محمد جواد لاريجاني(*)

اتفقت دول العالم بدافع المصلحة على احترام حدود كل دولة مجانبة للحروب والمصادمات التي ترفضها الإنسانية، على أن تنضبط علاقات الدول خارج الحدود وفق مبدأ احترام السيادة، وعدم التعرض لأمن الشعوب والحكومات.

في هذه الدراسة يتناول الكاتب المبادئ التي اعتمدتها أهم النظريات القديمة والحديثة في ترسيم الحدود السياسية للدول ومدى مشروعيتها وانسجامها مع الأفكار والعقائد التي تعتنقها شعوب العالم. ثم يناقش بعض الاشكاليات التي يمكن أن ترد على سياسة الدول في وضع حدودها.  

 

الحدود السياسية.. المصلحة والتبرير

أ ـ تنقسم شعوب العالم اليوم إلى كتل بشرية متميزة تعرف بـ"الدول"، ولكل من هذه الدول حكومة ومكانة خاصة في الأسرة الدولية، وترتبط بعلاقات مع بقية أعضاء هذه الأسرة. ومن خصائص هذه الدول أن لها أرضاً تعينها الحدود السياسية لذلك البلد.

والحدود السياسية في يومنا هذا هي إفرازات أحداث تأريخية عديدة جرت على مدى قرون وسنين مضت. ومهما كانت أسباب تلك الأحداث أو ما قامت عليه من حق أو باطل، فان أهل الأرض قد توصلوا إلى مبدأ: "لزوم احترام كل دولة لحدود الدول الأخرى، ومتابعة الحكومات مصالحها خارج الحدود في إطار احترامها لسيادة سائر الدول".

والدليل الأول في تبرير هذا المبدأ هو:"المصلحة"، وغير ذلك يعني الحرب والقتال وإراقة الدماء، وهذا ما ينتهي إلى الأضرار بالجميع، وان كان فيه نفع مؤقت لبعض الدول. وعلى هذا الأساس قامت كل المنظمات والقوانين الدولية.

ب ـ وقد وافق المعنيون بعلم السياسة على مبدأ المصلحة المذكور، وسعوا منذ أمد بعيد لإيجاد تبرير مقبول لكيفية رسم الحدود السياسية.

 

وكان الدافع إلى ذلك أمران، هما:

الأول: لو فرضنا أن جميع الناس قد جعلوا زمام الأمور بيد العقلاء، فما هو التقسيم المعقول الذي يمكن أن يكون بديلاً للوضع السابق حينذاك؟

الثاني: أن الحدود السياسية القائمة حالياً هي نتيجة للقوة العسكرية والروح السلطوية لحكومات انانية مارست القوة سابقاً (ولاحقاً)، وهي نوع من الخروج عن الوضع الطبيعي الذي طالما جر الويلات على الشعوب. ولهذا إذا كشف عن معيار صحيح يذعن له الجميع بالتدريج، فسيمكن التحرك بالتدريج نحو دالة اكثر منطقية، تضع الحدود السياسية المعقولة في الوقت المناسب.

ج ـ ويمكن تقسيم المحاولات النظرية في هذا المجال إلى مجموعات ثلاث:

المجموعة الأولى: المفكرون الذين سعوا من خلال طرح مفهوم "القومية" إلى جعله معياراً لوضع الحدود. وغالباً ما كان هذا المذهب سائداً في الفكر السياسي للقرنين التاسع عشر والعشرين، ولم يتسرب إليه الشك إلاّ فيما كتب في الفلسفة السياسية الغربية في العقود الأخيرة من هذا القرن(1).

المجموعة الثانية: وهي محاولة تعيين الحدود المعقولة لدولة ما على أساس "قدرة حكومته" وهذا المذهب بدأه أرسطو ولم يعد يذكر فيما يكتب اليوم.

المجموعة الثالثة: وهي محاولة تعيين الحدود على أساس ما تفرضه "العقلانية المشتركة"، حيث يعتبر ذلك من أقوى المعايير المعتمدة في بحث الحدود، وإن كان اكثر الساسة غير مقتنع بذلك.

 

قضايا القومية

أ ـ مفهوم القومية في تعيين الحدود هو ما اختاره الفلاسفة الليبراليون، وقد كتب حول حدود هذا المفهوم واستعمالاته العديد من الكتب والرسائل في الغرب طوال القرون الأربعة الماضية. وبغض النظر عن الاختلافات القائمة، يمكن أن نلخص النظرية الكلاسيكية في القومية بالمبادئ الثلاثة التالية:

المبدأ الأول: القومية أمر ذو جذور تاريخية، ولهذا فهي ليست أمراً وضعياً، فالشعب الذي ينتمي إلى قومية واحدة يشترك في أمور عديدة، كاللغة والثقافة والدين وما شاكل ذلك. وغالباً ما تكون الارض احد هذه المشتركات.

المبدأ الثاني: القومية أمر ذو حرمة ويجب احترامه من قبل الجميع. والشعب الذي تجمعه قومية واحدة ينبغي له، إلى جانب احترامه لها، إلاّ يدخر جهداً في سلبيها (حتى لو ضحى بنفسه).

المبدأ الثالث: من حق كل قومية أن تكون لها حكومتها الخاصة بها.

ب ـ وعلى الرغم من نقاط الضعف الجوهرية التي واجهها المفكرون الليبراليون في استدلالهم على هذا المعيار المذكور، كانت القومية هي الأساس الذي قام عليه أغلب الحكومات الأوربية في القرن الثامن والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

ولابد من الاعتراف بالدور الكبير الذي قام به المفكرون والكتّاب في تعميم هذا المذهب ونشره.

ومن المشكلات العلمية التي واجهتها نظرية القومية، يمكن الإشارة إلى الإشكالين الأساسين التاليين:

الإشكال الأول: ما يتعلق بالجاليات والأقليات، وهو من أقدم مشكلات الفكر السياسي الليبرالي. فلنفرض مجموعة من الألمان تعيش في مدينة تقع في أرض بولونية. فلكل من البولونيين والألمان حكومته الخاصة به، ولكن ماذا نفعل بهذه الجالية القليلة؟

فإذا أردنا أن نمنحها الاستقلال (أو نلحقها بالألمان) سيتعرض الأمن البولوني لمشكلة كبيرة. كما أن الفكر الليبرالي يرفض مفهوم المواطن من الدرجة الثانية، وبعبارة أخرى أن الجالية المذكورة وان كان مواطنوها من الدرجة الأولى رسمياً، إلاّ أنها لا تستطيع عملياً بسبب أقليتها أن تمتلك شيئاً من عوامل القوة في المجتمع البولوني، في ضوء النظام الديموقراطي الذي يقوم على أساس الرأي العام.

الإشكال الثاني:"التضحية بالنفس" في سبيل القومية تتعارض كاملاً مع أصالة الفرد. ذلك أن الحكومة تكتسب مقومات وجودها من المحافظة على حرية الفرد كي يمكنه أن يفعل ما يريد في إطار القانون، والفداء في سبيل القومية يتعارض وهذا الهدف(2).

ج ـ الإشكال الأول قديم، وقد عولج بفكرة "الحكم الذاتي" (التقسيمات الفدرالية للدولة).

وهذا يعني العدول عن المبدأ الثالث، أي حق القوميات في الاستقلال السياسي. وعلى هذا ستختل كل المبادئ الأخرى. فمثلاً لا معنى للتضحية في سبيل الحكم الذاتي. والاختلال الأفظع سيكون في المبدأ الأول من النظرية القومية الكلاسيكية، وذلك استناداً إلى رأي جديد يرى أن القومية يمكن أن تكون أمراً "وضعياً"، كما شبهت القومية الأمريكية ببوتقة تذوب فيها الثقافات، أي أن جميع القوميات يجب أن تذوب في قومية واحدة قوامها اللغة الانجليزية والفكر الليبرالي والطريقة الأمريكية في الحياة! ويعتقد رجال السياسة القائمون على هذه التجربة أن توظيف الأموال في مجال التعليم والإعلام يمكنه أن يخلق خلال جيل أو جيلين قومية جديدة تكون أساساً لوحدة البلاد. وهكذا كانت بالضبط التجربة الماركسية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فإنهم أرادوا للغة الروسية والمذهب المادي أن يكونا أساساً للقومية الجديدة.

إلاّ أن هذه التجربة الجديدة تواجه العديد من المشكلات، فمن الناحية النظرية كان افتقار تعريف "القومية" الوضعية إلى تبرير وجيه قد دفع بالنظام الليبرالي أو الماركسي إلى طريق مسدود، فلماذا اللغة الانجليزية أو الروسية؟ ولماذا الفكر الليبرالي أو الماركسي؟ ولماذا الطريقة الأمريكية أو الروسية؟ وهكذا لم يكن فشل هذه النظرية في عالم الواقع بأقل منه في عالم الفكر، فالجميع شاهد التجربة الروسية، كما أن التجربة الأمريكية أفرزت مجتمعاً متشنجاً ملؤه التمييز.

وأما الأوربيون، فقد دفعتهم فكرة إعادة النظر في النظرية القومية الكلاسيكية إلى فكرة "تعدد القوميات و…

د ـ بعد مواجهة تلك المعوقات وقضايا أخرى لا مجال لذكرها هنا(3)، استقطبت السياسيين الليبراليين نظرية جديدة، تتوارى فيها الحدود السياسية بالتدريج، ويتجه العالم فيها نحو نظام مدني واحد، تحكم علاقاته القيم الليبرالية.

وليس بغريب أن يستقبل الزعماء الأمريكيون والغربيون هذه النظرية بكل ترحيب، فأي شيء أفضل من عالم يقوده المنتدى الغربي(4).

 

الحدود السياسية والقدرة

أ ـ والمذهب المعروف الأخر في الأسس النظرية للحدود السياسية هو اعتماد القدرة التي تتمتع بها الدولة معياراً لذلك. وهذا الرأي وان كان قد طرحه سقراط وأفلاطون، إلاّ أن أرسطو هو الذي قدمه مكتوباً. فأرسطو يضع نفسه في موضع من يريد أن يخطط لحكم ودولة، ويطرح على نفسه هذا السؤال: كيف تعين الحدود السياسية لدولة تقوم كل شؤونها على مبنى العقلاء (المدينة أو البلدة السياسية في اصطلاح أرسطو) ؟ هناك في كتاب "السياسية" ثلاث خصائص أساسية تطرح بهذا الشكل:

الأولى: الاكتفاء الذاتي للحكومة.

الثانية: قدرة الحكومة على الدفاع عن نفسها بالقدر المعقول.

الثالثة: قدرة الحكومة على الارتباط بمواطنيها.

ويحاول أرسطو من خلال هذه الصور الثلاث أن يستنتج على مبنى العقلاء حدوداً سياسية لبلد ما(5).

ب ـ ولابد من التأمل قليلاً في هذه الخصائص ، فـ "الاكتفاء الذاتي" في نظر أرسطو ليس مادياً ، بل إدارياً، أي أنه يمكن لأهل بلد أن يكونوا على الأغلب من التجار وألاّ ينتجوا شيئاً يذكر! ولكن، على الحكومة أن تخطط لكل أمر ضروري من شانه إسعاد المواطنين، فقد كانت دوماً عنصراً رئيسياً في مهام الحكومة في الفكر السياسي. وبنظر أرسطو يجب أن تكون الدولة على درجة من السعة بحيث يمكن الدفاع عنها، كما يجب إلاّ تكون بدرجة من الصغر بحيث لا يمكنها إعداد الوسائل التي تدافع بها عن نفسها. وبالطبع فإن أرسطو يستنتج بحكمته أن الدفاع لا يقتضي القوة العسكرية بالضرورة، بل لابد من الاستعانة بالإمكانات السياسية والاقتصادية أيضاً، فمثلاً يمكن احياناً كف الأعداء من خلال "منح الأموال" أو عقد الاتفاقيات السياسية معهم(6). وفي الواقع ذاته لابد من امتلاك الحد الأدنى من القوة العسكرية.

عامل الارتباط بالناس من إبداعات أرسطو أيضاً، فهو يعتقد أن حجم المدينة يجب أن يكون إلى حد بحيث لو جمع حاكمها الناس في إحدى الميادين لأمكنه أن يوصل صوته إليهم جميعا(7).

ج ـ وكما يتضح مما مر، فإن المحور في تعيين حدود الدول هو قدرة حكامها على الإدارة والقيام بالوظائف والمهام، ولهذا تسمى "نظرية الحدود على أساس القدرة". إلاّ أن النتائج التي تترتب على هذا الرأي ترتبط جداً بالوضع الذي عليه العلوم والتقنية في كل زمان، ففي أواخر القرن العشرين ـ مثلاً ـ يمكن أن يقال إن "الارتباط" بالناس لم يعد يفرض حداً لسعة البلد وحجمه، أو إن قدرة السلاح الذري على كف الأعداء قد يغير دور وأهمية عدد الجنود بالكامل.

وأما التنظيم الإداري للحكومة فيمكنه أن يحذف البديهي من الأبعاد لا غير، وإلا فإن بعض دول العالم يتراوح عدد نفوسها بين مئة ألف ومليار نسمة!

الحدود وماهية الحكم

أ ـ بعد هذه النظرة العامة إلى المذهبين المعروفين في الحدود السياسية، ننقل الحديث إلى نظرية ثالثة يقوم أساسها على ماهية الحكومة، أي أن جميع خصائص الحكم يجب أن تؤخذ من ماهيته، حتى مسألة الحدود. وصياغة البحث بالشكل التالي:

نفترض أولاً أن الأمور جميعاً قد سلمت إلى العقلاء لنقوم بتعيين الحدود في وضعية مثالية كهذه. والمرحلة الثانية من البحث هي أولاً: كيف نتصور علمية الانتقال من الوضع الحالي إلى تلك الحالة المتكاملة؟ وثانياً: ما هي الطرق الممكنة في ذلك؟

ومنطلق البحث هو هذا السؤال المهم: ما هي الحكومة؟ "الحكومة تمركز لفاعل تشترك فيه العقلانية الجماعية". ولنلاحظ ذلك من خلال التوضيحات التالية:

أولاً: أفراد البشر الذين يمكنهم أن يشكلوا ـ وهم أفراد ـ مصدراً لفعل ارادي، يمكنهم ـ وهم مجتمعون ـ أن يتخذوا سمة "الفاعل" أيضاً (تمركز الفاعل).

ثانيا: تمركز الفاعل يعتمد على ركنين أساسين:

العقلانية المشتركة والإدارة القديرة.

ثالثاً: العقلانية أساس الفعل (الفردي والاجتماعي)، ففي ضوء العقلانية يتضح موقع الفعل في شبكة خطوط الأهداف والطرق الموصلة إليها. والعقلانية الجماعية هي التي تتسامى في خضم هذه الخطوط إلى الحد الذي تكشف به عن العلاقة بين الفعل والسعادة الحقيقية للإنسان. وإن العقلانيات الأخرى التي تتبع هذا الهدف أو ذاك تسمى بالعقلانيات الفرعية.

رابعاً:"المشروعية" هي التي يجب أن تعطي للسلطة الإدارية والتنظيمية مبرراتها، وهذه المبررات يجب أن تكون على أساس العقلانية الجماعية المشتركة، وأما القدرة الإدارية فإنها تمثل جانباً آخر من التنظيم، هو ذاك الذي يتعلق بالقيام بوظائف الحكم.

إن ما جاء مختصراً أعلاه هو مبادئ مذهب خاص في مجال نسميه بـ"النظرية الذاتية في الحكم"(8).

والنظرية الذاتية في الحكم تتمتع بقدرة فائقة، في الإجابة عن الأسئلة الأساسية في الفلسفة السياسية، حيث نطرح في هذه المقالة مسألة الحدود السياسية كنموذج لذلك.

ب ـ كما أشرنا سابقاً، إن جميع خصائص الحكم والنظام المدني يجب أن تستنتج من ماهية الحكم، ولذلك فإن مسألة الحدود وما يترتب عليها يعد من ذلك أيضاً. والذي نستنتجه من النظرية الذاتية في الحكم هو أن للحكومة ركنين أساسيين:"العقلانية المشتركة" و "الإدارة والتنظيم". ومن الواضح أن اعتقاد الناس بعقلانية ما لا علاقة له بمدى أحقية تلك العقلانية، ويجب اعتبار اعتقاد كهذا ظاهرة اجتماعية لها أسبابها المتعددة كما أن بروز "الإدارة والتنظيم" يرجع إلى مدى توافر الإمكانات ويتراوح من حيث القوة والضعف.

ولهذا السبب، وخلافاً للأسس القديمة في باب الحكم التي تستدعي حدوداً جغرافية معينة، فإن النظرية الذاتية للحكم تطرح الحدودية بشدة وضعف (بقوة تدريجية)! وبعبارة أخرى، فإن الحدود الجغرافية ليست الحدود الواقعية لعناصر الحكم(9).

ولكي يتحقق الحكم في ضوء هذا المذهب، يجب أولاً أن تستتب عقلانية مشتركة بين مجموعة من الناس، ثم يسيطر عليهم نوع من الإدارة والتنظيم.

وامتلاك أرض محددة عامل مساعد كبير في استقرار النظام والتشكيلة الحكومية، ولكنه ليس شرطاً ضرورياً ذاتياً لذلك على الإطلاق ! كما يمكن أن تكون لسيطرة النظام بين اتباع تلك العقلانية درجات متفاوتة من التجلي والظهور. لنستخدم الآن هذا المبدأ النظري العام في تحليل مسألة الحدود في النظام الإسلامي.

ج ـ إن تعاليم الإسلام (التي تنطوي تحت علوم مختلفة كالفقه والتفسير والأخلاق والعرفان والكلام و…) تقدم منهجاً واضحاً في العمل نسميه "العقلانية الإسلامية". والحكومة الإسلامية تعني تمركزاً فاعلاً على أساس هذه العقلانية المشتركة. وبديهي أن مجرد الإيمان بهذه العقلانية لا يؤدي إلى تشكيل حكم، بل لابد من نفوذ للتشكيلة الحكومية الخاصة (والتي تشتمل على الأركان الثلاثة: القيادة، وجهاز إصدار القرارات، وتوزيع الأعمال). وهذا النفوذ قد يكون في غاية الكمال على أرض معينة في برهة من الزمان، في حين يكون فيه على درجات أقل من ذلك في بقاع أخرى تتوزع عليها الأمة الإسلامية.

ونحن وان كنا لا نستطيع الحديث عن نفوذ حكومة في تلك البقاع، إلاّ انه في الوقت ذاته لا يمكن إنكار وجود درجات معينة من ذلك التشكل والتنظيم. ومن الطبيعي أن الأرض التي تقع تحت نفوذ الحكم الإسلامي ـ بكل معنى الإدارة والنظام ـ سيكون لها موقع ممتاز فيما كتبنا بـ"أم القرى"(10)، (ويقصد به مركز العالم ومحوره).

والميزة الأساس لـ"المركز" هي أن هذه الأرض قد استقر عليها الحكم الإسلامي أولاً، وتتمتع قيادتها بصلاحية واسعة تشمل كل الأمة الإسلامية ثانياً. أي أن هذه القيادة تليق بولاية أمر الأمة كلها، وان كان ما تحقق من التشكيلة والنظام قد اقتصر على "المركز".

قضايا "المركز"

إن ظهور "المركز" يستتبع مسائل شتى نشير إلى شيء منها فيما يلي:

أ ـ كما ذكرنا انفاً إن التشكيلة الحكومية لـ"المركز" تتمتع بقيادة تصلح على مستوى الأمة الإسلامية. وهذا ما يستلزم:

أولاً: أن لو كان للشعب في "المركز" دور في إيصال القائد إلى السلطة، فلابد له في انتخاباته (بيعته) أن يلاحظ على الدوام ما يليق بقيادة الأمة جمعاء، مثلاً إذا اعتبرنا الحكومة الإسلامية في إيران اليوم "المركز" ودار الإسلام (وهي كذلك)، فإنه لابد لمجلس خبراء القيادة عندما يختار قائداً للناس أن يلاحظ فرداً يليق بقيادة الأمة الإسلامية كلها. وهذا الأمر على درجة من الجدية بحيث يمكن أن يكون هذا الفرد غير إيراني.

ثانياً: قائد "المركز" وان كان نفوذه الرسمي على أرض محدودة، إلاّ أن موالاته "تجب" على الأمة الإسلامية بأجمعها.

ب ـ فشل أو انتصار "المركز" هو فشل وانتصار الإسلام، ولهذا لو تعرضت "المركز" للخطر "وجب" على الأمة الإسلامية بأجمعها الدفاع عنها، إذا كانت تملك القوة الكافية لذلك. إن الأمة الإسلامية مجموعة من البشر اختارت الإسلام أساساً لتحركها وآمنت به. ولهذا ستقع على كل فرد من هذه الأمة مسؤولية تجاه "المركز" حتى لو كان يعيش على بعد آلاف الأميال في بلاد الكفر.

ج ـ قيادة "المركز" تتحمل مسؤولية تجاه كل الأمة الإسلامية، ولهذا فإن مصالح "المركز" واستراتيجياته في تحقيق تلك المصالح تختلف عن غيرها من الدول، لما يلعبه صلاح الأمة الإسلامية من دور بارز في حساباتها.

ومن الممكن أن يقال :"إنكم إذا قلتم ـ بناءً على ذلك ـ إن إيران الإسلام هي "المركز" بالنسبة إلى العالم الإسلامي اليوم، فعليكم أن توزعوا واردات النفط على مليار مسلم، ولا تقتصروا إنفاقها على إيران فقط". وفي جواب ذلك نقول: إن إيران الإسلامية هي "المركز" بالنسبة إلى الأمة، ومصالح الأمة الإسلامية تتجلى بشكل أساسي في مصالح "المركز"؛ فلو كان إنفاق واردات النفط الإيراني في سائر البلدان يعود بالنفع إلى الأمة الإسلامية، فلا بد من أن نفعل ذلك، أو أن نقوم به مادام هذا النفع محققاً، وإذا كنا نحن اليوم لا نطبق ذلك، فلان ذلك يعود بالضبط إلى أن هذا العمل سيؤدي إلى أضرار واضح بالعالم الإسلامي. فلو أنفقنا واردات النفط الإيراني على سائر البلدان لضعفت إيران الإسلام وانهارت، ولما كانت هذه الأرض تمثل اليوم "المركز"، فإن ضعفها وانهيارها لابد أن يكون على حساب انهيار الأمة الإسلامية. والنتيجة هي انه ليس إنفاق دخل النفط الإيراني في "المركز" له مبرراته فحسب، بل لو أنفقنا واردات البقاع الأخرى على "المركز" لم نكن قد أخطانا.

د ـ لو فرضنا أن فقيهين جامعين للشرائط ثارا في بلدين من بلدان العالم الإسلامي (ألف وباء) وأقاما فيهما النظام الإسلامي، أفلا تتداخل سلطة هذين الفقيهين؟ وإذا حصل ذلك فما هو الحل؟ وفي جواب ذلك لابد من دراسة الحالات المحتملة للعلاقة بين هذين البلدين وقائديهما الفقيهين.

الحالة الأولى: هي أن نفترض أن البلد (أ) هو "المركز"، ففي هذه الحالة يجب على الأمة الإسلامية بأجمعها أن تنقاد لها، وان تكون حكومة البلد (ب) تحت اختيارها بشكل كامل. أي انه على فرض صلاحية القيادة في (أ) للأمة الإسلامية جمعاء، يجب على الفقيه القائد في (ب) أن يستمد مشروعية ولايته من الفقيه القائد في "المركز".

الحالة الثانية: أن يكون الفقيهان متساويين في صلاحهما لدى الأمة الإسلامية، عند ذلك لابد من تشكيل مجلس لقيادة الأمة، حيث يكون لهذا المجلس كامل السلطة على البلدين، وتسلم الأمة الإسلامية أمرها لجهاز القيادة هذا.

الحالة الثالثة: إلاّ يتمتع أحد من هذين الفقيهين بأهلية القيادة على مستوى الأمة ـ في حين يتمتع كل منهما في بلده بكفاءة أكبر ـ وهناك في الأمة من يصلح لمنصب كهذا عند ذلك يجب على هذين الفقيهين أن يسلّما الأمر إلى ذلك الفرد الأكفأ.

هـ ـ تكرر في الموضوعات التي مرت بنا التعبير بـ"الوجوب". وما نقصده من "الوجوب هو الإلزام على أساس العقلانية الإسلامية. كما أن هناك حديثاً آخر عن كيفية العمل بهذا "الوجوب"، فمثلاً ما هو المعنى الدقيق للأكفأ؟ أتكون الكفاءة صفة ثابتة أم يمكن لها أن تتغير؟ وعند ذاك كيف يمكن متابعة تلك الكفاءة؟ما هو دور "الشهرة" فيها؟ كيف يمكن معرفة الأكفأ؟ من يجب عليه تشخيص الأكفأ وبأي طريقة يُعرفون إلى الناس؟ هذه أمور يمكن انجازها بصور مختلفة تتكامل مع مرور الزمان.

ملاحظات أخيرة

أ ـ العقلانية الليبرالية تمثل أساس المدنية في الغرب اليوم، تميل بشكل طبيعي إلى انحلال الوحدات  البشرية. ذلك أن تكامل الإنسان في هذه العقلائية يكون من خلال حرية تحركه في أكبر مساحة ممكنة، ودور الحكومة هو التمهيد لوضع كهذا. كما أن البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية للنظام الليبرالي ستكسب أكبر النفع في حال أصبحت فيه "عالمية"! وانها في الحقيقة تشعر بالضعف قبال الفكر الإيديولوجي الصريح. ولهذا السبب بالذات يرى ساسة المدنية الغربية اليوم أن أهم ما يقع على عاتقهم هو استقرار نظام ـ اقتصادي على أساس الفكر الليبرالي في جميع أنحاء العالم. فعالمهم المثالي هو مجموعة من البشر يسيرون حياتهم اليومية "الدنيوية" تماماً بطريقة أكاديمية، أي أنهم أفراد متخصصون دقيقون يضعون للوقت حسابه، إلى جانب كونهم في غاية التسامح. ليفعل كلٌ ما يشاء في بيته، على ألاّ يجتاز حقوق الفرد، فإن ذلك مخالفة. وفي دنياهم المثالية هذه، كلٌ له دينه، والأديان قد أنزلت إلى البيوت، إلاّ المذهب الليبرالي الأكاديمي.

فالعالم الذي يريده الساسة الغربيون اليوم هو طبقة على رأسها مجموعة الدول الأوربية ـ الأمريكية المتطورة اقتصادياً وصناعياً، والبقية هم المقتدون بهذه المجموعة. وبكلمة واحدة، إن المدنية الغربية اليوم لا ترى مصالحها في انفتاح هذا العالم فحسب، بل ترى أن ديمومة حياتها وسيطرتها تكمنان في هذا الانفتاح.

ب ـ وفي قبال العقلانية الغربية اليوم تقف العقلانية الإسلامية، التي يعتبرها المفكرون الليبراليون خطراً جدياً عليهم. فالليبراليون كانوا يتصورون أن لا منافس لهم من بعد فشل الماركسية، ولهذا يعدون انهيار الاتحاد السوفيتي اعظم فتح جرى على يد المدنية الغربية. والعقلانية الإسلامية تقضي بتشكيل أمة واحدة بحكومة واحدة فيها.

وسيكون هذا الأمر بالطبع أعلى مرحلة تبلغها المدينة الإسلامية الحديثة، ولكن لا ينبغي استصغار الفاصلة التي بين ما عليه الأمة الإسلامية اليوم وبين تلك المرحلة، ولهذا من المنطقي أن نفترض مراحل متعددة لبلوغ تلك المرحلة.

ففي ظل المرحلة الأولى: لابد من ظهور وعي واهتمام بإعادة الحياة إلى الإسلام كأسلوب قويم في حياة الفرد والمجتمع.

المرحلة الثانية: السعي لتأسيس حكومات إسلامية في العديد من بلدان العالم الإسلامي اليوم. ومن الواضح أن يتم ذلك بالدرجة الأولى ـ على يد شعوب كل من هذه البلدان، وبحسب ظروف كل بلد، فتارة يكون ذلك عن طرق ما يتاح من انتخابات برلمانية وغيرها، وتارة بالنزول إلى الشوارع تحقيقاً لهذه النهضة.

إن تجربة الجزائر ومصر قد أظهرتا أن ساسة الغرب لا يترددون أبداً في استعمال القوة لصد موجة إحياء الإسلام، وشعارات حقوق الإنسان وما شاكلها تصب في مصالح الغرب، لا المسلمين !

المرحلة الثالثة: وهذا تبدأ عندما يستطيع العديد من شعوب العالم الإسلامي القوية تأسيس حكومات إسلامية. عند ذلك يجب على الحكومات الإسلامية أن تتحرك نحو حكومة واحدة في الأمة الإسلامية، وتقدم تشكيلة ونظاماً جديداً ولابد أن يتراءى على الطريق ركام من التعقيدات إذا ما نظرنا إلى الاختلافات العميقة في العالم الإسلامي، وإلى المتحجزين والماديين من العلماء ومؤامرات الكفر والمتغربين من المثقفين.

وهنا لا من أن نلجأ إلى المبدأ المهم في عقلانيتنا الإسلامية، وذاك أن نقوم بوظيفتنا والتوفيق من الله تعالى

ـــــــــ

(*) رئيس مركز أبحاث مجلس الشورى الإسلامي سابقاً، أستاذ في جامعة طهران.

(1) أحد مشاهير الباحثين المعاصرين في مجال "القومية" و "النزعة القومية" هو اي.دي.سمث

( a.d.smith) الذي قدم مؤلفات قيمة في هذا المجال كان أحدها هذا الكتاب الذي نذكره أدناه، والذي رجعنا إليه في كتابة هذه المقالة:

(Smith, A.D. Ttheories of Nationalism, 2nd edition, London :Duckworth, 1983).

(2) راجع: لاريجاني، محمد جواد ، بحوث نظرية في السياسة الخارجية، (كاوشهاي نظري در سياسات خارجي)، طهران، دار المنشورات العلمية والثقافية، 1995، ص246.

(3) لاريجاني، محمد جواد، النظام التلاعبي (نظم بازي كونه)، طهران، اطلاعات، 1992، ص 72.

(4) لنقد النظريات الأربع المعروفة في هذا المجال، راجع : لاريجاني، محمد جواد، بحوث نظرية في السياسية الخارجية، ص 363.

(5) المصدر نفسه.

(6) راجع: نقد أرسطو لآراء فالياس

Phaleas: Aristotle, “Politics” , in the works of Aristitle, Volume ll, Chicago, The University of Chicago The Great Books, 1952).

(7) لاريجاني، محمد جواد، بحوث نظرية في السياسية الخارجية، مصدر سابق، ص 256.

(8) لاريجاني، محمد جواد، الحكم: بحث في المشروعية والقدرة (حكومت: بحثي در مشروعيت وكارآمدي)، طهران، سروش، 1995.

(9) لاريجاني، محمد جواد، بحوث نظرية في السياسية الخارجية، مصدر سابق، ص 256.

(10) لاريجاني، محمد جواد، بحوث في الاستراتيجية القومية (مقولاتي در استراتزي ملي)، طهران، مركز ترجمة ونشر الكتب، 1988، ص 25.