العاشر مما عد من الأنفال كل أرض باد أهلها:

والمراد بها ـ كما يدل عليه عنوانها ـ أنه إذا كانت أرض تحت يد أحد أو جمع وكانوا يستفيدون منها ثم ماتوا وهلكوا فأرضهم من الأنفال وملك للإمام ولي أمر المسلمين.

فلا تختص بأرض أهل الحرب بل إن المسلمين أو الكفار من أهل الذمة مثلاً الذين يعيشون تحت لواء الإسلام وفي البلاد الإسلامية إذا ماتوا وبقيت أرضهم فهي من الأنفال وملك للإمام (عليه السلام).

وقد ذكرها من الأنفال شيخ الطائفة في النهاية والجمل والعقود[1] وابن حمزة في الوسيلة[2] وابن إدريس في السرائر[3] والكيدري في إصباح الشيعة[4] والعلامة في التذكرة[5] وكلهم عبروا عنها بكل أرض خربة باد أهلها. كما ذكرها منها ابن البراج في المهذب[6] والشهيد في الدروس[7] معبّرين «بكل أرض باد أهلها» في المهذّب و «بالأرض التي باد أهلها» في الدروس ـ .

فهذه أقوال جمع من أعاظم الأصحاب وقفت عليها، إلا أن كلام غيرهم فيما وقفت خال عنها.

وعليه فمقتضى كلام مَن لم يعدّها أنها إذا كانت عامرة فهي لوارثهم إلا أن لا يكون لهم وارث فحينئذ ـ بمقتضى كونها ميراث من لا وارث له ـ تكون من الأنفال وملكاً للإمام، وإذا صارت خربة ومواتاً بالعرض تكون من الأنفال بناءاً على أن كل أرض موات وخربة من الأنفال ـ كما مر ـ وهي شاملة للموات بالعرض أيضاً.

وهذا الذي تقتضيه كلماتهم هو مقتضى القواعد أيضاً، فالقول بكونها مطلقاً من الأنفال يحتاج إلى دليل معتبر خاص.

وما يمكن الاستدلال به عدة من الأخبار:

1ـ فمنها قوله (عليه السلام) في مرسل حماد بن عيسى الطويل: وله ـ يعني الإمام ـ بعد الأنفال الخمس، والأنفال كل أرض خربة باد أهلها[8].

وهو كما ترى واضح الدلالة على أن كل أرض خربة من الأنفال من غير اختصاص لها بما تفتح وتؤخذ من أهل الحرب فتعم ما كانت في بلاد الإسلام أيضاً، إلا أن موضوعه الخربة التي تكون داخلاً في عنوان الموات ولا تكون عنواناً برأسه.

2ـ ومنها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن الأنفال: فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل... الحديث[9].

فقد حكم بأن كل قرية هلك أهلها من الأنفال، ومن الواضح أن القرية شاملة للأراضي العامرة أيضاً، فدلالته تامة، إلا أن سنده ضعيف بإسماعيل بن سهل.

3ـ ومثله ما في تفسير العياشي عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته أو سئل عن الأنفال فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل، نصفها يقسّم بين الناس ونصفها للرسول (صلى الله عليه وآله)[10].

وهو في الدلالة مثل رواية محمّد بن مسلم ولا يضر بتمامية دلالتهما اشتمال ذيلهما على أن نصف الأنفال فقط للرسول (صلى الله عليه وآله) ونصفها الآخر للناس، وهو لم يقل به أحد كما مر، وذلك أنه إيراد على الذيل ولا يوجب خدشة في تمامية دلالة الصدر ولا في جواز الأخذ بالصدر. إلا أنه مرسل كما هو المتعارف في أخبار تفسير العياشي.

4ـ ومنها ما في التهذيب عن محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال، فقال: ما كان من الأرضين باد أهلها، وفي  غير ذلك الأنفال هو لنا...[11].

ودلالته أيضاً تامة إلا أن في السند أبا جميلة المفضّل بن صالح وهو ضعيف كذاب.

5ـ ومنها خبر آخر في تفسير العياشي عن حريز عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال فقال: كل ما كان من أرض باد أهلها فذلك الأنفال فهو لنا[12]. ودلالته أيضاً كما ترى تامة إلا أنه أيضاً ضعيف السند بالإرسال.

6ـ ومنها ما أرسله العياشي عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لنا الأنفال، قلت: وما الأنفال؟ قال: منها المعادن والآجام، وكل أرض لا رب لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا[13].

ودلالته أيضاً تامة إلا أن سنده أيضاً ضعيف بالإرسال.

فقد تحصّل مما مرّ: أن الدليل على أن كل أرض أو قرية باد أهلها بقول مطلق من الأنفال هو هذه الروايات الخمسة الضعيفة الإسناد، وقد عرفت أن من تعرّض من الأصحاب أن الأرض التي باد أهلها من الأنفال فقد قيّدها بالخربة التي كان مقتضى الأدلة الدالة على أن الموات من الأنفال شمولها لها. نعم كانت عبارة القاضي بن البراج في المهذّب والشهيد في الدروس بلا قيد، ومن الواضح أن عمل هذين الجليلين لا يجبر ضعف إسناد هذه الأخبار بل ربما ينقدح في الذهن إعراض الأصحاب عن القول بمفادها، فالظاهر عدم تمامية الدليل على عد الأرض التي باد أهلها من الأنفال.

 

الحادي عشر مما عد من الأنفال كل أرض جلا عنها أهلها:

والمراد بها ما كانت كذلك وإن كانت من الأراضي الواقعة في بلاد الإسلام بيد المسلمين أو أهل الذمة الذين يعيشون تحت لواء الإسلام، فإذا تركوا أرضهم وجلوا عنها صارت أرضهم من الأنفال وملكاً للإمام. وواضح أن أرضهم التي كانت بأيديهم أرض عامرة، فاتضح الفرق بين هذا العنوان وبين أرض الخربة والموات أو الأرض التي تؤخذ من الكفار أهل الحرب من دون أن يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وكيف كان فقد عدّها بهذا العنوان من الأنفال ابن حمزة في الوسيلة[14] وابن زهرة في الغنية[15] وابن إدريس في السرائر[16] والقاضي بن البرّاج في المهذب[17] والعلامة في خمس التذكرة[18] والشهيد في الدروس[19].

وقد ذكرها جمع، آخر أيضاً كمصداق لما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب كالكيدري في إصباح الشيعة[20] والعلامة في القواعد[21] إلا أنا لم نعدّهم ممن جعل الأرض التي جلا عنها أهلها من الأنفال، لإمكان الشبهة في إرادة الإطلاق في كلامهم واحتمال اختصاصه بخصوص ما يؤخذ من الكفار.

ثم إن الكلام هنا تارةً عن مقتضى القواعد الأولية، وأخرى عن الأدلة الخاصة.

والقواعد الأولية تقتضي أن تكون هذه الأرض في عداد ما يعرض المالك عنها فيجوز لكل أحد التصرف فيها أو تملّكها، فإن الجلاء بالمرة عنها إعراضٌ ورفع يد عنها، ولا محالة لا منع من ناحية من كان مالكاً لها عن التصرف فيها، نعم إن فرض أنهم لم يجلوا عنها بالمرة فمقتضى الاستصحاب بل  عموم مثل قولهم (عليهم السلام): «لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفسه» عدم جواز تصرف أحد فيها إلا لمن أذن المالك له.

وأما الأدلة الخاصة فما ربما يمكن الاستدلال بها على أن هذه الأرض من الأنفال طائفتان من الأخبار:

الطائفة الأولى: ما تدل على أن كل أرض جلا عنها أهلها من الأنفال بلا ذكر قيد لها، وهي عدة أخبار:

1ـ فمنها ما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن حماد بن حريز عن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يقول الله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾؟ قال: الأنفال لله والرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب، فهي نفل الله وللرسول[22].

وسند الحديث من ابن فضال إلى الإمام (عليه السلام) كما ترى معتبر، والشيخ (رحمه الله) قد رواه عن أصل علي بن الحسن بن فضال، وقال في الفهرست في ترجمة ابن فضال بعد توثيقه وذكر كتبه: «أخبرنا بجميع كتبه قراءةً عليه أكثرها والباقي إجازة أحمد بن عبدون عن علي بن محمّد بن الزبير سماعاً وإجازة عنه. ونحوه في مشيخة التهذيب».

وقد قال النجاشي في ترجمة أحمد بن عبدون ما لفظه: أحمد بن عبد الواحد بن أحمد البزّاز أبو عبد الله شيخنا المعروف بابن عُبدون له كتب... أخبرها بسائرها، وكان قوياً في الأدب قد قرأ كتب الأدب على شيوخ أهل الأدب، وكان قد لقي أبا الحسن علي بن محمّد القرشي المعروف بابن الزبير، وكان علوّاً في الوقت.

فقوله «شيخنا» فيه دلالة على الاعتماد به لاسيما مع إطرائه بأنه قد لقي ابن الزبير، فإن ابن الزبير قد مات سنة 348 وابن عبدون قد مات سنة 423 وبين موت الاثنين 75 سنة وهي مقدار كثير طويل فلا محالة قد لقي ابن الزبير في شبابه وكان في هذه المدة الطويلة مشغولاً بجمع الحديث وتعلّمه وتعليمه وهو فضل متعدّ به، ولعله لذلك قد عطف عليه قوله «كان علوّاً في الوقت»، فكونه علوّاً في الوقت يراد به أنه من أعلى المشايخ وأسنّهم وسنده كان سنداً عالياً، وعلوّ الإسناد مما تتنافس به أصحاب الحديث ويرتكبون المشاق لأجله، فهو وصفٌ عظيمٌ ينبي عن تنافس أهل الحديث إلى الأخذ عنه، فيكون شيخاً معروفاً وهو من مشايخ النجاشي، وكفى هذا في انكشاف ثقته.

قال النجاشي في ترجمة أبان بن تغلب: أخبرنا محمّد بن عبد الواحد قال: حدّثنا علي بن محمّد القرشي سنة 348 ـ وفيها مات ـ قال حدثنا علي بن الحسن ابن فضّال. هذا على ما هو المعروف المذكور بالبتّ في نسخة رجال النجاشي المصححة والمنقول عنها بلا إيماء إلى خلافها في كتب الرجال.

إلا أن السيد العلامة الخوئي (قدس سره) في معجم رجال الحديث ذكر لهذه الكلمة نسخة أخرى هي (غلوّاً) بالغين المعجمة وقال في الذيل جزماً: «ثم إن تحمل أحمد بن عبد الواحد المتوفى سنة 423 الرواية عن علي بن محمّد بن الزبير القرشي المتوفى سنة 348 لا يكون إلا في أوائل شبابه وعنفوانه، وهذا معنى قول النجاشي: «وكان غلواً في الوقت» يعني أن لقاء أحمد بن محمّد لعلي بن محمّد بن  الزبير كان في عنفوان شبابه»[23].

أقول: لكنه تعسّف لا شاهد له، أما على النسخة المعروفة فواضح، فإن العلوّ معناها الارتفاع، وحمله على الشخص من باب زيد عدل يراد به المبالغة في الارتفاع كما ذكرناه، ولفظ (الغلوّ) أيضاً بمعنى الزيادة والارتفاع وهو مصدر غلا الشيء غلواً بمعنى زاد وارتفع، فلا محالة يكون العلوّ والغلوّ ـ مهملة ومعجمة ـ مصدراً بمعنى واحد، وحمله على الشخص أيضاً من باب المبالغة، ولم يذكر أهل اللغة في معنى الغلو ـ بالمعجمة ـ أنه يطلق بمعنى عنفوان الشباب، وإنما في كلامهم أن غُلْوان الشباب وغلواؤه: سرعته وأوّله، فراجع في ذلك من باب الأنموذج أقرب الموارد ولسان العرب، فتفسير الغلوّ بأول الشباب وعنفوانه ليس على ما ينبغي بل معناه مع المهملة واحد وهو الارتفاع. هذا، وبد ذلك فلا يبعد خطأ هذه النسخة.

وفي رجال الأردبيلي: ويستفاد من كلام العلامة في بيان طرق الشيخ في كتابيه توثيقه في مواضع.

وقال الشيخ في رجاله في ترجمة ابن عبدون: أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر يكنّى أبا عبد الله، كثير السماع والرواية، سمعنا منه وأجاز لنا بجميع ما رواه، مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة[24].

فقد كان شيخ الحديث (قدّس سرّه) أيضاً، وقد قال الأردبيلي في جامع الرواة: عنه الشيخ الطوسي (رحمه الله تعالى) في مشيخة التهذيب كثيراً[25]. فهذا أيضاً عن كونه ثقةً معتمداً عليه.

وبالجملة: فلا ينبغي الريب في أن ابن عبدون ثقة.

وأما علي بن محمّد بن الزبير فقد قال فيه الشيخ في رجاله في باب العين ممن لم يرو عن الأئمة (عليهم السلام): علي بن محمّد بن الزبير القرشي الكوفي، روى عن علي ابن الحسن بن فضال جميع كتبه، وروى أكثر الأصول، روى عنه التلعكبري، وأخبرنا عنه أحمد بن عبدون، ومات ببغداد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وقد ناهز مائة سنة، ودفن في مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام).

وعنونه الخطيب في تاريخ بغداد قال: وكان ثقة، ونقل أيضاً أنه توفي ببغداد في عاشر ذي القعدة من سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين[26].

وعلى هذا فقد عمّر أربعاً وتسعين سنة، وهو معنى قول شيخ الطائفة: وقد ناهز مائة سنة.

وهذا الشيخ لا نص في كتب الرجال عن الشيخ ولا عن النجاشي ومَن يحذو حذوهما من أصحابنا القدماء على ثقته إلا أنّه راوي جميع كتب علي بن الحسن ابن فضال وهي كتب كثيرة كما في رجال النجاشي قائلاً إنه قد وصل إليه أربعة وثلاثون منها، وهو مع أنه مات ببغداد فقد دفن في مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) مع ذلك الفصل الطويل بين بغداد والنجف الذي ربما كان يحتاج طيّه في تلك الأزمنة إلى مسير أسبوع أو أكثر، ولذلك يحدس قوياً أنه كان بوصية منه تكشف عن شدة حبه وموالاته لأمير المؤمنين (عليه السلام).

فبذلك كله لا يبعد حصول العلم العادي والاطمئنان بثقته، ومعه يكون إسناد الشيخ إلى كتب علي بن الحسن صحيحاً معتبراً.

مضافاً إلى أن كتبه ككتب غيره من الأصحاب كانت من الأصول المعروفة عند الأصحاب ويكون ذكر طريق واحد إليها في كلام الشيخ من باب الأنموذج، فهل ترى عدم ثبوت نسبة هذه الكتب بنحو معتبر عند الشيخ (قدس سره) وهو يقول في ترجمة الرجل في الفهرست: «فطحي المذهب ثقة كوفي كثير العلم واسع الرواية والأخبار، جيد التصانيف... وكتبه في الفقه مستوفاة في الأخبار حسنة...» فوصف تصانيفه كلها بالجيادة، ووصف كتبه بأنها في الأخبار حسنة وفي الفقه مستوفاة لا يكون إلا بعد ثبوت صحة نسبة هذه الكتب إليه كما صحّ عندنا نسبة التهذيبين إلى الشيخ (قدس سره). فبعد هذا المقال منه لا حاجة إلى ذكر طريق إلى كتبه كما لا يخفى.

مضافاً إلى أن الشيخ نفسه قد نقل في التهذيب في باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة[27] وفي باب حكم الجناية وصفة الطهارة منها[28] وفي باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس والطهارة من ذلك[29] أخباراً خمسة عن علي بن الحسن بن فضال بسندين أحدهما هذا السند المذكور إلى كتب علي بن الحسن والآخر عن جماعة عن أبي محمّد هارون بن موسى عن أبي العباس أحمد بن محمّد بن سعيد عن علي بن الحسن بن فضال، وهذا السند الآخر صحيح كما في جامع الرواة عند بيان أسانيد كتب الشيخ، وهو يكشف عن أن للشيخ طريقاً آخر أيضاً إلى علي بن الحسن صحيحاً وأن ما ذكره في المشيخة والفهرست أنموذج من طرقه.

وبالجملة: فبعد هذا كله لا ينبغي الريب في اعتبار سند الشيخ إلى كتب علي بن الحسن بن فضال، فسند الحديث معتبر.

وأما دلالته فقد فسّر الأنفال بقوله (عليه السلام): «وهي كل أرض جلا أهلها من  غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب» فنفس محمول «كل أرض جلا أهلها» عام لكل أرض كانت كذلك وإن كانت من الأراضي التي بيد المسلمين أو أهل الذمة الذين يعيشون في لواء الإسلام والبلاد الإسلامية، وفقرة «من غير أن يحمل عليها بخيل ولا رجال ولا ركاب» قيدٌ يخرج به الأراضي المفتوحة عنوةً وإلا فغيرها من الأراضي المذكورة أيضاً لم يحمل عليها بخيل ولا ركاب، فالعموم المذكور يشمل أراضي من يعيش في لواء الإسلام وإن كان يعمّ أيضاً الأرض التي كانت بيد أهل الحرب ثم جلوا عنها بلا قتال، لكنه لا ينافي شمول العام لغيرها أيضاً كما لا يخفى.

2ـ ومنها ما رواه الشيخ أيضاً في التهذيب بإسناده المنتهى إلى محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسُئِل عن الأنفال فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل، نصفها يقسّم بين الناس ونصفها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للإمام (عليه السلام)[30].

وهي أيضاً نصّت على أن كل قرية يجلوا أهلها عنها فهي نفل، ومعلوم أن القرية إذا جلا أهلها عنها فربما كانت دور الأهل وبيوتهم، وهكذا أراضيها التي كانت تحت أيدي أهلها عامرة، فإذا حكمت بأن القرية نفل فهذه الأراضي العامرة كبيوتها ودورها العامرة كلها يكون من مصاديق الأنفال، ولا شبهة في أن عموم كل قرية لما إذا كان جميع أهلها مسلمين أو كافرين أو مختلطين منهما، فالرواية دالة على أنها جميعها الأنفال، فتكون هذه الرواية من جهة حدود الدلالة عدلاً للمعتبرة السابقة.

وأما ما في ذيلها في مقام بيان حكمها من أن «نصفها يقسّم بين الناس ونصفها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)» فهو كما مر في أوائل البحث عن الأنفال مخالف لسائر الأخبار ولإجماع الأصحاب، إلا أنه إنما يوجب سقوط الذيل عن الاعتبار ولا يضر باعتبار صدرها كما هو واضح.

فدلالة الرواية تامة، إلا أنه وقع في سندها إسماعيل بن سهل الذي هو بحسب الظاهر إسماعيل بن سهل الدهقان، وقد قال فيه النجاشي: «ضعفه أصحابنا»، ونقل مثله عن العلامة في الخلاصة، فسندها ضعيف إلا أنها تؤيد المطلوب.

3ـ ومنها ما أرسله العياشي في تفسيره عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته أو سُئل عن الأنفال، فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل، نصفها يقسم بين الناس، ونصفها للرسول (صلى الله عليه وآله)[31].

وهو في الدلالة مثل ما سبقه، وسنده أيضاً ضعيف بالإرسال، فإنما يصلح لأن يكون مؤيداً للمطلوب.

4ـ ومنها ما أرسله العياشي عن زرارة فقال: وفي رواية زرارة عنه (عليه السلام) قال: هي كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها خيلٌ ولا رجالٌ ولا ركاب، فهي نفل لله وللرسول (صلى الله عليه وآله)[32].

وهو في الدلالة مثل معتبر زرارة فإنه ورد في تفسير الآية ولعله هو إلا أن سنده بنفسه ضعيف بالإرسال.

هذه هي الطائفة الأولى من الأخبار.

الطائفة الثانية: منها ما تدل على أن كل أرض جلا عنها أهلها من الأنفال، إلا أن فيها تقييداً بأنه خربت، وهي أيضاً عدة من الأخبار:

1ـ فمنها موثقة إسحاق بن عمار المروية في تفسير علي بن إبراهيم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال: هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها فهي لله وللرسول... الحديث[33].

فهي أيضاً قد حكمت بأن القرية التي انجلى عنها أهلها من الأنفال، إلا أنها قيّدتها بأنها قد خرجت، فلعلها تقتضي تقييداً للأراضي المذكورة في الطائفة الأولى.

أقول: (أولاً) أن قيد الخراب إنما ذكر قيداً للقرية، وهو يصدق بخراب مجرد دورها ومساكنها، ولا يلازم خراب أراضيها العامرة التي بيد أهلها، فإطلاق الموثقة أيضاً يحكم بأن أراضيها العامرة من الأنفال.

و(ثانياً) أنه يحتمل فيه جداً أن يكون ذكره لمكان بيان سرّ جلاء أهلها عنها، فإن الخراب هي العلة العادية للجلاء عنها سيما في تلك الأزمنة التي كانت تنحصر فائدة الأرض في مثل الزرع، فالقرية كانت مثل البلد في انعدام كليهما لمثل الكهرباء والمصانع الكهربائية، فإذا خربت المساكن ينجلون عنها إلى بلدة ذات مساكن سليمة.

وبالجملة: فيمكن دعوى أنه لا يستفاد من قيد الخراب تقييد الموضوع، غاية الأمر أن لا يكون لمثل الموثقة إطلاق شامل لثبوت حكم الأنفال لما إذا لم تخرب القرية، إلا أنها غير مانعة عن الأخذ بإطلاق غيرها، فيكون مدلول الطائفة الأولى باقياً على حاله بلا ورود قيد عليه.

2ـ ومنها ما أرسله العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال، قال: هي القرى التي قد جلا أهلها وهلكوا فخربت، فهي لله وللرسول[34].

فهو أيضاً قيّد القرية بالخراب إلا أنه خراب بعد جلاء أهلها عنها، وكيف كان ففيه أيضاً قيد ربما يجب تقييد الطائفة الأولى.

أقول: فهذا الحديث أيضاً إنما يذكر القيد للقرية، وقد مر أن خراب القرية لا يلازم خراب الأراضي، فهو أيضاً يشمل الأراضي العامرة، مضافاً إلى أنه يحتمل فيه أيضاً أن يكون ذكر هلاك أهلها وخرابها إيماءاً إلى أن المراد بالجلاء إنما هو رفع اليد عن قريتهم بالمرة بحيث كان هلاكهم أيضاً خارج القرية، فمع احتمال أن يراد به هذا المعنى فليس فيه حجة على تقييد إطلاق غيرها مضافاً إلى أن سنده ضعيف بالإرسال.

3ـ ومنها ما أرسله أيضاً عن ابن سنان في تفسير الأنفال، قال: هي القرية التي قد جلا أهلها وهلكوا فخربت، فهي لله وللرسول[35]. والكلام فيه أيضاً مثل سابقه حرفاً بحرف، بل لعله هو.

فقد تحصل قيام الأخبار التامة الدلالة المعتبرة الإسناد على أن كل أرض جلا عنها أهلها فهي من الأنفال. نعم يجب الالتفات إلى أن الجلاء إنما هو ترك الأرض والإعراض عنها بالمرة لا مجرد ترك الاشتغال بزرع الأرض مثلاً أو غيره من الانتفاعات لمدة محدودة لعذر أو غير عذر، فلا يصدق به الجلاء ولا يوجب صيرورة الأرض من الأنفال، والله العالم.