سماحة العلامة الشيخ عفيف النابلسي

خلال الأيام الأولى للاحتلال الإسرائيلي عام 1982، اختفت الكثير من القوى والشخصيات التي كانت فاعلة على ساحة الجنوب كما تختفي كائنات السبات الشتوي. توّقع الإسرائيليون أن يبقى الجنوبيون نياماً، ورغبوا أن تمضي الأوقات القادمة من دون مشاكل.

ظنوا أنّ قليلاً من الطعام والسلام سيجعل الجنوبيين اليائسين من دولتهم ومن الإساءات التي سببّها لهم بعض الفلسطينيين، يرحبون بالجيش الإسرائيلي. لم يكونوا يعلمون أنّ الجنوبيين لا يمكن أن ينفصلوا عن مجرى كربلاء، وأنهم لا يأكلون من طعام حرام ولا يجذلون لسلامٍ يقيمه متوحشون وغاصبون.

أيام ويتحول بيتي في البيسارية إلى مخزن سلاح، أولادي وبعض الشباب يتطوعون لتخبئته في باطن الأرض ريثما تحين الفرصة لاستعماله من جديد.

كان الليل دامس الظلام، والمنزل راقد في سكون مخيف عندما طرق الباب طارق. الساعة تجاوزت منتصف الليل. سألت عن الطارق . فأجاب: أنا الشيخ راغب (حرب). كان برفقته اثنان من المحبين له. رحبت به على عجل واستفسرت منه سبب مجيئه في هذه الساعة المتأخرة. جلسنا وبدأنا الحديث، وكان كله يتمحور حول الكيفية التي من خلالها نستطيع استنهاض أهلنا في الجنوب. كان الشيخ متقد الحواس والذهن، يمتلأ بالحماسة ويريد تحطيم العدو اليوم قبل الغد. اتفقنا في نهاية الكلام على تجييش الناس انطلاقاً من المساجد والحسينيات، وناقشنا حتى في وسائل وأدوات المواجهة (حجارة، قطع الطرق، الزيت الساخن، قنابل البنزين).

في تلك الليلة، والتي كان الوقت ما زال مبكراً لينعى الشيخ راغب نفسه، قال كلاماً عن شهادته ما زال يحفر عميقاً في ذاكرتي جعلني أترقب رحيله سريعاً.

أنا أجزم أنّ أحداً لم يتوقع هذه الثورة الجماهيرية المذهلة، وهذه الانتفاضة العارمة التي هبت من معظم مناطق الجنوب وجعلت الإسرائيليين يندمون على اللحظة التي دخلوا فيها وغرقوا في وحله.

أشهر بعد الاجتياح الإسرائيلي ويقوم الشاب أحمد قصير بعمليته الاستشهادية البطولية التي حوّلت الحركة الشعبية الغاضبة ضد الاحتلال إلى مقاومة مسلحة.

من بيتي في البيسارية الذي غدا مقصداً للمقاومين من الجنوب والبقاع وبيروت، انطلقت عشرات العمليات البطولية ضد أرتال العدو الإسرائيلي وحواجزه على طول الساحل من صيدا حتى صور، وفي كل مرة عندما يداهم الإسرائيليون البيت لا يجدون أثراً لرصاصة!.

انتظمت الأمور تدريجياً وبدأ التنسيق بين مجموعات الشباب المقاوم على نحوٍ أفضل. والحقيقة أن الهجمات ضد الغزاة لم تكن تنطلق من غرفة عمليات واحدة، بل بمبادرات فردية بمعظمها، حتى تتالت الانجازات التي كانت تلهب خيال الناس وتدفع الشباب للانخراط أكثر فأكثر في صفوف المقاومة.

بعد الشيخ راغب، كان السيد عباس الموسوي يتقدم الصفوف. كان كتلةً من الثبات لا تتزعزع وجعل المقاومة تنبض بنبض جديد. يمرُّ على البيت ساعة يشاء. الطابق العلوي كان غرفة عمليات فيه يجتمع بكوادر المقاومة، توضع الخطط للعمليات وينطلق المقاومون لتنفيذها.

هذا البيت مرَّ عليه معظم كوادر المقاومة، وكان معبرهم إلى الجهاد أو الشهادة، ومنهم الحاج عماد مغنية، وأذكر أنّه كان ذات ليلة مدعواً من قبل ابني على الإفطار، فلم يجد هو وبقية المقاومين سوى البيض المقلي يسدون به جوعهم. فبدأ الكل بالتندر والمزاح على هذا الإفطار الذي لم يكن حينها شحّاً بقدر ما كان زهداً من مقاومين تخلّوا عن كل ملذات الدنيا، والأمر ذاته فعله معنا الحاج عماد في إفطار أقامه لكوادر المقاومة في ملجأ من ملاجئ الضاحية، فبعد أن صلينا صلاتي المغرب والعشاء لم نجد شيئاً نملأ به أمعدتنا الخاوية سوى علب (التونة) والبطاطا المسلوقة، تأسيّاً بالمجاهدين الذين كان هذا هو طعامهم اليومي.

مرّ عليّ ذات يوم وكنتُ أشارك في مؤتمر في العاصمة الإيرانية، فجلسنا نتحدث قرابة ثلاث ساعات أو أكثر عن المقاومة وأساليب القتال. كان ذهنه نقياً كالألماس ولديه فضول المعرفة. يستمع، يسأل، يحاور وهو يتكوّم حياء على مقعده حتى أنّه لا يُشعر جليسه بحرجٍ من أسئلته أو ملل قد يكون تسلل إليه.

بعد أيام ركبنا معاً الطائرة من طهران إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا. في الطريق، يتنقل بين صديق وآخر يتحدث معه وفي محياه بسمة طفولية رائعة تلبي عند عارفيه حاجة إلى السكون والطمأنينة والأنس. وفي الباص الذي أقلنا من الفندق إلى المقام طلب أحدهم من عماد الذي ظنه البعض إيرانياً خصوصاً أنّه كان يُعرّف عن نفسه بـ «الحاج علي شاش» أن يسمعنا بصوته الجميل ندبية شجية فراح يردد:

هبوا كل جسمي وروحي/ فداء للجنوب الجريح/

وكأنه كان يوصينا بنفسه بأن نهب جسمه وروحه للجنوب الجريح. وهكذا كان. فعماد وهب كل جسمه وروحه لهذا الجنوب مثلما فعل السيد عباس وقبله الشيخ راغب.