﴿وَإذْ قالَ إبْراهيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا البلدَ آمناً وَاجْنُبْني وَبَنِيَّ اَنْ نَعْبُدَ اْلأَصْنامَ﴾[1].

قد جرى الحديث مراراً عن الحج الإبراهيمي في الخطب التي تلقى والمقابلات التي تجرى بخصوص الحج، ولكن قلما وضع تحديد دقيق لهذا الحج، وأُجيب على السؤال التالي:

 

 ما هو الحجُّ الإبراهيمي؟

 

 وما اختلافه عن الحجِّ غير الإبراهيمي؟

 

إذاً، فما أنسب أن يكون هذا الموضوع المهم محور حديثنا في ندوة الحج هذه التي تقعد في جوار مزار إمامنا العزيز، فكل ما لدى الشعب وكل ما حققته له الثورة الإسلاميّة هو من بركات هذا الوجود الطاهر.

وبالطبع فإنني لا أعتقد بأنّ هذا البحث الواسع سأتممه في هذه الكلمة، لكنني أرجوا أن أتحدّث عنه بشكل مستفيض في مناسبات أُخرى.

 

ما هو الحجُّ الإبراهيمي؟

الحج الإبراهيمي: هو الحج الذي شرّعه الله تبارك وتعالى، وأمر بأن يوءَذن به إبراهيم الخليل (عليه السلام) ﴿وَ اَذّن في الناسِ بالحجّ...﴾ .

وقد جدّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عصره روح الحياة في هذا الحج، غير أنه لم تمر مدة قصيرة على وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى طواه النسيان ـ وللأسف ـ، ولم يستطع مسلمو الصدر الأوّل أن يواصلوه في المجتمع الإسلامي، حتى جدّده بعد مضي أربعة عشر قرناً في مجتمعنا الإيراني رجل من السلالة الطيبة لإبراهيم (عليه السلام) ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإننا نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأداء الحج بالشكل الذي رسم لنا معالمه الإمامُ العزيز.

عبّر الإمام عن الحجِّ الحقيقي بالحجِّ الإبراهيمي تارة وبالحج الإبراهيمي ـ المحمدى تارةً أُخرى، في قابل الحج غير الإبراهيمي.

وانسب ما يمكن أن نصف به هذا النوع الثاني من الحج في هذه البرهة من تاريخ الإسلام هو الحج الأمريكي، ذلك أنّ أنصار الإسلام الأمريكي هم الذين يحثّون عليه، إذ لا يتضمن إلاّ شكلاً ظاهرياً للمناسك، دون أن ينطوي على محتوى مفيد، بل إنه يضر الإسلام والمجتمع الإسلامي لأنه يوجّه في خدمة أهداف أعداء الإسلام وأعداء الحج الإبراهيمي.

يعتقد الإمام الراحل أن الحجَّ الإبراهيمي يختلف جذرياً عن الحج الأمريكي، من الناحية الفلسفية ومن ناحية المحتوى، ومن ناحية الحجاج والقائمين على أُمور الحج أيضاً.

فما هي فلسفة الحج عند الإمام؟ وماذا يجب أن يكون عليه محتوى الحج؟ وكيف يجب أن يكون عليه تفكير القائمين على شؤون الحج وسلوكهم العملي؟ وكيف يجب أن يعمل الحجاج ببيت الله الحرام لو أرادوا أداء الحج بصورته الحقيقية الإبراهيمية ؟

استخلصتُ رؤية الإمام في هذه المواضيع من نداءاته وخطبه وبياناته التي كان يصدرها في هذه المناسبة، سأبينها لحضراتكم، وأوصي جميع الحجاج، ولاسيما الإخوة علماء الدين بمطالعة نداءات الإمام وبياناته بهذا الخصوص والتي طبعت في مجلدين.

 

فلسفة الحج الأمريكي:

تتلخص فلسفة الحج الأمريكي في كونه زيارة ترفيهية سياحية ليس إلاّ، وعلى حدّ تعبير الإمام فإن الحج الأمريكي لا يخرج عن كونه سفراً ترفيهياً لمشاهدة القبلة والمدينة وتكرار سلسلة من الألفاظ المفرغة من معناها، وأداء سلسلة من الحركات الخالية من المضمون، والحاج لا يعلم لِمَ يطوف حول الكعبة، ولِمَ يسعى بين الصفا والمروة؟

لا يعي لِمَ يُحرمُ؟ وما هي فلسفة رمي الجمرات وتقديم الأُضحية؟

وليست هناك أية علاقة بين الحج الأمريكي وبين البحث عن جواب للأسئلة: «كيف تكون الحياة، وما هي طريقة الجهاد، وكيف يمكن الوقوف بوجه العالم الرأسمالي؟»[2].

ولا علاقة ـ في منظار الحج الأمريكي ـ بين الحج وبين كيفية استيفاء مسلمي العالم ومحرومية لحقوقهم وسحبها من الظالمين والقراصنة[3].

ولا علاقة بين الحج وبين وجوب أن يُطرح المسلمون في العالم كقوة عظيمة[4].

ولا علاقة بين الحج وبين طريقة تعامل المسلمين مع الأنظمة العملية[5].

هذا هو تفسير الإمام للحج الأمريكي.

كما انّه لا علاقة بين الحج الأمريكي وبين أن يتابع الحاج معاناة المسلمين الفلسطينين على يد الكيان الغاصب للقدس.

ولا علاقة بين الحج الأمريكي وبين أهم قضية يشهدها العالم الإسلامي حاضراً في التحركات المشبوهة لقادة الدول الإسلاميّة الرامية إلى إقامة العلاقات مع الكيان المحتل للقدس وتسويغ ما تسمى بمؤتمرات السلام.

حيث يتعرض المسلمون الفلسطينيون واللبنانيون هذه الأيام لأشدّ الضغوط.

وأيضاً لا علاقة بين الحج وبين ما يعانيه المسلمون والمحرومون في أفريقيا وأفغانستان.. هذا هو الحج الأمريكي.

 

فلسفة الحج الإبراهيمي:

بيّن الإمام العزيز فلسفة الحج الإبراهيمي بشكل جميل جذاب، وهذه مقتبسات من عبارات هذا الرجل الجليل في تبيين فلسفة الحج الإبراهيمي: فالحج من وجهة نظر الإمام «تَجَلٍّ وتكرار لجميع مشاهد إبداع الحب في حياة الإنسان والمجتمع المتكامل في الدنيا»[6]. وهذه أجمع جملة وأفضل تعبير يمكن أن نوضح فيه فلسفة الحج الإبراهيمي، ذلك أن الحج هو تجلّ لكل مشهد من مشاهد هذا الإبداع، تجلّ للجهاد والإيثار والتضحية والشجاعة والشهامة والوحدة والذكر والارتباط بالله ولقاء الله و...

والهدف من الحج بنظر الإمام هو اقتراب الإنسان من صاحب البيت والاتصال به، وليس الحج مجرد حركات وأعمال وألفاظ... وليس مجرد النظر إلى بعض الأحجار ومشاهدة البيت. دققوا في عبارات الإمام حينما يقول: «إنّ فلسفة الحج هي رؤية صاحب البيت، ولابُدّ من أن توجّه الحركات والأعمال التي تؤدى هناك في هذا السبيل».

«إنّ مناسك الحج هي مناسك الحياة، وعلى الأُمّة الإسلاميّة بمختلف قومياتها أن تصبح إبراهيمية لتلتحق بركب أُمة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتكون واحدة ويداً واحدة»[7].

 

فالحجّ تنظيم وتمرين وبلورة للحياة التوحيدية.

يرى الإمام أن «الحج يمثل مركز المعارف والإلهية الذي ينبغي أن يؤخذ منه محتوى السياسة الإسلاميّة في جميع الأبعاد الحياتية». لهذا يمكن أن تُستخرج سياسة الإسلام بجميع أبعادها من الحج كما يقول الإمام.

ولقائد الثورة العزيز الذي يواصل بحق نهج الإمام قولاً مماثلاً في حُكمه لي إذ يقول: «إنّ فريضة حج بيت الله هي من جملة الفرائض النادرة التي أدرجت فيها أبعاد متعددة ومتنوعة ترتبط بالحياة الفردية والسلوك الجمعي بشكل عظيم وذات تأثير عميق في الجسم والنفس الفكر وفي السلوك الآدمي، وتهبه، لو أدّاها بالشكل الصحيح، توفيقات كبيرة في جميع الميادين المادية والمعنوية».

ومن مهمّات فلسفة الحج أيضاً في رؤى الإمام بُعده السياسي، حيث يقول: «البعد السياسي للحج لا يقل أهمية عن بعده العبادي، ففي البعد السياسي عبادة فضلاً عن الجانب السياسي»[8].

إنّ من فلسفة الحج أن يلبي صرخات الظلامة المنطقة من فلسطين وأفريقيا وأفغانستان، بل يستجيب لكل المظلومين والمستضعفين في العالم، لأن الحج «قيام»: ﴿جَعَلَ اللهُ الكَعبةَ البيتَ الحَرامَ قياماً لِلنّاس...﴾[9].

فـ «البيت الذي أُسس للقيام. وهذا القيام للناس لا بُدّ من الاجتماع فيه لهذا الهدف الكبير، وتعيين منافع الناس في تلك المواقف الشريفة»[10]. هذا هو تقييم الإمام ونظرته إلى الحج، وليست منافع الناس أن يذهبوا هناك ويجلبوا البضائع، ويبتاعوا السلع الأمريكية التي حرّمها الإمام، وفي توضيحه للآية الكريمة: ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ التي يبين فيها القرآن فلسفة الحج، يقول الإمام:

«أي نفع أعلى وأسمى من أن تقطع أيدي جبابرة العالم والجائرين من التسلط على البلدان المظلومة، وتصبح ثرواتها العظيمة بأيدي أبنائها»[11].

أجل، هذا هو النفع الأكبر، وعلى حجاج بيت الله أن يأخذوا العبر من هذه الآية في معرفة فلسفة الحج.

ويقول الإمام عن الآية: ﴿وَطَهِّربَيْتي للطّائِفينَ والقائِمينَ﴾[12]: ليس المقصود التطهير من النجاسات الظاهرية وحسب، فبيت الله يجب أن يطهر ليس فقط من النجاسات الظاهرية، وإنما من الأرجاس المعنوية أيضاً التي يفوق ضررها وخطرها على المجتمع ضرر وخطر أي شيء آخر. الحج الإبراهيمي هو ذلك الحج الذي يقام لتطهير بيت الله من النجاسات الظاهرية والباطنية، يقول الإمام: «المراد التطهير من جميع الأرجاس، وعلى رأسها الشرك، الأمر الذي بيّنه صدر الآية الكريمة»[13]. ﴿وَاِذْ بَوَّأْنا لإبراهيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهّر بَيْتيَ...﴾.

ويرى الإمام أنّ من أهداف الحج «إيجاد التفاهم وتعزيز أواصر الوحدة الإسلامية»: «من مهمات فلسفة الحج إيجاد التفاهم، وتعزيز الأخوّة بين المسلمين، وعلى العلماء والخطباء طرح المسائل الأساسية والسياسية والاجتماعية مع إخوتهم في الدين وتهيئة مشاريع لحلها، ليطرحوها بدورهم على العلماء وأصحاب الرأي لدى عودتهم إلى بلدانهم».

وأخيراً فان الحج بنظر الإمام «بمستوى القرآن يستفيد منه الجميع، لكنّ المفكرين والخائضين غمراته والمتحسسين لآلام الأُمّة الإسلاميّة لو خاضوا لحج معارفه ولم يخشوا الاقتراب منه والغوص في أحكامه وسياساته الاجتماعية لاصطادوا من صدف هذا البحر كمية أعظم، من جواهر الهداية والرشد والحكمة والانعتاق، ولارتووا وإلى الأبد من زلال حكمته ومعرفته»[14]. صلى الله على روحك وبدنك يا إمام، فهل هناك أجمل واشمل وأدق من هذه العبارات عن فلسفة الحج؟

يضيف الإمام: «ولكن ما العمل؟ وإلامَ تشكو هذا الغم الكبير؟ فقد أصبح الحج كما القرآن مهجوراً».

«ليس حجاً هو الحج الخالي من الروح والحركة والقيام والبراءة والوحدة، والحج العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك».

أيها الأعزاء، يمكنكم أن تزيلوا هذا الغم عن روح الإمام الطاهرة، صحيح انّه رحل عنّا، بيد أن رسالته تُثقل كواهلنا فرداً فرداً.

وقد لخّص الإمام الباقر (عليه السلام) جدّ إمامنا هذا الكلام في عبارة واحدة وقال: في تلك الأيام العصيبة التي كلكل فيها ظلّ السلطة الجائرة على العالم الإسلاميّ: «إنما امر الناس أن يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم»[15].

يُريد الإمام الباقر (عليه السلام) أن يبين لنا من خلال استعماله لتعبير الأحجار أنّ الحج المجرد من الفلسفة الإبراهيمية للحج لا يعدو كونه طوافاً بالأحجار.

يقول الإمام الخميني: «التكليف الإلهي للحجاج في هذه البرهة الزمنية أن ينكروا كلّ موضوع يُشم منه رائحة الاختلاف والوقيعة بين صفوف المسلمين. ويعتبروا البراءة من الكفار وقادتهم واجباً من واجباتهم في المواقف الكريمة، ليكون حجّهم حجّاً ابراهيمياً وحجّاً محمدياً، وإلاّ سيصدق عليهم القول المعروف: ما أكثر الضجيج، وأقل الحجيج!»[16].

كان هذا جانباً من رؤى إمام الأمة وهو يتناول القضايا التي تخص فلسفة الحج وأُسس الحج الإبراهيمي، وعلى قاعدة هذه الفلسفة والأُسس يختلف محتوى الحج بدوره، كما يختلف الحجاج والقائمون على شؤون الحج.

وقبل أن أختم هذا الحديث، أتطرق باختصار إلى محتوى الحج الذي يختلف في الحج الإبراهيمي عن غير الإبراهيمي في كلّ مناسكه من التلبية إلى الرمي، إذ يرى الإمام أنّ كلّ أعمال الحج وحركاته وسكناته تنطوي على محتوى حيوي تربوي محرك خاص، وحينما يقول الحاج: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك...» لا يكون قوله صادقاً وحقيقياً إلاّ حينما يصغي من أعماقه لنداء الحق ويستجيب لدعوة الله تعالى.

فالمسألة هنا مسألة الحضور في المحضر، ولا يستطيع أن يقول لبيك إلاّ من يحس بهذا الحضور، فإنكم وأنتم في غرفة مغلقة الأبواب لا يوجد فيها غيركم لا تقولون «نعم»، إنّما تتفوّهون بهذه الكلمة حينما يوجد من يناديكم، فتشهدون وتسمعون صوته ودعوته، فالمسألة هي مسألة الحضور في المحضر ومشاهدة جمال المحبوب، وكأن الملبي في هذا المحضر قد خرج عن حالته الطبيعية. وتخلى عن ذاته.

إلهي، هل لنا أن ندرك ولو للحظة واحدة المعنى الحقيقي للحج والمعنى الحقيقي للإحرام ومفهوم التلبية؟

يصور الإمام العزيز هذه الحالة بشكل يبدو أن الملبي في محضر الله يخرج عن وضعه الطبيعي ويكرر التلبية ثمّ ينـزهه عن الشريك بالمعنى المطلق، أي: اللهمّ إني لا أُشرك بك مطلقاً، وأبرأ من كل الطواغيت الكبار والصغار، ولا استجيب إلا لك، كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) في الحديث المروي عنه:

«وأحرم عن كلّ شيء يمنعك من ذكر الله، ويحجبك عن طاعته. كلّ ما اشَغَلَك عَنِ اللهِ هوَ صَنَمُك».

أحرِم عن كل ما يبعدك عن محضر الله، ويجعلك غافلاً عن ذكره، ويحجبك عن طاعته، وحرّمه على نفسك، وحينما تلبي «لبِّ تلبيةً صادقة، خالصة، زاكية لله ـ عزّ وجلّ ـ في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى»[17]. وحينما تتمسك بالعروة الولاية الوثقى ـ وهي الوجهة السياسية الأساسية للحج. قل «لبيك» بإخلاص وصدق، وقل: اللّهم أتيت لأقول لك «لبيك» ولغيرك «لا».

اللهم أفِدْنا من الحج كما يفهمه أولياؤك وينتفعون منه.

اللهم وفّقنا لأداء الحج كما جسّده لنا الإمام العزيز الذي نقف الآن في محضره وتشهدنا وتحيطنا روحه الطاهرة.

اللهم صِلْ ثورتنا بثورة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه) العالمية، وسدّد قائد الثورة آية الله الخامنئي واكتب له النصر المبين.

ـــــــــــــــــ

[1] سورة إبراهيم: 35.

 [2] بيام استقامت (نداء الاستقامة): 7.

 [3] «ما للحج ولأخذ حقوق المسلمين والمحرومين من الظالمين». بيام استقامت: 7.

 [4] «ما للحج واستعراض المسلمين لأنفسهم كقوة عظمى تمثل القوة الثالثة في العالم». بيام استقامت: 7.

 [5] «ما للحج وثورة المسلمين ضد الأنظمة العميلة». بيام استقامت: 7.

 [6] بيام استقامت: 8.

 [7] نفس المصدر.

 [8] صحيفة نور 18: 67.

 [9] سورة المائدة: 97.

 [10] صحيفة نور: 19: 43.

 [11] صحيفة نور: 19: 43.

 [12] سورة الحج: 26.

 [13] صحيفة نور: 18: 87.

 [14] بيام استقامت: 8.

 [15] بحار الأنوار 99: 374(ط. بيروت).

 [16] صحيفة نور: 19: 46.

 [17] لبي: بمعنى أجِبْ.