الباب الثالث

 في الآداب القلبية لمكان المصلّى

وفيه

فصلان

الفصل الأول

في معرفة المكان ( قال الشهيد رضوان الله عليه : وأما المكان فاستحضر فيه أنك كائن بين يدي ملك الملوك تريد مناجاته والتضرّع إليه والتماس رضاه ونظره إليك بعين الرحمة، فانظر مكانا يصلح لذلك كالمساجد الشريفة والمشاهد المطهّرة مع الإمكان فانه تعالى جعل تلك المواضع محلاّ لاجابته ومظنّة لقبوله ورحمته ومعدنا لمرضاته ومغفرته على مثال حضرة الملوك الذين يجعلونها وسيلة لذلك فادخلها ملازما للسكينة والوقار ومراقبا للخشوع والانكسار سائلا أن يجعلك من خاص عبادة وان يلحقك بالماضين منهم وراقب الله كأنك على الصراط جائز وكن مترددا بين الخوف والرجاء وبين القبول والطرد فيخشع حينئذ قلبك ويخضع لبّك وتتأهل لان تفيض عليك الرحمة وتنالك يد العاطفة وترعاك عين العناية .

وقال العارف القاضي سعيد القمّي: إن للاماكن أثرا في حجاب القلب عن الله وإقباله إليه تعالى اللهم إلا لأصحاب الأحوال حيث لا يشغلهم حال عن حال فانظر في أي مكان ومرتبة بالنظر إلى حضرة ذي الجلال فإن لم تكن خارجا عن مقام الحسّ فذلك كمال النقص، فأجهد أن تسعى إلى مسجد القلب لتفوز بصلاة جميع القوى وجماعة المشاعر والأعضاء، وان اجتهدت أن تدخل كعبة الروح فتصلي مع جماعة الأرواح المقدسة والنفوس القدسية فتلك الصلاة نور، وان ارتقيت بروحك إلى الملأ الأعلى وتدخل المسجد الأقصى والعالم الإلهي العقلي فذلك نور على نور ).

اعلم ان للسالك إلى الله بحسب النشآت الوجودية أمكنة ، ولكل منها آداب مخصوصة ما لم يتحقق السالك بها لم يتوصّل إلى صلاة أهل المعرفة .

المقام الأول: النشأة الطبيعية والمرتبة الظاهرية الدنيوية ومكانها أرض الطبيعة . قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " .. فالسالك في هذه المرتبة أدبه في أن يفهم قلبه أن نزوله من النشأة الغيبية وهبوط النفس من المحل الأعلى الأرفع إلى أرض الطبيعة السفلى ورده من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين لأجل سلوكه الاختياري إلى الله وعروجه إلى معراج القرب ووصوله إلى فناء الله والجناب الربوبي الذي هو غاية الخلقة ونهاية المقصد لأهل الله . العارف يقول من الله وفي الله و إلى الله فللسالك أن يفهم نفسه ويذوق بذائقة روحه أن دار الطبيعة هي مسجد عبادة الحق وأنه قدم إلى هذه النشأة لأجل هذا المقصد كما يقول الحق جلّ وعلا : " وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون " .. فإذا وجد دار الطبيعة مسجدا للعبادة ورأى نفسه معتكفا فيه لا بدّ وأن يقوم بآدابه ويصوم عن تذكر غير الحق وألاّ يخرج عن مسجد العبودية إلا بقدر الحاجة فإذا انقضت حاجته يعود ولا يستأنس بغير الحق ولا يتعلق قلبه بغيره ، فان هذا كله خلاف آداب العكوف على باب الله، وللعارف بالله في هذا المقام حالات لا يصح كتابتها وحيث أن الكاتب خارج عن الفطرة الإنسانية، ومستغرق في بحر المسجور والظلماني للطبيعة وعار عن الحق والحقيقة وعن جميع مقامات السالكين والعارفين فالأفضل ألاّ يفضح نفسه أكثر من هذا المقام ويشكو من النفس الأمارة إلى جناب ذي الجلال المقدّس لعله يؤيد باللطف العام والرحمة الشاملة ويجبر ما سبق من عمره في بقيّته ربنا ظلمنا أنفسنا وان تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين .

المقام الثاني: مرتبة القوى الظاهرة والباطنة التي هي جنود ملكية وملكوتية للنفس ومحلّها الأرض الطبيعية الإنسانية وهي هذه البنية والبدن وأدب السالك في هذا المقام أن يفهم باطن قلبه بأن أرض الطبيعة نفسه وهي مسجد الربوبية ومحل السجدة للجنود الرحمانية فلا ينجسها بقاذورات تصرف إبليس ولا يجعل الجنود الإلهية تحت تصرف إبليس كي تشرق ارض الطبيعة بشروق نور الرب وتخرج عن ظلمة البعد عن الساحة الربوبية وكدورته فيرى قواه الملكية الملكوتية معتكفة في مسجد البدن ويعامل بدنه معاملة المسجد ومع قواه بعين العكوف إلى فناء الله، وتكليف السالك في هذا المقام أكثر لأن تنظيف المسجد وطهارته أيضا على عهدته كما أنه بنفسه أيضا يتكفل أدب المعتكفين في هذا المسجد .

المقام الثالث: النشأة الغيبية للسالك: ومحلها البدن البرزخي الغيبي للنفس الذي يتكون بإنشاء النفس وخلاّقيتها، والأدب للسالك في هذا المقام أن يذوّق نفسه أن التفاوت بين هذا المقام والمقامات الأخر كثير وحفظ هذا المقام هو من مهمات السلوك لان القلب هو امام المعتكفين في هذا الجناب وبفساده يفسد الجميع إذا فسد العالم فسد العالم فقلب العالِم عالَم صغير وعالم القلب هو العالم الكبير وتكاليف السالك في هذا المقام تكون أكثر من ذين المقامين لأنه قد كلف بناء المسجد أيضا بنفسه ومن الممكن لا سمح الله أن يكون مسجده مسجد ضرار وكفر وتفريق بين المسلمين ولا يجوز في هذا المسجد عبادة الحق ويجب تخرينه، فاذا أسّس السالك المسجد الملكوتي الإلهي بيد التصرف الرحماني ويد الولاية وطهّر بنفسه هذا المسجد عن جميع القاذورات والتصرفات الشيطانية واعتكف فيه فلا بد له أن يجاهد حتى يخرج نفسه من العكوف في المسجد ويعتكف بفناء صاحب المسجد فإذا تطهّر عن التملّق بالنفس وخرج عن قيد نفسه يصير هو بنفسه منزلا للحق بل مسجدا للربوبية ويثني الحق على نفسه في ذاك المسجد بالتجليات الفعلية ثم الاسمائية ثم الذاتيّة وهذا الثناء هو صلاة الرب يقول سبّوح قدّوس رب الملائكة والروح، وللسالك إلى الله في جميع مقامات السلوك مهمة أخرى لا يجوز له الغفلة عنها مطلقا بل هذه المهمة هي غاية السلوك ولب لبابة وهي أن لا يغفل في جميع الحالات والمقامات عن ذكر الحق ويطلب في جميع المناسك والعبادات معرفة الله ويطلب الله في جميع المظاهر ولا تمنعه النعمة والكرامة عن الصحبة والخلوة فانه نوع من الاستدراج .

وبالجملة يرى روح العبادات والمناسك وباطنها معرفة الله ويتطلب فيها المحبوب ولعله تستحكم في قلبه علاقة المحبة والمحبوبية ويكون موردا للعنايات الخفية والمراودات السرية .

وصل: في مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام: "إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنك قد قصدت باب ملك عظيم لا يطأ بساطه إلا المطهرون ولا يؤذن لمجالسته إلا الصدّيقون" (قد تفطّنت بفضل الله تعالى لنكتة لطيفة في المقام وهي أن الرواية الشريفة كأنها قررت للوافدين إلى حضرة ذي الجلال مرحلتين، الأولى: الوفود على حضرته والورود إلى جنابه والثانية: المجالسة والمؤانسة معه جلّت وعظمت نعماؤه. فخصّت الأولى بالمطهّرين والثانية بالصدّيقين كما أن في القرآن الكريم اشارة لطيفة إلى هاتين، أما بالنسبة إلى الأولى فهو قول الله سبحانه في شأن مريم الطاهرة: "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهّرك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " (آل عمران43) ، حيث أن الأمر بالقنوت والسجود والركوع مع الراكعين وقيامها في صفّهم بعد اصطفائها وتطهيرها وخصوصا إذا جعلنا الواو في وطهّرك للعطف التفسيري وهو أفضل لئلاّ يلزم التكرار في قوله تعالى واصطفاك على نساء العالمين .. فيكون المعنى أن قيامها عليها السلام في مجلس الذكر بعد كونها مطهّرة ، وان جعلها الواو لمطلق العطف فلا يضرّ أيضا بالمعنى الذي نحن بصدده وهو أنه لابد للوافد على الله أن يكون مطهّرا كما أشار إليه في الرواية الشريفة بقوله : " لا يطأ بساطه إلا المطهّرون " .

وأما بالنسبة إلى المرحلة الثانية، فقوله تعالى: " أولئك هم الصدّيقون والشهداء عند ربهم " (الحديد 19) . فان فيها أيضا إشارة في غاية اللطافة لما ذكرنا وهي أن الكون عند الربّ تعالى يختصّ بالصدّيقين سواء جعلنا الظرف متعلقا بالشهداء كما هو الظاهر لكونه أقرب أو جعلناه متعلقا بأولئك، وان كان بعيدا لبعده وعلى كلا التقديرين يستفاد ما ذكرنا من الآية الشريفة فافهم واغتنم ولله الحمد) . فهب القدوم إلى بساط خدمة الملك هيبته فانك على خطر عظيم إن غفلت فاعلم أنه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك فان عطف عليك برحمته وفضله قبل منك يسير الطاعة وأجزل لك عليها ثوابا كثيرا (في الكافي الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " مرّ بي أبي وأنا بالطواف وأنا حَدَث وقد اجتهدت في العبادة فرآني وأنا أتصابّ عرقا فقال لي: يا جعفر يا بنيّ إن الله إذا أحب عبدا يدخله الجنة ورضي عنه باليسير " .

وفيه أيضا عن حنان بن سدير قال: " سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الله إذا أحبّ عبدا فعمل قليلا جزاه بالقليل الكثير ولم يتعاظمه أن يجزي بالقليل الكثير له " .

أقول : ذكر صاحب الوسائل (قدّس سرّه) هاتين الروايتين في الوسائل في باب (استحباب الاقتصاد في العبادة ) وعندي أنها لا تناسب الباب بل الأولى أن ينعقد باب في كتب الأحاديث بعنوان: (باب أنّ الأصل في اشتراط القبول في الأعمال محبة الله عز وجل للعبد ) وتذكر هاتان الروايتان في ذلك الباب) . وان طالبك باستحقاق الصدق والإخلاص عدلا بك حجبك ورد طاعتك وان كثرت فهو فعال لما يريد واعترف بعجزك وتقصيرك وانكسارك وفقرك بين يديه فانك قد توجّهت للعبادة والمؤانسة به واعرض أسرارك عليه ولتعلم أنه لا يخفى عليه أسرار الخلق أجمعين وعلانيتهم وكن كأفقر عباده بين يديه وأخل قلبك عن كل شاغل يحجبك عن ربك فانه لا يقبل إلا الأطهر والأخلص ، فانظر من أي ديوان يخرج اسمك فان ذقت حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجابته فقد صلحت لخدمته فادخل فلك الإذن والأمان، وإلا فقف وقوف من انقطعت عنه الحيل وقصر عنه الأمل وقضي عليه الأجل فان علم الله عز وجل من قلبك صدق الالتجاء إليه نظر إليك بعين الرأفة والرحمة واللطف، ووفقك لما يحب ويرضى فانه كريم يحب الكرامة لعباده المضطّرين إليه المحترقين على بابه لطلب مرضاته .

قال تعالى: "أمّن يجيب المضطّر إذا دعاه ويكشف السوء " .

وحيث أن هذا الكلام الشريف دستور جامع لأصحاب المعرفة وأرباب السلوك إلى الله نقلته بتمامه فلعله يحصل حال من التدبّر فيه ، ومحصل قوله عليه السلام أنه إذا وصلت إلى باب المسجد فانتبه إلى أيّ باب وصلت ؟ وأيّ جناب قصدت ؟ فاعلم أنك وصلت إلى جناب السلطان العظيم الشأن الذي لا يضع أحد قدمه على بساط قربه إلا إذا طهر وتطهر من جميع أجراس عالم الطبيعة والارجاس الشيطانية ولا يصدر الإذن لمجالسته إلا الذين يقدمون عليه بالصدق والصفاء والخلوص من جميع أنواع الشرك الظاهر والباطن، فاجعل عظمة الموقف والهبة والعزّة والجلال الإلهي نصب عينك ثم ضع قدمك إلى جناب القدس وبساط الإنس فانك واقع في مخاطرة عظيمة ( با خبر باش كه سر ميشكند ديوارش) فانك وردت إلى جناب القادر المطلق يجري ما يشاء في مملكته فإما أن يعاملك بالعدالة ويناقش في الحساب فيطالب بالصدق والإخلاص وتحجب عن الجناب وتردّ طاعتك وان كثرت ، وإما أن يعطف إليك طرفه ويقبل بفضله ورحمته طاعتك التي هي لا شيء ولا قيمة لها ويعطيك ثوابه العظيم فإذا عرفت الآن عظمة الموقف فاعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك وإذا توجهت إلى عبادته وقصدت المؤانسة معه ففرّغ قلبك عن الانشغال بالغير الذي يحجبك عن جمال الجميل وهذا الاشتغال بالغير قذارة وشرك ولا يقبل الحق تعالى إلا القلب الطاهر الخالص، وإذا وجدت في نفسك حلاوة مناجاة الحق وذقت حلاوة ذكر الله وجرعت من كأس رحمته وكراماته ورأيت حسن إقباله وإجابته في نفسك فاعلم انك صرت لائقا لخدمته المقدسة، فادخل فانك مأذون ومأمون وإذا ما وجدت في نفسك هذه الحالات فقف بباب رحمته كالمضطر الذي انقطعت عنه جميع العلاجات وبعد عن الآمال وقرب إلى أجله فإذا عرضت ذلّتك ومسكنتك والتجأت إلى بابه ورأى سبحانه منك الصدق والصفاء فينظر إليك بعين الرحمة والرأفة ويؤيدك ويوفّقك لتحصيل رضاه فانه الذات المقدسة لكريم ويحب الكرامة لعباده المضطرين كما يقول تعالى : أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء .

(اعلم أن المصلي في الحقيقة ونفس الأمر العقل لان مقام العقل مقام العبادة وهو الواقف في مقام إياك نعبد وإياك نستعين، ومقام العقل أول مقام الصحو، وما قبله مقام السكر والفناء والزوال وفقدان النفس ووجدان الربّ. قال تعالى: " هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " . قال الباقر عليه السلام: " كان شيئا ولم يكن مذكورا " .

في المجمع عن الباقر والصادق عليهما السلام: "كام مذكورا في العلم ولم يكن مذكورا في الخلق " . وروايات أخر تقرب من هذا المعنى .

فالمصلي هو العقل فقط ولذا ترى أن المجنون والصبي والنائم والمغمى عليه والسكران ليسوا مكلّفين بالصلاة وان كان بالنسبة إلى السكران من باب الامتناع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار .. فليتدبّر .

ثم أن عدم التكليف في الموارد المذكورة من جهة أن الاصل الذي عليه مدار الصلاة وسائر التكاليف مفقود في هذه الموارد وان المكلّف الاصلي هو العقل كما قاله تعالى حين خلقه : " اقبل فأقبل ثم قال له : أدبر فأدبر فقال بك أثيب وبك أعاقب " ، وأما غير العقل فالتكليف له تبعي وبالعرض.

 

ومكان العقل ومحلّه القلب الذي هو عرش الرحمن ، وحيث أن حقيقة الصلاة عبارة عن توجّه العقل بكينونته إلى الله سبحانه فالمسجد ومكان الصلاة والعبادة هو القلب ، ولا بدّ أن يكون المسجد ومحل العبادة طاهرا من لوث النجاسات كما في الحديث : " جنّبوا مساجدكم عن النجاسات " . فمن الواجب أن يكون المصلّى الواقعي ومحل المصلي الحقيقي طاهرا من لوث الكفر والنفاق والشرك بجميع مراتبها ومن كل ما هو مكروه للمحبوب من قبيل الحسد والعجب والكبر وحبّ الرئاسة وأمثالها . وحيث أن الصلاة معراج المؤمن فاذا كان في القلب شيء من ظلمة الكفر والفسق وأثقالها فذلك القلب لا يقدر على العروج . فالواجب ان تصدر الصلاة عن قلب خاص مزكّى وذي بصيرة تامة ومعرفة كاملة لله سبحانه وصفاته وأسمائه ومعرفة أنبيائه وأوليائه ومعاداة أعدائه ، ويكون مؤمنا بكل ما جاء به الأنبياء والرسل " والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله " ( البقرة 136 ) .. ولا يصحّ صدور الصلاة عن القلب الكافر غير البصير وغير المؤمن بالله وأوليائه وغير المعادي لاعداء الله سواء كان عدم ايمانه في هذا العالم أو في العالم الأول ، فان صلاته حينئذ من لطخ اصابه في العالم الأول من طينة الاولياء وصار سببا لايمانه الصوري وحسن خلقه العرضي غير الذاتي كما في الرواية عن أبي عبدالله عليه السلام في حديث طويل : من أن حسن شيم أعداء الله من لطخ أصحاب اليمين كما أن الصورة الإنسانية للكافر مغصوبة عنده في هذه الدنيا لينال بواسطتها شهواته ومقاصده الحيوانية ، وفي يوم تبلى السرائر وتنكشف الحقائق تؤخذ الصورة منه ويحشر على غير صورة الانسان ، فما في وجودهم من النور والخير والصلاح مغصوبة وكله من مقتضيات لباس التقوى المختصّ بالمؤمنين، فأعمال هؤلاء تقع في المكان المغصوب ولا تنفعهم شيئا بل نفعها عائد إلى صاحب اللطخ ومتعلقة به ، فان الغاصب يؤخذ بأشدّ الاحوال وترجع الاعمال إلى أصلها والاعمال غير المرضية الصادرة عن المؤمن فهي من اللطخ الذي أصابه من أصحاب الشمال وظلّه وشعاعه فترجع اليهم لا محالة كرجوع شعاع الشمس اليها كما صرّح بذلك في الرواية التي رواها الصدوق في العلل عن الباقر عليه السلام وفيها : " اخبرني يا ابراهيم عن الشمس اذا طلعت وبدا شعاعها في البلدان أهو بائن في القرص ؟ قلت : في حال طلوعه بائن . قال : أليس اذا غابت الشمس اتصل ذلك الشعاع بالقرص حتى يعود اليه ؟ قلت : نعم . قال : كذلك يعود كل شيء إلى سنخه وجوهره وأصله، فاذا كان يوم القيامة نزع الله عز وجل سنخ الناصب وطينته مع أثقاله وأوزاره من المؤمن فيلحقها كلها بالناصب وينزع سنخ المؤمن وطينته مع حسناته وأبواب برّه ، واجتهاده من الناصب فيلحقها كلها بالمؤمن" .

فبالتدقيق فيما ذكرنا ، وفي الروايات الواردة في باب الطينة والميثاق ربّما يتّضح حقيقة الامر في الايمان المستقر والمستودع وانه لابد للايمان المستودع أن يزول وهذا مقتضى عدله سبحانه لتجزى كل نفس بما كسبت ومن هذه الجهة فقد ركز في روايات الباب على العدل الالهي والحكمة الربانية كقول الباقر عليه السلام في الرواية المتقدمة فاذا عرضت هذه الاعمال كلها على الله عز وجل قال : أنا عدل لا أجور ومنصب لا أظلم وحكم لا أحيف ولا أميل ولا أشطط الحقوا الاعمال السيئة التي اجترحها المؤمن بسنخ الناصب وطينته والحقوا الاعمال الحسنة التي اكتسبها الناصب بسنخ المؤمن وطينته وردّوها كلها إلى أصلها فاني أنا الله لا إله الاّ أنا عالم السرّ وأخفى وأنا المطّلع على قلوب عبادي لا أحيف ولا أظلم ولا ألزم أحدا الا ما عرفته منه قبل أن أخلقه .

وحيث أن الرواية مشتملة على أسرار من العارف ممّا يصعب على القلوب فهمه وعلى القلوب إدراكه كما صرّح عليه السلام في آخرها بقوله : خذها إليك يا أبا اسحاق فوالله انه لمن غرر أحاديثنا وباطن سرائرنا ومكنون خزائننا فنقرّبها إلى الاذهان البسيطة ببيان بسيط وهو انّا نفرض ان انسانا يريد أن يعلّم ولده ويربّيه فاستأجر له معلّما ومربيّا وهيأ له جميع ما له دخل وتأثير في تعلّمه وتربيته ولكن انسانا أخر منع الولد عن التعلّم باغوائه وتدليساته وأخذ من ماله واتّجر لنفسه فأصبح الولد جاهلا وفقيرا ، أليس مقتضى العدل حينئذ أن يكون وزر جهل الولد وفقره على ذلك الغاصب ويؤخذ منه ما اتّجر لنفسه بمال الولد فأصبح هو غنيّا والولد فقيرا فيعطى المال للولد ليجبر ما أصابه من الظلم والحرمان فعلى ذلك فما جزاء الكفّار والمنافقين وأمثالهم الذين ضيّعوا ما تحملّ الانبياء والاولياء في سبيل اصلاح المجتمع وأفسدوا على المؤمنين آراءهم وأعمالهم ، وفي نفس الوقت استفادوا لأنفسهم فوائد كانت نتيجة مشاقّ الانبياء ومساعيهم وكان المؤمنون أحقّ بها منهم ، أليس جزاؤهم ما ذكر في الرواية الشريفة من نزع حسناتهم وإعطائها للمؤمنين ؟ وكذلك نزع سيّئات المؤمنين وإعطاؤها لهم . وقد أشير إلى هذا الحكم العدل في موارد كثيرة تأويلا وتصريحا .

فمن التأويل ما أشار اليه الباقر عليه السلام وقال : يا ابراهيم اقرأ هذه الآية قلت يا بن رسول الله أيّه آية ؟ قال قوله تعالى قال " معاذ الله أن نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا اذا لظالمون" ( يوسف 79 ) هو في الظاهر ما تفهمونه وهو الله في الباطن هذا بعينه يا ابراهيم ان للقرآن ظاهرا وباطنا ومحكما ومتشابها وناسخا ومنسوخا إلى أن قال عليه السلام وان ما أخبرتك لموجود في القرآن كلّه قلت هذا بعينه يوجد في القرآن ؟ قال نعم يوجد في أكثر من ثلاثين موضعا في القرآن أتحب أن أقرأ ذلك عليك ؟ قلت : بلى يا بن رسول الله فقال قال الله عز وجل : " وقال الذين كفروا للذين آمنو أتّبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء انّهم لكاذبون وليحملّن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم .. " الآية ( العنكبوت 130) أزيدك يا ابراهيم ؟ قلت بلى يا بن رسول الله قال : " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلّونهم بغير علم الا ساء ما يزرون " ( النحل 25 ) . أتحب أن أزيدك ؟ قلت : بلى يا بن رسول الله . قال : " فأولئك يبدّل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما " (الفرقان 70 ) إلى أن قال عليه السلام : ألم أبيّن لك أمر المزاج والطينتين من القرآن ؟ قلت : بلى يا بن رسول الله . قال : اقرأ يا ابراهيم : " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللّمم ان ربك واسع المفغرة هو أعلم اذ أنشأكم من الارض ... يعني من الارض الطّيبة والارض المنتنة فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتّقى " ( الاعراف 29 -30 ) . يقول لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه لان الله عز وجل أعلم بمن اتّقى منكم فإن ذلك من قبل اللمم ( وهو المزاج ) .

ازيدك يا ابراهيم ؟ قلت بلى يا بن رسول الله . قال : " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حقّ عليهم الضلالة انهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله .. أئمة الجور دون أئمة الحق ويحسبون أنهم مهتدون " ، خذها اليك يا أبا اسحاق فوالله انه لمن غرر أحاديثنا . " الحديث " فعلى المتعلم البصير والقارئ الخبير أن يتأمل في الحديث الشريف ويتفحّص القرآن الكريم ليقف على بقية الآيات الدالّة على ما ذكرنا وهي على ما ذكره الامام باقر العلوم عليه الصلاة والسلام ما يزيد على ثلاثين موضعا في القرآن .

وسيجيء الاشارة إلى بعض ما ذكرنا من المؤلف دام ظلّه في تفسير إياك نعبد وإياك نستعين فانتظر )