الدوافع والمحفزات التي شجعت على تنفيذ مجزرة مكة

 

المصدر: كيهان

العدد: 1214

التاريخ: 14/3/1409

رقم الخبر: 206 - 1/2

التخطيط المسبق لأستغلال ردود الفعل باتجاه منح الصراع الحضاري السائد مع إيران الإسلامية طابعاً قومياً صرفاً

الحكومة السعودية متورطة - كما سبق أن بينا في الحلقة الماضية - في برنامج يستهدف إبرازها حريصة ومتحمسة لقيادة محور صراع عربي ضد نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ولقد بدأت معالم الورطة السعودية واضحة للعيان منذ اللحظات الأولى التي واكبت تنفيذ المجزرة الدموية في موسم العام الهجري المنصرم، ثم أن كتابات الصحف وتعليقات الأجهزة الرسمية السعودية وتلك المتعاطفة معها والمؤيدة لأساليبها في قمع الحجاج في الخارج، كلها تصب تقريباً في الاتجاه الذي يكشف عن وجود خطة مدبرة سلفاً لمحاولة استغلال إثارة النعرات القومية والطائفية، التي اشتد العمل بها عقب أحداث مكة، كغطاء للتمويه على تفاصيل الذي جرى، وعلى أبعاده المختلفة، ولمنع استمرار تفاعلاته وما قد يفرزه من نتائج خطيرة على النظام الطائفي الحاكم في ارض الحجاز.

وكمثال على الأساليب الهادفة إلى ترويج الانطباع عن أن احد مسببات أحداث مكة، هو الخلاف بين (الشيعة) و(السنة) وبين القوميتين العربية والفارسية، فأن حكومة الرياض نشطت بنحو ملحوظ عقب ضلوعها في تنفيذ مخطط الأحداث الدموي لكي تستغل علاقاتها وتمويلها لهذه الجهة العربية او تلك سعياً وراء التظاهر بالقدر على عزل الجمهورية الإسلامية في إيران عربياً، وفي نفس الإطار، يأتي تصعيد المسؤولين السعوديين للهجتهم ضد ما يصفونه (بالتطرف الإيراني) في لبنان، وعلى ساحة المنطقة، وفي الخليج وجبهات الحرب مع العراق.

حتى أن المراقب للهجة التي تعمدت وسائل الإعلام (الدوائر الرسمية العربية استخدامها في التعامل مع قضية المجزرة يمكنه بسهولة فرز واقع أن تلاقي الرغبات السعودية والعربية المحمومة من اجل إضفاء الطابع القومي على مسألة العلاقات المتوترة بين الرياض وطهران مع تلك الرغبات التي أكدها إسراع الغربيون إلى اعتبار أن مجزرة مكة تندرج في خانة (التنافس العرقي والطائفي) على الساحة الإسلامية الكبرى، وهي الرغبات القاضية باستغلال أمر المجزرة لتعقيد أزمة العلاقات في دنيا المسلمين وجعلها تستعصي على الحل على المدى القريب والبعيد ربما، فكل ذلك صار يلقي بظله على نتائج المجزرة وكونها واحدة من الأزمات المشهودة في العلاقات العربية الرسمية مع إيران الثورة الإسلامية.

وهذا بالضبط ما شعرت جهات عربية ودولية معروفة بارتياح بالغ إزاءه، وإزاء إمكانية استثماره في زيادة إقبال نظام الحكم في الحجاز على توظيف إمكاناته المادية والدبلوماسية دفاعاً عما يهم أنظمة عربية أخرى، في طليعتها النظام العراقي، الذي هلل وطبل لمشاهدته مسؤولي (المملكة) متحمسين جدا في الوقت الحاضر لإدانة الموقف الإيراني الإسلامي من قضية الحرب المستعرة على مشارف الخليج، ومتحمسين للدعوة إلى إحكام الطوق الدولي على الجمهورية الإسلامية وشلها عن التحرك، أو إضعافها في مواجهة التحديات التي تعيشها على مستوى الحرب، وعلى مستوى الحالة في منطقة الخليج، حيث صار نظام صدام حسين يشعر بحرية أوسع للتحرك لتأزيم امن هذه المنطقة وجر القوى الكبرى للتدخل، ويشعر بأن الظرف بات مواتياً بالفعل لتدخل (المملكة) علنا ومن أوسع الأبواب إلى جانبه في حربه المعلنة على كل ما هو إسلامي وإيراني.

ففي حديث أدلى به نزار حمدون سفير العراق لدى واشنطن أواخر آب الماضي لشبكة تلفزيون (سي.أن.أن) الأميركية، اعتبر السفير أن السعوديين (الذين تربطهم علاقات وثيقة مع العراق يتشددون في موقفهم - تجاه الجمهورية الإسلامية - الأمر الذي يعتبر مؤشراً ايجابياً للغاية). وبعد أن ألقى السفير بمسؤولية أحداث مكة على عاتق الدولة الإسلامية كما هو متوقع بقوله (إن التصعيد في هذه الأزمة مصدره إيران) فقد لجأ القول في النهاية (إنها مسألة وقت فقط، وستنضم السعودية ودول أخرى في المنطقة إلى مجهودنا في الحرب).

إن هذا التعليق الذي أدلى به نزار حمدون لم يأت عبثاً، بل هو تزامن مع ما أوردته وكالة (رويتر) للأنباء بتاريخ 28 آب الماضي، نقلاً عن (مصدر سعودي مأذون له). قال هذا المصدر الذي أراد تبرير الأسلوب الدموي الذي عاملت بواسطته حكومته الحجاج الإيرانيين (أن لكل بلد الحق في اتخاذ قراره بنفسه، من اجل أمنه القومي) .. فمواسم الحج في الديار المقدسة، إنما تخضع من وجهة نظر هذا المصدر السعودي المسؤول لاعتبارات الأمن القومي، ومن غير المسموح به أذن سعودياً المطالبة باحترام حق المسلمين العام في إدارة شؤون الحج، والسبب هنا واضح طالما نعلم أن نظام الحكم العشائري في الحجاز قام أساساً ولقى ما لقى من دعم بريطانيا وأميركا بهدف فرض وصايته التي هي الظل للوصاية الغربية الأميركية على مقدسات وحريات المسلمين في الحج .. أضاف المصدر الذي لم يفصح عن اسمه في لقاء مطول مع المراسلين الأجانب في جدة (أن الهجوم على آية الله الخميني ـ من خلال واجهة الأعلام السعودي ـ أصبح مباحاً الآن). وأشار إلى احتمال قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران بقوله (إن هذه الخطوة ممكنة عند الضرورة).

ومما قاله بالمناسبة (إننا على استعداد لان نذهب إلى أي مدى) في المواجهة (فلا يوجد حل وسط .. وليكن ما يكون)!

تصريحات هذا المسؤول السعودي، وان نفت الرياض في اليوم التالي لها أن تكون صادر عن لسان مصدر مأذون، فهي صدرت - كما (صححت) وكالة رويتر نبأها عقب النفي السعودي - عن مصدر (موثوق فيه)! فهذه التصريحات من النوع الذي تؤكد فحوواه التحركات الرسمية والكلام المنسوب إلى أكثر من مسؤول سعودي وفي مناسبات متتابعة، فلقد كان وزير الداخلية نايف بن عبد العزيز قد وجه تهديدات فارغة عندما صرح في مؤتمره الصحفي الموسع حول قضية المجزرة بأنه (لن نسمح لأحد أن يعكر صفوة أمن بلادنا أو أن يعتدي عليها وسيكون ردنا شديداً وحاسماً، المسيرات الحاشدة للحجاج في مكة والمدينة منددة بجرائم (إسرائيل) وأميركا هي تشكل مساساً بالأمن السعودي! برأي الوزير نايف.

وهذا (التهديد) الذي نطق به وزير داخلية (المملكة) هو أحد النماذج المبرهنة لحقيقة أن الذين وضعوا خبراتهم القمعية في خدمة المخطط الذي نفذته قوات الحرس الوطني وباقي فصائل قوات الأمن السعودية ضد الحجاج المشاركين في مسيرة (البراءة من المشركين).

إنما قد حققوا نجاحاً ما في توريط المسؤولين السعوديين في الاندفاع بشدة وراء محاولة الإساءة للجمهورية الإسلامية في إيران وكيل الانتقادات العنيفة لها، الأمر الذي اضر حتماً في سمعة دبلوماسية نظام الحكم الحالي في الحجاز وجعله يبتعد لمسافة يصعب تقليصها في الوقت الحاضر، عن مساعي التقريب والتوفيق في العلاقات مع الدولة الإسلامية.

والمؤسف، انه بدلاً من محاولة النظام في الحجاز مراجعة وتقصي نتائج أقواله ومواقفه الانفعالية وتحركه تحت لافتة (الدعوة للتضامن العربي والقومي) ضد الجمهورية الإسلامية، فهو أسرف في عناده ومواقفه المتعنتة في اتهاماته غير المبررة لإيران بأنها مثلاً تعرض الأمن القومي العربي بوجه عام وأمن منطقة الخليج بوجه خاص لأقدح الأخطار، كما ادعى وزير الخارجية سعود الفيصل أمام اجتماع مجلس الجامعة العربية الطارئ الأول (في الثاني من محرم/24 آب) في تونس.

الأمر الذي حفز أنظمة وعواصم عربية عن كامل ارتياحها أمام هذه الاندفاعة السعودية، وان تسعى لتوظيفها لمصالحها تحت طائلة الدعوات التي وجهت للأسراع في التئام القمة العربية، والمزيد من التنسيق والتعاون الأمنيين بين كل من عمان والقاهرة والرباط والرياض.

فلعل من أوائل ردود الفعل العربية الرسمية إزاء حوادث مكة الدامية.

مسيرة (البراءة من المشركين)

هو الخطاب الذي ألقاه صدام رئيس النظام العراقي أمام حشد من العسكريين العراقيين، كان من جملة ما قال فيه (إن النظام الإيراني يكن العداء للعرب) وقال (من يكره العرب لا يمكن أن يكون مسلماً لأن العرب هم كادر الإسلام) كان ذلك بتأريخ 12 آب 1987

ويذكر أن صدام حسين له مقولات مشابهة حول ضرورة أن يدعم العرب بدون تحفظ نظام حكمه المشرف على التداعي والانهيار بسبب الحرب التي كان هو البادئ فيها، ومن مقولاته المتكررة، إن العربي مشكوك في هويته لو شاء التوسط لفض النزاع الناشب بين العراق وإيران، ذلك طالما أكده رئيس النظام العراقي على لسانه في بداية الحرب التي شنها بهدف إسقاط نظام الجمهورية الإسلامية، إلا انه لما انقلبت موازين القوى ضده في ميادين الحرب الأصلية، فقد اخذ صدام يصرح بأن من العار على العرب أن يترددوا في تأييد نظامه في مجال الحرب، وان على العربي أن يحارب إلى جانب العربي الآخر وينصره ظالماً كان أو مظلوماً.

 

الجاهلية الأولى

وواضح هنا أن أفكار عرب الجاهلية هي التي يحرص أمثال صدام حسين على تطعيم مواقفهم وآرائهم بها، ولا بأس بمناسبة ما قاله صدام من (عداء لإيران للعرب) أو نتوقف قليلاً أمام الكلمات التي صرح بها العلامة المصري المجاهد الشيخ محمد الغزالي وذلك لصحيفة (الهلال) الإسلامية التي تصدر في لندن وفي عددها الأول، فمما قاله الغزالي للصحيفة معلقاً على أحداث مكة المكرمة (يكفي أن أقول أن الأمة الإسلامية وكأنها قد عادت إلى جاهليتها الأولى).

لقد اتضح من رد الفعل العراقي الرسمي أن نظام صدام يهمه بالدرجة الأهم التركيز على توظيف الأجواء المشحونة الناتجة عن أحداث الحرم المكي لمصلحته التي يحاول حشرها في خانة مصلحة العرب والمصلحة القومية، ولذلك فلا غرابة في أن يسارع رئيس القسم السياسي في وزارة الدفاع العراقية (عبد الجبار محسن) إلى وصف أحداث مكة عقب وقوعها بأيام قلائل في (8/8/87) بأن (طهران تحاول صرف أنظار الرأي العام الإيراني والعالمي عن جهود الأمم المتحدة، لإحلال السلام) في الحرب الطويلة القائمة، كان ذلك جزءاً من مقال نشرته صحيفة (القادسية) اليومية التي تصدرها وزارة الدفاع ومما حملة المقال أيضاً أن نوايا إيران هي (تصعيد الموقف في الخليج وإظهار العداء للقوى الكبرى لا سيما الولايات المتحدة وارتكاب جرائم مثل تلك التي ارتكبت في مكة ومهاجمة حدود العراق الدولية).

ويذكر أن هذه التقولات والمزاعم العراقية لقيت تجاوباً محلوظاً من جانب الرياض بالمقابل، إلا إن الأخيرة لم تشأ أن يقوم النظام العراقي على ضوئها واستناداً إلى تشديد حدة الموقف السعودي حيال الجمهورية الإسلامية، في التشجع مجدداً على استئناف مهاجمة الأهداف البحرية الإيرانية في مياه الخليج وذلك بعد توقف دام 45 يوماً بطلب أميركي صريح ليتسنى تمرير وإنجاح المشروع القاضي برفع الأعلام الأميركية على السفن الكويتية المبحرة في مياه الخليج وتجنباً لعواقب أية ردود بالمثل إزاء الهجمات على أهداف تخص الجمهورية الإسلامية ومعلوم أن القرار الإيراني لا يخفى انه طالما لا تخفى الكويت إسنادها العلني للمجهود الحربي العراقي فلابد من العمل بالفكرة القائلة أن الأمن الخليجي هو من حق أصحابه وإلا فلتشعر الحكومات المملوة للهجمات العراقية المتكررة على أهداف متحركة وثابتة في المياه الخليجية أن التوترات المترتبة لن تستثني مصالحها أيضاً في النهاية).

على هذا تم استدعاء مسؤول عراقي كبير هو عزت ابراهيم على وجه السرعة إلى الرياض خشية نقمة الجمهورية الإسلامية وردودها القوية، ولكن نبأ أوردته وكالة الصحافة الفرنسية يوم 4/9/87 يقول: أن نتائج، الزيارة تم بحثها في بغداد خلال اجتماع بين الرئيس صدام حسين والهيئات القيادية في العراق وصرح متحدث بعد ذلك بقوله (إننا نهنئ أنفسنا على نتائج هذه الزيارة التي تعكس التعاون الوثيق بين البلدين لحماية الأمن القومي).

الكويت من جهتها اهتمت كذلك بمتابعة حملات التأييد العربية الرسمية لـ (المملكة) بأعلى موقفها المشين تجاه الحجاج الإيرانيين.

ورسالة ولي العهد الكويتي إلى نظيره السعودي مع ما انطوت عليه من الإشادة بـ (حكمة) مسؤولي (المملكة) وتحميل إيران مسؤولية ما حصل فان سعد العبد الله ولي عهد الكويت ضمن رسالة التأييد سوف يعني أن تأكيد الإيرانيين الدائم عزمهم على مواجهة أي عدوان عليهم حتى لو كان صادراً عن نظام عربي، هو بمثابة (تهديدات وحملات إعلامية غير مقلقة).

وقبل الانتقال إلى إيراد مقاطع مما تكلمت به الصحف الكويتية بإيعاز من الحكومة يلاحظ أن مفاد رسالة التأييد التي لوح بها سعد العبد الله للسعوديين يؤكد تماماً أن الحكومة الكويتية كانت تنتظر من قبل وبفارغ الصبر فرصة كهذه التي أريد بواسطتها الحط من هيبة الجمهورية الإسلامية خلال موسم الحج الأخير لتحاول استغلال الحالة الناجمة عن ذلك في التنفيس عن مخاوفها حيال قدرة إيران الواقعية على الاقتصاص ممن يعاديها ويضع كامل أراضيه وأجوائه ومياهه في خدمة الحرب التي تستنزف الدولة الإسلامية، أو هكذا يراد للحرب أن تكون، وتأييد لما عناه العبد الله في رسالة التأييد التي بعثها إلى الرياض فان مجلة المجتمع الكويتية اعتبرت أحداث مكة، وعلى غرار تفاسير صحف الرياض والقاهرة والرباط وبغداد أنها (صورة متكررة على كل ساحة عربية) (راجع عدد المجلة الصادر بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الأحداث).

أي أن مجلة (المجتمع) المعروفة بميولها الوهابية والتي تدعي حرصها على الصحوة الإسلامية في منطقة الخليج لا يختلف رأيها عن رأي باقي الصحف الصادرة في الكويت وعن الموقف الكويتي الرسمي في النظر إلى ما يجري في الحج كونه يخص فقط السيادة السعودية والعربية، فمثلاً امتدحت صحيفة (الأنباء) في مقال لها يوم 24/8/87 (الأسلوب الذي عالجت به قوات الأمن السعودية أحداث التخريب! الإيراني في مكة المكرمة)، ومضت الصحيفة قائلة ... (وبهذه الكفاءة يعتين أن نرتب أمورنا لكي نصد أية عادية على أرضنا التي هي الجزيرة العربية كلها والعراق بل الوطن العربي بكامله).

وطالبت الصحيفة (بموقف عربي موحد تجاه حكام إيران)، وفي مقال افتتاحي لنفس الصحيفة، في عدد لاحق ذهبت إلى حد المطالبة بقطع العلاقات الكويتية والسعودية الدبلوماسية مع طهران وحبذا المقال الافتتاحي (لو كان القرار من دول المجلس مجتمعة ما دمنا قد يئسنا من بعض العرب وأصبح القول بالإجماع العربي حول هذا ضرباً من الخيال).

وبخصوص الموقف الأردني، يذكر أن الملك الأردني كان قد دعا الأمير نايف بن عبد العزيز إلى زيارة عمان بعد أحداث مكة في 31 تموز الماضي، ولقد لبى وزير الداخلية السعودي بالفعل الدعوة فقام بزيارة لعمان في 8 أيلول المنصرم، وعن الزيارة أفادت وكالة الأنباء الأردنية (بترا) الرسمية أن الأمير نايف قابل الملك حسين كما استعرض مع زيد الرفاعي رئيس الوزراء الأردني (العلاقات الثنائية وسبل تنميتها وتطويرها لما فيه خدمة البلدين إضافة إلى الأوضاع العربية الراهنة وسبل دعم التضامن العربي)، وعن محادثات نايف مع نظيره الأردني (رجاء الدجاني) نقلت الوكالة الأردنية أنها (تناولت القضايا ذات الاهتمام المشترك والتعاون بين البلدين في مجال الأمن).

إن تلك المباحثات الأردنية ـ السعودية، التي زامنت أحداث مكة، اعتبرت بنظر الكثير من المراقبين الحاذقين، والواقفين على حقيقة الدور الذي مارسته قوات الأمن الأردنية، في قمع الحجاج الإيرانيين وغير الإيرانيين، إلى جانب قوات الحرس الوطني السعودي، إنما يعد الهدف منها ـ من المباحثات ـ وهو مكافئة النظام الملكي الأردني على النجدات (الأمنية) التي وضعها تحت تصرف الرياض ولمناقشة نتائج التعاون الأمني السعودي - الأردني في موسم الحج الماضي والوصول إلى اتفاقات ثابتة في هذا المضمار تحت عنوان (التضامن العربي والقومي المطلوب) بين الحكومات العربية.

وعلى هذا يمكن فهم معاني الخطاب الذي افتتح به الأمير حسين ولي عهد الأردن (المؤتمر الاستراتيجي العربي الأول) في العاصمة الأردنية في منتصف شهر أيلول المنصرم.

ففي هذا الخطاب دعا الأمير حسن إلى (التمسك بمفهوم الأمن الجماعي) حيث كان واضحاً في رغبته بأن تساهم أجواء العلاقات المشحونة بين الرياض وطهران عقب حوادث مكة في حث نظام الحكم السعودي على التخلي عن باقي تحفظاته في عدم إعلان انضمامه الرسمي للحرب الموسعة التي مازال يواصلها نظام بغداد ضد الجمهورية الإسلامية.

وإذا لم تجهل أن النظام الأردني يخشى بشدة خسارة بغداد لحربها الطويلة وتداعيها أمام خيارات الحسم الإسلامي الإيراني، وتأثير هذه الخيارات اللاحق على جو الصحوة الإسلامية السائد، الذي يهدد الأنظمة العشائرية والفردية في عموم المنطقة، بالسقوط، والأردن غير مستثنى من ذلك، الأمر الذي قصده الملك حسين بدوره في مقابلة مع صحيفة (24ساعة) السويسرية، بزعمه (أن إيران تسعى إلى السيطرة على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة وأماكن أخرى في العراق) و(أن الأطماع الإيرانية!! تستهدف إقامة إمبراطورية فارسية جديدة!).

أذا أحطنا بحقائق ذلك جيداً، سنعي لماذا لم ينفك المسؤولون الأردنيون وعلى رأسهم الملك حسين، يلطقون التحذيرات ويروجون المخاوف إزاء نوايا الجمهورية الإسلامية التي أراد ولي العهد الأمير حسن وصفها بأنها تستهدف (تفكيك المنطقة العربية) ولقد مضى قائلاً: أمام المؤتمر الاستراتيجي العربي: (إن النظام الإيراني يسعى إلى توسيع رقعة نفوذه واغتصاب ثروة العرب باسم الإسلام) ولم يوضح ولي عهد الأردن أية ثروات تطمع إيران باغتصابها طالما أن أرضها غنية بالثروات وطالما أن التحديات المختلفة والحرب التي تواجهها لا تسمح لها باستغلال ثرواتها الطبيعية والذاتية فما حاجتها بالتالي إلى ثروات الآخرين من عرب وسواهم.

ألا أن قراءة مقطع آخر تضمنه خطاب الأمير حسن يوضح لنا حقيقة ما يرمي إليه النظام الإيراني، فهو بعد أن يهاجم بشدة سياسات الجمهورية الإسلامية القاضية بمواصلة الحرب مع النظام العراقي حتى استيفاء كامل شروطها وحقوقوها المعلنة وبعدم افاء أيا جهة عربية وخليجية تساند نظام صدام حسين علناً من بعض أثار الحرب الضارية على الأقل، أنما يأتي إلى القول في خطابه أن هذا (التهديد) الإيراني (ما كان له أن يستمر ويصمد لولا هذا التباين في الرؤى والمواقف العربية).

إذن، ماذا يريد بالضبط المطالبة به الأمير حسن؟ فهو يرد في خطابه (لقد أدركنا في الأردن منذ البدء، ابعاد الحرب الإيرانية العدوانية! واخذنا موقفنا منها، بكل وضوح، وقلنا وما زلنا نقول أن هذه الحرب بدوافعها وأهدافها تشكل تهديداً حقيقياً للكيان العربي بل للنظام العربي بمجمله ودعونا، ومازلنا ندعو اتخاذ موقف عربي موحد لإنهاء هذا الحرب).

إن الأمير الأردني صرح بكلماته هذه في حث الحكومات العربية على تأييد سياسة بلاده بلا تحفظ تجاه الحرب العراقية ـ الإيرانية وللوصول إلى هذا الهدف فهو لا يرى مانعاً من تكييف الكلام عن (التهديد) الإيراني المزعوم.

فمن أغرب ما قاله أمام المشاركين في المؤتمر المذكور هو: (إننا في الأردن لن نقبل أن نرى قم تحل محل الأستانة، فنظامنا العربي، كما قال جلالة الملك حسين هو النظام الذي ارتضينا لأنفسنا وكافح من اجله أجدادنا وآباؤنا منذ مطلع هذا القرن، ولن نقبل عنه بديلاً، كما لن نقبل الأنضواء تحت امبريالية جديدة تخفى في ثنايا عباءتها أطماع الهيمنة واغتصاب الثروة النفطية العربية).

وللقارئ الكريم أن يستخرج ما ينادي به (ولي العهد) من أن على الحكومات العربية أن تقف صفاً واحداً في قبالة الدولة الإسلامية وأن لا تسمح لها بتثبيت نفسها ونشر أفكارها الأصيلة في كل المنطقة الإسلامية والعربية وان يؤدي هذا الأمر في الأخير إلى تشجيع الحركات الإسلامية التحررية وتقويض الأنظمة الحاكمة التي (كافح) من أجلها آباء وأجداد الأمير حسن، وفي حال عدم الاستجابة لمطلب الأمير وولي العهد فهد تعمد تكرار الإشارة في خطابة آنف الذكر إلى مسألة التهديدات الإيرانية والى أن هذه التهديدات تعد خطراً مباشراً من ثروات النفط التي تمد أنظمة الحكم في الخليج وفي الجزيرة العربية بأسباب البقاء .. أنه الأسلوب الخبيث والماكر الذي سيبقى النظام الأردني يتبعه في مضاعفة المخاوف داخل نفوس مشايخ وحكام منطقة الخليج لأستدراجهم إلى مزيد من التورط في مواجهة مفتوحة وخاسرة سلفاً كما يدل الواقع المعاصر والمتجدد ضد نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ولاشك أن الظروف المتوترة المترتبة على العلاقات الإيرانية - الخليجية و الإيرانية - السعودية خاصة بعد أحداث الحرم المكي تعد من وجهة نظر الأمير حسن بمثابة الفرصة الذهبية للمضي في الحث على الاستجابة لتطلعات بلاده من أجل مزيد من تضييق حلقة الحصار حول إيران.