إذا عرفت هذين الأمرين[1] فنبحث أولاً عن الأموال التي تكون ملكاً لوليّ الأمر، وهي عديدة نبحث ابتداءاً عما ليس متفرّعاً على وقوع عمل من المسلمين عموماً أو من الأشخاص ونتبعه بغيره، فلذلك نقدم البحث عن الأنفال فنقول:

 

الأول من هذه الأموال

 

 الأنفال

والأنفال جمع نفل ـ بسكون الفاء وفتحها ـ وهو لغة كما عن القاموس: الغنيمة والهبة، وعن الصحاح: الغنيمة، وعن الأزهري: النفل ما كان زيادة على الأصل سميّت الغنائم بذلك لأن المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم.

والمراد بها في الفقه أموال خاصة مختصة بوليّ الأمر ولعل سر إطلاق النفل عليها أنها أموال زائدة تدخل في ملك ولي الأمر زائدة على ما تدخل عادةً في ملك سائر الناس.

ومقتضى النص والفتوى أنها ملك لولي أمر الأمة ـ أعني الرسول والأئمة ـ ففي الجواهر: لا كلام في كون الأنفال ملكاً للنبي (صلى الله عليه وآله) كما يدل عليه الكتاب والسنة والإجماع ثم من بعده للقائم مقامه[2]. ولا يبعد أن يكون مدرك الإجماع هو الكتاب والسنة فاللازم الرجوع إليهما.

وكيف كان، فالبحث عن الأنفال لا بد وأن يقع في مرحلتين: تارةً في كون الأنفال ملكاً لولي الأمر، وأخرى في المراد بالأنفال.

الأولى: كون الأنفال ملكاً لولي الأمر

 

ويدل عليه الكتاب والسنة:

 

أما الكتاب:

1ـ فقد قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾[3]. في مجمع البيان وعن جوامع الجامع أن علي بن الحسين زين العابدين ومحمّد بن علي الباقر وجعفر بن محمّد الصادق (عليهم السلام) قرأوا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾ فبناءاً على محذوفية (عن) ظاهر الآية أن السائلين قد سألوا عن النبي وطلبوا منه كل الأنفال فكان جواب هذا السؤال ﴿الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وظاهره أن الأنفال مختصّة بالله والرسول فلا مجال لطلبهم أن يعطوها. وعلى قراءة ﴿عَنِ الأَنفَالِ﴾ فربما ليس الخصوصية المسؤول عنها في الأنفال غير واضحة إلا أن جواب هذا السؤال أن الأنفال لله والرسول. فالحاصل: أن جملة الجواب ظاهرة في اختصاص الأنفال بالله والرسول، والاختصاص حيث إنه مطلق فهو عبارة أخرى عن الملكية.

الظاهر أن ذكر لفظة «الله» إنما هو تكريم للأمر وتشريف للرسول وتأكيد لرسالته وخلافته، ولهذه فالظاهر من الآية المباركة أن الأنفال قد جعلت من الله تعالى ملكاً للرسول، فظاهر الآية المباركة ملكية الرسول للأنفال كلها. والأخبار الكثيرة الناظرة إلى الآية الشريفة شاهدة على إرادة هذا المعنى وستأتي إن شاء الله تعالى.

2ـ ويمكن أن يستدل لذلك من الكتاب بقوله تعالى في سورة الحشر: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[4].

فإن الضمير المجرور بـ (من) في قوله تعالى: (منهم) ظاهره أنه يرجع إلى أهل الكتاب المذكورين في صدر السورة وهم الذين جلوا عن ديارهم وتركوا مدينة الرسول من اليهود، ولا مجالة تختص الآية المباركة بخصوص ما جلا عنها أهلها من أهل الكتاب هؤلاء، إلا أنه لا يبعد أن يستظهر من صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أن المراد به مطلق الأنفال، قال محمّد بن مسلم: سمعته يقول: الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم وما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهو كله من الفيء، فهذا لله ولرسوله، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول، وأما قوله: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ﴾ قال: ألا ترى؟ هو هذا، وأما قوله: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾[5] فهذا بمنزلة المغنم، كان أبي يقول ذلك، وليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول، وسهم القربى، ثم نحن شركاء الناس فيما بقي[6]. فظاهر صدرها اتحاد معنى الفيء والأنفال، وبعد تفسيرهما وحكمه بأنهما لله والرسول ومآلاً بكونهما ملكاً للرسول ثم للإمام صرح بأن المراد بما أفاد الله في الآية هو نفس الفيء المتحد في المعنى مع الأنفال.

ومثل هذه الصحيحة ذيل رواية محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) ففيها: وقال (عليه السلام): ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء﴾ وقال: الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل، والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته[7]. ودلالتها واضحة إلا أن في السند أبا جميلة وهو ضعيف.

3ـ وقد ورد في رواية النعماني التي رواها عنه السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين (عليه السلام): وله ـ يعني للإمام ـ نصيب آخر من الفيء والفيء يقسم قسمين: فمنه ما هو خاص للإمام، وهو قول الله عز وجل في سور الحشر: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهي البلاد التي لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب»...[8]. فتفسير الفيء المذكور في الآية بالبلاد المذكورة مع تسلم الأخبار ـ كما ستأتي إن شاء الله تعالى ـ على أن ما لا يوجف عليه بخيل ولا ركاب من الأنفال يقتضي إرادة هذه الآية أيضاً لهذا المعنى كما صرح في الرواية أولاً بقوله: «فمنه ما هو خاص للإمام» فهذه الآية أيضاً بتفسير هذه الرواية من آيات الأنفال.

إلا أن سند الرواية كما مر غير معتبر، مضافاً إلى أنها معارضة لصحيحة محمّد ابن مسلم التي مرت ذيل الآية الثانية، فإنها صرحت بأن هذه الآية الثالثة بمنزلة المغنم، «كان أبي يقول ذلك، وليس لنا فيه غير سهمين ثم نحن شركاء الناس في ما بقي» والتقدم السندي يقتضي عدم اعتبار رواية تفسير النعماني.

فتحصّل: أن الآية الأولى من سورة الأنفال والآية السادسة من الحشر بتفسير الأخبار دالّتان على الأنفال للرسول، وذكر الرسول خاصة فيهما لا ينافي أن تكون بعده للإمام كما يأتي إن شاء الله في الأخبار. هذا حال الآيات.

وأما السنة فالأخبار الواردة على عنوان الأنفال وتعيين من هي له أنواع ثلاثة: (أحدها) ما يكون بلسان الكتاب الشريف دالاً على أنها للرسول (صلى الله عليه وآله)، وهي روايات متعددة:

1ـ منها موثق زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يقول الله ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾[9]؟ قال: الأنفال لله وللرسول (صلى الله عليه وآله)؛ وهي كل أرض جلا أهلها من غير أن يحمل عليها بخيل ولا ركاب، فهي نفل لله وللرسول[10]. فالموثق كما ترى قد تعرض للآية الشريفة وحكم بأن الأنفال لله والرسول كالآية المباركة.

2ـ ومنها موثق محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سمعه يقول: إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم وما (فما ـ خ) كان من أرض خربة أو بطون أودية، فهذا كله من الفيء والأنفال، لله وللرسول فما كان لله فهو للرسول يضعه حيث يحب[11]. وهو أيضاً يدل على أن الأنفال لله وللرسول من غير تعرض للآية، وعلى أن ما كان الله تعالى فهو للرسول يفعل فيها ويضعها حيث يحب.

3ـ ومنها موثق إسحاق بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الأنفال، فقال: هي القرى التي قد خربت وانجلى أهلها، فهي لله وللرسول، وما كان للملوك فهو للإمام، وما كان من الأرض بخربة [من أرض الجزية ـ خ تفسير القمي] لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وكل أرض لا رب لها والمعادن منها، ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال[12].

فصدر الموثقة قد حكم بأن الأنفال لله وللرسول، وفسر الأنفال بالقرى التي قد خربت وانجلى عنها أهلها إلا أن ذيلها قد زاد عليه بأن مال من لا مولى له إذا مات من الأنفال. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في تفسيرها.

4ـ ومنها موثق عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الغنيمة، قال: يخرج منه الخمس ويقسم ما بقي بين مَن قاتل عليه وولي ذلك، وأما الفيء والأنفال فهو خالص لرسول الله (صلى الله عليه وآله)[13]. ودلالتها واضحة.

5ـ ومنها ما أرسله العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال: قال: هي القرى التي قد جلا أهلها وهلكوا، فهي لله وللرسول (صلى الله عليه وآله)[14]. ودلالتها واضحة مثل صدر موثّق إسحاق.

فهذه الأخبار متّحدة المضمون مع آية الأنفال، قد دلت على أن الأنفال كلها لله والرسول.

 (النوع الثاني) من السنة ما يدل على أن الأنفال للرسول وللإمام بعده وهي أيضاً روايات متعددة.

1ـ فمنها صحيحة حفص بن البختري التي مرت بألفاظها أوائل البحث عن الأمر الثاني الذي قدمناه مقدمة للمقام الثاني وبعده[15].

2ـ ومنها موثق محمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الفيء والأنفال... الحديث، وقد نقلناه بتمامه ذيل آية سورة الحشر[16]. ودلالتهما واضحة.

3ـ ومنها خبر محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال فقال: ما كان من الأرضين باد أهلها وفي غير ذلك الأنفال هو لنا، وقال: سورة الأنفال فيها جدع الأنف، وقال: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء﴾. وقال: الفيء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل، والأنفال مثل ذلك هو بمنزلته[17].

فصدر الخبر وإن كان ظاهراً في أن الأنفال للأئمة (عليهم السلام) بناءاً على أن ضمير المتكلم ظاهر فيهم إلا أن ذكر آية الفيء ـ الظاهرة في أنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم التصريح بأن الأنفال أيضاً بمنزلته ـ دليل على أن الأنفال للرسول وللإمام كما مر في الأولين، إلا أن سند خبر الحلبي ضعيف بأبي جميلة.

4ـ ومنها ما في تفسير النعماني عن علي (عليه السلام) ـ على ما حكاه عنه السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه ـ : إن للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال الله عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وإنما سألوا الأنفال ليأخذوها لأنفسهم، فأجابهم الله بما تقدم ذكره... فما كان لله ولرسوله فهو للإمام[18]. وهو واضح الدلالة في أن الأنفال للرسول ثم بعده للإمام القائم بأمور المسلمين، إلا أن سنده ضعيف كما مر.

5ـ ومنها ما أرسله المفيد عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الأنفال هو النفل، وفي سورة الأنفال جدع الأنف، قال: وسألته عن الأنفال، فقال: كل أرض خربة أو شيء كان يكون للملوك وبطون الأودية ورؤوس الجبال وما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكل ذلك للإمام خالصاً[19].

فإن كان الجميع رواية واحدة فصدرها بقرينة ذكر سورة الأنفال يدل على أن الأنفال للرسول (صلى الله عليه وآله) وذيلها على أنها للإمام كالأخبار الماضية، وإن كان روايتين فالأولى من النوع الأول من الأخبار والثانية من النوع الثالث الآتي.

6ـ ومنها ما عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن بعض أصحابنا رفع الحديث وفيه: قال: وما كان من فتح لم يقاتل عليه ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه فكيف ما عاملهم عليه؟ النصف أو الثلث أو الربع أو ما كان يسهم له خاصّة، وليس لأحد فيه شيء إلا ما أعطاه هو منه، وبطون الأودية ورؤوس الجبال والموات كلها هي له، وهو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ﴾ أن تعطيهم منه ﴿قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وليس هو يسألونك عن الأنفال، وما كان من القرى وميراث من لا وارث له فهو له خاصة، وهو قوله عز وجل: ﴿مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾[20].

فظاهر أن الأنفال للرسول والإمام، أما أنه للرسول فبقرينة ذكر آية الأنفال، وأما أنه للإمام أيضاً فلرجوع ضمير «له» إليه كما يستفاد مما قبله فراجعه، إلا أن الحديث مرفوع، بل ربما يحتمل أن لا يكون مرفوعاً عن المعصوم (عليه السلام) بلحاظ أن قوله: «إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه...» دليل على أن قائله غير الإمام (عليه السلام) والله العالم.

فهذا النوع الثاني من الأخبار قد ذكر أن الأنفال للرسول والإمام صلوات الله عليهما.

 (والنوع الثالث) من السنة ما يدل على أن الأنفال للإمام وهي أيضاً روايات متعددة:

1ـ منها صحيحة أبي الصباح المروية في أصول الكافي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قوم فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن المحسودون الذين قال الله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[21]،[22]. فبناءاً على إرادة خصوص الأئمة (عليهم السلام) من ضمير الأئمة تدل الصحيحة على أن الأنفال ملك لهم، وإن أريد منه أعم من الأئمة والرسول كانت من أخبار النوع الثاني.

2ـ ومنها ما في خبر حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح (عليه السلام):... وله ـ يعني الإمام ـ بعد الخمس الأنفال، والأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال...[23] ودلالته واضحة.

3ـ ومنها مضمر سماعة بن مهران قال: سألته عن الأنفال فقال: كل أرض خربة أو شيء يكون للملوك فهو خالص للإمام، وليس للناس فيها سهم، قال: ومنها البحرين لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب[24]. وإضماره لا يضر فإن مثل سماعة لا يسأل غير الإمام سيما وإن التخصيص بالإمام لا يناسب مذهب العامة، وكيف كان فالحديث من أقوى الأحاديث في الدلالة على الملك؛ فإن جملة «وليس للناس فيها سهم» حيث إنها بصدد نفي الحق عن غيره تؤكد أن الملك خاص بالإمام (عليه السلام).

4ـ ومنها ما رواه الحارث بن المغيرة النصري قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فإذا نجيّة قد استأذن عليه... فقال: يا نجيّة سلني، فلا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به، قال: جعلت فداك ما تقول في فلان وفلان؟ قال: يا نجيّة إن لنا الخمس في كتاب الله ولنا الأنفال ولنا صفو المال، وهما والله أول من ظلمنا حقنا في كتاب الله... الحديث[25].

وضمير المتكلم ظاهر جداً في إرادة خصوص الأئمة (عليهم السلام)، فإن الظلم منهما إنما وقع عليهم، فدلالته على اختصاص الأنفال بهم واضحة، إلا أن في السند جعفر ابن محمّد بن حكيم وهو ضعيف.

5ـ ومنها ما عن مقنعة الشيخ المفيد (قدس سره) مرسلاً عن الصادق (عليه السلام) قال: نحن قوم فرض الله طاعتنا في القرآن، لنا الأنفال ولنا صفو المال...[26]. وهو في الدلالة مثل سابقه لكنه مرسل.

6ـ ومنها ما عن العياشي مرسلاً عن حريز عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الأنفال فقال: كل أرض باد أهلها فذلك الأنفال فهو لنا[27]. ودلالته كسابقه إلا أنه أيضاً مرسل.

7ـ ومنها ما عنه مرسلاً عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لنا الأنفال...[28]. وهو مثل سابقه.

8ـ ومنها ما عنه مرسلاً عن زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير أنهم قالوا له: ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: الفيء والأنفال والخمس...[29]. والحديث مرسل مضمر إلا أن علوّ شأن المضمرين ربما يجبر هذا الضعف بل قد يقال رجوع الضمير إلى أبي عبد الله (عليه السلام) بقرينة أنه المروي عنه في الخبر السابق عليه، فراجع[30]. وهو في الدلالة مثل ما سبق، بل هو صريح في الإمام.

هذه هي الروايات الواردة على عنوان الأنفال، والظاهر أنه لا خلاف بينها، فإن كل إمام في زمان إمامته بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) قائم مقام الرسول، وفي الحقيقة أن الأنفال للقائم بأمور المسلمين كان هو الرسول أو الإمام المعصوم (عليهما السلام)، والطائفة الثانية من الأخبار تشهد لهذا المعنى، والاختصاص بخصوص الأئمة (عليهم السلام) في النوع الثالث إنما هو لانحصار المالك لها في زمنهم فيهم، فلا إشكال من هذه الجهة.

فالكتاب الكريم وهذه الروايات الكثيرة التي فيها معتبرات عديدة بل لا يبعد تواترها المعنوي تدل على أن جميع الأنفال مختصة بهم وملك لهم، وليس لأحد من الناس فيها حق، ويضعونها حيث شاؤوا أو أحبّوا كما في عدة منهم.

وفي قبال هذه الأخبار خبران آخران ربما يكون الظاهر منهما أن نصف الأنفال للنبي أو الإمام ونصفها الآخر للناس.

1ـ ففي رواية محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول وسئل عن الأنفال فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل لله عز وجل، نصفها يقسّم بين الناس ونصفها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما كان لرسول الله (صلى الله عليه آله) فهو للإمام[31]. فقد حكمت بأن الأنفال لله عز وجل وهي تنقسم قسمين، فنصفها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا النصف يكون بعده للإمام، وأما نصفها الآخر فهو للناس.

2ـ وفي خبر حريز الذي رواه العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته أو سئل عن الأنفال فقال: كل قرية يهلك أهلها أو يجلون عنها فهي نفل، نصفها يقسّم بين الناس ونصفها للرسول (صلى الله عليه وآله)[32]. وهو قريب من سابقته.

وسند كليهما ضعيف لوقوع إسماعيل بن سهل في سند الأولى منهما وهو ضعيف، ولأن الثاني مرسل، فلا حجّة فيهما بنفسهما حتى تصل النوبة إلى البحث عن تعارضهما للكتاب والأخبار العديدة الماضية، وإن غضّ البصر عن ضعف سندهما فالشهرة الفتوائية والروائية وموافقة الكتاب دليل على طرحهما، وأما حملهما على التقية كما ذكره صاحب الحدائق[33] فلا مجال له، فإن العامة أيضاً قائلون بأن الأنفال كلها لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعن بدائع الصنائع (ج: 7 ص: 116) ما نصّه: إن الفيء ـ ويقصد به الأنفال في كلامهم ـ لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة يتصرف فيه كيف شاء، يختصه لنفسه أو يفرّقه فيمن شاء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ...﴾[34] فإذا كان العامة أيضاً قائلين بأن كل الأنفال مختصة برسول الله (صلى الله عليه وآله) فلا يكون الحكم بالتصنيف بالنسبة إليه تقية.

وكيف ما كان، فالحجة والمعتمد هي الأخبار العديدة الماضية الواردة على عنوان الأنفال، وهي مؤيّدة بأخبار أخرى عديدة قد وردت في بعض مصاديقها سيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

فالكتاب الكريم والأخبار العديدة المعتبرة قد دلّت على أن الأنفال كلها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم بعده للإمام المعصوم القائم مقامه. وبعبارة أخرى: إن الأنفال لولي أمر الأمة رسولاً كان أو إماماً محضاً، وهذا هو المدّعى لنا في المرحلة الأولى.

ــــــــــــــــــــ

 [1] مر في الدرس السابق.

 [2] الجواهر: ج: 16 ص: 133.

 [3] الأنفال: 1.

 [4] الحشر: 6.

 [5] الحشر: 7.

 [6] الوسائل، الباب: 1 من أبواب الأنفال ج:6 ص: 368 و 367 الحديث: 12، 11.

 [7] الوسائل، الباب: 1 من أبواب الأنفال ج:6 ص: 368 و 367 الحديث: 12، 11.

 [8] الوسائل: الباب: 1 من أبواب الأنفال ج: 6 ص: 370 و 367 الحديث: 19.

 [9] الأنفال: 1.

 [10] الوسائل، الباب: 1 من أبواب الأنفال ج:6 ص: 370 و 367 الحديث: 19.

 [11] الوسائل، الباب: 1 من أبواب الأنفال ج: 6 ص: 367 و 371 الحديث: 10 و 20.

 [12] الوسائل، الباب: 1 من أبواب الأنفال ج: 6 ص: 367 و 371 الحديث: 10 و 20.