المقالة الأولى

في الآداب التي تكون ضرورية في جميع الحالات الصلاتية

بل في جميع العبادات والمناسك

 

وفيها اثنا عشر فصلاً

 

الفصل الأول

في التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية

من الآداب القلبية في العبادات والوظائف الباطنية لسالك طريق الآخرة التوجّه إلى عزّ الربوبية وذلّ العبودية، وهذا التوجّه من المنازل المهمّة في السلوك للسالك بحيث تكون قوّة سلوك كل من السالكين بحسب قوة هذا النظر وبمقدارها، بل الكمال والنقص لإنسانية الإنسان تابع لهذا الأمر، وكلما كان النظر إلى الإنّية والأنانية ورؤية النفس وحبّها في الإنسان غالبا كان بعيدا عن كمال الإنسانية ومهجورا من مقام القرب الربوبي، وأن حجاب رؤية النفس وعبادتها لأضخم الحجب وأظلمها، وخرق هذا الحجاب أصعب من خرق جميع الحجب، وفي نفس الحال مقدمة له بل وخرق هذا الحجاب هو مفتاح مفاتيح الغيب والشهادة وباب أبواب العروج إلى كمال الروحانية، وما دام الإنسان قاصرا على النظر إلى نفسه وكماله المتوهم وجماله الموهوم فهو محجوب ومهجور من الجمال المطلق والكمال الصرف والخروج من هذا المنزل هو أول شرط للسلوك إلى الله بل هو الميزان في حقانية الرياضة وبطلانها. فكل سالك يسلك بخطوة الأنانية ورؤية النفس ويطوي منازل السلوك في حجاب الإنيّة وحب النفس تكون رياضته باطلة

ولا يكون سلوكه إلى الله بل إلى النفس (أمّ الأصنام صنم نفسك) (مصراع بيت للعارف الرومي مشهور: مادر بت ها بت نفس شما است) قال تعالى: "{ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} . ( النساء 100 )

فالهجرة الصورية وصورة الهجرة عبارة عن هجرة البدن "المنزل الصوري" إلى الكعبة أو إلى مشاهد الأولياء، والهجرة المعنوية هي الخروج من بيت النفس ومنزل الدنيا إلى الله ورسوله، والهجرة إلى الرسول وإلى الوليّ أيضاً هجرة إلى الله، وما دام للسالك تعلّق ما بنفسانيّته وتوجّه منه إلى إنّيّته فليس هو بمسافر وما دامت البقايا من الأنانية على امتداد نظر السالك وجدران مدينة النفس وأذان أعلام حبّ النفس غير مختفية فهو في حكم الحاضر لا المسافر ولا المهاجر .

وفي مصباح الشريعة قال الصادق (ع): ( العبودية جوهرة كنهها الربوبية فما فقد في العبودية وجد في الربوبية، وما خفي من الربوبية أصيب في العبودية ) .

فمن سعى بخطوة العبودية ووسم ناصيته بسمة ذلة العبودية يصل إلى عزّ الربوبية، والطريق للوصول إلى الحقائق الربوبية هو السير في مدارج العبودية فما فقد من الإنّيّة والأنانية في عبوديّته يجده في ظّل الحماية الربوبية حتى يصل إلى مقام يكون الحق تعالى سمعه وبصره ويده ورجله كما في الحديث الصحيح المشهور عند الفريقين. فإذا ترك العبد التصرفات من عنده وسلم حكومة وجوده كلها إلى الحق وخلّى بين البيت وصاحبه وفني في عزّ الربوبية فحينئذ يكون المتصرف في الدار صاحبها فتصير تصرفات العبد تصرّفا إلهيا، فيكون بصره بصراً إلهياً وينظر ببصر الحق ويكون سمعه سمعاً إلهياً فيسمع بسمع الحق، وكلما اكتملت ربوبية النفس وكان عزّها

منظورا في نظرها نقص بمقدار من العزّ الربوبي لأن هذين: أي عزّ العبودية وعز الربوبية متقابلان "الدنيا والآخرة ضرتان" فمن الضروري للسالك أن يتفطّن إلى ذلّه ويكون ذلّ العبودية وعزّ الربوبية نصب عينيه .

وكلما قوي هذا النظر زادت روحانيته في العبادة وكانت روح العبادة أقوى، حتى إذا تمكن العبد بنصرة الحق وأوليائه الكُمّل عليهم السلام من الوصول إلى حقيقة العبودية، وكنهها فإنه يجد حينئذ لمحة من سرّ العبادة. وهذان المقامان - أعني مقام عزّ الربوبية الذي هو الحقيقة ومقام ذلّ العبودية الذي هو رقيقته - مرموزان في جميع العبادات وبالأخص في الصلاة التي لها مقام الجامعية. ومنزلتها بين العبادات منزلة الإنسان الكامل ومنزلة الإسم الأعظم بل هي عينه، وللقنوت، من الأعمال المستحبة. وللسجدة، من الأعمال الواجبة اختصاص بهذه الخصوصية وسنشير إليها فيما يأتي إن شاء الله .

وليعلم أن العبودية المطلقة من أعلى مراتب الكمال وأرفع مراتب الكمال وأرفع مقامات الإنسانية وليس لأحد فيها نصيب سوى الأكمل من خلق الله محمد صلى الله عليه وآله وأولياء الله الكمّل، فله صلى الله عليه وآله هذا المقام بالأصالة وللأولياء الكمّل بالتبعية وأما بقية العباد فهم في طريق العبادة عُرج وعبادتهم وعبوديّتهم معلّلة ولا ينال المعراج الحقيقي المطلق إلا بقدم العبودية ولهذا قال الله سبحانه: {سبحان الذي أسرى بعبده} (الإسراء 1) فقد أسرى الله سبحانه بتلك الذات المقدسة إلى معراج القرب والوصول بقدم العبودية والجذبة الربوبية .

وفي التشهد الصلاتي هو رجوع من الفناء المطلق الذي حصل للمصلّي في السجدة، التوجّه إلى العبودية أيضاً قبل التوجه بالرسالة

ويمكن أن يكون إشارة إلى مقام الرسالة هو أيضا نتيجة لجوهرة العبودية ولهذا المطلب ذيل طويل خارج عن نطاق هذه الأوراق .