المقالة الثانية

 

في مقدمات الصلاة

 

 وفيها

 

خمسة أبواب

 

الباب الأول

 

في التطهيرات والوضوء وآدابهما

 

 وفيه سبعة فصول

 

الفصل الأول

 

في التطهيرات الثلاثة

 

كما أشرنا سابقا أن للصلاة غير هذه الصورة لحقيقة ، وغير هذا الظاهر لباطنا ، فكما أن لظاهرها آدابا وشروطا صورية وكذلك لباطنها أيضا آدابك وشروطك ولا بد للسالك من مراعاتها فللطهارة الصورية آداب وشروط صورية خارج بيانها عن وظيفة هذه الأوراق ، وفقهاء الجعفرية أعلى الله كلمتهم ورفع الله درجتهم قد بيّنوها . وأما الآداب الباطنية والطهور الباطني فنحن نبيّنها على نحو الاجمال .

فليعلم أنه طالما كانت حقيقة الصلاة هي العروج إلى مقام القرب والوصول إلى مقام حضور الحق جلّ وعلا فللوصول إلى المقصد الأعلى والغاية القصوى يلزم طهارات غير هذه الطهارات ، وأشواك هذا الطريق وموانع هذا العروج هي قذارات لا يتمكن السالك مع اتصافه بإحدى تلك القذارات من الصعود إلى هذه المرقاة والعروج بهذا المعراج وما يكون من قبيل تلك القذارت فهو موانع الصلاة ورجس الشيطان وما يكون معينا للسالك في السير ، ومن آداب الحضور فهو من شروط هذه الحقيقة ويلزم للسالك إلى الله في بداية الأمر رفع الموانع أولا كي يتّصف بالطهارة ويتيسّر له الطهور الذي هو من عالم النور ، وما دام السالك لم يتطهّر من جميع القذارات الظاهرية والباطنية والعلنيّة والسرية لا يكون له أي حظ من المحضر والحضور .

فأول مرتبة من مراتب القذارات هي تلوّث الآلات والقوى الظاهرية للنفس بلوث المعاصي وتقذرها بقذارة المعصية لوليّ النعم ، وهذه هي الشبكة الصورية لإبليس ، وما دام الإنسان مبتلى بهذه الشبكة فهو عن فيض المحضر وحصول القرب الالهي محروم ولا يظنّن أحد أنه يمكن أن يرقى إلى مقام حقيقة الإنسانية من دون تطهير ظاهر مملكة الإنسانية، أو انه يستطيع ان يطهّر باطن قلبه من دون تطهير ظاهره ، وهذا الظّن غرور من الشيطان ومن مكائده العظيمة وذلك لان الكدورات والظلمات القلبية تزداد بالمعاصي التي هي غلبة الطبيعة على الروحانية ، وما دام السالك ما افتتح المملكة الظاهرية فهو محروم بالكلية من الفتوحات الباطنية التي هي المقصد الأعلى ولا ينفتح له طريق إلى السعادة ، فأحد الموانع الكبيرة لهذا السلوك هو قذارات المعاصي التي لابدّ أن تطهّر بماء التوبة النصوح الطاهر الطهور ، وليعلم ان جميع القوى الظاهرية والباطنية التي أعطانا الله إياها وأنزلها من عالم الغيب هي أمانات إلهية كانت طاهرة عن جميع القذارات وكانت طاهرة مطهّرة بل كانت متنورة بنور الفطرة الإلهية وبعيدة عن ظلمة تصرّف إبليس وكدورته ، فلما نزلت إلى ظلمات عالم الطبيعة وامتدت يد تصرّف شيطان الواهمة ويد الخيانة الابليسية إليها خرجت عن الطهارة الأصلية والفطرة الأولية وتلوّثت بأنواع القذارات والارجاس الشيطانية . فالسالك إلى الله إذا تمسك بذيل عناية ولّي الله وأبعدها عن أن تتناولها يد الشيطان وطهّر المملكة الظاهرية وردّ الأمانات الإلهية كما أخذها فهو ما خان الأمانة حينئذ وان صدرت منه خيانة فهو مورد للغفران والستارية فيستريح خاطره من ناحية الظاهر ويقوم بتخلية الباطن من أرجاس الأخلاق الفاسدة وهذه هي المرتبة الثانية من القذارات التي فسادها أكثر وعلاجها أصعب ، وعند أصحاب الارتياض أهم لأنه ما دام الخلق الباطني للنفس فاسدا والقذارات المعنوية محيطة بها لا تليق بمقام القدس وخلوة الأنس بل مبدأ فساد المملكة الظاهرية للنفس هو الأخلاق الفاسدة والملكات الخبيثة لها وما دام السالك لم يبدّل بالملكات السيئة الملكات الحسنة فليس مأمونا عن شرور الأعمال . واذا وُفّق للتوبة والاستقامة عليها التي هي من المهمات لا تتيسّر له . فتطهير الظاهر ايضا متوقف على تطهير الباطن مضافا إلى أن القذارات الباطنية موجبة للحرمان من السعادة ومنشأ لجهنم الاخلاق التي هي كما يقول " أهل المعرفة " أشدّ حرّاً من جهنم الاعمال ، وقد أشير كثيراً إلى هذا المعنى في أخبار أحاديث أهل بيت العصمة . فيلزم السالك إلى الله هذه الطهارة ايضا .

وبعد أن غُسل عن روح النفس التلوث بالأخلاق الفاسدة بماء العلم النافع الطاهر الطهور وبارتياض شرعي صالخ يشتغل حينئذ بتطهير القلب الذي هو أم القرى وبصلاحه تصلح المملكة وبفساده تفسد كلها . وقذارات عالم القلب مبدأ القذارات كلها وهي عبارة عن تعلّقه بغير الحق وتوجّهه إلى نفسه إلى العالم ، ومنشؤها جميعا حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة وحبّ النفس الذي هو أمّ الأمراض . وما دامت جذور هذه المحبة في قلب السالك لا يحصل فيها أثر من محبة الله ولا يهتدي طريقا إلى منزل المقصد والمقصود ، ومادام للسالك في قلبه بقايا من هذه المحبة لم يكن سيره إلى الله بل يكون سيره إلى النفس و إلى الدنيا و إلى الشيطان، فالتطهير عن حب النفس والدنيا هو أول مرتبة تطهير السلوك إلى الله في الحقيقة لانه قبل هذا التطهير ليس السلوك سلوكا وانما يطلق السلوك والسالك على سبيل المسامحة ( وقال بعض علماء الاخرة في المقام بعد ذكر بعض الآيات والروايات فتفطّن ذوو البصائر بهذه الظواهر ، إن أهم الامور تطهير السرائر اذ يبعد ان يكون المراد بقوله صلى الله عليه وآله : " الطهور نصف الإيمان " عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإنقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحونا بالاخباث والقذارات هيهات هيهات .. ثم قال : والطهارة لها أربع مراتب . المرتبة الأولى : تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الاخباث والفضلات . المرتبة الثانية : تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام . المرتبة الثالثة : تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة . المرتبة الرابعة : تطهير السرّ عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصدّيقين . والطهارة في كل مرتبة نصف العمل الذي هو فيها فان الغاية القصوى من عمل السرّ أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحلّ معرفة الله تعالى بالحقيقة في السرّ ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه . ولذلك قال الله تعالى : " قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون " ( الأنعام 91 ) .. لأنهما لا يجتمعان في قلب واحد . " وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " ( الأحزاب 4 ) وأما عمل القلب والغاية القصوى فيه عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ، ولن يتّصف بها ما لم ينظّف من نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة، فتطهيره أحد الشطرين، وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى، وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني ، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني .

فهذه مقامات الايمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية الا أن يجاوز الطبقة السافلة فلا يصل إلى طهارة السر من الصفات المذمومة وعمارته بالخلق المحمود ، ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ من طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات وكلما عزّ المطلوب وشرف ، صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته . فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى .

 

انتهى موضع الحاجة من كلامه أقول :

ومن طلب العلى سهر الليالى ) ومن وراء هذا المنزل منازل البلاد السبعة لعشق العطار يظهر النموذج منها للسالك وذاك القائل رأى نفسه في أول منعطف من زقاقها ( إشارة إلى الشعر المعروف للعارفي الرومي يقول فيه :

هفت شعر عشق را عطّار كَشت ماهنوزاندرخم يك كوجه ايم

يعنى أن عطّار النيشابوري ( العارف المعروف ) سار ودار في المدن السبعة التي هي مدن العشق وبلاده ولكنّا مع الأسف إلى الآن لم نتجاوز من منعطف زقاق واحد لتلك المدن .) ونحن وراء الأسوار والحجب الضخمة ونحسب تلك البلاد وحكامها من الأساطير .

أنا لست أركز على الشيخ العطار (هو فريد الدين محمد بن إبراهيم النيسابوري المعروف بالشيخ العطّار صاحب الأشعار والمصنّفات في التوحيد والحقايق والمعارف وله أشعار في مدح مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وفي ذمّ الدذيا . توفي سنة 427 ( خكز ) بعد عمر طويل وقيل أنّه قُتل في فتنة التتر وقبره خارج نيسابور معروف . وميثم التمّار الصحابي المعروف .) أو على ميثم التمّار ولكن لا أنكر المقامات من أصلها وأتطلب صاحبها بالقلب والروح وأرجو الفرج لهذه المحبة وأنت كن كما شئت واتصل مع من شئت :

مدّعي خواست كه آيد بتماشاكه راز

دست غيب آمد وبرسينه نا محرم زد ( البيت للعارف الحافظ الشيرازي يقول :

أراد المدّعي أن يدخل منتزه السرّ فظهرت اليد الغيبية وضربت في صدر المدعي وردّه عن الورود لأنه ما كان محرماً للسرّ . فبيّن أن من شروط الدخول في حرم سرّ الله رفض الدعوى وترك الأنانية .)

ولكن لم أكن خائنا للأحباء العرفانيين في الأخوة الإيمانية ولا أضيق بالنصيحة لهم التي هي من حقوق المؤمنين .

فإن أعظم القذارات المعنوية التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحر وأعجزت الأنبياء العظام هي قذارة الجهل المركب الذي هو منشأ الداء العضال إلا وهو إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ لأصحاب القلوب، وما دام الإنسان ملوّثا بهذه القذارة لا يتقدّم خطوة إلى المعارف بل ربما تطفئ هذه الكدورة نور الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية وينطفئ بها نار العشق التي هي براق العروج إلى المقامات ويخلّد الإنسان في أرض الطبيعة ، فاللازم على الإنسان أن يغسل هذه القذارات عن باطن القلب بالتفكر في حال الأنبياء والأولياء الكمل صلوات الله عليهم وتذكر مقاماتهم و الاّ يقنع بالحدّ الذي هو فيه فإن الوقوف على الحدود والقناعة في المعارف ، من التلبيسات العظيمة لإبليس والنفس الأمارة نعوذ بالله منها، وحيث أن هذه الرسالة كتبت على وفق ذوق العامة فقد أمسكنا عن التطهيرات الثلاثة للأولياء والحمد لله . ( بالاستئذان من حضرة الأستاذ أشير إلى التطهيرات الثلاثة للأولياء وأن كان لا يخلو عن التجاسر وسوء الأدب عند أرباب المعنى .

فأقول: المرتبة الأولى من التطهيرات الثلاثة للأولياء تطهير الأعضاء والجوارح من الأعمال والأفعال البشرية، وهذا التطهير هو نتيجة قرب النوافل كما في الحديث المتفق عليه " لا يزال يتقرّب إلي عبدي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت أنا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها " .

فالسالك الكامل الواصل إذا خرج من بيت النفس المظلم وطوى عالم النفس بالكلية واندك جبل إنّيّته وأنانيته بتجلي الأنوار الربوبية وخرق الحجب النورانية والظلمانية يتجلى الحق تعالى في وجوده فيسمع بالحق ولا يسمع غير الحق ويبصر بالحق ولا يبصر سوى الحق ويبطش بالحق ولا يصدر منه إلا الحق وينطق بالحق ولا ينطق إلا الحق .

فإذا تمكن في هذا المقام وتقرّب إلى الله سبحانه بقدر استعداده فتحصل له المرتبة الثانية من التطهير وهو التطهير من الصفات الخلقية فالجذبات الإلهية الرحمانية تجذبه ويأنس بنار العشق من جانب طور تجلّي الأسماء فتقربه من بساط الأنس، فإن جذبه من جذبات الرحمان توازن عمل الثقلين كما في الحديث ويكون كالحديدة المحماة كما في الحديث أيضاً ، فكلما يتكمن من القرب يتأدّب بالآداب الربوبية المستفادة من قوله صلى الله عليه وآله " أدّبني ربي فأحسن تأديبي " . فتكمل فيه الصفات والملكات الخلقية وتصل جوهرة العبودية إلى كنها وتختفي العبودية وتظهر الربوبية وتتحقق بحقيقة " وتخلّقوا بأخلاق الله". ثم في منتهى قرب النوافل يصل إلى المرتبة الثالثة من التطهير وهي تطهير الذات وكشف سبحات الجلال ويحصل الفناء الكلّي والصعق التام والاضمحلال المطلق والتلاشي التام ويصير القلب إلهيا ولاهوتيا وتتجلى حضرة اللاهوت في مراتب الباطن والظاهر فيصل على معدن العظمة ويصير روحه معلقا بعزّ القدس كما أشار عليه السلام في المناجاة الشعبانية: "الهي هب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرنا إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور وتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك" . فعند ذلك يكون وجوده حقانيا ، والحق تعالى يشاهد الموجودات في مرآة وجوده ، وإذا كان إنسانا كاملا فيوافق المشيئة المطلقة ، كما ورد في زيارة الأولياء الكمّل "إرادة الربّ في مقادير أموره تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم" وتكون روحانية عين مقام الظهور الفعلي للحق تعالى كما قال علي عليه السلام: "نحن صنائع الله والخلق بعد صنائعنا" فيه يبصر الحق تعالى وبه يسمع وبه يبطش كما في زيارة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : " السلام على عين الله الناظرة وأذنه الواعية ويده الباسطة السلام على جنب الله الرضي ووجهه المضيء " وربما تستفاد هذه اللطيفة الربانية من حديث قرب النوافل : " كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به .. إلى آخره .. " فليتدبّر .. وفي دعاء رجب : " لا فرق بينك وبينها الا أنهم عبادك وخلقك " .

وليعلم أنه يمكن تطهير الفطرة بعد تلوثها . وما دام الإنسان في هذه النشأة فالخروج من تصرّف الشيطان له مقدور وميسور ، والورود في حزب ملائكة الله التي هي جنود رحمانية الهية له ميسّر . وحقيقة جهاد أعداء الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الخروج من تصرف جنود إبليس والورود تحت تصرّف جنود الله ، فأول مرتبة الطهارة هي التسنّن بالسنن الإلهية والائتمار بأوامر الحق .

والمرتبة الثانية هي التحلي بفضائل الأخلاق وفواضل الملكات . والمرتبة الثالثة هي الطهور القلبي وهو عبارة عن تسليم القلب إلى الحق تعالى ، وبعد هذا التسليم يصير القلب نورانيا بل يكون القلب نفسه من عالم النور ومن درجات النور الإلهي ، ويسري نور القلب إلى سائر الأعضاء والجوارح والقوى الباطنية وتكون المملكة كلها نورا ونورا على نور وينتهي الامر إلى حد يكون القلب إلهيا ولاهوتيا ، وتتجلى حضرة اللاهوت في جميع مراتب الباطن والظاهر، وفي هذه الحال تفنى العبودية كل الفناء وتختفي ، فتظهر الربوبية وتبين . ويحصل لقلب السالك في هذه الحال الطمأنينة والأنس ويصير جميع العوامل محبوبا له وتحصل له الجذبات الإلهية وتغفر له الخطايا والزلاّت وتستتر في ظلّ التجلّيات الحبّيّة وتحصل له بدايات الولاية ويليق بالورود على محضر الأنس، وللسالك بعد هذا منازل لا يناسب هذه الأوراق ذكرها .)