بالسند المتصَّل إلى محمَّد بن يعقوب عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن داود الرقي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قالَ رَسُولُ اللّه صَلى اللّه عَليهِ وآلِهِ وسَلَّم:

قالَ اللّه عَزَّ وَجلّ لِمَوسَى بنِ عمْران:

« يا ابْنَ عُمْرانِ لا تًحْسُدَنَّ النّاسَ عَلى ما اتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلي ولا تَمُدَّنَّ عَيْنيكَ إِلى ذلِكَ وَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ فَإنَّ الحاسِدَ ساخِطٌ لِنِعَمي صادٌ لِقِسْمِيَ الَّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبادي وَمَنْ يَكُ ذلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنّي »([1]).

 

الشرح:

إن الحسد، حالة نفسية يتمنى صاحبها سلب الكمال والنعمة التي يتصورهما عند الآخرين، سواء أكان يملكها أم لا، وسواء أرادها لنفسه أم لم يردها. وهذا يختلف عن الغبطة، لأن صاحب الغبطة يريد النعمة التي توجد لدى الغير، أن تكون لنفسه، من دون أن يتمنى زوالها عن الغير. وأما قولنا: « النعمة التي يتصورها عند الآخرين » فنعني به أن تلك النعمة قد لا تكون بذاتها نعمة حقيقية. فطالما تبين أن الأمور التي تكون بحد ذاتها من النقائص والرذائل، يتصورها الحسود من النعم والكمالات، فيتمنى زوالها عن الآخرين. أو أن خصلة تعدّ من النقائص للإنسان ومن الكمال للحيوان ويكون الحاسد في مرتبة الحيوانية فيراها كمالاً، ويتمنى زوالها. فهناك بين الناس، مثلاً أشخاص يحسبون الفتك بالغير وسفك الدماء موهبة عظيمة، فإذا شاهدوا من هو كذلك حسدوه. أو قد يحسبون سلاطة اللسان وبذاءته من الكمالات، فيحسدون صاحبها. إذاً، فالمعيار في معرفة هذه الحالة النفسية هو توهّم الكمال وتصور وجود النعمة، لا النعمة نفسها، فالذي يرى في الآخرين نعمة حقيقية كان، أو موهومة ويتمنى زوالها، يعدّ حسوداً.

اعلم أن للحسد أنواعا ودرجات حسب حال المحسود، وحسب حال الحاسد، وحسب حال الحسد ذاته. أما من حيث حال المحسود، فمثل أن يحسد شخصاً لما له من كمالات عقلية، أو خصال حميدة، أو لما يتمتع به من الأعمال الصالحة والعبادية، أو لأمور خارجية أخرى، مثل امتلاكه المال والجاه والعظمة والاحتشام وما إلى ذلك، أو أن يحسد على ما يقابل هذه الحالات من حيث كونها من الكمال الموهوم الموجود في المحسود.

أما من حيث حال الحاسد، فقد ينشأ الحسد أحيانا من العداوة، أو التكبّر، أو الخوف، وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي سيرد ذكرها فيما بعد.

وأما من حيث حال الحسد نفسه، الذي نستطيع أن نقوله أنها الدرجات والتقسيمات الحقيقية، للحسد دون ما سبق ذكره، فلشدته وخفته مراتب كثيرة، تختلف باختلاف الأسباب، كما تختلف باختلاف الآثار. وسوف نشير، إن شاء الله، في عدة فصول إلى مفاسد الحسد وعلاجه. قدر استطاعتنا، ومن الله التَّوفيق.

فصل: في ذكر بعض أسباب الحسد

للحسد أسباب كثيرة، يرجع أكثرها إلى رؤية الذلة في النفس، تماما كما أن الكبر، ـ نوعا ـ يتم على عكس ذلك. فكما أن المرء عندما يجد في نفس كمالاً لا يجده في غيره، تنشأ عنده حالة من الترفع والتعزز والتعالي في نفسه، فيتكبّر. وإذا لاحظ الكمال في غيره، انتابته حالة من الذل والانكسار. ولولا وجود عوامل خارجية ولياقات نفسانية، لنتج من ذلك الحسد. وقد ينشأ من تصور ذله في تساوي غيره معه، مِثل أن يحسد صاحب الكمال والنعمة مثيله أو الذي يليه. ويمكن القول أن الحسد هو ذلك الانقباض والذل النفسي اللذان تكون نتيجتهما الرغبة في زوال النعمة والكمال عن الآخرين. وقد حصر بعضهم ـ كالعلامة المجلسي قدس سره ـ([2]) أسباب الحسد في سبعة أمور:

الأول: العداوة.

الثاني: التعزز: أن يكون من حيث يعلم أن يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزّة نفسه.

الثالث: الكبر: أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه بنعمته وهو المراد بالتكبر.

الرابع: التعجب: أن تكون النعمة عظيمة والمنصب كبيراً فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما أخبر الله تعالى عن الأمم الماضية إذ قالوا: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إلاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا}([3]). و{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا}([4]). وأمثال ذلك كثيرة فتعجبوا من أن يفوزوا برتبة الرسالة والوحي والقرب مع أنهم بشر مثلهم فحسدوهم وهو المراد بالتعجب.

الخامس: الخوف: أن يخاف من فوات مقاصده بسبب نعمة بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه.

السادس: حب الرئاسة: أن يكون يحّب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوى فيها.

السابع: خبث الطينة: «أن لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحّها بالخير لعباد الله»([5]).

ولكنني أعتقد كما أشرت إليه سابقا، أن معظم هذه الأسباب بل كلها تعود إلى رؤية ذل النفس، وإن السبب المباشر لحسد حسب التعريف المشهور له ما ذكرناه ـ انبعاث الحسد من رؤية ذل النفس فلا مجال لذكر هذه الأقسام ـ. وأما بناءًا على ما ذكرناه في معنى الحسد من أن نفس هذه الحال تكون حسداً فلا اعتراض على صحة ذكر هذه الأقسام. وعل ى أي حال يكون البحث حول هذه المعاني بعيداً عن مقصودنا وعن طبيعة موضوعنا.

فصل: في بعض مفاسد الحسد

اعلم أن الحسد نفسه أحد الأمراض القلبية المهلكة، ويتولّد منه أيضاً أمراض قلبية كثيرة، كالكبر وفساد الأعمال وتعدّ كل واحدة منها من الموبقات. وتشكّل سبباً مستقلاً لهلاك الإنسان. ولسوف نباشر بذكر المفاسد الواضحة منها. ولا شك في أن هناك مفاسد خفيّة عن نظر الكاتب.

وأما مفاسد الحسد فسنكتفي بما نقل عن الصادق المصدق:

ففي صحيحة معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «آفَةُ الدّينِ الحَسَد والعُجْبُ وَالفَخْرُ»([6]).

وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام: «إِن الرَّجُلَ لَيَأْتى بِأي بادِرَةٍ فَيُكَفَّرُ، وَإنَّ الحَسَدَ لَيَأْكُلُ الإيمان كَما تَأْكُلُ النّار الحَطَبَ»([7]).

ومعلوم أن الإِيمان نور إلهي يجعل القلب موضع تجليات الحق جلّ جلاله، كما جاء في الأحاديث القدسية: «لا يَسَعُنِي أَرْضي ولا سَمائي بل يَسَعُني قَلْبُ عبدِي الْمؤمِنِ»([8]).

فهذا النور المعنوي، وهذه البارقة الإلهية التي تجعل القلب أوسع من كل الموجودات، تتعارض مع هذا الضيق والظلام اللذين تسببهما هذه الرذيلة، رذيلة الحسد. إن هذه الصفة القبيحة تضغط على القلب وتضيقه فتبدو آثارها في كل كيان الإنسان، باطنه وظاهره. إنها تصيب القلب بالحزن والكدر، والصدر بالاختناق والضيق، والوجه بالعبوس والغضب. وهذه الحال تطفئ نور الإيمان، وتميت قلب الإنسان، وكلما اشتدت ازداد ضعف الإيمان.

إن جميع الصفات المعنوية والظاهرية للمؤمن، تتنافى والآثار التي يوجدها الحسد في ظاهر الإنسان وباطنه. إن المؤمن يحسن الظن باللّه تعالى، وهو راض بقسمه الذي يقسمه بين عباده. أما الحسود فساخط على اللّه تعالى، يشيح بوجهه عن تقديراته. لقد جاء في الحديث الشريف: إن المؤمن لا يتمنى السوء للمؤمنين، بل هم أعزاء عنده، والحسود بعكس ذلك. المؤمن لا يغلبه حب الدنيا، والحسود بل إنما ومُبْتَلى بشدة حبه للدنيا. والمؤمن لا يداخله خوف ولا حزن إلاّ من بارئ الخلق تعالى، أما الحسود فخوفه وحزنه يدوران حول المحسود.

والمؤمن طلق المحيا، وبشراه في وجهه، والحسود مقطب الجبين عبوس الوجه.

والمؤمن متواضع، والحسود متكبر في معظم الحالات. فالحسد، آفة الإيمان التي تأكله، كما تأكل النار الحطب.

ويكفي في شناعة هذه الرذيلة هو أن الحسد يقضي على الإيمان الذي يعدّ وسيلة النجاة في الآخرة، وباعثا لحياة القلوب، ويجعل الإنسان مفلساً ومسكيناً.

وإن من المفاسد الكبيرة التي لا تنفك عن الحسد، سخط الحسود على الخالق وولي نعمته وإعراضه عن تقديراته تعالى.

في هذا اليوم أن حجب الطبيعة الدكناء والحجب الحاصلة من انشغالنا بهذه الطبيعة قد حجبت جميع مشاعرنا، فأعمت أعيننا وأصمت آذاننا، فلا ندري إننا غاضبون تجاه مالك الملوك ومعرضون عنه ولا نعلم ما هي صورة هذا الغض ب والإعراض في الملكوت حيث مساكننا الأصلية الدائمية؟ وإنما يصل إلى أسماعنا قول الإِمام الصادق عليه السلام: « ومَنَ يَكُ كَذلكَ فَلَسْتُ مَنْهُ وَلَيْسَ مِنّي » ولا نفهم ماذا يحمل لنا تبرؤ الحق تعالى منّا وإعراضه عنّا من مصائب؟ إن من يخرج عن ولاية اللّه ويطرد من ظل راية أرحم الراحمين لن يكون له أمل في النجاة، ولن يشفع له أحد: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإِذْنِهِ} (البقرة/255). من ذا الذي يتقدم ليشفع لمن يسخط عليه اللّه ويكون خارجاً عن حرز ولايته، وقد انقطع حبل المودة بينه وبين مالك الرقاب؟ واسوأتاه! واحسرتاه على ما نفعله بأنفسنا! لم يفتأ الأنبياء والأولياء يصرخون في آذاننا ويريدون إيقاظنا من النوم، ولكننا نزداد غفلة وشقاءً يوماً بعد يوم. ومن مفاسد هذا الخلق الذميم، كما يقول العلماء، ضيق القبر وظلمته. إذ أنهم يقولون إن صورة هذا الخلق الفاسد الرديء، التي فيها ضيق نفساني وكدر قلبي، تشبه ضيق القبر وظلمته، إذ أن ضيق القبر أو اتساعه منوط بضيق الصدر أو انشراحه.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام ـ إلى أن قال ـ، وَأنَّ رَسولَ اللّه صَلى اللّه عَليه وآله وسلمَ خَرَجَ فِي جِنَازَةِ «سَعْد» وَقَدْ شَيّعَهُ سَبْعُونَ أًلْفَ مَلَكَ. فَرَفَعَ رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَليهِ وَآله وسلم رَأسَهُ إلى السَّماءِ ثُمّ قالَ: مِثلُ «سَعْد» يُضمّ؟ قال: قلت جعلت فداك أنّا نحدّث إنه كان يِسْتَخِفُّ بِالْبَولِ فَقال مَعَاذَ اللّه، إنَّما كانَ مِنْ زعّارة في خُلُقِه عَلى أَهْلِهِ (فروع الكافي، المجلد الثالث، باب المسألة في القبر، ح 6، ص 236).

إن الضيق والضغط والكدر والظلام الذي يحصل في القلب بسبب الحسد قلّما يوجد في خلق فاسد آخر. ولى أي حال إن صاحب هذا الخلق يعيش في الدنيا معذباً مبتلىً، ويكون له في القبر ضيق وظلمه، ويحشر في الآخرة مسكيناً متألماً.

هذه هي مفاسد الحسد نفسه دون المفاسد الخلقية الأخرى، أو الأعمال الفاسدة الباطلة، التي يمكن أن تتولد عن الحسد، وقلّما يتفق أن لا تتولد عن الحسد مفاسد أخرى بل إن عدداً من السيئات الأخلاقية والأعمال الباطلة الأخرى تكون وليدة الحسد، كالكِبر في بعض الحالات، كما سبق، والغِيبة، والنميمة، والشتم، والإِيذاء، وغير ذلك مما هو من الموبقات والمهلكات.

فعلى الإنسان العاقل أن يشمّر عن ساعد الجد لينقذ نفسه من هذا العار وإيمانه من هذه النار المحرقة والآفة الصعبة، وأن ينجو بنفسه من ضغط الفكر وضيق الصدر في هذه الدنيا ـ وهما نوعان من العذاب المرافقان للعمر كلّه ـ وكذلك من الضيق والظلمة في القبر وفي البرزخ، ومن غضب اللّه تعالى. على الإنسان أن يفكر قليلاً ليدرك أن أمراً له هذا القدر من المفسد يجب أن يعالج، مع العلم أن حسدك لن يضر المحسود. فلا تزول نعمته بمجرد حسدك له، بل يكون له نفع دنيوي وأخروي، وذلك لأن شقائك وحزنك وأنت عدوه وحاسده يعد نفعاً له. فهو يرى أنه متنعم وأنت معذب بتنعمه، وهذه نعمة له. فإذا انتبهت لهذه النعمة الثانية التي تتوفر للمحسود جلبت لنفسك عذاب وضغط فكري آخِرَيْن ويعتبر عذابك هذا نعمة له وهكذا. وعليه، فإنك تكون دائما في عذاب وشقاء وتعاسة وغمّ، وهو في نعمة وسرور وانبساط. وفي الآخرة أيضاً يكون حسدك له نفعاً له، وخصوصاً إذا كان الحسد قد دفع بك إلى الغيبة والافتراء وسائر الرذائل، مما يستوجب أخذ حسناتك وإعطائها له، فتعود أنت مفلساً، ويزداد هو نعمة وعظمة.

لو أنك أمعنت الفكر في هذه الأمور لأقدمت على تطهير نفسك من هذه الرذيلة وأنقذت نفسك من هذه المهلكة. ولا تظنن أن الرذائل النفسانية والخلق الروحية غير ممكنة الزوال، إن ظنوناً باطلة توحيها إليك النفس الأمارة والشيطان لكي تنحرف عن سلوك الآخرة وإصلاح النفس. فما دام الإنسان في دار الزوال وعالم التبدل هذا، فمن المم كن أن يتغيّر في جميع صفاته وأخلاقه، ومهما تكن صفاته متمكنة، فإنها قابلة للزوال ما دام حياً في هذه الدنيا، وإنما تختلف صعوبة التصفية وسهولتها نتيجة شدّة هذه الصفات وخفّتها.

ومن المعلوم أن إزالة صفة حديثة الظهور في النفس إنّما يتحقق بقليل من الجهد والترويض، كالنبتة في أيامها الأولى التي لم ترسل جذورها إلى الأعماق بعد ولم تتمكن من التربة. ولكن إذا تمكنت تلك الصفة من النفس وأصبحت من الملكات المستقرة فيها، فإنه يصعب إزالتها، ورغم أن إزالتها ممكنة، كاقتلاع شجرة ضخمة معمرّة ضربت بجذورها في أعماق التربة، فكلما تقاعست وأبطأت في مساعيك لاقتلاع جذور المفاسد من قلبك وروحك، ازداد تعبك وعنائك في اجتثاثها.

فيا عزيزي! إن الوقوف منذ البداية دون تسرب المفاسد الأخلاقية أو العملية إلى مملكة ظاهرك وباطنك، أيسر بكثير من إخراجها بعد توغلها، لأن ذلك يتطلب الكثير من العناء والجهد. وإذا تسربت، فإنك كلما أخرت التصدي لإخراجها، ازداد الجهد المطلوب منك وضعفت قواك الداخلية.

يقول شيخنا الجليل والعارف الكبير الشاه آبادي (روحي فداه) : إن الإنسان في عز شبابه وقوة فتوته يكون أقدر على الوقوف بوجه المفاسد الأخلاقية، وأفضل في أداء واجبه الإنساني. فلا تتركوا هذه القوى تضيع من أيديكم، ويستولي عليكم ضعف الشيخوخة، وعندئذٍ يصعب عليكم التوفيق في مساعيكم، وحتى لو أنكم وفقتم، فإن ذلك الإصلاح سوف يتطلب منكم الكثير من المشقة والتعب.

وعليه، إذا فكّر الإنسان العاقل في المفاسد ووجد أنه غير داخل فيها، فإنه يستطيع أن يمنع نفسه من التلوث بها، وإذا وجد نفسه ـ لا سمح اللّه ـ مبتلاةً بها، فخي ر له أن يسرع في إصلاح نفسه قبل أن تتجذّر تلك المفاسد فيه، وإذا كانت ـ لا سمح اللّه ـ قد تجذّرت فيه فعليه أن يبذل كل جهد مستطاع في سب يل اقتلاع تلك الجذور لئلا يصل إلى مرحلة اللاعودة في البرزخ والآخرة، لأنها إذا أعطت ثمرها، وخرج صاحبها بخلقه الفاسد من هذه الدنيا المتبدلة في هيولاها والمتغيرة في جوهرها، خرج أمر اقتلاعها من يديه، وهيهات أن يتبدّل خلق من الأخلاق النفسانية في الآخرة أو في البرزخ.

جاء في مضمون حديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم، أن الخلود في الجنة أو في النار منوط بنية الإنسان([9]). فالنوايا الفاسدة، التي هي وليدة الأخلاق والرذيلة، لا يمكن أن تزول إلاّ بزوال منشئها.

إن الملكات في ذلك العالم تكون على درجة من شدّة الظهور وقوته بحيث أن زوالها إما لا يكون ممكناً، فيكون صاحبها مخلداً في النار. وإمّا إذا أمكن بالضغوطات والمشاق والنيران إزالتها، فإن ذلك قد يحدث ولكن بعد قرون ربوبية.

فيا أيها الإنسان العاقل! إن ما يمكن أن تصلحه في شهر أو في سنة من التعب الق ليل الدنيوي وبمحض اختيارك واضعاً حدّاً لشقائك في الدنيا والآخرة، لا تهمله لكيلا يوردك موارد الهلاك.

فصل: في بيان جذور المفاسد الخلقية

سبق القول([10]) بأن الإيمان، الذي هو حظ القلب، غير العلم الذي هو حظ العقل. ثم إن جميع المفاسد الأخلاقية والعملية تنشأ عن كون القلب غافلاً عن الإيمان، وأن ما يدركه العقل عن طريق البرهان العقلي أو عن طريق أخبار الأنبياء لم يوصله إلى القلب، ولذلك فالقلب لا يعرف عنه شيئاً.

إن من بين المعارف التي يصدّقها الحكماء والمتكلمون وعامّة الناس من أهل الشرائع، ولا يشكون فيها أبداً، هو أن ما جرى به قلم الحكيم المطلق جلّت قدرته من الوجود والكمال ومن بسط النعمة وتقسيم الآجال والأرزاق، جاء على خير تقدير وأجمل نظام، وهو يتطابق كل التطابق مع المصالح التامة والنظام الكلي لأتم نظام متصور. ولكن يعبر كل واحد ـ من الحكماء والمتكلمين ـ بلسانه الخاص واصطلاحه الذي يختص بفنه الذي اتخذه وسيلة لتبيان هذه النعمة الإلهية والحكمة الكاملة.

يقول العارف: ظلّ الجميل جميل على الإطلاق. ويقول الحكيم: النظام العيني المطابق للنظام العلمي خال من النقص والشرور، والشرور المتوهمة الجزئية هي من أجل إيصال الكائنات إلى كمالاتها التي تليق بها([11]). ويقول المتكلم وأهل الشرائع: أفعال الحكيم تكون على أساس من الحكمة والصلاح، وأن أيدي العقول البشرية الجزئية المحدودة قاصرة عن إدراك المصالح العالية في التقديرات الإلهية([12]). هذا الموضوع يدور على ألسنة الجميع، وكل ما يستدل على ذلك بأدلة تتناسب مع مدى سعة علمه وعقله. ولكن بما أنه لم يتعد حدود الأقوال إلى حيث القلوب والأحوال، فإن ألسنة الاعتراض مطلقة، وأن من لم يكن له حظ من الإيمان يقوم بتفنيد برهانه وتكذيب قوله. وعلى هذا الأساس تكون المفاسد الأخلاقية.

وليعلم من يحسد الناس ويتمنى زوال النعمة عن الآخرين، ويحقد في قلبه على أصحاب النعم، أنه لا إيمان له بأن اللّه عزّ وجل من باب معرفة الصالح أسبغ نعمه على أولئك، وأن إدراكنا لذلك قاصر. وليعلم أيضاً أنه لا يؤمن بعدل اللّه تعالى ولا يرى التقسيم عادلاً. إنك في أصول العقائد تقول إن اللّه عادل، وما هذا إلاّ مجرد لفظة على لسانك. إن الإيمان بالعدل يناقض الحسد. إنك إذا كنت ترى اللّه عادلاً، لرأيت تقسيمه عادلاً أيضاً. وقد جاء في الحديث الشريف: يقول اللّه عزّ وجل: «إن الحسود يشيح بوجهه عمّا قسمته بين العباد، وهو ساخط على نعمي».

إن القلب يخضع بالفطرة للقسمة العادلة، وينفر بالفطرة كذلك من العسف والجور. إن الفطرة الإلهية الكامنة في أعماق البشر حب العدل والرضى به، وكراهة الظلم وعدم ا لانقياد له. فإذا رأى خلاف ذلك فليعلم أن في المقدمات نقصاً. فإذا سخط على النعمة وأعرض عن القسمة، فذلك لأنه لا يرى ذلك عدلاً، بل يراه ـ والعياذ باللّه ـ جوراً. وليس معناه أنه يرى القسمة عادلة ثم يعرض عنها، أو أنه يرى الخطة المرسومة مطابقة للنظام الأتم والمصلحة التامة، ثم يسخط عليها بل يرى أن هذا جور ومغاير للعدل. أسفاً علينا! إن إيماننا ناقص، ولم تخرج أدلتنا العقلية من نطاق العقل لتصل إلى حدود القلب. ليس الإيمان بالقول والسماع والمطالعة والمباحثة والنقاش فحسب وإنما يتطلب أيضاً خلوص النية. إن الباحث عن اللّه يجده لا محالة، والذي يطلب المعارف يبحث عنها، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} (الإسراء72). {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور40).

فصل: في بيان المعالجة العملية للحسد

يوجد فضلاً عن العلاج العلمي الذي ذكرنا بعضه، العلاج العملي لهذه الرذيلة، وذلك بأن تتكلف إظهار المحبة للمحسود وترتب الأمور بحيث يكون هدفك هو معالجة مرضك الباطني. إن نفسك تدعوك لإيذائه واعتباره عدواً، وتكشف لك عن مساوئه ومفاسده. ولكن عليك أن تعمل خلافاً لما تريده النفس، وأن تترحم عليه وتحترمه وتجلّه. وأحمل لسانك على أن يذكر محاسنه، وأعرض أعماله الصالحة على نفسك وعلى الآخرين، وتذكّر صفاته الجميلة. صحيح أن هذا سوف يكون متكلفاً في بادئ الأمر ومن باب المجاز دون الحقيقة ولكن لما أن الهدف هو إصلاح النفس وإزالة هذه المنقصة والرذيلة، فإن نفسك سوف تقترب في النهاية من الحقيقة، ويخف تكلفك شيئاً فشيئاً، وترجع نفسك إلى حالها الطبيعي وتصبح ذات واقعية.

قل لنفسك، على الأقل: إن هذا الإنسان عبد من عباد اللّه، ولعل اللّه نظر إليه نظرة لطف فأنعم عليه بما أنعم، خصّه دون غيره بها، خصوصاً إذا كان المحسود من رجال العلم والدين، وأنه محسود على ذلك، فإن مثل هذا الحسد يكون أقبح، ومعاداة أمثال هؤلاء أسوأ عاقبة. ولا بُدَّ من تفهيم النفس بأن هؤلاء هم من عباد اللّه المُخْلَصِين الذين شملهم توفيق منه، ووهبهم هذه النعم العظيمة. وهي نعم يجب أن تبعث في القلوب المحبة لهم واحترامهم والخضوع لهم. فإذا رأى أن هذه الأمور التي يجب أن تكون دافعاً على المحبة والاحترام توجب نقيض ذلك فعليه أن يعلم أن الشقاء قد اكتنفه من كل جانب، وأن الظلام قد أحاط بباطنه، فلا بُدَّ أن يبادر إلى إصلاح نفسه بالطرق العلمية والعملية. وليعلم أنه إذا اتخذ طريق المحبة فإنه سرعان ما يكون موفقا، لأن نور المحبة قاهر للظلمة ومزيل للكدر، ولقد وعد اللّه تعالى المجاهدين أن يهديهم وأن يعينهم بلطفه الخفي ويوفقهم. إنّه وليّ التوفيق والهداية.

فصل: في ذكر حديث الرفع

اعلم أنه ورد في بعض الأحاديث الشريفة ما مضمونه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: إن اللّه رفع عن أمتي تسع... ومنها الحسد إذا لم يظهر من خلال يده أو لسانه. ومن المعلوم أنه يجب أن لا تَحُولَ أمثال هذا الحديث الشريف دون المساعي الجادة لقلع هذه الشجرة الخبيثة من النفس، ولا تمنع المحاولات المبذولة في سبيل تطهير الروح من هذه النار التي تحرق الإيمان، ومن هذه الآفة التي تقضي عليه، لأنه يندر أن تدخل هذه الرذيلة المفسدة إلى نفس إنسان ولا تتوالد فيها المفاسد المختلفة، ثم لا يظهر أثرها أبدا، ويحافظ على إيمان الإنسان.

مع أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة أن هذه الصفة تأكل الإيمان، وإنها آفة الإيمان، وأن اللّه تعالى بريء من صاحبها، وإنه مطرود من حضرته، فيجب أن لا يغفل الإنسان عن مثل هذا الأمر الخطير والفساد الكبير الذي يهدد كل وجوده وطاقاته، متمسكاً بالتفسير الظاهري لهذا الحديث الشريف.

عليك إذاً، أن تقوم جاهداً، بتقليم فروع الحسد، والسعي لإصلاح النفس، ولا تدع شيئاً منه يترشح إلى الخارج، وعندئذٍ تضعف جذوره، ويقف نموه. وإذا وافتك المنية وأنت ماضٍ في سبيل الإصلاح والترويض للنفس، فإن رحمة اللّه سوف تشملك، ولسوف ينالك العفو برحمة اللّه الواسعة وببركة الرسول الأكرم صلّى اللّه عليه وآله وسلم، وإذا بقيت منه باقية فإن بوارق الرحمة الإلهية سوف تحرقها وتطهّر النفس وتزكّيها.

أما ما جاء في رواية حمزة بن حمران([13])، عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: «ثَلاثَةٌ لَمْ يَنْجُ مِنْها نَبِيٌّ فَمَنْ دُونَهُ فِي الوَسْوَسَةِ فِي الْخَلْقِ والطِّيرَةُ والحَسَدُ إلاّ أنَّ المُؤْمِنَ لا يَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ» فإنه إما يكون من باب المبالغة الدالة على كثرة الابتلاء بها، وإما أن يكون التعبير كناية عن كثرة الابتلاء دون أن يكون القصد هو مضمون الكلام بذاته، وإما أنه اعتبر الحسد أعم من الغبطة، من باب المجاز، وإما أنه يقصد بالحسد تمنّي زوال بعض النعم المستعملة لدى الكفار في ترويج مذهبهم الباطل. وإلاّ فإن الأنبياء والأولياء مطّهرون من الحسد بمعناه الحقيقي. إن القلب الملوث بالمساوئ الأخلاقية والقذارات الباطنية لا يمكن أن يهبط عليه الوحي والإلهام، ولا يكون موطن التجليات الذاتية والصفاتية. إذاً، لا بُدَّ أن يفسر هذا الحديث بحسب ما ذكر، أو بشكل آخر، أو يرد علمه إلى قائلة صلوات اللّه عليه.

والحمد لله أولاً وآخراً.

 

 

([1]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح 6)

([2]) (بحار الأنوار، المجلد الثالث والسبعون، ص 240).

([3]) يس: 15.

([4]) المؤمنون: 47.

([5]) بحار الأنوار, ج70 ص240 " كتاب الإيمان والكفر, باتب الحسد " مرآة العقول ج10 ص159 " كتاب الإيمان والكفر, باب الحسد ".

([6]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح 5)

([7]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الحسد، ح 1)

([8]) (إحياء العلوم، المجلد الثالث، ص 12. إتحاف السادة المتقين، المجلد السابع ص 234. عوالي اللئالي، المجلد الرابع ص 7)

([9]) عن الإمام الصادق " ع " عن آبائه عن أمير المؤمنين " ع " انه قال: كان رسول الله " ص " ذات يوم جالساً في مسجده إذ دخل عليه رجل من اليهود... قال اليهودي: فان كان ربك لا يظلم فكيف يخلد في النار أبد الآبدين من لم يعصه إلا اياماً معدودة ؟ قال " ص " : يخلده على نيته, فمن علم الله نيته انه لو بقي في النار إلى أنفضائها كان يعصي الله عز وجل, خلّده في ناره, على نيته, ويته في ذلك شر من عمله وكذلك يخلد من يخلد في الجنة بأنه ينوي انه لو بقي في الدنيا أياماً لأطاع الله أبداً ونيته خير من عمله, فبالثبات يخلد

 أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار. التوحيد ص398, 399 " باب الأطفال " الحديث 14.

([10]) الحديث 2, ص57 فصل " في بيان أن العلم يغاير الإيمان ".

([11]) الاسفار الأربعة , ج7 ص55, 105 السفر الثالث, الموقف الثامن, الفصل 1 إلى 9.

([12]) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد, ص234 المقصد الثالث, الفصل الثاني.

([13]) روضة الكافي, ج8 ص108 الحديث 86, سائل الشيعة, ج11 ص293 "كتاب الجهاد " الباب 55 الحديث 8.