الفصل الرابع

في الطهور وهو إما الماء وهو الأصل في هذا الباب، وإما الأرض

(قال العارف السعيد القاضي سعيد القمّي ((*- هو محمد بن مفيد القُمّي العالم الفاضل الحكيم المتشرع العارف الربّاني والمحقّق الصمداني من أعاظم علماء الحكمة والأدب والحديث. انتهى إليه منصب القضاء في بلده قم .

كان من تلامذة المحقق الفيض الكاشاني والمولى عبد الرزّاق اللاهيجي له مصنفات فائقة منها شرحه على كتاب توحيد الصدوق في مجلّدات والأربعينيات وغير ذلك. وأشهر مصنفاته شرحه على التوحيد وهو مشتمل على الفوائد الكثيرة فلنذكر فائدة مختصرة منها:

روى الصدوق عن أبي عبد الله عليه السلام قال لمّا أمر الله عز وجل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتمّ بناؤه أمره ان يصعد ركنا ينادي في الناس ألا هلمّ الحجّ فلو نادى هلمّوا إلى الحج لم يحجّ إلا من كان يومئذ انسيّا مخلوقا ولكن نادى هلمّ الحجّ فلبّى الناس في أصلاب الرجال لبيك داعي الله لبيك داعي الله فمن لبىّ عشرا حجّ عشرا ومن لبّى خمسا حج خمسا ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك ومن لبى واحدا حجّ واحدا ومن لم يلبّ لم يحج .

قال القاضي سعيد في معنى الخبر: عندي أن الوجه فيه أن استعمال هلم لمجرّد الأمر وطلب الحضور مع تجريد من خصوصية المخاطب بالأفراد والتذكير والتأنيث، والمعنى ليكن إتيان بالحجّ وليصدر قصد إلى البيت ممّن يأتي منه هذا القصد من أفراد البشر وهذا إنّما يصحّح في صيغة المفرد حيث لم يكن فيه علامة الزيادة لأجل التأنيث والتثنية والجمع بخلاف صيغة الجمع فان الزيادة فيه مانعة عن ذلك كما لا يخفى على المتدرّب في العلوم ( انتهى ) .)) وهو ( أي الطهور ) امّا الماء الذي هو سرّ الحياة التي هي العلم ومشاهدة الحيّ القيّوم ، قال الله تعالى: "وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به " ( الفرقان 48 و 49 ) . وقال جل وعلا: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهّركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان " (الأنفال 11) وأما التراب الذي هو أصل نشأة الإنسان قال عزّ من قائل " منها خلقناكم " (طه 55) . وقال جلّ جلاله: " فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيدا طيّبا " ( النساء 43 ) وذلك لتتفكر في ذاتك لتعرف من أوجدك ومم أوجدك ولم أوجدك ، فتخضع له وترفع التكبّر من رأسك لان التراب هو الأصيل في الذلّة والمسكنة .

ثم اعلم إن ماء الغيث لطيف في غاية الصفا وله مزاج واحدا ولا يمازجه شيء في الخارج فهو في الباطن العلم اللدني الذي له طعم واحد اذ الأنبياء والأولياء كلهم على قول متحد وان اختلفت المشارب والمناهل فليكن معتمدك في طهورك الظاهري والباطني هذا الماء ، وأما ماء العيون والآبار فهو مختلف الطعم بحسب تلك البقعة والأرض التي خرج منها وامتزج بتربتها فهو العلم المستفاد من الأفكار الصحيحة التي لاتخلو من شائبة التغيّر بحسب مزاج المتفكر لانه ينظر في مواد محسوسة تقوم عليها البراهين، فاختر لنفسك أي الماءين يقرب من ذوقك ويناسب مشربك .. ( انتهى ) .

 

وكأنّ الإمام أطال الله بقاه ينظر إلى كلام هذا العارف في هذا المبحث ولكن شتّان ما بين الكلامين، فتأمّل تعرف .)

إعلم أن للإنسان السالك في الوصول إلى المقصد الأعلى ومقام القرب الربوبي طريقين على نحو كلي أحدهما وله مقام الكلّية والأصالة وهو السير إلى الله بالتوجّه إلى مقام الرحمة المطلقة وخصوصا الرحمة الرحيمية وهي رحمة توصل كل موجود إلى كماله اللائق به، ومن شعب الرحمة الرحيمية ومظاهرها بعث الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم الذين هم هداة السبل والمساعدون للمتأخرين عن السير ، بل إن دار التحقق في نظر أهل المعرفة وأصحاب القلوب هي صورة الرحمة الإلهية، والخلائق دائما مستغرقون في بحار رحمة الحق تعالى ولكنهم لا يستفيدون منها .

فهذا الكتاب العظيم الإلهي الذي نزل من عالم الغيب الإلهي والقرب الربوبي، ولأجل استفادتنا نحن المهجورين وخلاصنا نحن المسجونين في سجن الطبيعة والمغلولين في سلاسل أهواء النفس والآمال وقد صار في صورة اللفظ والكلام هو أحد مظاهر العظيمة للرحمة المطلقة الإلهية، وما استفدنا نحن الصم العمي منه بشيء ولا نستفيد. وان الرسول الخاتم والوليّ المطلق الأكرم الذي شرّفنا وقد من محضر القدس ومحفل القرب والإنس الإلهي إلى هذا المنزل منزل الغربة والوحشة وابتلي بمعاشرة أمثال أبي جهل وشرّ منه مراودته وان أنين ليغان على قلبي منه صلى الله عليه وآله قد أحرق قلوب أهل المعرفة والولاية ويحرقها الآن أيضا هو الرحمة الواسعة والكرامة المطلقة الإلهية التي كان قدومها في هذه الدويرة للرحمة على الموجودات وعلى سكنة العالم الأسفل الأدنى وإخراجهم من هذه الدار دار الغربة والوحشة ، فهو صلى الله عليه وآله كالحمامة المطوقة التي تلقي نفسها إلى الفخ لتنجي رفقاءها منه .

فلابد للسالك إلى الله أن يرى التطهير بماء الرحمة صورة لاستفادته من الرحمة الإلهية النازلة، وما دامت الاستفادة له ميسورة، لابد أن يقوم بأمرها وإذا قصرت يده عنها بسبب القصور الذاتي أو تقصيره وبسبب فقد ماء الرحمة لم يكن له بدّ من التوجّه بذلّه ومسكنته وفقره وفاقته، فإذا جعل ذلّة عبوديته نصب عينيه وتوجّه باضطراره الذاتي وفقره الذاتي وإمكانه الذاتي وخرج من التعزز والغرور وحب النفس ينفتح له باب آخر من الرحمة وتبدل بأرض الطبيعة أرض الرحمة البيضاء ويصير التراب أحد الطهورين ويصير موردا لترحم الحق تعالى وتلطفه ، وكلما قوي هذا النظر في الإنسان أي النظر إلى ذلّة نفسه يكون موردا للرحمة أكثر . وأما إذا أراد الإنسان أن يسلك هذا الطريق بقدم الاعتماد على النفس وعلى عمله فهو هالك لا محالة لأنه من الممكن ألا يؤخذ بيده فمثله كالطفل الذي يتجاسر على المشي ويغتر بقدمه، ويعتمد على قوته ، فمثل هذا الطفل لا يكون موردا لعناية أبيه ويكله الأب إلى نفسه وأما إذا عرض اضطراره وعجزه على جناب الأب الشفيق وخرج عن الاعتماد على نفسه وعلى قوّته بالكلّية فيصير حينئذ موردا لعناية الأب ويأخذ الأب بيده بل يأخذه في حضنه ويمشي به بقدمه فالأحرى بالسالك إلى الله أن يكسر رجل سلوكه وان يستدعي البراءة من الاعتماد على نفسه وارتياضه وعمله بالكلّية وينفى عن نفسه وقدرته وقوّته، ويجعل فناءه واضطراره دائما نصب عينيه حتى يقع دائما موردا للعناية ، فربما يسلك حينئذ طريقا يطول سيره مئة سنة في ليلة واحدة بالجذبة الربوبية , وحينما يفنى عن نفسه وقوته وقدرته ويقول في محضر القدس الربوبي بلسان باطنه وحاله بالعجز والافتقار: "أمّن يجيب المضّطر إذا دعـاه ويكشف السوء". ( النمل - 61 )