مقدمة في بيان أمرين مهمين:

قبل الورود في تعداد المنابع المالية لا بد من بيان أمرين:

أحدهما

أن هذه الأموال التي بيد ولي الأمر على كثرة أنواعها تنقسم قسمين: فقسمٌ منها بمقتضى أدلة إثباتها عدّ ملكاً لوليّ الأمر وإمام الأمة سواء كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو أحد الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وقسم آخر منها بمقتضى أدلته ملكٌ للمسلمين جعل ولي الأمر أميناً فيه يصرفه في مصارفه، فمن الأول الأنفال والخمس، ومن الثاني الأراضي المفتوحة عنوةً، والدليل على هذا الفرق وتعيين مصاديقه هو الأدلة الواردة، وستأتي إن شاء الله تعالى.

ثانيهما

أن ظاهر الأدلة الواردة في القسم الأول أن الأموال المذكورة ملكٌ لولي الأمر يتصرّف فيها تصرّف المالكين في أموالهم وإن كان الهدف الأصيل من جعلها ملكاً له أن يكون بيده أموال بها تتحقّق الواجبات الإلهية الولائية، فإعداد أموال لتحقق الأهداف الولائية بمنزلة العلّة الغائية من جعل تلك الأموال ملكاً لوليّ الأمر، فلو فرض أن أموال الحكومات المتعارفة عند الناس أموال دولية ليس شيء منها ملكاً لولي الأمر عندهم بل هو أيضاً كموظّف وعامل حكومي يجعل له أجرة معيّنة في كل شهر مثلاً قبال عمله وأمين للناس والرعية في أن يصرف هذه الأموال مصارفها المضبوطة وفي أن يحفظها عن الضياع وأن يعمل بالنسبة إليه معاملات وتجارات توجب ازديادها وأخذ أعواض عنها، فلو فرض هذا في الأموال الدولية في الحكومات الدنيوية إلا أن شرع الإسلام جعل أقساماً متعدّدة من الأموال ملكاً لوليّ أمر الأمة يصرفها فيما يشاء وفي المصارف اللازمة الولائية في عين أن له قسماً آخر هو أموال للأمة والرعيّة، وولي الأمر أمينٌ من الله عليه.

فمن باب المثال قول أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) في صحيح حفص بن البختري: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء[1]. بمقتضى إطلاق الاختصاص المستفاد من اللام وبمقتضى ظهور قوله (عليه السلام): «يضعه حيث يشاء» يدلّ دلالة واضحة على أن الأنفال كلّها مختصّة بالنبي ثم بعده للإمام الذي بعده والاختصاص المطلق عبارة أخرى عن الملك الطلق، كما أن حكم (يضعه حيث يشاء) أيضاً تأكيد لهذه الملكية وبيان لإطلاق ملكية الولي لها بحيث يكون تعيين مصرفها موكول إلى مشيئته.

فهذا في موضوع الأنفال، وهكذا الأمر في موضوع الخمس وصفو المال وغيرهما.

وفي قبال هذا المعنى الذي هو مفاد الأدلة المتعددة احتمال أن تكون هذه الأموال أموالاً حكومية دولية ولم يعتبر ملكيتها الاعتبارية العقلائية لا لله تعالى ولا لولي أمر الأمة المنصوب من قبله لإدارة أمورهم وإنما اعتبر فيها أولوية التصرّف فيها لله تعالى ولولي الأمر الذي هو ولي الأمر على الأمة من عنده، أو احتمال أن هذه الأموال قد اعتُبرت ملكيّتها الاعتبارية لحيثية الإمامة والحكومة بكونها حيثية تقييدية ولم يعتبر ملكاً شخصياً للرسول ولا للإمام.

وهذان الاحتمالان ذكر أوّلهما واختاره سيدنا الأستاذ الإمام الخميني (قدس سره) وثانيهما تلميذه آية الله الشيخ المنتظري ناقلاً له عن أحد الأعلام في كتابه ذخائر الأمة واختاره هو أيضاً. وقد ذكر كل منهما لمختاره وجوهاً لا بد من ذكرها وتحقيق الحق فيها وفي المقام.

أما ما اختاره سيدنا الأستاذ (قدس سره) فيمكن الاستدلال له بوجهين:

أحدهما: ما يستفاد من كلماته في كتاب البيع من أن وحدة السياق في آية وجوب الخمس وآية الأنفال أن الاختصاص الثابت لله تعالى وللرسول ولذي القربى بالنسبة لخمس الغنائم وللأنفال واحد، فإن الظاهر من اللام المذكورة في آية الخمس على كلٍّ من الثلاثة معنى واحد وهذه الوحدة في آية الأنفال أظهر، لوحدة لفظة اللام فيها بقوله تعالى:﴿قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾[2]. وحينئذ فما أريد منه في الله تعالى أريد نفسه بالنسبة للرسول وللإمام، والمحتمل بدواً في معنى اللام أحد أمور ثلاثة: إما الملكية الاعتبارية، وإما الملكية التكوينية، وإما الأولوية بالتصرّف. أما الملكية الاعتبارية فلا يصح عند العقلاء اعتبارها لله تعالى ضرورة عدم اعتبار العقلاء الملكية بهذا المعنى له تعالى بحيث لو وكّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببيعه خرج عن ملكه ودخل ثمنه فيه. وأما الملكية التكوينية فلا صحّة لها في مثل الآيتين اللتين في مقام بيان الحكم الفقهي، فإن آية الخمس عدّت خمس ما غنم له وللرسول و... ومعناه أن أربعة أخماسه لمن غنمه، ومن الواضح أن لا مجال لهذا التفصيل في ملكيته التكوينية كما أن آية الأنفال في مقام جواب الرد لسؤالهم عن الأنفال وملكيته التكوينية ليست ردّاً لهم، وبالجملة: فإرادة الملكية التكوينية أيضاً غير صحيحة. وأما أولوية التصرّف فلا بأس بإرادتها فيراد من اللام في الآيتين بالنسبة إلى الله تعالى أنه تعالى أولى بالتصرّف في الخمس أو الأنفال من كل أحد.

فإذا أريد منها الأولوية في الله تعالى فلا بد من إرادتها في الرسول والإمام ضرورة أنّ حملها فيها على الملكية الاعتبارية موجب للتفكيك وهو خلاف الظاهر جدّاً.

وزاد عليه: أن إرادة الملكية الاعتبارية في وليّ الأمر يلزمها أن تكون تلك الأموال موروثة للورثة بعد موت وليّ الأمر كسائر أمواله الشخصية مع أنه لا ريب في أن هذه الأموال لا تورث بل تنتقل إلى وليّ الأمر والإمام الذي بعده كما ورد في رواية أبي علي ابن راشد قال: قلت لأبي الحسن الثالث (عليه السلام): إنا نؤتي بالشيء فيقال: هذا كان لأبي جعفر (عليه السلام) عندنا فكيف نصنع؟ فقال: ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي، وما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب الله وسنّة نبيّه[3]. وعليه فاحتمال ملكيّتهم ملكاً شخصيّاً باطل جداً.

قال (قدس سره): فالحق أن الله تعالى ولي على هذه الأموال أصالةً وحقاً والرسول (صلى الله عليه وآله) ولي مَن قبله وبعد رسول الله يكون الإمام ولياً[4]. هذا حاصل كلامه (قدس سره) مع توضيحٍ منا واختصار.

أقول: ويرد عليه (أولاً) أن الأولوية الثابتة للرسول أو الإمام إنما هي بمعنى أن إليهم حق التصرّف في هذه الأموال يضعها حيث شاء ـ كما ورد في كثير من الأخبار التي مرّ بعضها وسيأتي إن شاء الله تعالى بعضها الآخر ـ وهذا المعنى من الأولوية أيضاً مثل الملكية الاعتبارية لا يعقل اعتبارها لله تعالى لمثل ما أفاده (قدس سره) في ملكية ضرورة أنه لا معنى لأن يوكّل الله تعالى رسوله بأن يبيع المال الذي له تعالى أولوية التصرّف فيه فيخرج عن أولوية تصرّفه فيه ويحبس ثمنه مكانه، بل نزيد عليه بأنه تعالى لا يباشر التصرّف في شيء من هذه الأموال، ومعنى ولاية ولي الأمر فيها أنه أولى بأن يباشر التصرّف فيها، فهذا المعنى من الأولوية لا مجال لتصوّره في الله تعالى، فلا محالة يلزم التفكيك في المراد من معنى اللام وهو خلاف الظاهر جداً لاسيما في آية الأنفال التي فيها لام واحد. فما اختاره (قدس سره) مشترك في لزوم التفكيك مع القول بالملكية.

و(ثانياً) أن حلّ معضل لزوم التفكيك ـ على أي حال ـ إنما هو بأن يقال: إن الله تعالى إنما ذكر في الآيتين بغاية تشريف أمر الرسول وولي الأمر وإنهما إنما يكون لهم حق الاختصاص المذكور تفضّلاً من الله تعالى وإعطاءاً منه لهما بلحاظ أن ولي الأمر على الأمة إنما جعل ولي أمر بأمر الله تعلى ونصبه وأنه لا يفعل إلا ما يريد الله تعالى منه.

وحينئذ فذكر الله تبارك وتعالى لا يوجب إعضالاً أصلاً، والعمدة هو الأخذ بما يقتضيه ظهور الأدلة أو تنصيصها، ولما كان ظاهرها ـ كما مرت الإشارة إليه ـ أن ولي الأمر مالك لهذه الأموال فالأخذ به لازم من دون محذور أصلاً.

وأما ما زاد عليه: من أن إرادة الملكية الشخصية تستلزم أن تكون تلك الأموال بعد موت ولي الأمر موروثة بين جميع ورثته كما في سائر أمواله الشخصية وهو خلاف النص والفتوى.

فالجواب عنه: أن الاستلزام المذكور عبارة أخرى عن ذكر مقتضى عمومات أدلة الإرث وإطلاقاتها إلا أن هذه الأدلة أيضاً مثل سائر العمومات والإطلاقات قابلة للتخصيص والتقييد بمثل النص المذكور والفتوى المسلّمة. مضافاً إلى إمكان أن يقال بانصراف تلك العمومات والإطلاقات عن الشمول لهذه الأموال التي وإن كانت ملكاً لشخص ولي الأمر إلا أنها إنما جعلت ملكاً له بما أنه إمام وولي أمر لأن تكون يده واسعة لإدارة أمر الأمة، فمثل أموال كذائية مقتضى الاعتبار العقلائي فيها أن تقع تحت يد ولي الأمر في كل زمان لأن يكون هو أيضاً واسع اليد. وكيف كان فهذا الإيراد أيضاً غير متين.

وثانيهما: ربما يستفاد من كلامه (قدس سره) فيما أفاده بالنسبة لسهم السادة من الخمس وبيانه بتوضيح منا: أنه قد روى في الوسائل عن السيد المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه ـ نقلاً عن التفسير النعماني بإسناده المذكور في خاتمة الوسائل عن علي (عليه السلام) ـ أنه قال: وأما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة، ووجه العمارة، ووجه الإجارة، ووجه التجارة، ووجه الصدقات. فأما وجه الإمارة فقوله:﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾[5] فجعل لله خمس الغنائم، والخمس يخرج من أربعة وجوه ـ فذكر ما فيه الخمس وتقسيمه وأن الرسول أو الإمام يعطي الأصناف الثلاثة قدر كفايتهم فقال: ـ فهو يعطيهم على قدر كفايتهم، فإن فضل شيء فهو له، وإن نقص عنهم ولم يكفهم أتمّه لهم من عنده، كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان ثم إن للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال الله عز وجل:﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ﴾[6] وإنما سألوا الأنفال ليأخذوها لأنفسهم فأجابهم الله بما تقدم ذكره الحديث[7].

فالمستفاد من الحديث أن الخمس وكذلك الأنفال بقرينة عطفها على الخمس وجه الإمارة والولاية أمرها بيد ولي الأمر لسد نوائبه من جميع احتياجات الدولة الإسلامية، فكونهما وجه الإمارة يقتضي أن يكون وضعها لمجرد سد نوائب الولاية ولذلك قال في سهم السادة: «فهو يعطيهم على قدر كفايتهم، فإن فضل شيء فهو له، وإن نقص عنهم ولم يكفهم أتمه لهم من عنده كما صار له الفضل كذلك يلزمه النقصان. وبالجملة: فالحديث دليل على أن الخمس والأنفال وجه الولاية ولا يدخلان في ملك ولي الأمر بل بهما يسدّ نوائب الحكومة والولاية، هذا بالنسبة لهذين النوعين من الأموال ويلحق بهما سائر ما جعل تحت زعامة ولي الأمر من الأموال[8].

هذا غاية توجيه الوجه الثاني المستفاد من كلامه بتقريرٍ منا.

أقول: وهذا الوجه أيضاً مخدوش: أما (أولاً) فلأن سند الحديث المذكور في آخر الفائدة الثانية من الوسائل هكذا: «محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة قال: حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام)... وذكر الحديث عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)»[9]. وهذا السند بعينه مذكور في كتاب بحار الأنوار عند نقل كتاب تفسير النعماني في باب ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)... برواية النعماني قال: وهي رسالة مفردة مدوّنة كثيرة الفوائد نذكرها من فاتحتها إلى خاتمتها[10].

وأكثر رجال السند وإن كانوا ثقات إلا أن أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي مجهول، والحسن بن علي بن أبي حمزة ضعيف، وفي أبيه أيضاً كلام لا يخفى على من راجع كتب الرجال، فالحديث غير معتبر السند.

وأما (ثانياً) فلأن مجرد إضافة «وجه» لي الإمارة لا دليل فيه على أن هذه الأموال لا تكون ملكاً لأحد بل هي أموال في يد ولي الأمر لمجرد سد نوائب الحكومة، بل يحتمل أن يكون سر الإضافة أن منشأ تحقق هذه الأموال ووقوعها بيد ولي الأمر إنما هي الولاية، وأما بعد ما تحققت ووقعت تحت يده فلا مانع من أن تكون ملكاً له كما أن الأمر كذلك في وجه العمارة والإجارة والتجارة، فكما أن كلاً من هذه الأمور الثلاثة يوجب ملكية العامر والمؤجر والتاجر فهكذا الولاية توجب ملكية القائم بأمور المسلمين الذي هو ولي أمرهم لهذه الأموال التي تقع بيده.

ففي نفس الحديث: «وأما وجه العمارة فقوله تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾[11] فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك سبباً لمعايشهم بما يخرج من الأرض من الحب والثمرات وما شاكل ذلك مما جعله الله معايش للخلق. وأما وجه التجارة فقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ...﴾[12] إلى آخر الآية فعرّفهم كيف يشترون المتاع في السفر والحضر وكيف يسخرون إذا [يتجرون إذ ـ نسخة البحار] كان ذلك من أسباب المعايش. وأما وجه الإجارة فقوله عز وجل: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾[13] فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم وجعل ذلك قواماً لمعايش الخلق وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه وتصرفاته وأملاكه... وأما وجه الصدقات فإنما هي لأقوام ليس لهم في الإمارة نصيب ولا في العمارة حظ ولا في التجارة مال ولا في الإجارة معرفة وقدرة، ففرض الله في أموال الأغنياء ما يقوتهم ويقوم به أودهم... الحديث[14].

فالناظر بالتأمل في فقرات الحديث يفهم منها بوضوح أن الإمام (عليه السلام) في مقام عدّ أسباب ما به عيش الخلق مما يوجب تحقق مال في يد أحد وليس بصدد نفي حدوث الملك لما يقع في أيديهم عنهم، فلا دلالة فيه على نفي ملك ولي الأمر عما يقع تحت يده، بل إن وحدة السياق تقتضي حصول الملك له أيضاً مضافاً إلى ما أشرنا إليه ويأتي من قيام أدلة كثيرة على ملكية ولي الأمر.

فتحصّل: أن ما ذكر من الوجهين غير تام واللازم الأخذ بمقتضى الأدلة التي هي واضحة الدلالة على الملكية.

وأما الاحتمال الثاني فقد اختاره بعض الأعاظم في كتاب خمسه وهو قد سلم أن هذه الأموال مثل الخمس والأنفال بحسب الشرع اعتبرت ملكاً إلا أن ملكها ليس شخص الرسول والإمام بل هي أموال عمومية وملك لحيثية الإمامة والحكومة، وهذه الحيثية ليست حيثية تعليلية حتى يكون المالك شخص ولي الأمر وتكون الإمامة والولاية علة لمالكيّته فتكون أموالاً له شخصية كسائر أمواله بل هذه الحيثية حيثية تقييدية، وبما أنها منطبقة على ولي الأمر فتكون ملكاً له لا بما أنه شخص كسائر الأشخاص بل بما أنه إمام، ولذا عد الأنفال أموالاً زائدة على الأموال الشخصية وقال: إنها أموال عمومية باقية على الاشتراك، وأخيراً قال: وكيف كان فالأنفال لله تعالى بالذات ولرسوله بجعلها له وللإمام بعده لا لشخصه بل لمقامه، فليست الإمامة حيثية تعليلية لتملك شخص الإمام بل حيثية تقييدية فالملك لنفس مقام الإمامة نظير ما هو المعمول من عد الأموال العمومية ملكاً للدولة والحكومة، فالملك للإمام بما هو إمام ويصرفه في مصالح الإمامة والأمة وإدارة شؤونهم وليس ملكاً شخصياً له (عليه السلام)[15].

وقد تكرر منه التعرض لهذه المسألة في مواضع متعددة من كتاب الخمس فتعرض له في أوائل الكتاب عند شرح قول الماتن: «وقد جعلها الله تعالى لمحمّد (صلى الله عليه وآله)»[16]. وتعرض له أيضاً عند البحث عن تعلق الخمس بالمعادن ذيل المسألة 8 وقوّى أن المعادن من الأنفال[17] وتعرّض له أيضاً ونقله عن كتاب ذخائر الأمة عند البحث عن قسمة الخمس ذيل المسألة الأولى من هذا الفصل[18] وتعرض له أخيراً في فصل الأنفال أيضاً[19]، ولا منافاة بين كلماته في الموارد بل محصّلها ما نقلناه.

أقول: فهو وإن عبّر كراراً بأن هذه الأموال ملكٌ للحكومة أو الإمامة أو الإمارة وبأنّ هذه العناوين حيثيّات تقييدية إلا أن تصريحه بأنّ هذه العناوين منطبقة على الرسول والأئمة وبأن الملك للإمام بما هو إمام دليل على أنّ مراده أن المالك لها هو الإمام بما أنه إمام وإلا فنفس العناوين المذكورة مبدأ لوصف الحاكم والإمام والأمير، وواضحٌ أن مبدأ الأوصاف سواء كان المصدر أو اسم المصدر مباين للموصوف وهو بلا ريب بشرط لا بالنسبة للذات، فالمالك هو الإمام لا بما أنه شخص بل بما أنه إمام.

فبناءاً على هذا التحليل فلا يبعد أن ندّعي أنه أيضاً قائل بنفس ما استظهرناه من الأدلة، فإنه يعترف بأن هذه الأموال أملاك إلا أنه يأبى أن يكون مالكها الأشخاص وإن كان الشخص شخص الإمام والرسول بل هي أملاك للإمام أو الرسول بما أنه إمام وولي أمر، فلا يزيد على ما نقول شيئاً إلا جعل حيثية الإمامة تقييدية حتى لا تكون ملكاً للشخص وهي ليست زيادة بل الحق أن الأمر كذلك عندنا أيضاً إلا أنه مع ذلك فبعض أدلته غير منطبق على هذا المعنى، فلنلاحظ الأدلة:

1ـ فمن هذه الأدلة هو خبر أبي علي ابن راشد الماضي ذكره حيث عبّر الإمام (عليه السلام) بقوله: «ما كان لأبي (عليه السلام) بسبب الإمامة فهو لي» فقوله (عليه السلام): «بسبب الإمامة» دليل على أن حيثية الإمامة دخيل في هذه الملكية وليست الأموال ملكاً له بما أنه شخص[20]، وهذه الدلالة واضحة.

2ـ ومنها صدر رواية المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني الماضي ذكرها[21] بعناية أنه (عليه السلام) عدّ الخمس وجه الإمارة، فتدل على أن الإمارة حيثية تقييدية معتبرة في المالك له[22].

لكن قد مر منا إنكاره بدليل أنه قد ذكر في الرواية وجه العمارة والتجارة والإجارة، ومن المعلوم أن الأموال في الموارد الثلاثة أموال شخصية فلا محالة هكذا الإمارة. مضافاً على أن سند الرواية غير معتبر كما عرفت.

3ـ ومنها ما في الرواية المذكورة أيضاً، فإنها بعد ما ذكرت الخمس وأن نصفه للإمام قال: «ثم إن للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)...» فجعل فيها الأنفال للقائم بأمور المسلمين، وظاهره كونه له بما أنه قائم بأمورهم فهي ملكٌ لمنصب الإمامة[23]، يعني للإمام بما أنه إمام. والدلالة كما أفاد تامة وأن في السند ضعفٌ كما مر.

4ـ ومنها ما ذكره بقوله: «إن الأنفال في اعتبار العرف والعقلاء في جميع الأعصار والأمطار أملاك عمومية تتعلق بالعموم وتصرف في المصالح العمومية، فالظاهر تنفيذ شريعة الإسلام لما يعتبره العرف والعقلاء قديماً وحديثاً مع جعل زمام اختيارها بيد الإمام المعصوم العادل الذي لا يؤثر أحداً بلا وجه ولو كان من أخص خواصّه»[24].

أقول: وهذا هو الدليل من أدلته الذي قلنا إنه غير منطبق على ما مر من المدعى، فإن مقتضاه أن لا يكون الإمام مالكاً للأنفال ولو بما أنه إمام فإن ما عند العقلاء كذلك كما ذكره مع أنه صرّح كراراً بأن الإمام بما أنه إمام مالك للأنفال والخمس ونحوهما، وقد مر أنه مقتضى أدلة الشريعة وأن ملكية الإمام والولي لعمدة من الأموال العمومية هي الفارق بين ما عند العقلاء وعند شارع الإسلام، والدليل عليه هو الأدلة المتعددة الكثيرة الدالة على أنها ملكٌ للرسول والإمام، وثلاثة من هذه الأدلة هي الأخبار الثلاثة الماضية آنفاً.

هذه هي الوجوه المذكورة في كلامه، ويمكن الاستدلال له أيضاً تارةً بالاستناد إلى الأدلة التي وردت في أن هذه الأموال لهم عليهم السلام فإن جلّها واردة على عنوان الرسول والإمام أو الوالي، فمثلاً صحيحة حفص بن البختري الواردة في الأنفال عن أبي عبد الله (عليه السلام) هكذا: «قال (عليه السلام): الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم، وكل أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء»[25]. ومثلها خبر حمّاد ابن عيسى الوارد في صفو المال والخمس والأنفال بل فيه قوله (عليه السلام): «الأنفال إلى الوالي». وصحيحة محمّد بن مسلم وغيرها[26]. وصحيحة معاوية بن وهب الواردة في الخمس والغنيمة الحربية التي لم يكن العثور عليها بالمقاتلة هكذا: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس لله وللرسول وقسّم بينهم أربعة أخماس، وإن لم يكونوا قتالوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب»[27]. فجعلت الخمس للرسول والغنيمة للإمام.

وفي صحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر الواردة في الخمس عن الرضا (عليه السلام) قال: سئل عن قول الله عز وجل: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾[28] فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ فقال: لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فهو للإمام، فقيل له: أفرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر وصنف أقل ما يصنع به؟ قال: ذاك إلى الإمام، أرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف يصنع؟ أليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ فكذلك الإمام»[29]. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في الأموال التي لولي الأمر، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

فقد جعل عنوان المالك فيها الرسول أو الإمام أو الوالي، والعقلاء يفهمون منها أن هذه العناوين حيثيّات دخيلة في ترتيب حكم الملكية ونتيجته أن الملكية إنما هي للإمام بما أنه إمام كما هو المطلوب.

ويمكن الاستدلال أيضاً بما في ذيل خبر حماد بن عيسى عن العبد الصالح (عليه السلام) ففيه: وليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس على ثمانية أسهم، فلم يبق منهم أحد، وجُعل للفقراء قرابة الرسول (صلى الله عليه وآله) نصف الخمس فأغناهم به عن صدقات الناس وصدقات النبي (صلى الله عليه وآله) وولي الأمر، فلم يبق فقير من فقراء الناس ولم يبق فقير من فقراء قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا وقد استغنى، فلا فقير، ولذا لم يكن على مال النبي (صلى الله عليه وآله) والوالي زكاة لأنه لم يبق فقير محتاج[30].

فقد عبّر عن مال الخمس الذي للرسول والوالي بمال النبي والوالي، فيدل على أمرين: كون الخمس من أموالهم، وكون المالك هو النبي والوالي الظاهر في أن الولاية حيثية معتبرة في المالك وهو المطلوب.

ثم قال بعد بيان أن المالك هو الإمام بما أنه إمام قال: ويتفرّع على ما ذكرنا أن ما أخذه الإمام (عليه السلام) بحق الإمامة من المس والأنفال ينتقل إلى الإمام بعده لا إلى وارثه كما صرّح بذلك في الرواية السابقة ـ يعني رواية أبي علي ابن راشد ـ خلافاً لما في الشرائع والجواهر، فراجع[31].

أقول: ومما ذكرنا ذيل كلمات السيد الإمام (قدس سره) أن تفرّعه على هذه المقالة إنما هو بناءاً على شمول أدلة الإرث لجميع الأموال الشخصية حتى ما كان الهدف المشروع الخاص به هو الأهداف العمومية، وإلا فلو انصرفت هذه الأدلة عن مثل هذه الأموال لما تم هذا التفرع لعدم دخولها تحت أدلة الإرث حتى لو كانت أموالاً شخصية، هذا مع أن هذا التفرّع لو سلّم فهو عبارة أخرى عن اقتضاء إطلاق أدلّة الإرث، وإلاّ فالفتوى والنص المعمول به يوجبان تقييد تلك المطلقات، فتذكّر.

ــــــــــــــــــــ

 [1] الوسائل: الباب:1 من أبواب الأنفال ج:6 ص:364 الحديث:1، عن الكافي: ج:1 ص:539.

 [2] الأنفال: 1.

 [3] الوسائل: الباب: 2 من أبواب الأنفال ج: 6 ص: 374 الحديث: 6.