عباس علي عميد زنجاني*

أسس الفكر السياسي في القرآن

تعتبر دراسة أسس الأفكار السياسية في القرآن بمثابة مفتاح لجميع المباحث التي تطرح على بساط البحث تحت عنوان الفقه السياسي وخاصة في حقل السياسة والحكومة في الإسلام؛ ومن هنا لابد عند دراسة النظام السياسي في الإسلام من الإلمام بهذه الأسس ومعرفة كيفية تطبيقها في بناء النظام السياسي والحكومة الإسلامية.

1ـ الخلافة الإلهية: الإنسان في الرؤية القرآنية خليفة الله في الأرض والمتكفل بإقامة حكم الله ووارث الأرض والحكومة فيها. وفي ضوء ذلك فهو مكلّف باكتساب الصفات والشروط اللازمة لإحراز هذه المسؤولية الكبرى عن طريق استثمار جميع المستلزمات المادية والمعنوية التي وفرها له الله.

ولاشك في أنّ هذه الرؤية وهذا الاعتقاد يلقي على كاهل الفرد المسلم مسؤولية كبرى ويستلزم نشاطاً سياسياً واسعاً يتحدد مداه في ضوء الآيات القرآنية التالية:

أ ـ {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}[1].

ب ـ {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}[2].

ج ـ {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذي من قبلهم}[3].

2ـ الأمّة الواحدة: يرى القرآن الناس ـ على ما بينهم من اختلاف في الميول والنزعات ـ مجموعة منسجمة ومتجانسة ومتّحدة في الاتجاه وينظر إليها كقافلة متناسقة سائرة باتجاه مقصد واحد، ويدعوها إلى إيجاد نظام أكثر شمولية في عملها. ويشير إلى أن هذه الحالة هي الكيفية الأولى التي كان عليها المجتمع البشري، وهو الشكل المعقول الذي يُطمح إلى تحقيقه في مستقبل الزمان:

أ ـ {كان الناس أمّة واحدة فبعث الله النبيين}[4].

ب ـ {وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا}[5].

ج ـ {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربّكم فاعبدون}[6].

وانطلاقاً من هذه الرؤية يتعيّن على المسلم إيجاد الوحدة والتلاحم على صعيد العالم الإسلامي كخطوة أولى، ثم تعميم تلك الوحدة على المجتمع البشري بأسره.

3ـ الإمام والقيادة: إنّ هداية عالم الوجود بحكمة الله وقدرته الأبدية تعد جزءاً من التعاليم التوحيدية للقرآن. وفي هذا السياق تأتي هداية الإنسان وتوجيهه نحو سعادته المنشودة في مطلق أبعاد وميادين حياته على يد الأنبياء المبعوثين من قبل الباري تعالى.

ومن الطبيعي أنّ الصفة المعقّدة التي يتسم بها خلق الإنسان والمسائل المتعلّقة بهدايته وسعادته، تجعل إمامته وقيادته لا تتأتى إلاّ في ظل الخيار الإلهي. وهكذا فإنّ النخبة التي اصطفاها الله هي التي تنظم صفوف قافلة البشرية وتقودها بحكمة صوب سعادتها الحقيقية:

أ ـ {وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً}[7].

ب ـ {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}[8].

ج ـ {ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}[9].

وردت الإمامة في الثقافة السياسية القرآنية على نوعين: إمامة الصالحين والمتقين، وتقع على عاتق الأنبياء والأوصياء والمستضعفين المؤمنين الذي يعملون صالحاً؛ بينما تقع إمامة المتجّبرين الذين يعبّر عنهم بأئمة الكفر[10] على عاتق أولئك الذين يدعون بهم:

{يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم}[11].

4ـ الحرية المسؤولة: يرى القرآن أنّ الله عز وجل قد منح الإنسان الحرية في مقابل ما وفّره له من هداية حكيمة تجسدت في بعثته للأنبياء، أي أنه تعالى ترك له حرّية الاختيار في ذات الوقت الذي جعله مكلفاً ومسؤولاً عن مستقبله؛ وذلك لأن الإنسان لديه القدرة على التمييز والإدراك. ومن هنا يجب أن يحاسب على أساس اختياره:

أ ـ {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}[12].

ب ـ {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}[13].

ج ـ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغّيروا ما بأنفسهم}[14].

وعلى هذا المنوال جعل الإنسان سيّداً على مصيره ليختار سبيله على أساس مسؤوليته أمام الله، وعلى أساس العقل والحكمة. وهذه الرؤية لها دور في غاية الخطورة في الحياة السياسية للإنسان المسلم.

5ـ حقوق الإنسان: من جملة الأصول التي أكدها القرآن الكريم هو أصل رعاية مطلق الحقوق المنبثقة عن كرامة الإنسان وعمله وسعيه في الحياة. ولا يخفى أن جانباً لا يُستهان به من الحياة السياسية للإنسان رهين بهذا الأصل.

أ ـ {كلّ نفس بما كسبت رهينة}[15].

ب ـ {ولقد كرّمنا بين آدم}[16].

ج ـ {إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أثنى}[17].

د ـ {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن}[18].

6ـ العقل والتجربة السياسية: التعقل والتجربة قاعدتان أساسيتان للفكر والعمل في جميع النشاطات التي يمارسها الإنسان ومن جملتها السياسة والحكومة، حيث يستفيد المؤمنون في ضوء الوحي والأحكام الإلهية من هاتين النعمتين.

يحثّ القرآن الإنسان بقوة للاستفادة من هذين النمطين من الوعي، ويشير اليهما بكثرة بأساليب مختلفة وفي مناسبات شتّى، ويذهب إلى وصف التجارب المستقاة من حياة الآخرين بأنها كنز ثمين مفيد للإنسان في حقلي المعرفة والتعقّل:

أ ـ {أفلا تعقلون}[19].

ب ـ {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}[20].

ج ـ {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}[21].

د ـ {لقد كان في قصصهم عبر لأولي الألباب}[22].

7ـ الشورى: يحدد القرآن إحدى صفات المجتمع المؤمن بالحركة والعمل على أساس التشاور وتبادل الآراء واتخاذ القرار المشترك، ويدعو حتى الرسول إلى اتباع هذه الطريقة في أعماله الاجتماعية لكي يحترم بذلك آراء الجميع ويشركهم في القرارات الاجتماعية ولكي يكونوا على استعداد أكبر لتحمل المسؤولية، ومن أجل إزالة المعوقات والصعوبات التي تقف في طريق إطاعة القيادة.

أ ـ {وأمرهم شورى بينهم}[23].

ب ـ {وشاورهم في الأمر}[24].

8ـ المسؤولية الجماعية: إن الدور الذي يؤديه كل مسلم في تقرير مصير مجتمعه، والتأثير الذي تتركه أعمال الآخرين في مصيره، فضلاً عن الالتزام المنبثق من تحمّله للمسؤوليات الاجتماعية، يوجب عليه القيام بدور الإشراف والرقابة على جميع الأمور التي تهمه وتهم مجتمعه.

وهذا الأصل جعله القرآن من الفرائض الاجتماعية وسمّاه الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر، معتبراً إياه كواحد من أسس الفكر السياسي وأركان الحياة السياسية للمسلمين وقد أدّى هذا الأصل القرآني إلى أن تكون النشاطات السياسية جزءاً لا يتجزأ من مجموع الجهود التي يمارسها كل مسلم في حياته الاجتماعية ويشركه في تقرير مصير مجتمعه:

أ ـ {المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}[25].

ب ـ {كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}[26].

ج ـ {ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}[27].

9ـ مقارعة الظلم: يؤكد القرآن الكريم ضرورة إزالة الظلم من المجتمع البشري ومن ميدان النشاطات الاجتماعية للإنسان، ويبدأ في توجهه هذا من الله تعالى منزهاً إياه من الظلم ومشيراً إلى عدم وجود أي نوع من الظلم في عالم الخلقة. ويلقي بمسؤولية تطهير المجتمع من المظالم على عاتق الإنسان وينهاه عن ممارسة الظلم ضد أحد، بل وينهاه حتّى عن الرضوخ للظلم ويهدد الراضخ للظلم بأليم العذاب؛ داعياًً إلى القضاء على الظلم وإنهائه من جميع ميادين الحياة البشرية، ومن جملتها علاقة الإنسان بربّه وبذاته وبالآخرين وبالمجتمع:

أ ـ {لا تظلمون ولا تظلمون}[28].

ب ـ {ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوة لله جميعاً}[29].

ج ـ {وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا}[30].

د ـ {ولا تركنوا إلى الذي ظلموا فتمسّكم النار}[31].

وردت في القرآن الكريم أكثر من مائتين وخمسين آية تدعو إلى القضاء على الظلم واستقباحه وكشف الآثار والنتائج المتمخّضة عنه.

10ـ إقامة وبسط العدل: ليس ثمة بيان أكثر قدرة على تجسيد أهمية إزاحة الظلم من تصريح القرآن الكريم بأنها إحدى الغايتين الأساسيّتين من بعثة الأنبياء، ومن صفات الله تعالى، ومن أبرز خصائص عالم الخلقة وأفضل صفات الإنسان:

أ ـ {لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}[32].

ب ـ {وأمرت لأعدل بينكم}[33].

ج ـ {اعدلوا هو أقرب للتقوى}[34].

د ـ {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}[35].

هـ ـ {إنّ الله يأمر بالعدل}[36].

11ـ المساواة ورفض التمايز: يصرح القرآن بأن الناس خلقوا من أب واحد وأمّ واحدة وهم متساوون في الخلق. أما التباين الصوري الموجود فيما بينهم فيقع خارج إطار الكرامة الإنسانية المشتركة، ويعتبر أية نزعة للتمايز والتفاخر والتفوق في ميدان الحياة الاجتماعية نقضاً لمبدأ العدالة، ولا يرى للتمايز من سبيل إلا بالفضيلة والتقوى:

أ ـ {الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منها رجالاً كثيراً ونساءً}[37].

ب ـ {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم}[38].

ج ـ {وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين}[39].

12ـ انتصار الحقّ: يدعو القرآن الكريم الإنسان إلى مناصرة الحق في صراعه ضد الباطل، ويحذّره من الوقوع في الشبهة إزاء هذا الصراع بسبب الأهواء والميول النفسية التي تحكم الطبيعة الإنسانية، وأن لا يلبس الحق بالباطل ولا يلبس الباطل ثوب الحق.

الحق يجب أن يُقام والباطل ينبغي أن يزهق، حتى وإن تكبد الشخص أو الآخرون من وراء ذلك أضراراً فادحة، بل إن القرآن أساساً يعتبر الله حقاً وما دونه باطلاً، وأن من يكون مع الله إنما يكون مع الحق، وأن الباطل مصيره إلى الزوال، والحق خالد لا زوال له.

وهو فوق كل ذلك يرى في الحق معياراً تُقاس به جميع الموازين. وحتّى الرأي العام متى ما انحرف عن الحق يفقد قيمته. ويعد الله عز وجل أسوأ الظلم تكذيب الحق. ويضم القرآن بين دفتيه أكثر من ثلاثمائة آية تتحدث عن الحق ودحض الباطل:

أ ـ {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}[40].

ب ـ {ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق}[41].

ج ـ {وقل جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً}[42].

د ـ {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذّب بالحق لما جاءه}[43].

13ـ رفض الاستكبار: يعتبر القرآن التكبر والتسلّط واستغلال الآخرين إنما يصل في قبحه إلى حدّ الشرك، ويرى أنّ هذه الصفة تدفع المرء إلى ارتكاب المظالم البشعة والجرائم القذرة وتقضي به إلى معاداة الله والناس.

والاستكبار لا يكون على حق أبداً، وهو من أكبر المخاطر التي تهدد الحياة السياسية للشعوب؛ إذ إنه يدمّر الحرث والنسل ويقضي على الأخضر واليابس. ويبتغي الاستكبار من خلال سحقه للحق تطويع جميع الطاقات والإمكانيات والقيم البشرية لخدمة الأغراض الذاتية والأهواء الشيطانية لفرد أو فئة خاصة، ويسلب الناس قدرتهم على المقاومة ويخضعهم لسلطانه:

أ ـ {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين}[44].

ب ـ {لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوّاً كبيراً}[45].

ج ـ {فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون}[46].

د ـ {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين}[47].

14ـ القضاء على ظاهرة الاستضعاف: من الطبيعي أن صفة الاستكبار تؤدي إلى إيجاد حالة الاستضعاف في المجتمع البشري؛ وذلك لأن الأقوياء عندما يستحوذون على طاقات وثروات الضعفاء يجعلونهم في ظروف لابد لهم معها من الرضوخ لهم. ومن هنا فإن القرآن يرى في الاستضعاف كأحد أسباب النهوض والثورة ضد المستكبرين. وقد بشَّر الله المستضعفين في مواضع عديدة من القرآن الكريم بالانعتاق من قيود المستكبرين، وأمر كل من يملكون أسباب القوّة بأن يهبوا لإعانة المستضعفين والمشاركة في إنقاذهم من خالب المستكبرين:

أ ـ {يقول الذي استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين}[48].

ب ـ {فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً}[49].

ج ـ {ونريد أن نمنّ على الذي استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين}[50].

د ـ {ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذي يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها}[51].

هـ ـ {قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم}[52].

15ـ المؤسسات الاستكبارية: يستخدم القرآن كلمة "الملأ" للإشارة إلى طبيعة التكتل الاجتماعي للمستكبرين ولمن يحرسون عروشهم ويحفظون حكومتهم بغية ضمان مصالحهم الخاصة.

والملأ في اللغة الجماعة من الناس الذين يملاون العين والقلب هيئة، وقيل هم أشراف الناس ورؤساؤهم الذي يرجع إلى قولهم، وقيل: إنما قيل لهم ذلك لأنهم ملأى بالرأي والغنى[53].

وهذه هي العناصر الأساسية التي تدير دفّة حكومة وسياسة الاستكبار ويتحلون أحياناً إلى أداة لتنفيذ المآرب الخبيثة لهذه الجماعة:

أ ـ {إلى فرعون وملئه فاستكبرون وكانوا قوماً عالين}[54].

ب ـ {وقال موسى ربّ إنّك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالاً}[55].

ج ـ {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم}[56].

د ـ {قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج}[57].

16ـ الحكومة: إن الحكومة وتقلد زمام الأمور في المجتمع البشري حق إلهي مصدره الربوبية والهداية الإلهية، ولا يحق لأحد أن يحكم الناس إلا هو تعالى أو من يفوض له هذا الحق. وقد ألقى سبحانه وتعالى هذه المسؤولية على عاتق الأنبياء لما فيهم من العصمة. كما وأن انتخاب الناس يكتسب صفة شرعية فيما لو جاء في إطار تلك الصفات والشروط المذكورة من قبل:

أ ـ {إن الحكم إلا لله}[58].

ب ـ {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}[59].

ج ـ {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}[60].

د ـ {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ـ هم الفاسقون ـ هم الظالمون}[61].

هـ ـ {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين الناس بما أراك الله}[62].

17ـ الملك : وردت كلمات من قبيل الملك والملوك والمليك والملكوت والمالك بكثرة في القرآن الكريم، ويراد بها ما يُسمى حالياً بالحكم الملكي، ويعني في العلوم السياسية نوعاً من أنواع ممارسة السلطة.

ونستخلص من دراسة الكلمات المشتقة من (ملك) في القرآن الكريم أنها تعني السلطة المطلقة غير الخاضعة لأي تساؤل أو استفسار، وهي منبثقة من الارتباط التكويني لعالم الوجود بالخالق. وهذا النوع من السلطة يختص بالله وحده وهو تعالى يفوضها إلى من يشاء من عباده:

أ ـ {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}[63].

ب ـ {آتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء}[64].

ج ـ {قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه}[65].

د ـ {يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً}[66].

18ـ محاربة أعداء الله:

أ ـ {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}[67].

ب ـ {هم العدو فاحذرهم}[68].

ج ـ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء}[69].

19ـ الكفاح المسلح في سبيل الله: إن للجهاد فائدة في الحياة السياسية تنعكس على المؤمن نفسه وعلى مجتمعه الإسلامي، وإن كان يؤدي في سبيل الله:

أ ـ {والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله}[70].

ب ـ {إنما المؤمنون الذي آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم}[71].

ج ـ {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إنّ الله غني عن العالمين}[72].

د ـ {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}[73].

20ـ حزب الله: يمثل حزب الله دائرة اجتماعية ـ سياسية واسعة تشمل جميع القوى المسلمة الملتزمة. وتتحدد واجبات أعضائه بناءً على الرؤى والامكانات المتوفّرة بدون أية حاجة لأي هرم تنظيمي. وجند الله عبارة عن تنظيم عسكري حرّ يؤدي كل شخص مؤمن ملتزم فيه مسؤوليته الجهادية في الوقت المناسب:

أ ـ {ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}[74].

ب ـ {رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}[75].

ج ـ {وإنّ جندنا لهم الغالبون}[76].

وجاء حزب الله وجند الله في القرآن الكريم في مقابل حزب الشيطان وجنود فرعون وجنود إبليس. ويمكن من خلال هذه المقارنة انتزاع الصفات الإيجابية والسلبية لدى كل واحد منهما.

21ـ رفض الاستبداد والتسلط الأجنبي: ينشأ الفساد السياسي لأسباب وعوامل شتّى، إلا أن من أهم هذه الأسباب والعوامل هو الاستبداد الداخلي والتسلط الأجنبي. والأمر المعتاد هو أن هذين العنصرين متلازمان، وتعود جذور كل منهما إلى النزعة الاستكبارية.

يرى القرآن الكريم أن الكفاح من أجل القضاء على الاستكبار يجب أن ترافقه حركة أخرى على طريق إنهاء التسلط والاستبداد؛ وذلك لأن اجتثاث جذور الاستكبار يستلزم أحياناً ظروفاً ومتطلبات وخططاً مجدولة، وينبغي ألاّ تتوقف خلال هذه الفترة الجهود الرامية إلى إنهاء مظاهر التسلط والاستبداد. ومن المعروف أن الرضوخ للاستبداد والتسلط الأجنبي مرفوض وحرام.

وقد كان لهذا الأصل القرآني دور مصيري وحاسم في التاريخ السياسي للمسلمين خاصّة في القرن الأخير. ومن البديهي أن هذا الأصل يضمن الاستقلال السياسي للمسلمين.

أ ـ {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً}[77].

ب ـ {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}[78].

ج ـ {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل}[79].

د ـ {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس}[80].

22ـ المشاركة والتعاون في النشاطات السياسية: من الطبيعي أن التعاون والمشاركة الجماعية جزءُ لا يتجزّأ من الحياة الاجتماعية، بيد أن القرآن أكمل هذه الحقيقة، أو لنقل إنه أعاد بناءها من خلال إضافة عنصري البر والتقوى عليها؛ فالبّر هو أي عمل مفيد للفرد والجماعة على نحو من الأنحاء، والتقوى هي الحالة التي تقرّب الإنسان إلى الله وتجعل علاقته بالآخرين خالصة وحسنة.

ومن الواضح هنا أن النشاطات السياسية هي من أبرز الحقول التي يمكن تطبيق هذا الأصل المعدل فيها. وفي هذا السياق لابد لكل مسلم أن يضع كل نوع من أنواع نشاطه السياسي ضمن قالب البرّ والتقوى:

أ ـ {وتعاونوا على البر والتقوى}[81].

ب ـ {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}[82].

ج ـ {ثم كان من الذي آمنوا وتواصوا بالصبر}[83].

23ـ رفض منهج المساومة مع العدو:

أ ـ {وكأي من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}[84].

ب ـ {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردّوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين}[85].

ج ـ {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار}[86].

24ـ الحذر من العدو: على الرغم من صعوبة استيعاب جميع الأساليب النفسية وطرق الخداع والتخفي التي يمارسها الأعداء والأجانب، وإن كل حالة من حالتها تتسم بخصائص لا يمكن تعميمها على الحالات الأخرى، فإن القرآن بيّن مجموعة من المعالم العامة لتحرك الأجانب في علاقتهم بالمسلمين؛ وهذا ما يحتم على الأقل أخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار وتوخّي الحذر والحزم في التعامل مع الأعداء.

أ ـ {وما يؤدّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم خير من ربكم}[87].

ب ـ {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتبع ملّتهم}[88].

ج ـ {ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم}[89].

د ـ {اتخذوا أيمانهم جُنّة فصدّوا عن سبيل الله}[90].

25ـ الغايات النهائية للإسلام: يعتبر القرآن الإسلام ديناً شمولياً خالداً تقع مهمة نشر رسالته على عاتق جميع المسلمين، والغاية النهائية لجميع النشاطات السياسية للمجتمع المسلم هو النصر النهائي للإسلام على جميع الأديان.

أ ـ {قل يا أيها الناس إني رسول إليكم جميعاً}[91].

ب ـ {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه}[92].

ج ـ {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}[93].

26ـ الالتزام بالعهود والمواثيق: جاء الوفاق بالعهود والالتزام بالمواثيق في القرآن الكريم كمؤشر على صدق الإيمان وكعلامة على التقوى، ووعد من ينقض العهد بأليم العذاب، ونظر إلى توسيع العهود والمواثيق كأفضل وسيلة لتحقيق حياة كريمة وحافلة بالسلام، وكأداة لبلوغ الغايات النهائية للإسلام.

أ ـ {والموفون بعهدهم إلا عاهدوا.. أولئك الذي صدقوا وأولئك هم المتقون}[94].

ب ـ {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق}[95].

ج ـ {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم}[96].

27ـ الصلح: يعتبر الصلح من وجهة نظر القرآن قيمة وغاية بحد ذاته، ويكفي فيه أن لا تعقبه خدعة أو نتيجة خطيرة. والغاية من الصلح ليست غاية مصلحية، وإنما الصلح بحد ذاته مصلحة، وذلك لأنه أكثر انسجاماً مع الحياة الفطرية للناس، وفي ظله تتوفر ظروف أكثر إيجابية لرقي الإنسان ورفعته، ويمكن من خلال وجوده أن يسود التفاهم بين الناس وتنتشر بينهم نزعة الميل نحو الحق. ويرى القرآني أن التوصل إلى هذه الغايات يتم في ظل وجود السلام على نحو أفضل وأسرع وأكثر عقلانية؛ ومن هنا نراه يؤكد على:

أ ـ {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله}[97].

ب ـ {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله}[98].

ج ـ {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً}[99].

ولكن على الرغم من وجود رغبة إسلامية في إقرار الصلح من خلال قوله تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة}[100]، إلا أن هذه الرغبة ليست مطلقة، فالآية التالية تبيّن سبيل الحلّ:

{فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم}[101].

28ـ إقرار الأمن: ونكتفي بذكر الآيات التالية على سبيل المثال فقط:

أ ـ {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}[102].

ب ـ {إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا ويصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا في الأرض}[103].

ج ـ {فلا عدوان إلا على الظالمين}[104].

د ـ {ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً}[105].

29ـ منح اللجوء للأجانب: إن توفير الأمن للاجئين الأجانب من خلال منحهم حق اللجوء يعتبر عملاً إنسانياً وضع القرآن أسسه على صورة اتفاقية صلح. وهكذا صرّح في إطار هذا السياق قائلاً:

{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه}[106].

30ـ الحل السلمي للاختلافات الدولية: يعتبر عدم استخدام القوّة مبدأً ساري المفعول طالما كان هناك طريق لحلّ الخلافات. وهذا المبدأ أكده القرآن في مواضع عديدة، وبيّن ضرورة ممارسة خيار السلام والمصالحة والحوار بدلاً من استخدام أساليب القوّة أو العنف:

أ ـ {أن تبّروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس}[107].

ب ـ {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس}[108].

ج ـ {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحب المقسطين}[109].

 

(الهوامش)

* أستاذ في الحوزة والجامعة.

[1]  سورة البقرة، الآية 30.

[2]  سورة ص، الآية 26.

[3]  سورة النور، الآية 55.

[4]  سورة البقرة، الآية 213.

[5]  سورة يونس، الآية 19.

[6]  سورة الأنبياء، الآية 92.

[7]  سورة البقرة، الآية 124.

[8]  سورة الأنبياء، الآية 73.

[9]  سورة القصص، الآية 5.

[10]  {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون} سورة التوبة، الآية 12.

[11]  سورة الإسراء، الآية 71.

[12]  سورة الدهر، الآية 3.

[13]  سورة الكهف، الآية 29.

[14]  سورة الرعد، الآية 11.

[15]  سورة المدثر، الآية 38.

[16]  سورة الإسراء، الآية 70.

[17]  سورة آل عمران، الآية 195.

[18]  سورة النساء، الآية 32.

[19]  سورة البقرة، الآية 44 و76.

[20]  سورة المجادلة، الآية 11.

[21]  سورة الحج، الآية 46.

[22]  سورة يوسف، الآية 111.

[23]  سورة الشورى الآية 38.

[24]  سورة آل عمران، الآية 159.

[25]  سورة التوبة، الآية 71.

[26]  سورة آل عمران، الآية 110.

[27]  سورة القصص، الآية 5.

[28]  سورة البقرة، الآية 279.

[29]  سورة البقرة، الآية 165.

[30]  سورة الكهف، الآية 59.

[31]  سورة هود، الآية 113.

[32]  سورة الحديد، الآية 25.

[33]  سورة الشورى، الآية 15.

[34]  سورة المائدة، الآية 8.

[35]  سورة النساء، الآية 58.

[36]  سورة النحل، الآية 90.

[37]  سورة النساء، الآية 1.

[38]  سورة الحجرات، الآية 13.

[39]  سورة سبأ، الآية 35.

[40]  سورة الأنبياء، الآية 13.

[41]  سورة المائدة، الآية 48.

[42]  سورة الإسراء، الآية 81.

[43]  سورة العنكبوت، الآية 68.

[44]  سورة يونس، الآية 75.

[45]  سورة الفرقان، الآية 21.

[46]  سورة الاحقاف، الآية 48.

[47]  سورة القصص، الآية 4.

[48]  سورة سبأ، الآية 31.

[49]  سورة إبراهيم، الآية 21.

[50]  سورة القصص، الآية 5.

[51]  سورة النساء، الآية 75.

[52]  سورة النساء، الآية 97.

[53]  راجع مجمع البحرين، ج1، ص396، وكذلك مفردات الراغب، مادة "ملأ".

[54]  سورة المؤمنون، الآية 46.

[55]  سورة يونس، الآية 88.

[56]  سورة يونس، الآية 83.

[57]  سورة القصص، الآية 20.

[58]  سورة يوسف، الآية 40، سورة الأنعام، الآية 57.

[59]  سورة ص، الآية 26.

[60]  سورة النساء، الآية 58.

[61]  سورة المائدة، الآيات 47،45،44.

[62]  سورة النساء، الآية 105.

[63]  سورة آل عمران، الآية 26.

[64]  سورة البقرة، الآية 251.

[65]  سورة البقرة، الآية 247.

[66]  سورة المائدة، الآية 20.

[67]  سورة الأنفال، الآية 60.

[68]  سورة المنافقون، الآية 4.

[69]  سورة الممتحنة، الآية 1.

[70]  سورة البقرة، الآية 218.

[71]  سورة الحجرات، الآية 15.

[72]  سورة العنكبوت، الآية 6.

[73]  سورة التحريم، الآية 9؛ وسورة التوبة، 73.

[74]  سورة المائدة، الآية 56.

[75]  سورة المجادلة، الآية 22 .

[76]  سورة الصافات، الآية 173.

[77]  سورة النساء، الآية 141.

[78]  سورة طه، الآية 43.

[79]  سورة الشورى، الآية 41.

[80]  سورة الشورى، الآية 42.

[81]  سورة المائدة، الآية 2.

[82]  سورة العصر، الآية 3.

[83]  سورة البلد، الآية 17.

[84]  سورة آل عمران, الآية 146.

[85]  سورة آل عمران، الآية 149.

[86]  سورة هود، الآية 113.

[87]  سورة البقرة، الآية 105.

[88]  سورة البقرة، الآية 120.

[89]  سورة آل عمران، الآية 69.

[90]  سورة المجادلة، الآية 16.

[91]  سورة الاعراف، الآية 158.

[92]  سورة الفتح، الآية 28؛ وسورة الصف، الآية 9؛ وسورة التوبة، الآية 33.

[93]  سورة الانفال، الآية 39.

[94]  سورة البقرة، الآية 177.

[95]  سورة الانفال، الآية 72.

[96]  سورة التوبة، الآية 7.

[97]  سورة آل عمران، الآية 64.

[98]  سورة الانفال، الآيتان 61 و62.

[99]  سورة النساء، الآية 90.

[100]  سورة البقرة، الآية 208.

[101]  سورة محمد، الآية 35.

[102]  سورة الاعراف، الآية 65.

[103]  سورة المائدة، الآية 33.

[104]  سورة البقرة، الآية 193.

[105]  سورة النساء، الآية 30.

[106]  سورة التوبة، الآية 6.

[107]  سورة البقرة، الآية 224.

[108]  سورة النساء الآية 114.

[109]  سورة الحجرات، الآية 9.