفلاني بشرط أن لا تملكه. والشرط المخالف لماهية العقد ليس فاسداً فحسب، بل يُبطل أيضاً ـ في رأينا واجتهادنا ـ العقد، وإذا بطلت الجمهورية الإسلامية بطلت كل قراراتها مع الداخل والخارج، ومن حق الإيرانيين في أيّ زمان سنحت لهم الفرصة أن يطالبوا بحقوقهم المشروعة داخليّاً وخارجيّاً.

فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فمع من تتعامل اليوم دول العالم والمحافل الدولية في معاملاتها مع الجمهورية الإسلامية، في حين أنّ هذا العنوان ليس إلاّ تناقضاً ووهماً أو خيالاً؟! وكيف اعترفوا برسميتها وعضويتها في المجتمعات؟!

قلت: إنّهم تخيّلوا أنّ معنى ولاية الفقيه إشرافه كمقام قضائي على عدم التخلّف عن الدستور، وهذا من الوجوه المشرقة للديموقراطية وحاكمية الناس على أنفسهم، ولم يعرفوا معنى ولاية أمر المسلمين(87).

أقول: ليكن معنى الجمهورية في مصطلحها الغربي (وهي من المصطلحات الوافدة من الغرب) ما قاله من حكم الناس أنفسهم بأنفسهم، ولكن ليس المفروض بنا تقليد الغرب، فنحن لدينا مصطلحات إسلامية أولاً، ثم مصطلحات مستجدّة قد نحن نستجدّها، وقد نأخذها من الغرب ونتصرّف في معناها، وقد نأخذها من الغرب من دون تصرّف حينما نراها صحيحة.

والسيّد الإمام رضوان الله تعالى عليه قد فهّم الأمّة الإسلامية معنى العبارة، ثم طلب منهم التصويت على هكذا نظام، ووضّح لهم أن شرعية الحكومة تأتي من قبل الوليّ الفقيه، وأن الولي الفقيه رأى المصلحة في انتخاب رئيس الوزراء إبّان انتصار الثورة المباركة، وبعد ذلك رأى المصلحة في انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الدستور وما إلى ذلك، وسمّى كل ذلك ـ بمناسبة ما فيه من الانتخابات الحرّة ـ بالجمهورية، ولم يقل إنّ المقصود بالجمهورية كون المصدر الأساس لولاية الحكم نفس الناس حتّى ينافي هذا المفهوم مفهوم ولاية الفقيه، فتكوّنت من ذلك الجمهورية الإسلامية تحت ولاية الفقيه بالمصطلح الذي روّجه نفس السيد الإمام (رحمه الله) في شعبه لا بمصطلح غربي لكلمة الجمهورية.

والتناقض الثاني: يكمن في نفس كلمة ولاية الفقيه مع تعيين الوليّ الفقيه بالانتخاب. وتوضيح ذلك حسب ما ذكره مهدي الحائري هو: أنّ الرجوع إلى رأي الأكثرية لانتخاب الخبراء ثم انتخاب الخبراء للقائد يعني أنّ انتخاب وليّ الأمر من شأن الناس أنفسهم. وهذا بنفسه يستبطن التناقض، لأنّ احتياجهم إلى الوليّ يعني أنّهم كالصغار والمجانين، وانتخابهم للوليّ يعني أنهم راشدون فلهم حقّ الانتخاب بأنفسهم، وهذا هو التناقض بعينه؛ فإنّ من له حقّ انتخاب وليّ نفسه ليس قاصراً حتى يكون مولّى عليه، وإن لم يكن مولّى عليه لم يكن له وليّ، لأن الوليّ والمولّى عليه متضايفان، ولو كان حقّاً مولّى عليه ومحتاجاً إلى الوليّ لم يكن يحقّ له الانتخاب(88).

أقول: لو كان يقصد بهذا الكلام فرض تضادّ حقّاً بين مفهومي الولاية ورشد المولّى عليهم فيقول: إنّ مفهوم الولاية سنخ مفهوم يستبطن كون المولّى عليه صغيراً أو مجنوناً أو نحو ذلك، فيقع التهافت حقيقة بين مفهوم الولاية وفرض كون المولّى عليهم راشدين وعقلاء، فمن الواضح أنّ تناقضاً أو تضادّاً مفهوميّاً بين الولاية ورشد المولّى عليهم غير موجود، وإلاّ لأصبحت ولاية الله على عباده الراشدين والعقلاء أيضاً غير معقولة.

ومهدي الحائري وإن أنكر ولاية الرسول والأئمة (عليهم السلام)، ولكنّي لا أدري هل ينكر ولاية الله تعالى على العباد أيضاً، أو يؤمن بولايته عزّ اسمه عليهم؟!!

فإن كان يؤمن بولاية الله قلنا: إن استحالة التناقض لا تقبل الاستثناء بما إذا كان الطرف هو الله سبحانه وتعالى، فهل الناس كلهم صغار أو مجانين حتى أصبح الله سبحانه وتعالى وليّاً عليهم؟! وإن كان ينكر حتى ولاية الله تعالى لزم سقوط الأوامر الإلهية أيضاً، وليس فقط سقوط ما يسمّى بالأوامر الحكومية أو الولائية، وبهذا يسقط الإسلام بل وكل دين سماويّ!

ولعل مهدي الحائري يعتذر عن ذلك بأنّ الله تعالى لم يعمل ولاية على العباد بأوامر تأسيسيّة، وإنّما أرشدهم إلى نفس أحكام العقل، لأنّ الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

ولكن أقلّ ما يرد على هذا الكلام (وبغض النظر عن ولاية المالك على المملوك والخالق على المخلوق)(89) هو الإشكال بلحاظ مبناه هو، حيث التزم في ما مضى بأنّ خصوص الأوامر العبادية تأسيسيّة وليست ألطافاً في الأحكام العبادية، فنقول بناءً على هذا: إنّه يلزم من إنكار ولاية الله سقوط العبادات، وهذا كافٍ في سقوط الإسلام، بل سقوط كل دين سماوي، لأنه لا يخلو أيّ دين سماويّ عن العبادات.

أمّا إذا اعترف بعدم التضادّ أو التناقض بين مفهومي الولاية ورشد المولّى عليهم، ولكنه قال: إنّه من الثابت في فقهنا أنّ الولاية الفقهية إنما تكون لسدّ نقص المولّى عليه؛ فإن لم يكن صغر أو جنون أو سفه أو غياب أو عجز أو نحو ذلك في المولّى عليه لم يثبت الفقه عليه وليّاً، ولذا ترى أنّ ولاية الأب مثلاً تنتهي ببلوغ الطفل ورشده، أمّا ولاية الله فليست ولاية فقهية ومجعولة من قبل الله تعالى، وإنّما هي ولاية المالك (بالمعنى الحقيقي للمالكية لا الاعتباري الفقهي) على مملوكه وولاية النبيّ والإمام ـ بعد الاعتراف بها ـ أيضاً شعبة من شعب ولاية الله تعالى باعتبارهم مظهراً جليّاً من مظاهر الله، وليست ولاية فقهية من قبيل ولاية الأب على أطفاله، وهذا بخلاف ولاية الفقيه، فإنها ولاية فقهية لا تُجعل إلاّ لدى قصور المولّى عليه.

فالجواب على هذا الإشكال هو: أنّ الأفراد بما هم أفراد مستقلّون، وإن كان كثير منهم راشدين ولا قصور فيهم، لا من ناحية الصغر ولا من ناحية العقل ولا من ناحية العجز ولا من أيّ نواحيَ أخرى، ولكنهم بما هم جزءٌ من المجتمع يبتلون ببعض القصور حتى ولو فرضوا جميعاً ـ كأفراد مستقلين ـ عباقرة وعقلاء وأذكياء وراشدين؛ فمن جملة قصورهم أنّه يستحيل عليهم عادة الاتّفاق على آراء موحّدة في قضاياهم الاجتماعية التي لابدّ فيها من توحيد الرأي لولا من يفرض عليهم رأياً موحّداً، وذلك كما في قضايا السلم والحرب والسياسات العامّة الاقتصادية أو الخارجية أو الداخلية التي لابدّ من توحيدها، ومن جملة قصورهم أنّ فيهم ظالمين ومظلومين شاؤوا أم أبوا، وكثيراً ما يعجزون عن تأديب الظالم لولا وجود سلطة تتدخّل في الأمور بوكالة أو ولاية، ومن جملتها أنهم كأفراد قليلو الاطلاع على الأحداث العالمية التي تؤثّر على تحديد الموقف في مواقفهم الاجتماعية والسياسية، إلى غير ذلك من النقائص والقصور.

ويفترض لملء هذه النقائص والقصور أحد طريقين لا ثالث لهما في زمن غيبة المعصوم:

الطريق الأول: أن يقال إنّ حلّ ذلك يكون بالتوكيل، ولا حاجة إلى الولاية؛ فهم يوكلون أمرهم إلى من ينتخبونه بآراء الأكثرية، ويحدّدون نظامهم بالمقررات التي تصوّب أيضاً بأكثر الآراء، ويشخّصون وكلاءهم في مجلس المشاورة وقضاتهم أيضاً بنحو من هذا القبيل، وما إلى ذلك من الأمور التي تتم جميعاً بروح التوكيل لا الولاية، وذلك بأشكال مختلفة على اختلاف أشكال الديموقراطية.

ولكن الذي يرد على ذلك ما مضت الإشارة إليه سابقاً من أنّ هذه التوكيلات إنّما تصدر من المجتمع كمجتمع لا من الأفراد المستقلين، وهناك فرق بيّن بين المجتمع والأفراد، ولذا قد تتعارض مصالح المجتمع مع مصالح الأفراد، وربّ فرد لم يؤمن أصلاً بنظام الديموقراطية، ولم يشترك في الانتخاب ولو فرضناه خاطئاً في ذلك، وربّ فرد لم يكن بالغاً رشيداً في زمان الانتخاب ثم بلغ الرشد قبل انتهاء الفترة التي تمّ الانتخاب لها، وربّ إنسان اشترك في الانتخابات وأعطى الوكالة ثم ندم؛ والتوكيل أمر قلبيّ ينتهي قهراً بالتراجع عنه، ولهذا يجوز للأمّة على رأي الديموقراطية عزل الرئيس المنتخب إن تراجعت عنه بأكثرية الآراء أو بالإجماع، لكن حينما يتراجع البعض من الأقلّية لا يقولون بسقوط الرئيس عن الرئاسة بالنسبة لذلك البعض، مع أنّ التوكيل بمقدار ذاك البعض قد انتهى.

وهذا أحد معاني أنّ المجتمع قد فرض نفسه على الفرد، وعليه فلم تعد هذه الانتخابات تعني مجرّد توكيل بحت، بل تعني في ما تعني ولاية على الأفراد غير الناخبين أو غير المقتنعين أو النادمين أو نحو ذلك. وإن شئت عبّر عن ذلك بما مضى من ولاية المجتمع على الأفراد المستقلين؛ فهذه الولاية بحاجة إلى دليل شرعيّ كأيّ ولاية أخرى.

الطريق الثاني: هو حل ذلك عن طريق الولاية الفقهية، ولا أقصد بالولاية الفقهية ولاية الفقيه، بل أقصد بها الولاية التي هي من أحكام الفقه كولاية الأب على الأطفال، وهذه الولاية وإن كانت خاصّة بفرض قصور المولّى عليه، لكن القصور لا يختصّ بقصور الصغر أو الجنون، بل يشمل قصور العجز. وقد شرحنا بعض أمثلة عجز الأفراد ـ رغم رشدهم بل وعبقريتهم ـ في قضاياهم الاجتماعية لولا الوليّ أو الوكيل، فإذا توضّح عدم تمامية فكرة التوكيل ـ وهو الطريق الأوّل ـ انحصر الأمر بفكرة الولاية والتي لا يمكن أن تأتي إلاّ عن طريق جعل خاصّ أو عامّ من قبل الوليّ الحقيقي وهو الله تعالى، أو من عيّنهم من الأنبياء والأئمة.

وصحيح أنّ تعيين غير المعصوم لا يكون عادة إلاّ لسدّ فراغ النقص في المولّى عليه، لكن النقص موجود كما شرحنا، ولا ينحصر النقص الذي هو بحاجة إلى الملء والعلاج في مثل كون الأفراد جميعاً أطفالاً أو مجانين.

وكل هذا لا يعني إثبات ولاية الفقيه، بل يعني إثبات ضرورة تشخيص الوليّ عن طريق كبرى شرعية تعطى في الفقيه. أمّا أنّ تلك الكبرى ما هي؟ فهل هي عبارة عن فكرة الانتخاب، أو عن ولاية الفقيه، أو غير ذلك؟ فهذا ما أشرنا إليه سابقاً في هذه الوريقات في بحث رواية التوقيع، وما شرحناه في كتابينا (أساس الحكومة الإسلامية) و(ولاية الأمر في عصر الغيبة).

 

 

الهوامش:

(1) الكافي، المصدر السابق، ج5، كتاب الجهاد، باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد الله(عليه السلام)الحديث 1، ص 23 ـ 27.

(2) الوسائل، المصدر السابق، ج28، ب10 من حدّ المرتدّ، ح36، ص350.

(3) الوسائل،المصدر السابق، ج15، ب13 من جهاد العدوّ، ح1، ص50.

(4) سورة يونس، الآية: 35.

(5) سورة البقرة، الآية: 247.

(6) سورة الأحقاف، الآية: 4.

(7) دراسات في ولاية الفقيه: ج1، ص303 ـ 304، نقلاً عن كتاب سليم بن قيس .

(8) نهج البلاغة، الخطبة: 173.

(9) دراسات في ولاية الفقيهة: ج1، ص304، نقلا عن المحاسن 1/93 ب18 من كتاب عقاب الأعمال ح49.

(10) أمالي الشيخ الطوسي، المجلس الحادي والعشرون، طبعة دار الثقافة بقم، ص566 .

(11) المصدر السابق، المجلس العشرون، ص560.

(12) دراسات في ولاية الفقيه، ص306 نقلاً عن تحف العقول، ص375.

(13) المصدر السابق، الصفحة نفسها، نقلا عن الاختصاص، ص251.

(14) المصدر السابق، الصفحة نفسها، نقلا عن كتاب سليم بن قيس، ص148.

(15) شرح النهج لابن أبي الحديد، دار احياء التراث العربي،ط2، 1385هــ1965م، ج3، ص210.

(16) البحار، ج93، ص44 و64.

(17) روي عن الإمام الصادق(عليه السلام) قوله: «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت». راجع البحار، ج52، ص92. وعن الإمام الباقر(عليه السلام): «لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام لساخت بأهلها». راجع غيبة النعماني ص218.

(18) البحار، ج52، ص92.

(19) الوسائل، ج15، ب13 من جهاد العدوّ، ح1، ص50 ـ 51.

(20) يعني الوليد بن عبد الملك الاُموي.

(21) سورة التوبة، الآية: 29.

(22) سورة الأنفال، الآية: 41.

(23) سورة التوبة، الآية: 60.

(24) كتاب فقه الحياة، ص18 ـ 26.

(25) المصدر المذكور، ص23.

(26) فقه الحياة، ص19.

(27) سورة النحل، الآية: 4، وسورة الأنبياء، الآية: 7.

(28) سورة التوبة، الآية: 122.

(29) المسائل الفقهية، ج1، م6 و7، ص12.

(30) سورة الشورى، الآية: 38.

(31) سورة الأحزاب، الآية: 6.

(32) سورة آل عمران، الآية: 159.

(33) وممّا يشير إلى ذلك في الدستور الإسلامي الإيراني ما ورد فيه في ص61 في النسخة التي تكون بتدوين علي الخاتمي والمصوّبة لسنة 1358 الهجرية الشمسية مع آخر الإصلاحات لسنة 1368 من أنّه من أعمال القائد الموافقة على رئاسة من انتخبه الناس رئيساً للجمهورية، فلو كانت الولاية للناس وللقانون لم يكن معنىً لهذه الموافقة.

(34) حكمت وحكومت، الطبعة الأولى، انتشارات شادي، ص143 ـ 114، (بالفارسية).

(35) المصدر السابق، ص141 ـ 142 وص64 ـ 65.

(36) المصدر السابق، ص142 ـ 143 و161 ـ 163.

(37) {وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون} سورة الذاريات، الآية: 56.

(38) سورة آل عمران، الآية: 97.

(39) سورة الحجرات، الآية: 12.

(40) سورة المائدة، الآية: 99. وكذلك سورة العنكبوت، الآية: 18 بإضافة كلمة: المبين.

(41) سورة الغاشية، الآيتان: 21 و22.

(42) سورة ق، الآية: 45.

(43) سورة الأحزاب، الآية: 6.

(44) مجلّة:(حكومت اسلامي)، العدد الثاني للسنة الأولى وهي سنة 1375 الهجرية الشمسية ص225. (بالفارسية).

(45) سورة مريم، الآية: 70.

(46) سورة آل عمران، الآية: 68.

(47) سورة الأحزاب، الآية: 36.

(48) مجلّة: (حكومت اسلامي)، المصدر السابق، ص224.

(49) المصدر السابق، ص235.

(50) سورة فصّلت، الآية: 12.

(51) سورة الإسراء، الآية: 23.

(52) سورة النساء، الآية: 65.

(53) سورة النساء، الآية: 59.

(54) مجلة: حكومت اسلامي، المصدر السابق، ص225 ـ 226.

(55) سورة النحل، الآية: 43.

(56) مجلّة: حكومت اسلامي، المصدر السابق، ص240.

(57) سورة البقرة، الآية: 256.

(58) سورة التوبة، الآية: 1 ـ 5.

(59) سورة التوبة، الآية: 29.

(60) سورة يونس، الآية: 99.

(61) سورة يونس، الآية: 42.

(62) سورة النمل، الآية: 80 و سورة الروم، الآية: 52 إلاّ أنه ورد فيها: فإنّك.

(63) سورة الزخرف، الآية: 40.

(64) سورة فاطر، الآية: 8.

(65) سورة القصص، الآية: 56.

(66) سورة البقرة، الآية: 272.

(67) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص135 ـ 141.

(68) سورة الحديد، الآية: 25.

(69) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص140.

(70) سورة البقرة، الآية: 30.

(71) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص165 ـ 167.

(72) المصدر السابق، ص149.

(73) سورة الفتح، الآية: 18.

(74) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص152 ـ 168.

(75) المصدر السابق، ص167 ـ 168.

(76) البحار، ج37، ص138 وغيره من الموارد الكثيرة.

(77) سورة الشورى، الآية: 38.

(78) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص82 و152.

(79) سورة آل عمران، الآية: 159.

(80) وقد يؤيّد المعنى الثاني في الآية أنّ الشورى من مادّة التشاور والمشورة التي هي بمعنى تبادل الآراء والاستشارة وطلب الإرشاد، وليس فيها لغةً معنى ملاحظة عدد الآراء التي لابدّ منها في المعنى الأول.

(81) نهج البلاغة، الخطبة 40.

(82) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص196.

(83) إكمال الدين وإتمام النعمة، ب45 التوقيعات، التوقيع الرابع.

(84) يعني آية الله العظمى البروجردي(رحمه الله).

(85) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص207 ـ 213.

(86) ولا أدري هل يقبل عندئذ أن يقال: كما لا علاقة للمتغير بالثابت في جانب الظهور كذلك لا علاقة للحادث بالقديم في جانب البطون، وبذلك يبطل أساس إثبات الخالق بعد وضوح عدم كون المخلوق مصداقاً للخالق أو جزئياً من جزئياته؟!

(87) حكمت وحكومت، المصدر السابق، ص217 ـ 218.

(88) المصدر السابق، ص219 ـ 220.

(89) وكذلك بغضّ النظر عن أنّه لو تمّ عدم التأسيس فإنّما يتم في موارد باب التحسين والتقبيح العقليين لا في موارد مجرد المصالح والمفاسد، وقد وضّحنا الفرق بين البابين في أبحاثنا الأصولية.