شكَّل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في 11 شباط 1979، حدثاً تاريخياً تخطى بآثاره حدود الجغرافيا الإيرانية. واليوم، وفي الذكرى الأربعين للثورة، يجب مقاربة الحدث بعقل الحاضر وعلى أساس التجربة دون إبقائه كحدثٍ تاريخيٍ فقط. لنقول أن نتائج هذه الثورة يجب أن تُقرأ في ظل التحولات التي أحدثتها وأثرت على صعيد المنطقة والعالم. وهنا، يجب مقاربة مسألتين أساسيتين، المسألة الأولى تتعلق بما أحدثته الثورة من تحوُّل على الصعيد الخاص بإيران كدولة. المسألة الثانية، تتعلق بالبُعد العالمي للثورة وآثارها التي تخطت جغرافيا إيران كدولة. فماذا قدمت الثورة الإسلامية لإيران الدولة؟ وماذا قدمت للعالم أجمع؟

يطول الحديث عن الدور الذي لعبه نظام الشاه في جعل إيران أشبه بالقوة المركزية التي تعتمد عليها السياسات الغربية، ما ساهم في إبقاء إيران ولسنوات، رهينة لمصالح الغرب وعلى حساب مصالح الشعب الإيراني. وهنا نُشير لمسألتين أساسيتين تتعلق بإيران الدولة ما قبل الثورة:

أولاً: كانت إيران في زمن الشاه أشبه بالقوة التي يعتمد عليها الغرب في الإقليم. عزَّز نظام الشاه علاقاته مع الكيان الإسرائيلي من خلال التعاون الأمني بين السافاك والموساد. كما فتح أبواب التعاون الاقتصادي والتجاري مع الدول الغربية دون ضوابط أو رعاية المصالح الإيرانية.

ثانياً: حتى سبعينات القرن الماضي، اندفعت الدول الغربية بالإضافة إلى الكيان الإسرائيلي، لتعزيز علاقاتها العسكرية والسياسية مع نظام الشاه. لكن ذلك لم يكن بهدف حماية مصالح الشعب الإيراني بل بهدف إيجاد قوة مُهددة لتعاظم الإتحاد السوفيتي.

طول فترة حكمه، رَهن الشاه مصالح الدولة والشعب لخدمة السياسات الغربية. وكانت السياسة الإيرانية تمارس دورها ضمن الإطار الغربي. إلى أن جاء انتصار الثورة الإسلامية.

 

الجمهورية الإسلامية الإيرانية: إيران ما بعد الثورة

ساهم انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في صناعة تحوُّل في بنية النظام الإيراني، وهو ما أدى للعديد من النتائج، نُشير لأهمها فيما يلي:

أولاً: أعطت الثورة الإسلامية لإيران الهوية. فقد جاءت الثورة واضحة المبادئ والقيم والأهداف. الأمر الذي يتماشى مع ثقافة الشعب الإيراني وحضارته العريقة. فالدور الذي لعبه نظام الشاه في جعل إيران تابعة للغرب، كسره انتصار الثورة والذي أعاد إحياء تاريخ الشعب الإيراني المليء بالأمجاد والاستقلال والسيادة.

ثانياً: ساهمت الثورة الإسلامية في بناء إيران دولة المؤسسات. أنهت الثورة تاريخاً من حكم الشاه الديكتاتوري للبلاد. وجعلت من إيران دولة مؤسسات متعددة الأجهزة والمهام، تتمتع بالديمقراطية وحكم الشعب الذي يختار الرئيس وأعضاء المجلس. ونجحت الثورة الإسلامية في أن تُقدم إيران كنموذج جديد في ممارسة الحكم وإدارة الدولة، ضمن الإطار الإسلامي.

ثالثاً: أنتجت الثورة الإسلامية إيران دولة التطور والبحث العلمي. فقد ساهم التحوُّل البنيوي في النظام الإيراني، بتأمين الأرضية اللازمة لتحقيق الاكتفاء الذاتي للشعب الإيراني. كما انتقلت إيران من دولة تحتاج إلى الدعم في قطاع الصناعة إلى دولة مُصدرة للصناعات. بالإضافة إلى مرحلة التطور في البحث العلمي على الصُعد كافة وصولاً إلى الطاقة النووية.

كثيرة هي الإنجازات التي حققتها الثورة الإسلامية على صعيد إيران الدولة، وهو ما لا يتسع المقال لذكره. لكن هذه التحولات البنيوية، كان لها الكثير من الآثار المرحلية حينها والإستراتيجية التي امتدت إلى يومنا هذا. فما هي نتائج هذا التحوُّل؟ وكيف أثبت نموذجيته؟

 

الثورة الإسلامية الإيرانية: نتائج التحوُّل وعالمية النموذج

نتائج التحول الذي حققته الثورة الإسلامية على الصعيد الخاص بإيران كدولة، ألقى بآثاره على المنطقة والعالم. الأسباب عديدة، تتعلق من جهة بأيديولوجية الثورة بحد ذاتها ومبادئها الإنسانية الإسلامية الطابع، ومن جهة أخرى، تتعلق بالأداء الذي لعبته الجمهورية الإسلامية من خلال سياستها الإقليمية والدولية، ما انعكس دوراً نموذجياً أثبتته التجربة. فيما يخص البُعدين، نُشير للتالي:

أولاً: شكلت الثورة بحد ذاتها على الصعيد الأيديولوجي والتطبيقي نموذجاً تحررياً ينطلق من مبادئ راسخة تتصف بالعالمية والصلاح لكل زمان ومكان. يكفي العودة لمبادئ الثورة، لملاحظة قيمها الإنسانية ذات الطابع الإسلامي، الأمر الذي يجعلها تتميز بأيديولوجية عابرة للمذاهب والطوائف والقوميات والانتماءات والجغرافيا. ما جعلها نموذجاً لحركات التحرر التي سُرعان ما تأثرت بها.

ثانياً: أنهت الثورة الإسلامية بانتصارها مساراً تاريخياً امتد لفترة من الزمن، طغى عليه الرضوخ للقيم الغربية والتبعية للغرب والارتهان له على الأصعدة الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية. وبالتالي صنعت الثورة منذ انتصارها مساراً جديداً حيث ساهمت شعاراتها في بناء ثقافة جديدة تؤمن برفض الهيمنة والاستعمار وسياسات الاستكبار ما أسس لنهضة الشعوب للدفاع عن مصالحها.

ثالثاً: مع مرور الزمن، أدى صمود النظام الإيراني الذي أنتجته الثورة الإسلامية، وسياساته الخارجية على الصعيدين الإقليمي والدولي، الى تشكيل نواة التحرر في المنطقة، ما بات يُعرف اليوم بمحور المقاومة. كما لم تكن السياسة الخارجية الإيرانية بعيدة عن تعزيز النفوذ والدور المشترك للأطراف الدولية المُمانعة للهيمنة الأمريكية. فكان محور الممانعة إحدى النتائج.

رابعاً: ساهم الخطاب الإنساني لقادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا سيما مرشد الثورة الإسلامية الإمام الخامنئي، في تقديم النموذج الإسلامي بصورته الصحيحة. وهو ما أدى من جهة إلى تصدير الرؤية الإسلامية للعلاقة مع الآخر بصورتها الصحيحة الأمر الذي لقي احترام كافة شعوب العالم (يمكن العودة لرسالة الأمام الخامنئي للشعوب الغربية)، وساهم من جهة أخرى في إعادة الحق المسلوب للأمة الإسلامية عبر تقديم النموذج الإسلامي للحكم بصورته الصحيحة. ما شكل انقلاباً على سياسات الغرب التي ساهمت ولفترة طويلة في تشويه سمعة الإسلام وبالتالي الأديان كافة.

لا يتسع المقال لذكر الآثار كافة. لم تكن الثورة الإسلامية حدثاً تاريخياً بقدر ما ساهمت في التأسيس لمنعطفٍ تاريخي. قد نُعاني من أساليب تقديم هذا النموذج، ومدى القدرة على تقديمه بصورته الإنسانية الحقيقة. لكن التجربة، والتي باتت غنية، أصبحت كفيلة للخروج من لغة إثبات النوايا إلى لغة قراءة الأفعال والواقع. فإذا كانت السياسات الخاصة بإيران الدولة شأناً داخلياً، فيمكن القول وبعد 40 عاماً من عمر الثورة الإسلامية، أن السياسات الخارجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، شكَّلت نموذجاً يُقتدى به، للدولة القادرة على تعزيز مصالح أمنها القومي، دون التدخل أو حتى معارضة مصالح الشعوب الأخرى. هكذا قدَّم الإمام الخميني مشروعه الإنساني الخالد ضمن إطاره العالمي المُستكمل لمسيرة الأنبياء والرسل. فكانت الثورة الإسلامية الإيرانية، عالمية التجربة والنموذج.

 

موقع العهد الاخباري-محمد علي جعفر