الفصل الثالث

في الآداب القلبية للسالك حينما يتوجه إلى الماء للطهارة

ونذكر في المقام الحديث الشريف لمصباح الشريعة كي يحصل للقلوب الصافية لأهل الإيمان منه نورانية .

ففي مصباح الشريعة قال الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أردت الطهارة والوضوء فتقدم إلى الماء تقدمك إلى رحمة الله فإن الله قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته ودليلاً على بساط خدمته ، وكما أن رحمة الله تطهّر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غير"، قال الله تعالى: "وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء مـاء طهورا " (الفرقان 48 ). وقال الله تعالى: "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ أفلا يؤمنون" (الأنبياء 30) . فكما يحيي به كل شيء من نعيم الدنيا كذلك برحمته وفضله جعل حياة القلوب الطاعات. وتفكر في صفاء الماء ورقّته وطهارته وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها ، وات بآدابها في فرائضه وسننه فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة، فإذا استعملها بالحرمة انفجرت لك عيون فوائده عن قريب ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالأشياء يؤدي كل شيء حقّه ولا يتغير معناه معتبرا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله مثل المؤمن المخلص الخالص كمثل الماء ، ولتكن صفوتك مع الله تعالى في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السماء وسمّاه طهورا وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء " .

وفي هذا الحديث لطائف ودقائق وإشارات وحقائق تحيي قلوب أهل المعرفة وتعطي الأرواح الصافية لأصحاب القلوب حياة جديدة . ففي هذا الحديث شبه الماء بل أوله إلى رحمة الحق فمن نكات هذا التشبيه أو التأويل أن الماء أحد المظاهر العظيمة لرحمة الحق التي أنزلها في عالم الطبيعة وجعلها سببا لحياة الموجودات بل أهل المعرفة يعبّرون بالماء عن الرحمة الواسعة الالهية التي نزلت من السماء رفيعة الدرجات لحضرة الأسماء والصفات فأحيا بها أراضي التعيّنات للأعيان. وحيث أن تجلّي الرحمة الواسعة الاهية في الماء الملكي الظاهري أكثر من سائر الموجودات الدنيوية جعله الله تعالى لتطهير القذارات الصورية بل ماء الرحمة للحق تعالى اذا نزل وظهر في كل نشأة من نشآت الوجود وفي كل مشهد من مشاهد الغيب والشهود يطهّر ذنوب عباد الله وفقا لتلك النشأة وبما يناسب ذلك العالم .

فماء الرحمة النازل من سماء الاحدية تطهر ذنوب غيبة تعينات الأعيان، وبماء الرحمة الواسعة النازلة من سماء الواحدية تطهر ذنوب عدمية الماهيات الخارجية في كل مرتبة من مراتب الوجود طبقا لتلك المرتبة ، وفي مراتب نشآت الإنسانية أيضا لماء الرحمة ظهورات مختلفة كما أنه بالماء النازل من حضرة الذات بالتعينات الجمعية البرزخية تطهر ذنوب سر الوجود " وجودك ذنب لا يقاس به ذنب " وبالماء النازل من حضرات الأسماء والصفات وحضرة التجلي الفعلي تطهر رؤية الصفة والفعل وبالماء النازل من سماء الحضرة الحكم العدل تطهر القذارات الخلقية الباطنية ، وبالماء النازل من سماء الحضرة الحكم العدل تطهر القذارات الخلقية الباطنية، وبالماء النازل من سماء الغفارية تطهر ذنوب العباد ، وبالماء النازل من سماء الملكوت تطهر القذارات الصورية ، فعلم أن الحق تعالى جعل الماء مفتاح قربه ودليل بساط رحمته ثم يعين عليه السلام في الحديث الشريف وظيفة أخرى ويفتح طريقا آخر لأهل السلوك والمراقبة .

يقول عليه السلام: " تفكَّرْ في صفاء الماء ورقته وطهره وبركته ولطيف امتزاجه بكل شيء واستعمله في تطهير الأعضاء التي أمرك الله بتطهيرها وائت بآدابها في فرائضه وسننه فإن تحت كل واحدة منها فوائد كثيرة فإذا استعملتها بالحرمة انفجرت لـك عيون فوائـده عن قريب ".

أشار عليه السلام في هذا الحديث الشريف إلى مراتب الطهارة بالطريق الكلية وبيّن أربع مراتب كليّة احدها ما ذكر في الحديث الشريف إلى حد الذي ذكرناه وهو تطهير الأعضاء، وأشار عليه السلام إلى أنّ أهل المراقبة والسلوك إلى الله يلزم إلا يتوقّفوا عند صور الأشياء وظواهرها بل لابدّ أن يجعلوا الظاهر مرآة للباطن ويستكشفوا من الصور الحقائق ولا يقنعوا بالتطهير الصوري فإن القناعة بالتطهير الصوري فخّ إبليس فينتقلوا من صفاء الماء إلى تصفية الأعضاء ويصفونها بأداء الفرائض والسنن الإلهية ويرققون الأعضاء برقة الفرائض والسنن ويخرجونها من غلظة التعصي ويسرون الطهور والبركة في جميع الأعضاء ويدركون من لطف امتزاج الماء بالأشياء كيفية امتزاج القوى الملكوتية الإلهية بعالم الطبيعة ولا يدعون القذارات الطبيعية تؤثّر فيها فإذا تلبست أعضاؤهم بالسنن والفرائض الإلهية وآدابها تظهر فوائدها الباطنية بالتدريج وتنفجر عيون الأسرار الإلهية وتنكشف لهم لمحة من أسرار العبادة والطهارة .

ولما فرغ عليه السلام من بيان المرتبة الاولى من الطهارة وكيفية تحصيلها شرع في بيان الوظيفة الثانية وقال : ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالاشياء يؤدي كل شيء حقه ولا يتغّير عن معناه معتبرا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله " مثل المؤمن المخلص (الخالص) كمثل الماء " فبيّن عليه السلام في الحكم الأول ما يربط بتعامل الإنسان السالك مع قواه الداخلية وأعضائه ، والحكم الثاني الذي هو في هذه الفقرة من الحديث الشريف يرتبط بتعامل الإنسان مع خلق الله وهذا هو حكم جامع يبيّن كيفية معاشرة السالك للمخلوق ويستفاد منه ضمنا حقيقة الخلوة وهي أن السالك إلى الله في نفس الحال الذي يعاشر كل طائفة من الناس بالمعروف ويرد الحقوق الخلقية ويراود كل أحد ويعامله بطور يناسب حاله فهو في الوقت نفسه لا يتجاوز عن الحقوق الإلهية ولا يترك المعنى من نفسه وهو العبادة والعبودية والتوجّه إلى الحق وفي نفس الحال التي يكون فيها في الكثرة يكون في الخلوة وقلبه الذي هو منزل المحبوب خاليا من الاغيار وفارغا من كل صورة ومثال. (أقول: وقد أشير إلى هذا المعنى في كثير من الأحاديث، ففي نهج البلاغة لعلي عليه السلام في خطبته المعروفة التي يصف فيها المتقين قال (ع): "إن كان من الغافلين كتب الذاكرين وان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين " وفي الكافي الشريف روايات متقاربة المضمون: إن الله سبحانه أوحى لموسى بن عمران: "يابن عمران لاتدع ذكري على كل حال" . وقال الصادق عليه السلام: قال الله تعالى "يابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي" . إلى أن قال " اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك" .

وقال "ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس إلا ذكره الله في ملأ من الملائكة " وأيضا في الكافي الشريف عن الصادق عليه السلام قال: "الذاكر لله عز وجل في الغافلين كالمقاتل في المحاربين الغازين".)

ثم ذكر عليه السلام الحكم الثالث وهو كيفية تعامل السالك مع الحق تعالى، يقول: "ولتكن صفوتك مع الله في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السناء وسمّاه طهورا" يعني يلزم للسالك إلى الله أن يكون خالصا من تصرف الطبيعة ولا يكون لكدورتها وظلمتها طريق إلى قلبه ، وتكون جميع عباداته خالية عن جميع الشرك الظاهري والباطني ، وكما أن الماء في وقت نزوله من السماء طاهر وطهور وما امتدّت إليه يد تصرف القذارات كذلك قلب السالك الذي نزل من سماء عالم غيب الملكوت طاهراً ومنزّهاً لا يتركه يقع تحت تصرّف الشيطان والطبيعة ويتلوث بالقذارات .

وبعد هذا بين عليه السلام الحكم الاخير وهو وظيفة لأهل الرياضة والسلوك ويقول : " وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند تطهير جوارحك بالماء " وفي هذا إشارة إلى مقامين شامخين لأهل المعرفة .

الأول: التقوى وكماله ترك غير الحق.

والثاني: اليقين وكماله مشاهدة حضور المحبوب .